المزاح سنة ، ولكن لمن يحسنه ويضعه في مواضعه .. فاقرأه لتعرف ضوابطه ، وتعرف ما يحل لك وما يحرم عليك منه ..
=====
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، والصلاة والسلام على سيد الخلق نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن خير الأمور أوسطها ، وإن تجاوز الحد في كل أمر مشروع يوقع العبد في المحظور و الممنوع ، فكل شيء تجاوز به العبد حده انقلب إلى ضده ، ولقد أفرط كثير من الناس وغلوا في المزاح حتى عرفوا به وأصبح صفة لأزمة لهم ،ووصل بالعبض منهم إلى الأذية والعداوة وخصومات ولدت حقدا وحسدا ثم تقاطع وتهاجر ، وقابلهم طائفة فرطت في المزاح وأفرطت في الانقباض وعدم الانبساط للناس وغلت في العبوس والصرامة - زعموا - أن الأمر جد ، وأنه ليس من التدين في شيء أن تمازح أهلك وأقرابك وأحبابك وإخوانك لذلك تراهم منقبضين مقطبي الجباه عابسي الوجوه ، وليس هذا ولا ذاك من هديه صلى الله عليه وسلم بل السنة الوسط والاعتدال في الانبساط إلى الناس والمزاح معهم، وقد كان نبينا يمازح المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ، ولكن لا يقول إلا حقا ، وقبل أن أذكر أمثلة من ذلك أعرف المزاح وأذكر بعض أقوال علماء السلف فيه ..
المزاح: هو الملاطفة والمؤانسة، وتطييب الخواطر في المجالس والمجامع ، وإدخال السرور على قلوب الإخوان لدفع الملل والسآمة ، والترويح عن النفس. وقد كان هذا من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يمازح أصحابه ولكن لا يقول إلا حقا ، فقد جاء في الأدب المفرد البخاري باب المزاح (265) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا يارسول الله إنك تداعبنا .قال : ( إني لا أقول إلا حقا ).قال الألباني - رحمه الله- صحيح.
وقد اعتبر بعض الفقهاء المزاح من المروءة وحسن الصحبة، ولكن لذلك ضوابط منها:
1- ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين ولا بشيء من شعائر الإسلام ..
2- ألا يكون المزاح إلا صدقاً وحقا :
قال - صلى الله عليه وسلم -: { ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ، ويل له } [رواه مسلم (2704) وأبو داود ( 2744 ] والدارمي في مسنده وقال محققه إسناده جيد ..
وقال - صلى الله عليه وسلم - محذراً من هذا المسلك الخطير الذي اعتاده بعض المهرجين: { إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها في النار أبعد من الثريا } [رواه أحمد].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لا تبلغ حقيقة الإيمان حتى تدع الكذب في المزاح ) مصنف ابن أبي شيبة ( 25606).
وروي مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم ولفظه في مسند أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح ، والمراء وإن كان صادقا )) قال الأرنؤوط في تحقيق المسند (8766) إسناده ضعيف .
3- عدم الترويع والتخويف : قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: { لا يحل لمسلم أن يروع مسلما } [رواه أبو داود]. في قصة وهي أن صحابي نام وكان معه حبلا فذهب بعض الصحابة رضي الله عنهم فأخذه منه فاستيقظ خائفا
مروعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .
وفي منتخب عبد بن حميد عن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( لا يأخذ أحدكم متاع صحابه جادا أو لاعبا ، وإذا وجد أحدكم عصا صاحبه فليردها عليه )) وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (241) باب ما لا يجوز من اللعب والمزاح وأبو داود في الأدب ( باب من يأخذ الشيء على المزاح ). والترمذي (٦ /378) وقال حديث حسن غريب .وأحمد (4 /221) وقال الألباني في الإرواء : حسن .
4- الاستهزاء والغمز واللمز لمن هم في المجالس والمجامع والأندية ، والمجموعات ...
قال - صلى الله عليه وسلم -: { لا تظهر الشماتة بأخيك، فيرحمه الله ويبتليك } [رواه الترمذي].
وحذر - صلى الله عليه وسلم - من السخرية والإيذاء؛ لأن ذلك طريق العداوة والبغضاء قال - صلى الله عليه وسلم -: { المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات - بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام؟ دمه، وماله، وعرضه } [رواه مسلم].
