بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
أما بعد :
فلما كان هذا الباب في الإخلاص ، إخلاص النية لله عز وجل، وأنه ينبغي أن تكون النية مخلصة لله في كل قول، وفي كل فعل، وعلى كل حال، ذكر المؤلف من الآيات ما يتعلق بهذا المعني، وذكر ـ رحمه الله ـ من الأحاديث ما يتعلق به أيضاً، وصدر هذا بحديث عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضى الله عنه الذي قال فيه : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يقُولُ : (( إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِىءٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصيبُهَا ، أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكَحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْه )) . مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ . رَوَاهُ إمَامَا الْمُحَدّثِينَ ، أبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعيلَ بْن إبراهِيمَ بْن المُغيرَةِ بنِ بَرْدِزْبهْ الجُعْفِيُّ البُخَارِيُّ ، وَأَبُو الحُسَيْنِ مُسْلمُ بْنُ الحَجَّاجِ بْنِ مُسْلمٍ الْقُشَيريُّ النَّيْسَابُورِيُّ رضي اللهُ عنهما فِي صحيحيهما اللَّذَيْنِ هما أَصَحُّ الكُتبِ المصنفةِ .
1ـ هذا الحديث تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن أبي وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس له طريق يصح غير هذا الطريق كذا قال علي بن المديني وغيره وقال الخطابي لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في ذلك مع أنه قد روى من حديث أبي سعيد وغيره وقد قيل إنه قد روى من طرق كثيرة لكن لا يصح من ذلك شيء عند الحفاظ ثم رواه عن الأنصاري الخلق الكثير والجم الغفير فقيل رواه عنه أكثر من مائتي راو وقيل رواه عنه سبعمائة راو ومن أعيانهم الإمام مالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وشعبة وابن عيينة وغيرهم واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول وبه صدر البخاري كتابه الصحيح (1)
قال العلامة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد حفظه الله في كتابه (فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله) ص 08
(( فهو من غرائب صحيح البخاري، وهو فاتحته، ومثله في ذلك خاتمته، وهو حديث أبي هريرة "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ..." الحديث، وهو أيضاً من غرائب الصحيح.)) انتهى
2ـ بالمناسبة هنا فائدة ونكتة لطيفة في فاتحة وخاتمة الإمام البخاري بهذين الحدثين وألا وهي الرد على من لا يحتجون بالأخبار الأحاد
قال المحدث العلامة ناصر الدين الألباني رحمه الله في كتابه (الحديث حجة بنفسه - ص 64)
(( إفادة كثير من أخبار الآحاد العلم واليقين :
ثم إن ما تقدم من البحث وتحقيق القول ببطلان التفريق المذكور إنما هو قائم كله على افتراض صحة القول بأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن الراجح ولا يفيد اليقين والعلم القاطع فينبغي أن يعلم أن ذلك ليس مسلما على إطلاقه بل فيه تفصيل مذكور في موضعه والذي يهمنا ذكره الآن هو أن خبر الآحاد يفيد العلم واليقين في كثير من الأحيان من ذلك الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مما لم ينتقد عليهما فإنه مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري حاصل به كما جزم به الإمام ابن الصلاح في كتابه " علوم الحديث " ( ص 28 - 29 ) ونصره الحافظ بن كثير في " مختصره " ومن قبله شيخ الإسلام ابن تيمية وتبعه العلامة ابن قيم الجوزية في " مختصر الصواعق " ( 2 / 383 ) ومثل له بعدة أحاديث منها حديث عمر : رضي الله عنه إنما الأعمال بالنيات وحديث : ")) انتهى
وقال الإمام أبوالعباس الحراني رحمه الله في (مجموع الفتاوى ج 18 / ص 49)
((هُوَ مِمَّا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَيْسَ هُوَ فِي أَصْلِهِ مُتَوَاتِرًا ؛ بَلْ هُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ لَكِنْ لَمَّا تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ صَارَ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ))أنتهى
وقال أيضا في (ج 18 / ص 247)
((هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا جَمَعَهَا ابْنُ منده وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ فَأَهْلُ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ إلَّا عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ الليثي ؛ وَلَا عَنْ عَلْقَمَةَ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ؛ وَلَا عَنْ مُحَمَّدٍ إلَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْمَدِينَةِ . وَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ يُقَالُ : إنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ نَحْوُ مِنْ مِائَتَيْ عَالِمٍ مِثْلُ مَالِكٍ ؛ وَالثَّوْرِيّ ؛ وَابْنِ عُيَيْنَة وَحَمَّادٍ وَحَمَّادٍ ؛ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ ؛ وَأَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ ؛ وَزَائِدَةَ ؛ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ؛ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا مِنْ شُيُوخِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَطَبَقَتِهِمْ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيّ وَأَبِي عُبَيْدٍ)) انتهى
3ـ وأيضا فيه الرد على من يزعم أن تعدد الرواة شرط للبخاري
قال الشيخ الفاضل الدكتورعبد الكريم بن عبد الله الخضير حفظه الله في شرحه للنخبة الفكر
((ابن العربي المالكي في شرح البخاري وفي عارضة الأحواذي في شرح الحديث ((هو الطهور ماؤه)) أدعى أن هذا هو شرط البخاري وأن البخاري لايخرج حديث يتفرد به واحد وقال عن حديث البحر (إنه لم يخرجه البخاري لأنه تفرد به أحد رواته وليس من شرطه )
الكرماني الشارح ـ شارح البخاري ـ في مواضيع من شرحه يزعم أن تعدد الرواة شرط للبخاري في صحيحه لكن هذه الدعوة مرفوضة وليست صحيحة ويكفي في رد هذه الدعوة أول حديث في صحيح البخاري وآخر حديث في صحيح البخاري أول حديث في صحيح البخاري (إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ) وإنما يروى من طريق عمر رضي الله عنه فقط لم يثبت إلا من طريق عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا من طريق عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي فقط تفرد بروايته عن عمر ولا يرويه عن علقمة إلا محمد وبن إبراهيم التيمي تفرد بروايته عن علقمة ولم يرويه سوى يحيى بن سعيد الأنصاري تفرد به ثم انتشر بعد يحيى بن سعيد حتى وصلت طرقه المئات عن يحيى بن سعيد
آخر حديث في الكتاب (( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )) هذا أيضا مثل أول حديث التفرد وقع في أربع من طبقات إسناده تفرد به أبو هريرة وعنه أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلي وعنه عمارة بن القعقا ع وعنه محمد بن فضيل وعن محمد بن فضيل انتشر مثل حديث الأعمال بالنيات سواء )) أنتهى
4ـ افتتح النووي أحاديث الأربعين بهذا الحديث، وقد افتتح جماعة من أهل العلم كتبَهم به، منهم الإمام البخاري افتتح صحيحه به، وعبد الغني المقدسي افتتح كتابه عمدة الأحكام به، والبغوي افتتح كتابيه مصابيح السنة وشرح السنة به، وافتتح السيوطي كتابه الجامع الصغير به، وعقد النووي في أول كتابه المجموع شرح المهذب فصلاً قال فيه (1/35): "فصل في الإخلاص والصدق وإحضار النية في جميع الأعمال البارزة والخفية"، أورد فيه ثلاث آيات من القرآن، ثم حديث "إنَّما الأعمال بالنيَّات"، وقال: "حديث صحيح متفق على صحته، ومجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو إحدى قواعد الإيمان وأول دعائمه وآكد الأركان.
