النتائج 1 إلى 6 من 6
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (2) شرح حديث ( إنما الأعمال بالنيات)


    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
    أما بعد :
    فلما كان هذا الباب في الإخلاص ، إخلاص النية لله عز وجل، وأنه ينبغي أن تكون النية مخلصة لله في كل قول، وفي كل فعل، وعلى كل حال، ذكر المؤلف من الآيات ما يتعلق بهذا المعني، وذكر ـ رحمه الله ـ من الأحاديث ما يتعلق به أيضاً، وصدر هذا بحديث عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضى الله عنه الذي قال فيه : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يقُولُ : (( إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِىءٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصيبُهَا ، أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكَحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْه )) . مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ . رَوَاهُ إمَامَا الْمُحَدّثِينَ ، أبُو عَبْدِ الله مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعيلَ بْن إبراهِيمَ بْن المُغيرَةِ بنِ بَرْدِزْبهْ الجُعْفِيُّ البُخَارِيُّ ، وَأَبُو الحُسَيْنِ مُسْلمُ بْنُ الحَجَّاجِ بْنِ مُسْلمٍ الْقُشَيريُّ النَّيْسَابُورِيُّ رضي اللهُ عنهما فِي صحيحيهما اللَّذَيْنِ هما أَصَحُّ الكُتبِ المصنفةِ .
    هذا الحديث تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن أبي وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس له طريق يصح غير هذا الطريق كذا قال علي بن المديني وغيره وقال الخطابي لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في ذلك مع أنه قد روى من حديث أبي سعيد وغيره وقد قيل إنه قد روى من طرق كثيرة لكن لا يصح من ذلك شيء عند الحفاظ ثم رواه عن الأنصاري الخلق الكثير والجم الغفير فقيل رواه عنه أكثر من مائتي راو وقيل رواه عنه سبعمائة راو ومن أعيانهم الإمام مالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وشعبة وابن عيينة وغيرهم واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول وبه صدر البخاري كتابه الصحيح (1)
    قال العلامة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد حفظه الله في كتابه (فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله) ص 08
    (( فهو من غرائب صحيح البخاري، وهو فاتحته، ومثله في ذلك خاتمته، وهو حديث أبي هريرة "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ..." الحديث، وهو أيضاً من غرائب الصحيح.)) انتهى
    2ـ بالمناسبة هنا فائدة ونكتة لطيفة في فاتحة وخاتمة الإمام البخاري بهذين الحدثين وألا وهي الرد على من لا يحتجون بالأخبار الأحاد
    قال المحدث العلامة ناصر الدين الألباني رحمه الله في كتابه (الحديث حجة بنفسه - ص 64)
    (( إفادة كثير من أخبار الآحاد العلم واليقين :
    ثم إن ما تقدم من البحث وتحقيق القول ببطلان التفريق المذكور إنما هو قائم كله على افتراض صحة القول بأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن الراجح ولا يفيد اليقين والعلم القاطع فينبغي أن يعلم أن ذلك ليس مسلما على إطلاقه بل فيه تفصيل مذكور في موضعه والذي يهمنا ذكره الآن هو أن خبر الآحاد يفيد العلم واليقين في كثير من الأحيان من ذلك الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مما لم ينتقد عليهما فإنه مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري حاصل به كما جزم به الإمام ابن الصلاح في كتابه " علوم الحديث " ( ص 28 - 29 ) ونصره الحافظ بن كثير في " مختصره " ومن قبله شيخ الإسلام ابن تيمية وتبعه العلامة ابن قيم الجوزية في " مختصر الصواعق " ( 2 / 383 ) ومثل له بعدة أحاديث منها حديث عمر : رضي الله عنه إنما الأعمال بالنيات وحديث : ")) انتهى
    وقال الإمام أبوالعباس الحراني رحمه الله في (مجموع الفتاوى ج 18 / ص 49)
    ((هُوَ مِمَّا تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَيْسَ هُوَ فِي أَصْلِهِ مُتَوَاتِرًا ؛ بَلْ هُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ لَكِنْ لَمَّا تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ صَارَ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ))أنتهى
    وقال أيضا في (ج 18 / ص 247)
    ((هذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا جَمَعَهَا ابْنُ منده وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ فَأَهْلُ الْحَدِيثِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ إلَّا عَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ الليثي ؛ وَلَا عَنْ عَلْقَمَةَ إلَّا مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ؛ وَلَا عَنْ مُحَمَّدٍ إلَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَاضِي الْمَدِينَةِ . وَرَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ يُقَالُ : إنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ نَحْوُ مِنْ مِائَتَيْ عَالِمٍ مِثْلُ مَالِكٍ ؛ وَالثَّوْرِيّ ؛ وَابْنِ عُيَيْنَة وَحَمَّادٍ وَحَمَّادٍ ؛ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ ؛ وَأَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ ؛ وَزَائِدَةَ ؛ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ؛ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا مِنْ شُيُوخِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَطَبَقَتِهِمْ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيّ وَأَبِي عُبَيْدٍ)) انتهى
    3ـ وأيضا فيه الرد على من يزعم أن تعدد الرواة شرط للبخاري
    قال الشيخ الفاضل الدكتورعبد الكريم بن عبد الله الخضير حفظه الله في شرحه للنخبة الفكر

    ((ابن العربي المالكي في شرح البخاري وفي عارضة الأحواذي في شرح الحديث ((هو الطهور ماؤه)) أدعى أن هذا هو شرط البخاري وأن البخاري لايخرج حديث يتفرد به واحد وقال عن حديث البحر (إنه لم يخرجه البخاري لأنه تفرد به أحد رواته وليس من شرطه )
    الكرماني الشارح ـ شارح البخاري ـ في مواضيع من شرحه يزعم أن تعدد الرواة شرط للبخاري في صحيحه لكن هذه الدعوة مرفوضة وليست صحيحة ويكفي في رد هذه الدعوة أول حديث في صحيح البخاري وآخر حديث في صحيح البخاري أول حديث في صحيح البخاري (إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ) وإنما يروى من طريق عمر رضي الله عنه فقط لم يثبت إلا من طريق عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا من طريق عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي فقط تفرد بروايته عن عمر ولا يرويه عن علقمة إلا محمد وبن إبراهيم التيمي تفرد بروايته عن علقمة ولم يرويه سوى يحيى بن سعيد الأنصاري تفرد به ثم انتشر بعد يحيى بن سعيد حتى وصلت طرقه المئات عن يحيى بن سعيد
    آخر حديث في الكتاب (( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )) هذا أيضا مثل أول حديث التفرد وقع في أربع من طبقات إسناده تفرد به أبو هريرة وعنه أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلي وعنه عمارة بن القعقا ع وعنه محمد بن فضيل وعن محمد بن فضيل انتشر مثل حديث الأعمال بالنيات سواء )) أنتهى
    4ـ افتتح النووي أحاديث الأربعين بهذا الحديث، وقد افتتح جماعة من أهل العلم كتبَهم به، منهم الإمام البخاري افتتح صحيحه به، وعبد الغني المقدسي افتتح كتابه عمدة الأحكام به، والبغوي افتتح كتابيه مصابيح السنة وشرح السنة به، وافتتح السيوطي كتابه الجامع الصغير به، وعقد النووي في أول كتابه المجموع شرح المهذب فصلاً قال فيه (1/35): "فصل في الإخلاص والصدق وإحضار النية في جميع الأعمال البارزة والخفية"، أورد فيه ثلاث آيات من القرآن، ثم حديث "إنَّما الأعمال بالنيَّات"، وقال: "حديث صحيح متفق على صحته، ومجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو إحدى قواعد الإيمان وأول دعائمه وآكد الأركان.