5- أن لا يكون المزاح كثيراً فلا ينبغي لأحباب الله أوليائه أن يجتمعوا فقط من أجل المزاح والضحك والمرح بل ينبغي لهم أن يستفيدوا من بعضهم البعض ويذكر بعضهم البعض ولو بالشيء اليسير حتى لا تكون اجتماعاتهم وجلساتهم ترة عليهم يوم القيامة أي حسرة وندامة .
فإن البعض يغلب عليهم هذا الأمر ويفرط فيه ويصبح ديدنهم صفة لهم تلازمهم وهذا هو المذموم شرعا..
قال الإمام النووي - رحمه الله -: " المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه صاحبه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى: ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله "
6- معرفة مقدار الناس:
فإن البعض يمزح مع الكل بدون اعتبار ولا حدود ، ولم يعرف أن للعالم حق ، وللكبير تقديره ، وللشيخ توقيره ، وللأخ منزلته وللحبيب مكانته .. وهكذا ننزل الناس منازلهم ، ولهذا يجب معرفة شخصية المقابل الذي تمازحه وتنبسط إليه ..
وعليه فلا ينبغي أن يمازح السفيه ولا الأحمق ولا من لا يعرف.
وفي هذا الموضوع ( كثرة المزاح ، ومزاح من لا ينبغي )
قال عمر بن عبد العزيز: " اتقوا المزاح، فإنه يذهب المروءة ".
وقال سعد بن أبي وقاص: " اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء ".
وقال " سعيد بن العاص " لابنه : " يا بني ، لا تمازح الشريف فيحقد عليك ، ولا الدنيء فيجترئ عليك " .
7- أن يكون المزاح بمقدار الملح للطعام:
قال - صلى الله عليه وسلم -: { لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب } [صحيح الجامع:7312]. فبعض الناس لا يضحك فقط بل يقهقه بصوت عال حتى تكاد تخرج روحه ..
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به ) ..
8- ألا يكون فيه غيبة:
وهذا مرض خبيث، ويزين لدى البعض أنه لا شيء في أن يحكى ويخبر عن الآخرين بما فيهم يتسلى بذلك بطريقة المزاح ، والانبساط ولا يعلم أن ذلك لا يجوز وهو داخل في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: لما سئل عن الغيبة فقال : {ذكرك أخاك بما يكره } [رواه مسلم] فليحذر اللبيب العاقل الذي يريد النجاة أن لا يدفع حسناته لغيره ويحمل أوزار غيره على ظهره حين يفلس من الحسنات يوم يكون الدفع بالحسنات والسئيات ..
والخلاصة : أن المزاح سنة ولكن لمن يحسنه ..
قال رجل لسفيان بن عيينة - رحمه الله -: المزاح هجنة - أي مستنكر - فأجابه قائلا: " بل هو سنة ، لكن لمن يحسنه ويضعه في مواضعه ".
فلا بأس من الضحك والمزاح ولكن لا نغفل عن هذه الضوابط .
وقد سئل ابن عمر - رضي الله عنهما -: " هل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال " . الله أكبر ، أي والله يضحكون ويتمازحون ولكن بإيمان كالجبال الراسيات الشامخات .. فلا ينسيهم أن يصدقوا وأن يحسنوا المزاح والانبساط.
وفي الأدب المفرد ( 266 ) عن بكر بن عبد الله قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ ،فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال . قال الألباني صحيح ،الصحيحة (425).
الخاتمة : وهذه مزحة ولطيفة ذكرتها لبعض أخواني وجلسائي ..
فقد قلت سابقا أن من ضوابطه 7- أن يكون المزاح بمقدار الملح للطعام:
وإن فلانا .....صاحبنا هو زينة المجالس وهو ملحها ، فإذا فقد الملح فسد الطعام ولم يستسغه أحد ولم يشتهه ، ولكن إذا زاد الملح قليلا فإن الكثير يشتهيه بزيادة ، وكذلك إذا نقص قليلا فإن الكثير يشتهيه كذلك والأكمل والأفضل والأجمل أن يكون بالميزان فلا زيادة ولا نقصان . فله طعمه كطعم الإيمان .
أسال الله تعالى أن يوفقنا في ديننا وأن يفتح علينا بالعلم النافع والعمل الصالح وأن يتقبلنا ويقبل منا ويتجاوز عنا وعنكم أيها القارئ في عباده الصالحين ..