قال الشافعي رحمه الله: يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه، وقال أيضاً: هو ثلث العلم، وكذا قاله أيضاً غيرُه، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في عدِّها، فقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة، وقيل: اثنان، وقيل: حديث، وقد جمعتها كلَّها في جزء الأربعين، فبلغت أربعين حديثاً، لا يستغني متديِّن عن معرفتها؛ لأنَّها كلَّها صحيحة، جامعة قواعد الإسلام، في الأصول والفروع والزهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك، وإنَّما بدأت بهذا الحديث تأسيًّا بأئمَّتنا ومتقدِّمي أسلافنا من العلماء رضي الله عنهم، وقد ابتدأ به إمام أهل الحديث بلا مدافعة أبو عبد الله البخاري صحيحه، ونقل جماعة أنَّ السلف كانوا يستحبُّون افتتاح الكتب بهذا الحديث؛ تنبيهاً للطالب على تصحيح النيَّة وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفيَّة، ورُوينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال: لو صنَّفت كتاباً بدأت في أوَّل كلِّ باب منه بهذا الحديث، ورُوينا عنه أيضاً قال: مَن أراد أن يصنِّف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث، وقال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في كتابه المعالم رحمه الله تعالى: كان المتقدِّمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث "الأعمال بالنيات" أمام كلِّ شيء يُنشأ ويُبتدأ من أمور الدِّين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها".
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/61): "واتَّفق العلماء
على صحَّته وتلقيه بالقبول، وبه صدَّر البخاري كتابَه الصحيح، وأقامه مقام الخُطبة له؛ إشارة منه إلى أنَّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة".)) انتهى (2)
5ـ وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها فروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال (هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في سبعين بابا من الفقه) وعن الإمام أحمد رحمه الله قال ( أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث حديث عمر إنما الأعمال بالنيات وحديث عائشة من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وحديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين) وقال الحاكم (حدثونا عن عبدالله بن أحمد عن أبيه أنه ذكر قوله عليه الصلاة و السلام الأعمال بالنيات وقوله إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وقوله من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد فقال ينبغي أن يبتدأ بهذه الأحاديث في كل تصنيف فإنها أصول الأحاديث) وعن إسحاق بن راهويه قال (أربعة أحاديث هي من أصول الدين حديث عمر إنما الأعمال بالنيات وحديث الحلال بين والحرام بين وحديث إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وحديث من صنع في أمرنا شيئا ما ليس منه فهو رد) وروى عثمان بن سعيد عن أبي عبيد قال (جمع النبي صلى الله عليه و سلم جميع أمر الآخرة في كلمة واحدة من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد وجمع أمر الدنيا كله في كلمة واحدة إنما الأعمال بالنيات يدخلان في كل باب) وعن أبي داود قال (نظرت في الحديث المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث ثم نظرت فإذا مدار أربعة آلاف الحديث على أربعة أحاديث حديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين وحديث عمر إنما الأعمال بالنيات وحديث أبي هريرة إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) قال (فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم) وعن أبي داود أيضا قال (كتبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب يعني كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدهما قوله صلى الله عليه و سلم إنما الأعمال بالنيات والثاني قوله صلى الله عليه و سلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه والثالث قوله صلى الله عليه و سلم لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه والرابع قوله صلى الله عليه و سلم الحلال بين والحرام بين) وفي رواية أخرى عنه أنه قال (الفقه يدور على خمسة أحاديث الحلال بين والحرام بين وقوله صلى الله عليه و سلم لا ضرر ولا ضرار وقوله إنما الأعمال بالنيات وقوله الدين النصيحة وقوله ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم) وفي رواية عنه قال (أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث حديث عمر إنما الأعمال بالنيات وحديث الحلال بين والحرام بين وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وحديث ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي
عمدة الدين عندنا كلمات .......... أربع من كلام خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما ....... ليس يعنيك واعملن بنية (3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى ج 18 / ص 249)
((وَالْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ وَلِهَذَا قَالُوا : مَدَارُ الْإِسْلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ فَذَكَرُوهُ مِنْهَا كَقَوْلِ أَحْمَد حَدِيثَ : " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } " وَ " { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } " " { وَالْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ } " وَوَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الدِّينَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى عَنْهُ . فَحَدِيثُ الْحَلَالِ بَيِّنٌ فِيهِ بَيَانُ مَا نَهَى عَنْهُ . وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا الْعَمَلُ الظَّاهِرُ وَهُوَ مَا كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَالثَّانِي الْعَمَلُ الْبَاطِنُ وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ . فَقَوْلُهُ : " { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا } " إلَخْ يَنْفِي التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ . وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } إلَخْ يُبَيِّنُ الْعَمَلَ الْبَاطِنَ وَأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِخْلَاصِ فِي الدِّينِ لِلَّهِ ؛ كَمَا قَالَ الْفُضَيْل فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالَ : فَإِنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَعَلَى هَذَا دَلَّ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَأَنْ لَا يُشْرِكَ الْعَبْدُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ؛ وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فَإِنَّ إسْلَامَ الْوَجْهِ لِلَّهِ يَتَضَمَّنُ إخْلَاصَ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالْإِحْسَانُ هُوَ إحْسَانُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَهُوَ فِعْلُ مَا أَمَرَ بِهِ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا } فَإِنَّ الْإِسَاءَةَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِهَانَةَ بِالْأَمْرِ بِهِ وَالِاسْتِهَانَةَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ وَالِاسْتِهَانَةَ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ مِنْ الثَّوَابِ فَإِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ دِينَهُ لِلَّهِ وَأَحْسَنَ الْعَمَلَ لَهُ كَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَكَانَ مِنْ الَّذِينَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .)) انتهى
6 ـ قوله (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) فيه من أوجه البلاغة الحصر، وهو:إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه،وطريق الحصر: إِنَّمَا لأن (إنما) تفيد الحصر، فإذا قلت: زيد قائم فهذا ليس فيه حصر، وإذا قلت: إنما زيد قائم، فهذا فيه حصر وأنه ليس إلا قائماً. وكذلك قوله : وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى (4).