    قال الشافعي رحمه الله: يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه، وقال أيضاً: هو ثلث العلم، وكذا قاله أيضاً غيرُه، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف في عدِّها، فقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة، وقيل: اثنان، وقيل: حديث، وقد جمعتها كلَّها في جزء الأربعين، فبلغت أربعين حديثاً، لا يستغني متديِّن عن معرفتها؛ لأنَّها كلَّها صحيحة، جامعة قواعد الإسلام، في الأصول والفروع والزهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك، وإنَّما بدأت بهذا الحديث تأسيًّا بأئمَّتنا ومتقدِّمي أسلافنا من العلماء رضي الله عنهم، وقد ابتدأ به إمام أهل الحديث بلا مدافعة أبو عبد الله البخاري صحيحه، ونقل جماعة أنَّ السلف كانوا يستحبُّون افتتاح الكتب بهذا الحديث؛ تنبيهاً للطالب على تصحيح النيَّة وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفيَّة، ورُوينا عن الإمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال: لو صنَّفت كتاباً بدأت في أوَّل كلِّ باب منه بهذا الحديث، ورُوينا عنه أيضاً قال: مَن أراد أن يصنِّف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث، وقال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الإمام في كتابه المعالم رحمه الله تعالى: كان المتقدِّمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث "الأعمال بالنيات" أمام كلِّ شيء يُنشأ ويُبتدأ من أمور الدِّين؛ لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها".
    وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/61): "واتَّفق العلماء
    على صحَّته وتلقيه بالقبول، وبه صدَّر البخاري كتابَه الصحيح، وأقامه مقام الخُطبة له؛ إشارة منه إلى أنَّ كلَّ عمل لا يُراد به وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة".)) انتهى (2)
    5ـ وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها فروى عن الشافعي رحمه الله أنه قال (هذا الحديث ثلث العلم ويدخل في سبعين بابا من الفقه) وعن الإمام أحمد رحمه الله قال ( أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث حديث عمر إنما الأعمال بالنيات وحديث عائشة من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وحديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين) وقال الحاكم (حدثونا عن عبدالله بن أحمد عن أبيه أنه ذكر قوله عليه الصلاة و السلام الأعمال بالنيات وقوله إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وقوله من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد فقال ينبغي أن يبتدأ بهذه الأحاديث في كل تصنيف فإنها أصول الأحاديث) وعن إسحاق بن راهويه قال (أربعة أحاديث هي من أصول الدين حديث عمر إنما الأعمال بالنيات وحديث الحلال بين والحرام بين وحديث إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وحديث من صنع في أمرنا شيئا ما ليس منه فهو رد) وروى عثمان بن سعيد عن أبي عبيد قال (جمع النبي صلى الله عليه و سلم جميع أمر الآخرة في كلمة واحدة من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد وجمع أمر الدنيا كله في كلمة واحدة إنما الأعمال بالنيات يدخلان في كل باب) وعن أبي داود قال (نظرت في الحديث المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث ثم نظرت فإذا مدار أربعة آلاف الحديث على أربعة أحاديث حديث النعمان بن بشير الحلال بين والحرام بين وحديث عمر إنما الأعمال بالنيات وحديث أبي هريرة إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين الحديث وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) قال (فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم) وعن أبي داود أيضا قال (كتبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب يعني كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدهما قوله صلى الله عليه و سلم إنما الأعمال بالنيات والثاني قوله صلى الله عليه و سلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه والثالث قوله صلى الله عليه و سلم لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه والرابع قوله صلى الله عليه و سلم الحلال بين والحرام بين) وفي رواية أخرى عنه أنه قال (الفقه يدور على خمسة أحاديث الحلال بين والحرام بين وقوله صلى الله عليه و سلم لا ضرر ولا ضرار وقوله إنما الأعمال بالنيات وقوله الدين النصيحة وقوله ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم) وفي رواية عنه قال (أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث حديث عمر إنما الأعمال بالنيات وحديث الحلال بين والحرام بين وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وحديث ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي
    عمدة الدين عندنا كلمات .......... أربع من كلام خير البرية
    اتق الشبهات وازهد ودع ما ....... ليس يعنيك واعملن بنية (3)
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى ج 18 / ص 249)
    ((وَالْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ بَلْ هُوَ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ وَلِهَذَا قَالُوا : مَدَارُ الْإِسْلَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ فَذَكَرُوهُ مِنْهَا كَقَوْلِ أَحْمَد حَدِيثَ : " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } " وَ " { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } " " { وَالْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ } " وَوَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الدِّينَ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى عَنْهُ . فَحَدِيثُ الْحَلَالِ بَيِّنٌ فِيهِ بَيَانُ مَا نَهَى عَنْهُ . وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا الْعَمَلُ الظَّاهِرُ وَهُوَ مَا كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَالثَّانِي الْعَمَلُ الْبَاطِنُ وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ . فَقَوْلُهُ : " { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا } " إلَخْ يَنْفِي التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ . وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } إلَخْ يُبَيِّنُ الْعَمَلَ الْبَاطِنَ وَأَنَّ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِخْلَاصِ فِي الدِّينِ لِلَّهِ ؛ كَمَا قَالَ الْفُضَيْل فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالَ : فَإِنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَعَلَى هَذَا دَلَّ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَأَنْ لَا يُشْرِكَ الْعَبْدُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ؛ وَهُوَ إخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فَإِنَّ إسْلَامَ الْوَجْهِ لِلَّهِ يَتَضَمَّنُ إخْلَاصَ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالْإِحْسَانُ هُوَ إحْسَانُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَهُوَ فِعْلُ مَا أَمَرَ بِهِ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا } فَإِنَّ الْإِسَاءَةَ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ تَتَضَمَّنُ الِاسْتِهَانَةَ بِالْأَمْرِ بِهِ وَالِاسْتِهَانَةَ بِنَفْسِ الْعَمَلِ وَالِاسْتِهَانَةَ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ مِنْ الثَّوَابِ فَإِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ دِينَهُ لِلَّهِ وَأَحْسَنَ الْعَمَلَ لَهُ كَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَكَانَ مِنْ الَّذِينَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .)) انتهى
    6 ـ قوله (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) فيه من أوجه البلاغة الحصر، وهو:إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه،وطريق الحصر: إِنَّمَا لأن (إنما) تفيد الحصر، فإذا قلت: زيد قائم فهذا ليس فيه حصر، وإذا قلت: إنما زيد قائم، فهذا فيه حصر وأنه ليس إلا قائماً. وكذلك قوله : وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى (4).
