تفسير ابن عثيمين — ابن عثيمين (١٤٢١ هـ)


﴿لَهُۥ مَقَالِیدُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ وَیَقۡدِرُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾ [الشورى ١٢]

ثم قال الله تعالى: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الشورى ١٢]، ﴿لَهُ﴾ أي: لله وحده، وإنما قلنا: وحده؛ لأن تقديم الخبر يدل على الْحَصْر، بل القاعدة أوسع من هذا، تقديم ما حَقُّهُ التأخير يفيد الحصر، حتى لو قلت: زيدًا أكرمتُ، يعني أنك لم تُكْرِم غيره؛ لأنك قَدَّمْتَ المعمول، فنقول: له، أي: لا لغيره.
﴿مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال المفسِّر: (أي: مفاتيح خزائنهما)، فجعل المقاليد بمعنى مفاتيح، ولكن من حيث اللغة العربية لا تتناسب مع الاشتقاق؛ لأن مقاليد مأخوذ من القلادة، يعني أَزِمَّة الأمور في السماوات والأرض كلها بيد الله عز وجل، كما تقول: قلادة البعير؛ لأنك تَجُرُّه بها.
فالظاهر -والله أعلم- أن الْمُفَسِّر -رحمه الله- فَسَّرَها بما يخالف الظاهر، لكن بعض الناس يقول: إن مقاليد اسم أعجمي مُعَرَّب، والْمِقْلَاد بمعنى المفتاح، لكن هذا قول ضعيف بلا شك؛ لأنه يا إخواننا يجب ألَّا نلجأ إلى التعريب إلا للضرورة، يعني لا يمكن أن نقول: هذه كلمة أصلها فارسية، أصلها رومية، أصلها كذا، وعُرِّبَت، لا يجوز أن نعدل إلى هذا إلا عند الضرورة؛ لأن الله تعالى جعل القرآن عربيًّا، فإذا قلنا في كلمة مُعَرَّبَة أصلها غير عربي، هذا خلاف ظاهر القرآن، لكن إذا اضطررنا إلى هذا بأن لم نجد لهذه الكلمة أصلًا في اللغة حينئذ نقول: معرب، مقاليد لها أصل، مأخوذة من القلادة التي يُقَاد بها البعير، فمعنى مقاليد: أي أَزِمَّة الأمور في السماوات والأرض له وحده.
أما المؤلف رحمه الله فقال: (مفاتيح خزائنهما من المطر والنبات وغيره).
﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [الشورى ١٢]، ﴿يَبْسُطُ﴾ يعني يوسِّع، ﴿يَقْدِرُ﴾ يعني: يُضَيِّق، البسط والقدر امتحانًا وابتلاءً؛ لأن من الناس مَن لا يصلحه إلا الفقر، ومن الناس مَن لا يصلحه إلا البسط، وفي الحديث القدسي: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ الْغِنَى، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ الْفَقْرُ»(١).
﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ يقول المفسر: (﴿﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ﴾ -والمراد بالرزق العطاء- يوسعه، ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ امتحانًا، ﴿وَيَقْدِرُ﴾ يُضَيِّقُه لمن يشاء ابتلاءً)، امتحانًا هل يشكر أو لا يشكر، ابتلاء هل يصبر أو لا يصبر.
﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، إنه عليم بكل شيء، فهو يعلم أن البسط لهذا أفضل، وأن التضييق لهذا أفضل. * في هذه الآية فوائد، منها: أن أَزِمَّة الأمور لله وحده في السماوات والأرض، فهو الذي يُدَبِّر الأمور ويداول الأيام بين الناس، ويقلِّب الأحوال، وكم من رجل أصبح كافرًا وأمسى مؤمنًا، وكم من إنسان أصبح مؤمنًا وأمسى كافرًا، كما أخبر النبي ﷺ عن الفتن في آخر الزمان؛ أنه يُمْسِي الإنسان كافرًا، ويصبح مؤمنًا، ويصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا(٢). * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الأرزاق بسطها وتضييقها بيد مَن؟ بيد الله عز وجل، فهل يلزم من هذا ألَّا نفعل الأسباب؟ لا؛ لأن هذا ضعف في التوكُّل إذا لم تفعل الأسباب، افعل الأسباب واعتمد على الخلاق عز وجل. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: ألَّا نطلب الرزق إلا من الله؛ لأنه هو الذي يبسط الرزق أو يضيِّقه. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات المشيئة لله؛ لقوله تعالى:
﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
فإن قال قائل: هل هذه المشيئة مُجَرَّدَة عن الحكمة أو مقرونة بالحكمة؟
الجواب: الثاني، لا شك، يعني: ليس عطاء الله أو مَنْعه مجرد أنه أراد، لا؛ لا بد أن يكون لحكمة، وهذه قاعدة أثبتها في دماغك، كل شيء قَرَنَهُ الله بمشيئته فإنه مقرون بالحكمة ولا بد، لا يمكن أن يفعل شيئًا عبثًا، كما قال عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ [الدخان ٣٨]، وقال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون ١١٥]، فكلما مَرَّ بك شيء مقرون بالمشيئة فاعلم أنه تابع لحكمة الله عز وجل، واقرأ قول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (٢٩) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان ٢٩، ٣٠]، بعدها: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان ٣٠]، يعني: فمشيئته مقرونة بالعلم والحكمة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات عموم علم الله؛ لقوله: ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ بكل شيء موجود أو معدوم؟ * طلبة: كليهما. * الشيخ: كلاهما، بكل شيء واجب الوجود أو جائزه أو ممتنعه؟ * طلبة: كل شيء. * الشيخ: كل شيء؟ حتى الممتنع؟ * طلبة: نعم. * الشيخ: يعلم حتى الممتنِع، يعلمه، قال الله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء ٢٢]، وهل يمكن أن يكون فيهما آلهة إلا الله؟ لا يمكن، ومع ذلك عَلِمَ عز وجل أنه لو كان ذلك لفسدت السماوات والأرض، ولهذا نقول: عِلْمُ الله تعالى متعلِّق بكل شيء، بالواجب؛ كعلمه بنفسه، بالمستحيل؛ كعلمه بفساد السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله، بالممكن؛ كعلمه بالمخلوقات، فعِلْم الله متعلِّق بكل شيء من واجب ومستحيل وممكن.
هنا تنبيه على خطأ جارٍ بين الناس، إذا كان الشيء قليلًا قالوا: هذا بسيط، هذا غلط؛ لأن البسط في اللغة يعني التوسيع والتكثير، فلا تقل هذا بسيط، قل: هذا يسير، هذا قليل، إن كان من حيث الصفة قل: يسير، إن كان من حيث العدد قل: هذا قليل.
نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم برحمته، وأن يوفِّقنا وإياكم لما يحب ويرضى.

(١) أخرج البيهقي في الأسماء والصفات (٢٣١) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، عن جبريل عليه الصلاة والسلام، عن ربه تبارك وتعالى، فذكرَ الحديثَ، قال فيه: «وإنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يصلح له إلا الغنى، ولو أفقرته أفسده ذلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يُصلح إيمانَه إلا الفقر، ولو بسطتُ له أفسده ذلك...». (٢) أخرج مسلم (١١٨ / ١٨٦) عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «بادروا بالأعمالِ فتنًا كقِطَعِ الليل المظلم، يُصبح الرجلُ مؤمنًا ويُمسي كافرًا، أو يُمسي مؤمنًا ويُصبح كافرًا، يبيع دينَه بعرض من الدنيا».