قال العلامة أبوالعباس الحراني في (مجموع الفتاوى ج 18 / ص 264)
((لَفْظَةُ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا تَعْرِفُ مَعَانِيَ حُرُوفِ النَّفْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ : هَلْ دَلَالَتُهَا عَلَى الْحَصْرِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ قَوْلُ بَعْضِ مُثْبِتِي الْمَفْهُومِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَبَعْضِ الْغُلَاةِ مِنْ نفاته وَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّهَا تُفِيدُ الْحَصْرَ وَاحْتَجُّوا بِمِثْلِ قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } . وَقَدْ احْتَجَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ بِأَنَّ حَرْفَ " إنْ " لِلْإِثْبَاتِ وَحَرْفَ " مَا " لِلنَّفْيِ فَإِذَا اجْتَمَعَا حَصَلَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ جَمِيعًا وَهَذَا خَطَأٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْعَرَبِيَّةِ ؛ فَإِنَّ " مَا " هُنَا هِيَ مَا الْكَافَّةُ لَيْسَتْ مَا النَّافِيَةُ وَهَذِهِ الْكَافَّةُ تَدْخُلُ عَلَى أَنَّ وَأَخَوَاتِهَا فَتَكُفُّهَا عَنْ الْعَمَلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْعَامِلَةَ أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِلِاخْتِصَاصِ ؛ فَإِذَا اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ أَوْ بِالْفِعْلِ وَلَمْ تَكُنْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ عَمِلَتْ فِيهِ فَأَنَّ وَأَخَوَاتِهَا اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ فَعَمِلَتْ فِيهِ وَتُسَمَّى الْحُرُوفُ الْمُشْبِهَةُ لِلْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهَا عَمِلَتْ نَصْبًا وَرَفْعًا وَكَثُرَتْ حُرُوفُهَا وَحُرُوفُ الْجَرِّ اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ فَعَمِلَتْ فِيهِ وَحُرُوفُ الشَّرْطِ اخْتَصَّتْ بِالْفِعْلِ فَعَمِلَتْ فِيهِ بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ وَلَمْ تَعْمَلْ وَكَذَلِكَ مَا الْمَصْدَرِيَّةُ . وَلِهَذَا الْقِيَاسِ فِي مَا النَّافِيَةُ أَنْ لَا تَعْمَلَ أَيْضًا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ وَلَكِنْ تَعْمَلُ عَلَى اللُّغَةِ الْحِجَازِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ . فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } و { مَا هَذَا بَشَرًا } اسْتِحْسَانًا لِمُشَابَهَتِهَا " لَيْسَ " هُنَا لَمَّا دَخَلَتْ مَا الْكَافَّةُ عَلَى إنْ أَزَالَتْ اخْتِصَاصَهَا فَصَارَتْ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فَبَطَلَ عَمَلُهَا كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . وَقَدْ تَكُونُ مَا الَّتِي بَعْدَ أَنَّ اسْمًا لَا حَرْفًا كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } بِالرَّفْعِ أَيْ : أَنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ خِلَافَ قَوْلِهِ : { إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ لَا تَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ مَا بِمَعْنَى الَّذِي وَفِي كُلِّ الْمَعْنَيَيْنِ الْحَصْرُ مَوْجُودٌ لَكِنْ إذَا كَانَتْ مَا بِمَعْنَى الَّذِي فَالْحَصْرُ جَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَعَارِفَ هِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ إمَّا مَعَارِفُ وَإِمَّا نَكِرَاتٌ وَالْمَعَارِفُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ وَالنَّكِرَةُ فِي غَيْرِ الْمُوجِبِ كَالنَّفْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَقَوْلُهُ : { إنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } تَقْدِيرُهُ : أَنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ . وَأَمَّا الْحَصْرُ فِي " إنَّمَا " فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَصْرِ بِالنَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا أَنْتَ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا } { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ } . وَالْحَصْرُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مَحْصُورٌ فِي الثَّانِي وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَكْسِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الثَّانِيَ أَثْبَتَهُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ غَيْرُهُ مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ ثَابِتٌ لَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ إنَّك تَنْفِي عَنْ الْأَوَّلِ كُلَّ مَا سِوَى الثَّانِي فَقَوْلُهُ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ } أَيْ : إنَّك لَسْت رَبًّا لَهُمْ ؛ وَلَا مُحَاسِبًا ؛ وَلَا مُجَازِيًا ؛ وَلَا وَكِيلًا عَلَيْهِمْ ؛ كَمَا قَالَ : { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } وَكَمَا قَالَ : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } لَيْسَ هُوَ إلَهًا وَلَا أُمُّهُ إلَهَةً بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا كَمَا غَايَةُ مُحَمَّدٍ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا وَغَايَةُ مَرْيَمَ أَنْ تَكُونَ صِدِّيقَةً . وَهَذَا مِمَّا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَنَّهَا نَبِيَّةٌ وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ نُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَغَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } أَيْ : لَيْسَ مُخَلَّدًا فِي الدُّنْيَا لَا يَمُوتُ وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا جَازَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا قِيلَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ وَتَلَاهَا الصِّدِّيقُ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَسْمَعُوهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَكَانَ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ إلَّا يَتْلُوهَا .)) انتهى
وقال الحافظ الفقيه ابن دقيق العيد رحمه الله في كتابه ( إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام) (ج 1 / ص 11)
((كلمة "إنما" للحصر على ما تقرر في الأصول فإن ابن عباس رضي الله عنهما فهم الحصر من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" وعورض بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل ولم يعارض في فهمه للحصر وفي ذلك اتفاق على أنها للحصر ومعنى الحصر فيها: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه وهل نفيه عما عداه: بمقتضى موضوع اللفظ أو هو من طريق المفهوم؟ فيه بحث.