    قال العلامة أبوالعباس الحراني في (مجموع الفتاوى ج 18 / ص 264)
    ((لَفْظَةُ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا تَعْرِفُ مَعَانِيَ حُرُوفِ النَّفْيِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالشَّرْطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ تَنَازَعَ النَّاسُ : هَلْ دَلَالَتُهَا عَلَى الْحَصْرِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ أَوْ الْمَفْهُومِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ قَوْلُ بَعْضِ مُثْبِتِي الْمَفْهُومِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَبَعْضِ الْغُلَاةِ مِنْ نفاته وَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّهَا تُفِيدُ الْحَصْرَ وَاحْتَجُّوا بِمِثْلِ قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } . وَقَدْ احْتَجَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ بِأَنَّ حَرْفَ " إنْ " لِلْإِثْبَاتِ وَحَرْفَ " مَا " لِلنَّفْيِ فَإِذَا اجْتَمَعَا حَصَلَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ جَمِيعًا وَهَذَا خَطَأٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْعَرَبِيَّةِ ؛ فَإِنَّ " مَا " هُنَا هِيَ مَا الْكَافَّةُ لَيْسَتْ مَا النَّافِيَةُ وَهَذِهِ الْكَافَّةُ تَدْخُلُ عَلَى أَنَّ وَأَخَوَاتِهَا فَتَكُفُّهَا عَنْ الْعَمَلِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْعَامِلَةَ أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ لِلِاخْتِصَاصِ ؛ فَإِذَا اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ أَوْ بِالْفِعْلِ وَلَمْ تَكُنْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ عَمِلَتْ فِيهِ فَأَنَّ وَأَخَوَاتِهَا اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ فَعَمِلَتْ فِيهِ وَتُسَمَّى الْحُرُوفُ الْمُشْبِهَةُ لِلْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهَا عَمِلَتْ نَصْبًا وَرَفْعًا وَكَثُرَتْ حُرُوفُهَا وَحُرُوفُ الْجَرِّ اخْتَصَّتْ بِالِاسْمِ فَعَمِلَتْ فِيهِ وَحُرُوفُ الشَّرْطِ اخْتَصَّتْ بِالْفِعْلِ فَعَمِلَتْ فِيهِ بِخِلَافِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ وَلَمْ تَعْمَلْ وَكَذَلِكَ مَا الْمَصْدَرِيَّةُ . وَلِهَذَا الْقِيَاسِ فِي مَا النَّافِيَةُ أَنْ لَا تَعْمَلَ أَيْضًا عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ وَلَكِنْ تَعْمَلُ عَلَى اللُّغَةِ الْحِجَازِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ . فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } و { مَا هَذَا بَشَرًا } اسْتِحْسَانًا لِمُشَابَهَتِهَا " لَيْسَ " هُنَا لَمَّا دَخَلَتْ مَا الْكَافَّةُ عَلَى إنْ أَزَالَتْ اخْتِصَاصَهَا فَصَارَتْ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فَبَطَلَ عَمَلُهَا كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . وَقَدْ تَكُونُ مَا الَّتِي بَعْدَ أَنَّ اسْمًا لَا حَرْفًا كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } بِالرَّفْعِ أَيْ : أَنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ خِلَافَ قَوْلِهِ : { إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالنَّصْبِ لَا تَسْتَقِيمُ إذَا كَانَتْ مَا بِمَعْنَى الَّذِي وَفِي كُلِّ الْمَعْنَيَيْنِ الْحَصْرُ مَوْجُودٌ لَكِنْ إذَا كَانَتْ مَا بِمَعْنَى الَّذِي فَالْحَصْرُ جَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَعَارِفَ هِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ إمَّا مَعَارِفُ وَإِمَّا نَكِرَاتٌ وَالْمَعَارِفُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ وَالنَّكِرَةُ فِي غَيْرِ الْمُوجِبِ كَالنَّفْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَقَوْلُهُ : { إنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } تَقْدِيرُهُ : أَنَّ الَّذِي صَنَعُوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ . وَأَمَّا الْحَصْرُ فِي " إنَّمَا " فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَصْرِ بِالنَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا أَنْتَ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا } { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ } . وَالْحَصْرُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ مَحْصُورٌ فِي الثَّانِي وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَكْسِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الثَّانِيَ أَثْبَتَهُ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ غَيْرُهُ مِمَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ ثَابِتٌ لَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ إنَّك تَنْفِي عَنْ الْأَوَّلِ كُلَّ مَا سِوَى الثَّانِي فَقَوْلُهُ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ } أَيْ : إنَّك لَسْت رَبًّا لَهُمْ ؛ وَلَا مُحَاسِبًا ؛ وَلَا مُجَازِيًا ؛ وَلَا وَكِيلًا عَلَيْهِمْ ؛ كَمَا قَالَ : { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } وَكَمَا قَالَ : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } لَيْسَ هُوَ إلَهًا وَلَا أُمُّهُ إلَهَةً بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا كَمَا غَايَةُ مُحَمَّدٍ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا وَغَايَةُ مَرْيَمَ أَنْ تَكُونَ صِدِّيقَةً . وَهَذَا مِمَّا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَنَّهَا نَبِيَّةٌ وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ نُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَغَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } أَيْ : لَيْسَ مُخَلَّدًا فِي الدُّنْيَا لَا يَمُوتُ وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا جَازَ عَلَى إخْوَانِهِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا قِيلَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ وَتَلَاهَا الصِّدِّيقُ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَسْمَعُوهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَكَانَ لَا يُوجَدُ أَحَدٌ إلَّا يَتْلُوهَا .)) انتهى
    وقال الحافظ الفقيه ابن دقيق العيد رحمه الله في كتابه ( إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام) (ج 1 / ص 11)
    ((كلمة "إنما" للحصر على ما تقرر في الأصول فإن ابن عباس رضي الله عنهما فهم الحصر من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" وعورض بدليل آخر يقتضي تحريم ربا الفضل ولم يعارض في فهمه للحصر وفي ذلك اتفاق على أنها للحصر ومعنى الحصر فيها: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه وهل نفيه عما عداه: بمقتضى موضوع اللفظ أو هو من طريق المفهوم؟ فيه بحث.
    الثالث: إذا ثبت أنها للحصر: فتارة تقتضي الحصر المطلق وتارة تقتضي حصرا مخصوصا ويفهم ذلك بالقرائن والسياق كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] وظاهر ذلك: الحصر للرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة والرسول لا ينحصر في النذارة بل له أوصاف جميلة كثيرة كالبشارة وغيرها ولكن مفهوم الكلام يقتضي حصره في النذارة لمن يؤمن ونفى كونه قادرا على إنزال ما شاء الكفار من الآيات.
    وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي" معناه: حصره في البشرية بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم لا بالنسبة إلى كل شيء فإن للرسول صلى الله عليه وسلم أوصافا أخر كثيرة وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} [محمد: 36] يقتضي - والله أعلم - الحصر باعتبار من آثرها وأما بالنسبة إلى ما هو في نفس الأمر: فقد تكون سبيلا إلى الخيرات أو يكون ذلك من باب التغليب للأكثر في الحكم على الأقل فإذا وردت لفظة إنما فاعتبرها فإن دل السياق والمقصود من الكلام على الحصر في شيء مخصوص: فقل به وإن لم يكن في شيء مخصوص: فاحمل الحصر على الإطلاق ومن هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والله أعلم.)) انتهى
    7ـ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } " : هَلْ فِيهِ إضْمَارٌ أَوْ تَخْصِيصٌ ؟ أَوْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ ؟
    فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى الْأَوَّلِ قَالُوا : لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّيَّاتِ الْأَعْمَالُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَجِبُ أَوْ تُسْتَحَبُّ وَالْأَعْمَالُ كُلُّهَا لَا تُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا هَذِهِ النِّيَّاتُ فَإِنَّ قَضَاءَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ مِنْ الغصوب وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ وَالدُّيُونِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الدَّافِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ نِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ . بَلْ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَسَلَّمَ الْمُسْتَحِقُّ عَيْنَ مَالِهِ أَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ الثَّوْبَ الْمُودَعَ أَوْ الْمَغْصُوبَ فَأَوْقَعَتْهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
    ثُمَّ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : تَقْدِيرُهُ إنَّمَا ثَوَابُ الْأَعْمَالِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا بِالنِّيَّاتِ أَوْ إنَّمَا تُقْبَلُ بِالنِّيَّاتِ
    وَقَالَ بَعْضُهُمْ : تَقْدِيرُهُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ الشَّرْعِيَّةُ أَوْ إنَّمَا صِحَّتُهَا أَوْ إنَّمَا أَجْزَاؤُهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ .
    وَقَالَ الْجُمْهُورُ : بَلْ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَعُمُومِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنِّيَّاتِ فِيهِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَحْدَهَا بَلْ أَرَادَ النِّيَّةَ الْمَحْمُودَةَ وَالْمَذْمُومَةَ وَالْعَمَلَ الْمَحْمُودَ وَالْمَذْمُومَ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِهِ : " { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } " إلَخْ فَذَكَرَ النِّيَّةَ الْمَحْمُودَةَ بِالْهِجْرَةِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَطْ وَالنِّيَّةَ الْمَذْمُومَةَ وَهِيَ الْهِجْرَةُ إلَى امْرَأَةٍ أَوْ مَالٍ وَهَذَا ذَكَرَهُ تَفْصِيلًا بَعْدَ إجْمَالٍ فَقَالَ : " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } " ثُمَّ فَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ } " إلَخْ)) انتهى(5)
    قال الإمام أبوالفرج بن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه (جامع العلوم والحكم ص 18)
    (( فقوله صلى الله عليه و سلم (إنما الأعمال بالنيات ) وفي رواية (الأعمال بالنيات) وكلاهما يقتضي الحصر على الصحيح وليس غرضنا ههنا توجيه ذلك ولا بسط القول فيه وقد اختلفوا في تقدير قوله (الأعمال بالنيات)
    فكثير من المتأخرين يزعم أن تقديره الأعمال صحيحة أو معتبرة ومقبولة بالنيات وعلى هذا فالأعمال إنما أريد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية فأما مالا يفتقر إلى نية كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها أو مثل رد الأمانات والمضمونات كالودائع والغصوب فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية فيخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة ههنا
    وقال آخرون بل الأعمال ههنا على عمومها لايختص منها شيء وحكاه بعضهم عن الجمهور كأنه يريد به جمهور المتقدمين وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطبري وأبي طالب المكي وغيرهما من المتقدمين وهو ظاهر كلام الإمام أحمد
    قال في رواية حنبل ״أحب لكل من عمل من صلاة أو صيام أو صدقة أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل״ قال النبي صلى الله عليه و سلم ״الأعمال بالنيات״ فهذا يأتي على كل أمر من الأمور
    وقال الفضل بن زياد( سألت أبا عبد الله يعني أحمد عن النية في العمل قلت كيف النية قال يعالج نفسه إذا أراد عملا لا يريد به الناس)
    وقال أحمد بن داود الحربي قال:حدث يزيد بن هارون بحديث عمر ״الأعمال بالنيات״ وأحمد جالس فقال أحمد ليزيد ״يا أبا خالد هذا الخناق״
    وعلى هذا القول فقيل تقدير الكلام الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات فيكون إخبارا عن الأعمال الاختيارية أنها لاتقع إلا عن قصد من العامل هو سبب عملها ووجودها ويكون قوله بعد ذلك ״وإنما لكل امريء ما نوى״ إخبارا عن حكم الشرع وهو أن حظ العامل من عمله نيته فإن كانت صالحة فعمله صالح فله أجره وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزره
    ويحتمل أن يكون التقدير في قوله ״الأعمال بالنيات״ صالحة أو فاسدة أو مقبولة أو مردودة أو مثاب عليها أو غير مثاب عليها بالنيات فيكون خبرا عن الحكم الشرعي وهو أن صلاحها وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها كقوله صلى الله عليه و سلم ״إنما الأعمال بالخواتيم ״أي إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمها بحسب الخاتمة )) انتهى
    8ـ وقوله بعد ذلك״وإنما لكل امرئ ما نوى״ إخبار أنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به فإن نوى خيرا حصل له خير وإن نوى به شرا حصل له شر وليس هذا تكريرا محضا للجملة الأولي
    فإن الجملة الأولى دلت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة وقد تكون نيته مباحة فيكون العمل مباحا فلا يحصل له ثواب ولا عقاب فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة عليه المقتضية لوجوده وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي صار بها العمل صالحا أو فاسدا أو مباحا (6)
    وقال الشيخ العلامة الفقيه محمد بن صالح بن العثيمين رحمه الله في شرح الأربعين النواوية
    ((يجب أن نعلم أن الأصل في الكلام التأسيس دون التوكيد، ومعنى التأسيس: أن الثانية لها معنى مستقل. ومعنى التوكيد: أن الثانية بمعنى الأولى. وللعلماء رحمهم الله في هذه المسألة رأيان،
    يقول أولهما: إن الجملتان بمعنى واحد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وأكد ذلك بقوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى .
    والرأي الثاني يقول: إن الثانية غير الأولى، فالكلام من باب التأسيس لامن باب التوكيد.
    والقاعدة: أنه إذا دار الأمر بين كون الكلام تأسيساً أو توكيداً فإننا نجعله تأسيساً، وأن نجعل الثاني غير الأول، لأنك لو جعلت الثاني هو الأول صار في ذلك تكرار يحتاج إلى أن نعرف السبب.
    والصواب: أن الثانية غير الأولى، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل. والثانية باعتبار المنوي له وهو المعمول له، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا. ويدل لهذا مافرعه عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وعلى هذه فيبقى الكلام لاتكرار فيه.)) انتهى
    وقال رحمه الله في (شرح رياض الصالحين ج 1 / ص 3) عند الشرح هذا الحديث
    ((قوله: ״إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى״
    هاتان الجملتان اختلف العلماء - رحمهم الله – فيهما.
    فقال بعض العلماء إنهما جملتان بمعنى واحد، وأن الجملة الثانية تأكيد للجملة الأولى
    ولكن هذا ليس بصحيح وذلك لأن الأصل في الكلام أن يكون تأسيساً لا تأكيداً
    ثم إنهما عند التأمل يتبين أن بينهما فرقاً عظيماً، فالأولى سبب، والثانية نتيجة .
    الأولى سبب يبين فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن كل عمل لابد فيه من نية كل عمل يعمله الإنسان وهو عاقل مختار فلابد فيه من نية ولا يمكن لأي عاقل مختار أن يعمل عملاً إلا بنية .
    حتى قال بعض العلماء: ״لو كلفنا الله عملاً بلا نية لكان من تكليف ما لا يطاق״ وهذا صحيح، كيف تعمل وأنت عاقل في عقلك وأنت مختار غير مكره عملاً بلا نية ؟
    هذا مستحيل لأن العمل ناتج عن إرادة وقدرة، والإرادة هي النية، إذا فالجملة الأولى معناها أنه ما من عامل إلا وله نية ولكن النيات تختلف اختلافاً عظيما وتتباين تبايناً بعيداً كما بين السماء والأرض .
    من الناس من نيته في القمة في أعلى شيء ومن الناس من نيته في القمامة في أخس شيء وأدنى شيء .
    حتى إنك لترى الرجلين يعملان عملاً واحداً يتفقان في ابتدائه وانتهائه وفي أثنائه وفي الحركات والسكنات والأقوال والأفعال، وبينهما كما بين السماء والأرض كل ذلك باختلاف النية .
    إذاً الأساس أنه: ما من عمل بلا نية .
    نتيجة قوله: ״وإنما لكل امرئ ما نوى״ إن نويت الله والدار الآخرة في أعمالك الشرعية حصل لك ذلك، وإن نويت الدنيا فقد تحصل وقد لا تحصل .
    قال الله:״ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد״ الإسراء 18 ما قال عجلنا له ما يريد بل قال ما نشاء أي لا ما يشاء هو لمن نريد لا لكل إنسان فقيد المعجل والمعجل له .
    إذاًَ من الناس من يعطى ما يريد من الدنيا ومنهم من يعطى شيئاً منه ومنهم من لا يعطى شيئاً أبداً .
    هذا معنى قوله { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } أما { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } الإسراء 19 لابد أن يجني هذا العمل الذي أراد به وجه الله والدار الآخرة .)) انتهى
    قال الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني في مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 255)
    ((وَلَفْظُ النِّيَّةِ يُرَادُ بِهَا النَّوْعُ مِنْ الْمَصْدَرِ وَيُرَادُ بِهَا الْمَنْوِيُّ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي هَذَا لَعَلَّهُ أَغْلَبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِحَسَبِ مَا نَوَاهُ الْعَامِلُ أَيْ : بِحَسَبِ مَنْوِيِّهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِهِ { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فَذَكَرَ مَا يَنْوِيهِ الْعَامِلُ وَيُرِيدُهُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ لَهُ . فَإِنَّ كُلَّ مُتَحَرِّكٍ بِالْإِرَادَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَادٍ . وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } فَإِنَّ كُلَّ آدَمِيٍّ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَالْحَارِثُ هُوَ الْعَامِلُ الْكَاسِبُ وَالْهَمَّامُ الَّذِي يَهُمُّ وَيُرِيدُ . قَالَ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } فَقَوْلُهُ حَرْثَ الدُّنْيَا أَيْ كَسْبَهَا وَعَمَلَهَا وَلِهَذَا وَضَعَ الْحَرِيرِيُّ مَقَامَاتِهِ عَلَى لِسَان الْحَارِثِ بْنِ هَمَّامٍ لِصِدْقِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ .)) انتهى
    وقال رحمه الله في (قاعدة في المحبة ص 15)
    ((فإن صلاح الحي إنما هو صلاح مقصوده ومراده وصلاح الأعمال والحركات بصلاح إرادتها ونياتها
    ولهذا كان من أجمع الكلام وأبلغه قوله״ إنما الإعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي״ وهذا يعم كل عمل وكل نية
    فكل عمل في العالم هو بحسب نية صاحبه وليس للعامل إلا ما نواه وقصده وأحبه وأراده بعمله ليس في ذلك تخصيص ولا تقييد كما يظنه طوائف من الناس حيث يحسبون أن النية المراد به النية الشرعية المأمور بها فيحتاجون أن يحصروا الأعمال بالأعمال الشرعية فإن النية موجودة لكل متحرك كما قال النبي في الحديث الصحيح أصدق الأسماء الحارث وهمام فالحارث هو العامل الكاسب والهمام هو القاصد المريد وكل إنسان متحرك بإرادته حارث همام كما بينا أن المحبة والإرادة أصل كل عمل فكل عمل في العالم فعن إرادة ومحبة صدر
    ولهذا كانت المحبة والإرادة منقسمة إلي محبوب لله وغير محبوب كما أن العمل والحركة منقسم كذلك
    وإذا كان كذلك فالمحبة لها آثار وتوابع سواء كانت صالحة محمودة نافعة أو كانت غير ذلك لها وجد وحلاوة وذوق ووصال وصدود ولها سرور وحزن وبكاء
    والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة والضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره وهو الشقاء)) انتهى
    وقال الإمام الهمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين ج 3 / ص 111)
    ((العمل تابع للنية :فالنية روح العمل ولبه وقوامه وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله ״إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى״ فبين في الجملة الأولى أن العمل لايقع إلا بالنية ولهذا لا يكون عمل إلا بنية ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا ولا يعصمه من ذلك صورة البيع وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محللا ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح لأنه قد نوى ذلك وإنما لامرئ ما نوى
    فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان والثانية معلومة بالنص وعلى هذا فإذا نوى بالعصر حصول الخمر كان له ما نواه ولذلك استحق اللعنة وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله كان له ما نواه فإنه قصد المحرم وفعل مقدوره في تحصيله ولا فرق في التحيل على المحرم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له لا في عقل ولا في شرع ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد متناولا لنفس ما نهى عنه ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيلوا على فعل ما حرمه الله ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله ولم يعصمهم التوصل إلى ذلك بصورة البيع وأيضا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم الودك فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك)) انتهى
    وقال رحمه الله في كتابه الفريد في نوعه (الفوائد ص 203 ط دارابن حزم)
    ((المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة, فمن فقدهما تعذّر عليه الوصول إليه, فإن الهمة إذا كانت عالية تعلقت به وحده دون غيره. وإذا كانت النية صحيحة سلك العبد الطريق الموصلة إليه, فالنية تفرد له الطريق والهمة تفرد له المطلوب, فإذا توحد مطلوبه والطريق الموصلة إليه كان الوصول غايته. وإذا كانت همته سافلة تعلّقت بالسفليات ولم تتعلّق بالمطلب الأعلى. وإذا كانت النية غير صحيحة كانت طريقه غير موصلة إليه. فمدار الشأن على همة العبد ونيته هما مطلوبه وطريقه لا يتم إلا بترك ثلاثة أشياء:
    الأول: العوائد والرسوم والأوضاع التي أحدثها الناس.