الثالث: إذا ثبت أنها للحصر: فتارة تقتضي الحصر المطلق وتارة تقتضي حصرا مخصوصا ويفهم ذلك بالقرائن والسياق كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] وظاهر ذلك: الحصر للرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة والرسول لا ينحصر في النذارة بل له أوصاف جميلة كثيرة كالبشارة وغيرها ولكن مفهوم الكلام يقتضي حصره في النذارة لمن يؤمن ونفى كونه قادرا على إنزال ما شاء الكفار من الآيات.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي" معناه: حصره في البشرية بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم لا بالنسبة إلى كل شيء فإن للرسول صلى الله عليه وسلم أوصافا أخر كثيرة وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} [محمد: 36] يقتضي - والله أعلم - الحصر باعتبار من آثرها وأما بالنسبة إلى ما هو في نفس الأمر: فقد تكون سبيلا إلى الخيرات أو يكون ذلك من باب التغليب للأكثر في الحكم على الأقل فإذا وردت لفظة إنما فاعتبرها فإن دل السياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص: فقل به وإن لم يكن في شيء مخصوص: فاحمل الحصر على الإطلاق ومن هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والله أعلم.)) انتهى
7ـ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } " : هَلْ فِيهِ إضْمَارٌ أَوْ تَخْصِيصٌ ؟ أَوْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ ؟
فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى الْأَوَّلِ قَالُوا : لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّيَّاتِ الْأَعْمَالُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَجِبُ أَوْ تُسْتَحَبُّ وَالْأَعْمَالُ كُلُّهَا لَا تُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا هَذِهِ النِّيَّاتُ فَإِنَّ قَضَاءَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنْ الغصوب وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ وَالدُّيُونِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الدَّافِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ نِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ . بَلْ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَسَلَّمَ الْمُسْتَحِقُّ عَيْنَ مَالِهِ أَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ الثَّوْبَ الْمُودَعَ أَوْ الْمَغْصُوبَ فَأَوْقَعَتْهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
ثُمَّ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : تَقْدِيرُهُ إنَّمَا ثَوَابُ الْأَعْمَالِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا بِالنِّيَّاتِ أَوْ إنَّمَا تُقْبَلُ بِالنِّيَّاتِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَقْدِيرُهُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ الشَّرْعِيَّةُ أَوْ إنَّمَا صِحَّتُهَا أَوْ إنَّمَا أَجْزَاؤُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْجُمْهُورُ : بَلْ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنِّيَّاتِ فِيهِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَحْدَهَا بَلْ أَرَادَ النِّيَّةَ الْمَحْمُودَةَ وَالْمَذْمُومَةَ وَالْعَمَلَ الْمَحْمُودَ وَالْمَذْمُومَ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِهِ : " { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } " إلَخْ فَذَكَرَ النِّيَّةَ الْمَحْمُودَةَ بِالْهِجْرَةِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَطْ وَالنِّيَّةَ الْمَذْمُومَةَ وَهِيَ الْهِجْرَةُ إلَى امْرَأَةٍ أَوْ مَالٍ وَهَذَا ذَكَرَهُ تَفْصِيلًا بَعْدَ إجْمَالٍ فَقَالَ : " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } " ثُمَّ فَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ } " إلَخْ)) انتهى(5)
قال الإمام أبوالفرج بن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه (جامع العلوم والحكم ص 18)
(( فقوله صلى الله عليه و سلم (إنما الأعمال بالنيات ) وفي رواية (الأعمال بالنيات) وكلاهما يقتضي الحصر على الصحيح وليس غرضنا ههنا توجيه ذلك ولا بسط القول فيه وقد اختلفوا في تقدير قوله (الأعمال بالنيات)
فكثير من المتأخرين يزعم أن تقديره الأعمال صحيحة أو معتبرة ومقبولة بالنيات وعلى هذا فالأعمال إنما أريد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية فأما مالا يفتقر إلى نية كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها أو مثل رد الأمانات والمضمونات كالودائع والغصوب فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية فيخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة ههنا
وقال آخرون بل الأعمال ههنا على عمومها لايختص منها شيء وحكاه بعضهم عن الجمهور كأنه يريد به جمهور المتقدمين وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطبري وأبي طالب المكي وغيرهما من المتقدمين وهو ظاهر كلام الإمام أحمد
قال في رواية حنبل ״أحب لكل من عمل من صلاة أو صيام أو صدقة أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل״ قال النبي صلى الله عليه و سلم ״الأعمال بالنيات״ فهذا يأتي على كل أمر من الأمور
وقال الفضل بن زياد( سألت أبا عبد الله يعني أحمد عن النية في العمل قلت كيف النية قال يعالج نفسه إذا أراد عملا لا يريد به الناس)
وقال أحمد بن داود الحربي قال:حدث يزيد بن هارون بحديث عمر ״الأعمال بالنيات״ وأحمد جالس فقال أحمد ليزيد ״يا أبا خالد هذا الخناق״
وعلى هذا القول فقيل تقدير الكلام الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات فيكون إخبارا عن الأعمال الاختيارية أنها لاتقع إلا عن قصد من العامل هو سبب عملها ووجودها ويكون قوله بعد ذلك ״وإنما لكل امريء ما نوى״ إخبارا عن حكم الشرع وهو أن حظ العامل من عمله نيته فإن كانت صالحة فعمله صالح فله أجره وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزره
ويحتمل أن يكون التقدير في قوله ״الأعمال بالنيات״ صالحة أو فاسدة أو مقبولة أو مردودة أو مثاب عليها أو غير مثاب عليها بالنيات فيكون خبرا عن الحكم الشرعي وهو أن صلاحها وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها كقوله صلى الله عليه و سلم ״إنما الأعمال بالخواتيم ״أي إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمها بحسب الخاتمة )) انتهى
8ـ وقوله بعد ذلك״وإنما لكل امرئ ما نوى״ إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به فإن نوى خيرا حصل له خير وإن نوى به شرا حصل له شر وليس هذا تكريرا محضا للجملة الأولي
فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة وقد تكون نيته مباحة فيكون العمل مباحا فلا يحصل له ثواب ولا عقاب فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه المقتضية لوجوده وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي صار بها العمل صالحا أو فاسدا أو مباحا (6)
وقال الشيخ العلامة الفقيه محمد بن صالح بن العثيمين رحمه الله في شرح الأربعين النواوية
((يجب أن نعلم أن الأصل في الكلام التأسيس دون التوكيد، ومعنى التأسيس: أن الثانية لها معنى مستقل. ومعنى التوكيد: أن الثانية بمعنى الأولى. وللعلماء رحمهم الله في هذه المسألة رأيان،
يقول أولهما: إن الجملتان بمعنى واحد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وأكد ذلك بقوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى .
والرأي الثاني يقول: إن الثانية غير الأولى، فالكلام من باب التأسيس لامن باب التوكيد.
والقاعدة: أنه إذا دار الأمر بين كون الكلام تأسيساً أو توكيداً فإننا نجعله تأسيساً، وأن نجعل الثاني غير الأول، لأنك لو جعلت الثاني هو الأول صار في ذلك تكرار يحتاج إلى أن نعرف السبب.
والصواب: أن الثانية غير الأولى، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية باعتبار المنوي له وهو المعمول له، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا. ويدل لهذا مافرعه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وعلى هذه فيبقى الكلام لاتكرار فيه.)) انتهى
وقال رحمه الله في (شرح رياض الصالحين ج 1 / ص 3) عند الشرح هذا الحديث
((قوله: ״إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى״
هاتان الجملتان اختلف العلماء - رحمهم الله – فيهما.
فقال بعض العلماء إنهما جملتان بمعنى واحد، وأن الجملة الثانية تأكيد للجملة الأولى
ولكن هذا ليس بصحيح وذلك لأن الأصل في الكلام أن يكون تأسيساً لا تأكيداً
ثم إنهما عند التأمل يتبين أن بينهما فرقاً عظيماً، فالأولى سبب، والثانية نتيجة .
الأولى سبب يبين فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن كل عمل لابد فيه من نية كل عمل يعمله الإنسان وهو عاقل مختار فلابد فيه من نية ولا يمكن لأي عاقل مختار أن يعمل عملاً إلا بنية .
حتى قال بعض العلماء: ״لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف ما لا يطاق״ وهذا صحيح، كيف تعمل وأنت عاقل في عقلك وأنت مختار غير مكره عملاً بلا نية ؟
هذا مستحيل لأن العمل ناتج عن إرادة وقدرة، والإرادة هي النية، إذا فالجملة الأولى معناها أنه ما من عامل إلا وله نية ولكن النيات تختلف اختلافاً عظيما وتتباين تبايناً بعيداً كما بين السماء والأرض .
من الناس من نيته في القمة في أعلى شيء ومن الناس من نيته في القمامة في أخس شيء وأدنى شيء .
حتى إنك لترى الرجلين يعملان عملاً واحداً يتفقان في ابتدائه وانتهائه وفي أثنائه وفي الحركات والسكنات والأقوال والأفعال، وبينهما كما بين السماء والأرض كل ذلك باختلاف النية .
إذاً الأساس أنه: ما من عمل بلا نية .
نتيجة قوله: ״وإنما لكل امرئ ما نوى״ إن نويت الله والدار الآخرة في أعمالك الشرعية حصل لك ذلك، وإن نويت الدنيا فقد تحصل وقد لا تحصل .
قال الله:״ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد״ الإسراء 18 ما قال عجلنا له ما يريد بل قال ما نشاء أي لا ما يشاء هو لمن نريد لا لكل إنسان فقيد المعجل والمعجل له .
إذاًَ من الناس من يعطى ما يريد من الدنيا ومنهم من يعطى شيئاً منه ومنهم من لا يعطى شيئاً أبداً .
هذا معنى قوله { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } أما { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } الإسراء 19 لابد أن يجني هذا العمل الذي أراد به وجه الله والدار الآخرة .)) انتهى
9ـ قال الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني في مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 255)
((وَلَفْظُ النِّيَّةِ يُرَادُ بِهَا النَّوْعُ مِنْ الْمَصْدَرِ وَيُرَادُ بِهَا الْمَنْوِيُّ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي هَذَا لَعَلَّهُ أَغْلَبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِحَسَبِ مَا نَوَاهُ الْعَامِلُ أَيْ : بِحَسَبِ مَنْوِيِّهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِهِ { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فَذَكَرَ مَا يَنْوِيهِ الْعَامِلُ وَيُرِيدُهُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ لَهُ . فَإِنَّ كُلَّ مُتَحَرِّكٍ بِالْإِرَادَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَادٍ . وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } فَإِنَّ كُلَّ آدَمِيٍّ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَالْحَارِثُ هُوَ الْعَامِلُ الْكَاسِبُ وَالْهَمَّامُ الَّذِي يَهُمُّ وَيُرِيدُ . قَالَ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } فَقَوْلُهُ حَرْثَ الدُّنْيَا أَيْ كَسْبَهَا وَعَمَلَهَا وَلِهَذَا وَضَعَ الْحَرِيرِيُّ مَقَامَاتِهِ عَلَى لِسَان الْحَارِثِ بْنِ هَمَّامٍ لِصِدْقِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ .)) انتهى
وقال رحمه الله في (قاعدة في المحبة ص 15)
((فإن صلاح الحي إنما هو صلاح مقصوده ومراده وصلاح الأعمال والحركات بصلاح إرادتها ونياتها
ولهذا كان من أجمع الكلام وأبلغه قوله״ إنما الإعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي״ وهذا يعم كل عمل وكل نية
فكل عمل في العالم هو بحسب نية صاحبه وليس للعامل إلا ما نواه وقصده وأحبه وأراده بعمله ليس في ذلك تخصيص ولا تقييد كما يظنه طوائف من الناس حيث يحسبون أن النية المراد به النية الشرعية المأمور بها فيحتاجون أن يحصروا الأعمال بالأعمال الشرعية فإن النية موجودة لكل متحرك كما قال النبي في الحديث الصحيح أصدق الأسماء الحارث وهمام فالحارث هو العامل الكاسب والهمام هو القاصد المريد وكل إنسان متحرك بإرادته حارث همام كما بينا أن المحبة والإرادة أصل كل عمل فكل عمل في العالم فعن إرادة ومحبة صدر
ولهذا كانت المحبة والإرادة منقسمة إلي محبوب لله وغير محبوب كما أن العمل والحركة منقسم كذلك
وإذا كان كذلك فالمحبة لها آثار وتوابع سواء كانت صالحة محمودة نافعة أو كانت غير ذلك لها وجد وحلاوة وذوق ووصال وصدود ولها سرور وحزن وبكاء
والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة والضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره وهو الشقاء)) انتهى
وقال الإمام الهمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين ج 3 / ص 111)
((العمل تابع للنية :فالنية روح العمل ولبه وقوامه وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله ״إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى״ فبين في الجملة الأولى أن العمل لايقع إلا بالنية ولهذا لا يكون عمل إلا بنية ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا يعصمه من ذلك صورة البيع وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح لأنه قد نوى ذلك وإنما لامرئ ما نوى
فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان والثانية معلومة بالنص وعلى هذا فإذا نوى بالعصر حصول الخمر كان له ما نواه ولذلك استحق اللعنة وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله كان له ما نواه فإنه قصد المحرم وفعل مقدوره في تحصيله ولا فرق في التحيل على المحرم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له لا في عقل ولا في شرع ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد متناولا لنفس ما نهى عنه ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيلوا على فعل ما حرمه الله ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله ولم يعصمهم التوصل إلى ذلك بصورة البيع وأيضا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم الودك فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك)) انتهى
وقال رحمه الله في كتابه الفريد في نوعه (الفوائد ص 203 ط دارابن حزم)
((المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة, فمن فقدهما تعذّر عليه الوصول إليه, فإن الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده دون غيره. وإذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة إليه, فالنية تفرد له الطريق والهمة تفرد له المطلوب, فإذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصول غايته. وإذا كانت همته سافلة تعلّقت بالسفليات ولم تتعلّق بالمطلب الأعلى. وإذا كانت النية غير صحيحة كانت طريقه غير موصلة إليه. فمدار الشأن على همة العبد ونيته هما مطلوبه وطريقه لا يتم إلا بترك ثلاثة أشياء:
الأول: العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس.
الثاني: هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها.
الثالث: قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعليق بالمطلوب (وكأنه يشير رحمه الله إلى تجرد المسلم عن كل عوائق الدنيا, وعلائق القلب وقبل ذلك بعه عن كل البدع والخرافات التي أحدثها الناس, وما أكثرها في زماننا) والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية, والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها. وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة, فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه, والله المستعان.)) انتهى
10ـ قوله (الأعمال) جمع عمل، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق، وأعمال الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها:
فالأعمال القلبية: مافي القلب من الأعمال: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.
والأعمال النطقية: ماينطق به اللسان، وما أكثر أقوال اللسان، ولاأعلم شيئاً من الجوارح أكثر عملاً من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن.
والأعمال الجوارحية: أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.(7)
11ـ إن لَفْظُ " النِّيَّةِ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ جِنْسِ لَفْظِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ،تَقُولُ الْعَرَبُ : نَوَاك اللَّهُ بِخَيْرِ أَيْ : أَرَادَك بِخَيْرِ وَيَقُولُونَ : نَوَى مَنْوِيَّهُ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَنْوِيهِ يُسَمُّونَهُ نَوَى
كَمَا يَقُولُونَ : قَبْضَ بِمَعْنَى مَقْبُوضٍ وَالنِّيَّةُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ نَوْعٍ مِنْ إرَادَةٍ وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنْ نَفْسِ الْمُرَادِ كَقَوْلِ الْعَرَب : هَذِهِ نِيَّتِي يَعْنِي : هَذِهِ الْبُقْعَةُ هِيَ الَّتِي نَوَيْت إتْيَانَهَا وَيَقُولُونَ : نِيَّتُهُ قَرِيبَةٌ أَوْ بَعِيدَةٌ أَيْ : الْبُقْعَةُ الَّتِي نَوَى قَصْدَهَا لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا أَخَصُّ مِنْ الْإِرَادَةِ ؛ فَإِنَّ إرَادَةَ الْإِنْسَانِ تَتَعَلَّقُ بِعَمَلِهِ وَعَمَلِ غَيْرِهِ وَالنِّيَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِعَمَلِهِ فَإِنَّك تَقُولُ : أَرَدْت مِنْ فُلَانٍ كَذَا وَلَا تَقُولُ نَوَيْت مِنْ فُلَانٍ كَذَا .)) انتهى (8)
قال الإمام أبو الفرج عبد الرحمن رحمه الله في كتابه (جامع العلوم والحكم ص 19)
(( واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة وإن كان قد فرق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره )) انتهى
12ـ لَفْظُ النِّيَّةِ يَجْرِي فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ : فَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهَا تَمْيِيزَ عَمَلٍ مِنْ عَمَلٍ وَعِبَادَةٍ مِنْ عِبَادَةٍ وَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهَا تَمْيِيزَ مَعْبُودٍ عَنْ مَعْبُودٍ وَمَعْمُولٍ لَهُ عَنْ مَعْمُولٍ لَهُ . فَالْأَوَّلُ كَلَامُهُمْ فِي النِّيَّةِ : هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ ؟ وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّعْيِينِ وَالتَّبْيِيتِ فِي الصِّيَامِ ؟ وَإِذَا نَوَى بِطَهَارَتِهِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهَا هَلْ تَجْزِيهِ عَنْ الْوَاجِبِ ؟ أَوْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ نِيَّةِ التَّعْيِينِ ؟ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالثَّانِي كَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَبَيْنَ أَهْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ كَمَا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَحَمِيَّةً وَرِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ وَهَذِهِ النِّيَّةُ تُمَيِّزُ بَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللَّهَ بِعَمَلِهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَبَيْنَ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا : مَالًا وَجَاهًا وَمَدْحًا وَثَنَاءً وَتَعْظِيمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ بِالْقَصْدِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ : أَنَّ عُمُومَهُ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُرِيدُ دُنْيَا أَوْ امْرَأَةً فَفَرَّقَ بَيْنَ مَعْمُولٍ لَهُ وَمَعْمُولٍ لَهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَمَلٍ وَعَمَلٍ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِخْلَاصَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وَقَوْلِهِ : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ . وَإِخْلَاصُ الدِّينِ هُوَ أَصْلُ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلِذَلِكَ ذَمَّ الرِّيَاءَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ } الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } الْآيَةَ .)) انتهى (9)
قال الفقيه المحدث ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم
((والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين
أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا وتمييز رمضان من صيام غيره أو تمييز العبادات من العادات كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك وهذه النية هي التي توجد كثيرا في كلام الفقهاء في كتبهم
والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه وهي التي توجد كثيرا في كلام السلف المتقدمين وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفا سماه ״كتاب الإخلاص والنية״ وإنما أراد هذه النية وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه و سلم تارة بلفظ النية وتارة بلفظ الإرادة وتارة بلفظ مقارب لذلك وقد جاء ذكرها كثيرا في كتاب الله عز و جل بغير لفظ النية أيضا من الألفاظ المقاربة لها وإنما فرق من فرق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوهما لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء فمنهم من قال النية تختص بفعل الناوي والإرادة لا تختص بذلك كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له ولا ينوي ذلك وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي صلى الله عليه و سلم وسلف الأمة إنما يراد بها هذا المعنى الثاني غالبا فهي حينئذ بمعنى الإرادة ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرا كما في قوله تعالى ״منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة״ آل عمران 152 وقوله عز و جل ״تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة״ الأنفال 67 وقوله تعالى ״من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها״ هود15 وقوله ״ومن كان يريد حرث الآخرة״ الشورى 20 وقوله تعالى ״من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد״ الإسراء18 وقوله تعالى ״ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه״ الأنعام 52 وقوله تعالى ״واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدينا״ الكهف 28 وقوله ״ذلك خير للذين يريدون وجه الله״ الروم 38 وقوله ״وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون״ الروم 39
وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء كما في قوله تعالى ״إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى״ الليل 20 وقوله تعالى ״ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم״ البقرة 265 وقوله تعالى ״وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله״ البقرة 272وقوله ״لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف״ النساء 114 فنفى الخير عن كثير مما يتناجى الناس به إلا في الأمر بالمعروف وخص من أفراده الصدقة والإصلاح بين الناس لعموم نفعها فدل ذلك على أن التناجي بذلك خير وأما الثواب عليه من الله فخصه بمن فعله ابتغاء مرضات الله وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرا وإن لم يبتغ به وجه الله لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي فيحصل به للناس إحسان وخير وأما بالنسبة إلى الأمر فإن قصد به وجه الله وابتغاء مرضاته كان خيرا له وأثيب عليه وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرا له ولا ثواب له عليه وهذا بخلاف من صلى وصام وذكر الله يقصد بذلك عرض الدنيا فإنه لا خير له فيه بالكلية لأنه لاتقع في ذلك لصاحبه لما يترتب عليه من الإثم فيه ولا لغيره لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد اللهم إلا أن يحصل لأحد اقتداء به في ذلك )) انتهى
13ـ وأيضا مما يستفاد من الحديث تمييز العادات من العبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض.
ـ وتمييز العادات من العبادات مثاله:
- أولاً:الرجل يأكل الطعام شهوة فقط، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله عزّ وجل في قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) الأعراف:الآية31 فصار أكل الثاني عبادة، وأكل الأول عادة
- ثانياً: الرجل يغتسل بالماء تبرداً، والثاني يغتسل بالماء من الجنابة، فالأول عادة، والثاني: عبادة، ولهذا لوكان على الإنسان جنابة ثم انغمس في البحر للتبرد ثم صلى فلا يجزئه ذلك، لأنه لابد من النية،وهو لم ينو التعبّد وإنما نوى التبرّد.
ولهذا قال بعض أهل العلم: ״عبادات أهل الغفلة عادات، وعادات أهل اليقظة عبادات.״
عبادات أهل الغفلة عادات مثاله: من يقوم ويتوضأ ويصلي ويذهب على العادة. وعادات أهل اليقظة عبادات مثاله: من يأكل امتثالاً لأمر الله، يريد إبقاء نفسه، ويريد التكفف عن الناس، فيكون ذلك عبادة. ورجل آخر لبس ثوباً جديداً يريد أن يترفّع بثيابه، فهذا لايؤجر، وآخرلبس ثوباً جديداً يريد أن يعرف الناس قدر نعمة الله عليه وأنه غني، فهذا يؤجر. ورجل آخر لبس يوم الجمعة أحسن ثيابه لأنه يوم جمعة، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسياً بالنبي ، فهو عبادة.
ـ تمييز العبادات بعضها من بعض مثاله:
رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة، فالعملان تميزا بالنية، هذا نفل وهذا واجب، وعلى هذا فَقِسْ.
إذاً المقصود بالنيّة: تمييز العبادات بعضها من بعض كالنفل مع الفريضة، أوتمييز العبادات عن العادات (10)
قال الإمام أبو الفرج ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم ص 27
((وأمَّا النِّيَّةُ بالمعنى الذي يذكره الفُقهاءُ ، وهو أنَّ تمييزَ العباداتِ من العاداتِ ، وتمييز العباداتِ بعضها مِنْ بعضٍ ، فإنَّ الإمساكَ عنِ الأكلِ والشُّربِ يقعُ تارةً حميةً ، وتارةً لعدمِ القُدرةِ على الأكل ، وتارةً تركاً للشَّهواتِ للهِ - عز وجل - ، فيحتاجُ في الصِّيامِ إلى نيَّةٍ ليتميَّزَ بذلك عَنْ تركِ الطَّعامِ على غير هذا الوجه .
وكذلك العباداتُ ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ ، منها فرضٌ ، ومنها نفلٌ .