    الثاني: هجر العوائق التي تعوقه عن إفراد مطلوبه وطريقه وقطعها.
    الثالث: قطع علائق القلب التي تحول بينه وبين تجريد التعليق بالمطلوب (وكأنه يشير رحمه الله إلى تجرد المسلم عن كل عوائق الدنيا, وعلائق القلب وقبل ذلك بعه عن كل البدع والخرافات التي أحدثها الناس, وما أكثرها في زماننا) والفرق بينهما أن العوائق هي الحوادث الخارجية, والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوها. وأصل ذلك ترك الفضول التي تشغل عن المقصود من الطعام والشراب والمنام والخلطة, فيأخذ من ذلك ما يعينه على طلبه ويرفض منه ما يقطعه عنه أو يضعف طلبه, والله المستعان.)) انتهى
    10ـ قوله (الأعمال) جمع عمل، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق، وأعمال الجوارح، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها:
    فالأعمال القلبية: مافي القلب من الأعمال: كالتوكل على الله، والإنابة إليه، والخشية منه وما أشبه ذلك.
    والأعمال النطقية: ماينطق به اللسان، وما أكثر أقوال اللسان، ولاأعلم شيئاً من الجوارح أكثر عملاً من اللسان، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن.
    والأعمال الجوارحية: أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك.(7)
    11ـ إن لَفْظُ " النِّيَّةِ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ جِنْسِ لَفْظِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ،تَقُولُ الْعَرَبُ : نَوَاك اللَّهُ بِخَيْرِ أَيْ : أَرَادَك بِخَيْرِ وَيَقُولُونَ : نَوَى مَنْوِيَّهُ وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَنْوِيهِ يُسَمُّونَهُ نَوَى
    كَمَا يَقُولُونَ : قَبْضَ بِمَعْنَى مَقْبُوضٍ وَالنِّيَّةُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ نَوْعٍ مِنْ إرَادَةٍ وَيُعَبَّرُ بِهَا عَنْ نَفْسِ الْمُرَادِ كَقَوْلِ الْعَرَب : هَذِهِ نِيَّتِي يَعْنِي : هَذِهِ الْبُقْعَةُ هِيَ الَّتِي نَوَيْت إتْيَانَهَا وَيَقُولُونَ : نِيَّتُهُ قَرِيبَةٌ أَوْ بَعِيدَةٌ أَيْ : الْبُقْعَةُ الَّتِي نَوَى قَصْدَهَا لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا أَخَصُّ مِنْ الْإِرَادَةِ ؛ فَإِنَّ إرَادَةَ الْإِنْسَانِ تَتَعَلَّقُ بِعَمَلِهِ وَعَمَلِ غَيْرِهِ وَالنِّيَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا لِعَمَلِهِ فَإِنَّك تَقُولُ : أَرَدْت مِنْ فُلَانٍ كَذَا وَلَا تَقُولُ نَوَيْت مِنْ فُلَانٍ كَذَا .)) انتهى (8)
    قال الإمام أبو الفرج عبد الرحمن رحمه الله في كتابه (جامع العلوم والحكم ص 19)
    (( واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة وإن كان قد فرق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره )) انتهى
    12ـ لَفْظُ النِّيَّةِ يَجْرِي فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَى نَوْعَيْنِ : فَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهَا تَمْيِيزَ عَمَلٍ مِنْ عَمَلٍ وَعِبَادَةٍ مِنْ عِبَادَةٍ وَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهَا تَمْيِيزَ مَعْبُودٍ عَنْ مَعْبُودٍ وَمَعْمُولٍ لَهُ عَنْ مَعْمُولٍ لَهُ . فَالْأَوَّلُ كَلَامُهُمْ فِي النِّيَّةِ : هَلْ هِيَ شَرْطٌ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ ؟ وَهَلْ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّعْيِينِ وَالتَّبْيِيتِ فِي الصِّيَامِ ؟ وَإِذَا نَوَى بِطَهَارَتِهِ مَا يُسْتَحَبُّ لَهَا هَلْ تَجْزِيهِ عَنْ الْوَاجِبِ ؟ أَوْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الصَّلَاةِ مِنْ نِيَّةِ التَّعْيِينِ ؟ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالثَّانِي كَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ إخْلَاصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَبَيْنَ أَهْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ كَمَا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَحَمِيَّةً وَرِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ وَهَذِهِ النِّيَّةُ تُمَيِّزُ بَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللَّهَ بِعَمَلِهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَبَيْنَ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا : مَالًا وَجَاهًا وَمَدْحًا وَثَنَاءً وَتَعْظِيمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَالْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ بِالْقَصْدِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ : أَنَّ عُمُومَهُ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُرِيدُ دُنْيَا أَوْ امْرَأَةً فَفَرَّقَ بَيْنَ مَعْمُولٍ لَهُ وَمَعْمُولٍ لَهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَمَلٍ وَعَمَلٍ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِخْلَاصَ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وَقَوْلِهِ : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ . وَإِخْلَاصُ الدِّينِ هُوَ أَصْلُ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلِذَلِكَ ذَمَّ الرِّيَاءَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ } الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } الْآيَةَ .)) انتهى (9)
    قال الفقيه المحدث ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم
    ((والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين
    أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلا وتمييز رمضان من صيام غيره أو تمييز العبادات من العادات كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك وهذه النية هي التي توجد كثيرا في كلام الفقهاء في كتبهم
    والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه وهي التي توجد كثيرا في كلام السلف المتقدمين وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفا سماه ״كتاب الإخلاص والنية״ وإنما أراد هذه النية وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه و سلم تارة بلفظ النية وتارة بلفظ الإرادة وتارة بلفظ مقارب لذلك وقد جاء ذكرها كثيرا في كتاب الله عز و جل بغير لفظ النية أيضا من الألفاظ المقاربة لها وإنما فرق من فرق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوهما لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء فمنهم من قال النية تختص بفعل الناوي والإرادة لا تختص بذلك كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له ولا ينوي ذلك وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي صلى الله عليه و سلم وسلف الأمة إنما يراد بها هذا المعنى الثاني غالبا فهي حينئذ بمعنى الإرادة ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرا كما في قوله تعالى ״منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة״ آل عمران 152 وقوله عز و جل ״تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة״ الأنفال 67 وقوله تعالى ״من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها״ هود15 وقوله ״ومن كان يريد حرث الآخرة״ الشورى 20 وقوله تعالى ״من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد״ الإسراء18 وقوله تعالى ״ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه״ الأنعام 52 وقوله تعالى ״واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدينا״ الكهف 28 وقوله ״ذلك خير للذين يريدون وجه الله״ الروم 38 وقوله ״وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون״ الروم 39
    وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ الابتغاء كما في قوله تعالى ״إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى״ الليل 20 وقوله تعالى ״ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم״ البقرة 265 وقوله تعالى ״وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله״ البقرة 272وقوله ״لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف״ النساء 114 فنفى الخير عن كثير مما يتناجى الناس به إلا في الأمر بالمعروف وخص من أفراده الصدقة والإصلاح بين الناس لعموم نفعها فدل ذلك على أن التناجي بذلك خير وأما الثواب عليه من الله فخصه بمن فعله ابتغاء مرضات الله وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرا وإن لم يبتغ به وجه الله لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي فيحصل به للناس إحسان وخير وأما بالنسبة إلى الأمر فإن قصد به وجه الله وابتغاء مرضاته كان خيرا له وأثيب عليه وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرا له ولا ثواب له عليه وهذا بخلاف من صلى وصام وذكر الله يقصد بذلك عرض الدنيا فإنه لا خير له فيه بالكلية لأنه لاتقع في ذلك لصاحبه لما يترتب عليه من الإثم فيه ولا لغيره لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد اللهم إلا أن يحصل لأحد اقتداء به في ذلك )) انتهى
    13ـ وأيضا مما يستفاد من الحديث تمييز العادات من العبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض.
    ـ وتمييز العادات من العبادات مثاله:
    - أولاً:الرجل يأكل الطعام شهوة فقط، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله عزّ وجل في قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ) الأعراف:الآية31 فصار أكل الثاني عبادة، وأكل الأول عادة
    - ثانياً: الرجل يغتسل بالماء تبرداً، والثاني يغتسل بالماء من الجنابة، فالأول عادة، والثاني: عبادة، ولهذا لوكان على الإنسان جنابة ثم انغمس في البحر للتبرد ثم صلى فلا يجزئه ذلك، لأنه لابد من النية،وهو لم ينو التعبّد وإنما نوى التبرّد.
    ولهذا قال بعض أهل العلم: ״عبادات أهل الغفلة عادات، وعادات أهل اليقظة عبادات.״
    عبادات أهل الغفلة عادات مثاله: من يقوم ويتوضأ ويصلي ويذهب على العادة. وعادات أهل اليقظة عبادات مثاله: من يأكل امتثالاً لأمر الله، يريد إبقاء نفسه، ويريد التكفف عن الناس، فيكون ذلك عبادة. ورجل آخر لبس ثوباً جديداً يريد أن يترفّع بثيابه، فهذا لايؤجر، وآخرلبس ثوباً جديداً يريد أن يعرف الناس قدر نعمة الله عليه وأنه غني، فهذا يؤجر. ورجل آخر لبس يوم الجمعة أحسن ثيابه لأنه يوم جمعة، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسياً بالنبي ، فهو عبادة.
    ـ تمييز العبادات بعضها من بعض مثاله:
    رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة، فالعملان تميزا بالنية، هذا نفل وهذا واجب، وعلى هذا فَقِسْ.
    إذاً المقصود بالنيّة: تمييز العبادات بعضها من بعض كالنفل مع الفريضة، أوتمييز العبادات عن العادات (10)
    قال الإمام أبو الفرج ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم ص 27

    ((وأمَّا النِّيَّةُ بالمعنى الذي يذكره الفُقهاءُ ، وهو أنَّ تمييزَ العباداتِ من العاداتِ ، وتمييز العباداتِ بعضها مِنْ بعضٍ ، فإنَّ الإمساكَ عنِ الأكلِ والشُّربِ يقعُ تارةً حميةً ، وتارةً لعدمِ القُدرةِ على الأكل ، وتارةً تركاً للشَّهواتِ للهِ - عز وجل - ، فيحتاجُ في الصِّيامِ إلى نيَّةٍ ليتميَّزَ بذلك عَنْ تركِ الطَّعامِ على غير هذا الوجه .
    وكذلك العباداتُ ، كالصَّلاةِ والصِّيامِ ، منها فرضٌ ، ومنها نفلٌ .