والفرضُ يتنوَّعُ أنواعاً ، فإنَّ الصَّلواتِ المفروضاتِ خمسُ صلواتِ كلَّ يومٍ وليلةٍ ، والصَّومُ الواجبُ تارةً يكونُ صيامَ رمضان ، وتارةً صيامَ كفارةٍ ، أو عن نذرٍ ، ولا يتميَّزُ هذا كلُّه إلاَّ بالنِّيَّةِ ، وكذلك الصدقةُ ، تكونُ نفلاً ، وتكونُ فرضاً ، والفرضُ منه زكاةٌ ، ومنه كفَّارةٌ ، ولا يتميَّزُ ذلكَ إلاَّ بالنِّيَّةِ ، فيدخلُ ذلك في عمومِ قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( وإنَّما لكل امرىءٍ ما نَوى )) انتهى
14ــ قوله صلى الله عليه و سلم (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) لما ذكر صلى الله عليه و سلم أن الأعمال بحسب النيات وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء ذكر بعد ذلك مثلا من الأمثال والأعمال التي صورتها واحدة ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات وكأنه يقول سائر الأعمال على حذو هذا المثال (11)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى ج 18 / ص 279)
((قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } لَيْسَ هُوَ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ لَكِنَّهُ إخْبَارٌ بِأَنَّ مَنْ نَوَى بِعَمَلِهِ شَيْئًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَا نَوَاهُ أَيْ : مَنْ قَصَدَ بِهِجْرَتِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَصَلَ لَهُ مَا قَصَدَهُ وَمَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْهِجْرَةَ إلَى دُنْيَا أَوْ امْرَأَةٍ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ فَهَذَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ :{إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ذَكَرَ أَنَّ لِهَذَا مَا نَوَاهُ وَلِهَذَا مَا نَوَاهُ .)) انتهى
15ـ أصل الهجرة هجران بلد الشرك والانتقال منه إلى دار الإسلام كما كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينه النبي صلى الله عليه و سلم وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي (12)
16ـ أخبرالنبي صلى الله عليه و سلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها فمن هاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقا وكفاه شرفا وفخرا أن حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة
ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر من ذلك فالأول تاجر والثاني خاطب وليس بواحد منهما مهاجر وفي قوله ״إلى ما هاجر إليه״ تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به حيث لم يذكر بلفظه وأيضا أن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة ومحرمة تارة وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر فلذلك قال فهجرته إلى ما هاجر إليه يعني كائنا ما كان (13)
قال العلامة الملا على القاري رحمه الله في كتابه ( مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ج 1 / ص 113)
((فهجرته إلى ما هاجر إليه أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه فلا ثواب له لقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب الشورى والمعنى فهجرته مردودة أو قبيحة قيل إنما ذم لأنه طلب الدنيا في صورة الهجرة فأظهر العبادة للعقبى ومقصوده الحقيقي ما كان إلا الدنيا فاستحق الذم لمشابهته أهل النفاق ولذا قال الحسن البصري لما رأى بهلوانا يلعب على الحبل هذا أحسن من أصحابنا فإنه يأكل الدنيا بالدنيا وأصحابنا يأكلون الدنيا بالدين وقال ابن عبد السلام متى اجتمع باعث الدنيا والآخرة فلا ثواب مطلقا للخبر الصحيح أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي أشرك وقال الغزالي يعتبر الباعث فإن غلب باعث الآخرة أثيب أو باعث الدنيا أو استويا لم يثب قال ابن حجر يؤخذ من قول الشافعي وأصحابه من حج بنية التجارة كان ثوابه دون ثواب المتخلي عنها أن القصد المصاحب للعبادة إن كان محرما كالرياء أسقطها مطلقا وهو محمل الحديث المذكور كما يصرح به لفظه أو غير محرم أثيب بقدر قصده الآخرة أخذا بعموم قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الزلزلة ا ه وهو تفصيل حسن وتعليل مستحسن)) انتهى
وقال العلامة أبو الحسن عبيد الله المباركفوري رحمه الله في كتابه (مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ج 1 / ص 34)
((والظاهر أن التنصيص على المرأة من باب التنصيص على الخاص بعد العام للاهتمام، والنكرة إذا كانت في سياق الشرط تعم، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير ؛ لأن الافتتان بها أشد، وإنما وقع الذم ههنا على مباح، ولا ذم فيه ولا مدح ؛ لكون فاعله أبطن خلاف ما أظهر، إذ خروجه في الظاهر ليس لطلب الدنيا، وإنما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة. (فهجرته إلى ما هاجر إليه) أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه، وفيه تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به، حيث لم يذكر بلفظه، وأيضاً أن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب الدنيا مباحة تارة ومحرمة تارة، وإفراد ما يقصد الهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني كائنا ما كان)) انتهى
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في (شرح رياض الصالحين ج 1 / ص 3)
((إذا هاجر الناس، فهم يختلفون في الهجرة، منهم من يهاجر ويدع بلده إلى الله ورسوله، يعني إلى شريعة الله التي شرعها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم هذا هو الذي ينال الخير، وينال مقصوده ولهذا قال: فهجرته إلى الله ورسوله أي فقد أدرك ما نوى الثاني: هاجر لدنيا يصيبها، مثلاً رجل يحب جمع المال فسمع أن في بلاد الإسلام مرتعاً خصباً لاكتساب الأموال فهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فقط، لا يقصد أن يستقيم على دينه ولا يهتم لدينه، إنما همه المال .
ثالثاً: رجل هاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام يريد امرأة يتزوجها قيل له لا نزوجك إلى في بلاد الإسلام ولا تسافر بها إلى بلاد الكفر، فهاجر من بلده إلى بلاد الإسلام من أجل المرأة .
فمريد الدنيا ومريد المرأة لم يهاجر إلى الله ورسوله، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: فهجرته إلى ما هاجر إليه وهنا قال: إلى ما هاجر إليه ولم يقل فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فلماذا ؟ قيل لطول الكلام، فإذا قيل فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها طال الكلام وقيل بل لم ينص عليهما احتقاراً وإعراضاًَ عن ذكرهما لأنها نية فاسدة منحطة .
وعلى كل حال فإن هذا الذي نوى بهجرته الدنيا أو المرأة لاشك أن نيته سافلة منحطة هابطة بخلاف الأول الذي هاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .)) انتهى
وقال رحمه الله في شرح الأربعين النواوية
( ״ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله״
رجل انتقل من مكة قبل الفتح يريد الله ورسوله يعني يريد ثواب الله ويريد الوصول إلى الله ،كقوله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الله ورسوله } ،( يريد الله ) أي يريد وجه الله ونصرة دين الله وهذه إرادة حسنة ،
( رسوله ) يريد رسول الله ليفوز بصحبته والذب عنه ونشر دينه فهجرته إلى الله ورسوله ،والله تعالى يقول : ( من تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً ) ،
فهو إذا أراد الله فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل وكذلك الرسول بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام ،هل يمكن أن تهاجر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ؟
فالجواب : أما إلى شخصه فلا ،ولذلك لا نهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول عليه الصلاة والسلام ،لأنه تحت الثرى ،وأما إلى سنته وشرعه فهذا وارد .أذهب إلى بلد أنصر فيها شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأذود عنها ،هذه هجرة إلى رسول الله ،الهجرة إلى الله في كل وقت وحين ،الهجرة إلى رسول الله إلى شخصه وشريعته في حياته وإلى شريعته بعد مماته ،نظير هذا قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } إلى الله دائماً ،وإلى الرسول في حياته وإلى شريعته بعد وفاته ،من ذهب مثلاً من البلد الفلاني إلى البلد الفلاني ليتعلم الحديث فهذا هجرته إلى الله ورسوله .
ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوجها خطبها وقالت : لا أتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ،( أو دنياً يصيبها ) علم أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح فهذا هجرته إلى دنيا يصيبها) انتهى
17ـ ومما ينبغي أن نفقهه ونعرفه بما يخص فقه مسألة الهجرة وهي أن الهجرة ثلاثة أقسام قد بينها ووضحها الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرحه لكتاب رياض الصالحين - (ج 1 / ص 9) إذ قال
((أقسام الهجرة :الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان .
القسم الأول: هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي ويكثر فيه الفسوق وربما يكون بلد كفر إلى بلد لا يوجد فيه ذلك .