    والفرضُ يتنوَّعُ أنواعاً ، فإنَّ الصَّلواتِ المفروضاتِ خمسُ صلواتِ كلَّ يومٍ وليلةٍ ، والصَّومُ الواجبُ تارةً يكونُ صيامَ رمضان ، وتارةً صيامَ كفارةٍ ، أو عن نذرٍ ، ولا يتميَّزُ هذا كلُّه إلاَّ بالنِّيَّةِ ، وكذلك الصدقةُ ، تكونُ نفلاً ، وتكونُ فرضاً ، والفرضُ منه زكاةٌ ، ومنه كفَّارةٌ ، ولا يتميَّزُ ذلكَ إلاَّ بالنِّيَّةِ ، فيدخلُ ذلك في عمومِ قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( وإنَّما لكل امرىءٍ ما نَوى )) انتهى
    14ــ قوله صلى الله عليه و سلم (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) لما ذكر صلى الله عليه و سلم أن الأعمال بحسب النيات وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء ذكر بعد ذلك مثلا من الأمثال والأعمال التي صورتها واحدة ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات وكأنه يقول سائر الأعمال على حذو هذا المثال (11)
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى ج 18 / ص 279)
    ((قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } لَيْسَ هُوَ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ لَكِنَّهُ إخْبَارٌ بِأَنَّ مَنْ نَوَى بِعَمَلِهِ شَيْئًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَا نَوَاهُ أَيْ : مَنْ قَصَدَ بِهِجْرَتِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَصَلَ لَهُ مَا قَصَدَهُ وَمَنْ كَانَ قَصْدُهُ الْهِجْرَةَ إلَى دُنْيَا أَوْ امْرَأَةٍ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ فَهَذَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ :{إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} وَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ذَكَرَ أَنَّ لِهَذَا مَا نَوَاهُ وَلِهَذَا مَا نَوَاهُ .)) انتهى
    15ـ أصل الهجرة هجران بلد الشرك والانتقال منه إلى دار الإسلام كما كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينه النبي صلى الله عليه و سلم وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي (12)
    16ـ أخبرالنبي صلى الله عليه و سلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها فمن هاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقا وكفاه شرفا وفخرا أن حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة
    ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام ليطلب دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر من ذلك فالأول تاجر والثاني خاطب وليس بواحد منهما مهاجر وفي قوله ״إلى ما هاجر إليه״ تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به حيث لم يذكر بلفظه وأيضا أن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة ومحرمة تارة وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر فلذلك قال فهجرته إلى ما هاجر إليه يعني كائنا ما كان (13)
    قال العلامة الملا على القاري رحمه الله في كتابه ( مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ج 1 / ص 113)
    ((فهجرته إلى ما هاجر إليه أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه فلا ثواب له لقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب الشورى والمعنى فهجرته مردودة أو قبيحة قيل إنما ذم لأنه طلب الدنيا في صورة الهجرة فأظهر العبادة للعقبى ومقصوده الحقيقي ما كان إلا الدنيا فاستحق الذم لمشابهته أهل النفاق ولذا قال الحسن البصري لما رأى بهلوانا يلعب على الحبل هذا أحسن من أصحابنا فإنه يأكل الدنيا بالدنيا وأصحابنا يأكلون الدنيا بالدين وقال ابن عبد السلام متى اجتمع باعث الدنيا والآخرة فلا ثواب مطلقا للخبر الصحيح أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي أشرك وقال الغزالي يعتبر الباعث فإن غلب باعث الآخرة أثيب أو باعث الدنيا أو استويا لم يثب قال ابن حجر يؤخذ من قول الشافعي وأصحابه من حج بنية التجارة كان ثوابه دون ثواب المتخلي عنها أن القصد المصاحب للعبادة إن كان محرما كالرياء أسقطها مطلقا وهو محمل الحديث المذكور كما يصرح به لفظه أو غير محرم أثيب بقدر قصده الآخرة أخذا بعموم قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الزلزلة ا ه وهو تفصيل حسن وتعليل مستحسن)) انتهى
    وقال العلامة أبو الحسن عبيد الله المباركفوري رحمه الله في كتابه (مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ج 1 / ص 34)
    ((والظاهر أن التنصيص على المرأة من باب التنصيص على الخاص بعد العام للاهتمام، والنكرة إذا كانت في سياق الشرط تعم، ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير ؛ لأن الافتتان بها أشد، وإنما وقع الذم ههنا على مباح، ولا ذم فيه ولا مدح ؛ لكون فاعله أبطن خلاف ما أظهر، إذ خروجه في الظاهر ليس لطلب الدنيا، وإنما خرج في صورة طلب فضيلة الهجرة. (فهجرته إلى ما هاجر إليه) أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه، وفيه تحقير لما طلبه من أمر الدنيا واستهانة به، حيث لم يذكر بلفظه، وأيضاً أن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب الدنيا مباحة تارة ومحرمة تارة، وإفراد ما يقصد الهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك قال: (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني كائنا ما كان)) انتهى
    وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في (شرح رياض الصالحين ج 1 / ص 3)
    ((إذا هاجر الناس، فهم يختلفون في الهجرة، منهم من يهاجر ويدع بلده إلى الله ورسوله، يعني إلى شريعة الله التي شرعها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم هذا هو الذي ينال الخير، وينال مقصوده ولهذا قال: فهجرته إلى الله ورسوله أي فقد أدرك ما نوى الثاني: هاجر لدنيا يصيبها، مثلاً رجل يحب جمع المال فسمع أن في بلاد الإسلام مرتعاً خصباً لاكتساب الأموال فهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فقط، لا يقصد أن يستقيم على دينه ولا يهتم لدينه، إنما همه المال .
    ثالثاً: رجل هاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام يريد امرأة يتزوجها قيل له لا نزوجك إلى في بلاد الإسلام ولا تسافر بها إلى بلاد الكفر، فهاجر من بلده إلى بلاد الإسلام من أجل المرأة .
    فمريد الدنيا ومريد المرأة لم يهاجر إلى الله ورسوله، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: فهجرته إلى ما هاجر إليه وهنا قال: إلى ما هاجر إليه ولم يقل فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فلماذا ؟ قيل لطول الكلام، فإذا قيل فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها طال الكلام وقيل بل لم ينص عليهما احتقاراً وإعراضاًَ عن ذكرهما لأنها نية فاسدة منحطة .
    وعلى كل حال فإن هذا الذي نوى بهجرته الدنيا أو المرأة لاشك أن نيته سافلة منحطة هابطة بخلاف الأول الذي هاجر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .)) انتهى
    وقال رحمه الله في شرح الأربعين النواوية
    ( ״ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله״
    رجل انتقل من مكة قبل الفتح يريد الله ورسوله يعني يريد ثواب الله ويريد الوصول إلى الله ،كقوله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الله ورسوله } ،( يريد الله ) أي يريد وجه الله ونصرة دين الله وهذه إرادة حسنة ،
    ( رسوله ) يريد رسول الله ليفوز بصحبته والذب عنه ونشر دينه فهجرته إلى الله ورسوله ،والله تعالى يقول : ( من تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً ) ،
    فهو إذا أراد الله فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل وكذلك الرسول بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام ،هل يمكن أن تهاجر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ؟
    فالجواب : أما إلى شخصه فلا ،ولذلك لا نهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول عليه الصلاة والسلام ،لأنه تحت الثرى ،وأما إلى سنته وشرعه فهذا وارد .أذهب إلى بلد أنصر فيها شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأذود عنها ،هذه هجرة إلى رسول الله ،الهجرة إلى الله في كل وقت وحين ،الهجرة إلى رسول الله إلى شخصه وشريعته في حياته وإلى شريعته بعد مماته ،نظير هذا قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } إلى الله دائماً ،وإلى الرسول في حياته وإلى شريعته بعد وفاته ،من ذهب مثلاً من البلد الفلاني إلى البلد الفلاني ليتعلم الحديث فهذا هجرته إلى الله ورسوله .
    ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوجها خطبها وقالت : لا أتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ،( أو دنياً يصيبها ) علم أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح فهذا هجرته إلى دنيا يصيبها) انتهى
    17ـ ومما ينبغي أن نفقهه ونعرفه بما يخص فقه مسألة الهجرة وهي أن الهجرة ثلاثة أقسام قد بينها ووضحها الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرحه لكتاب رياض الصالحين - (ج 1 / ص 9) إذ قال
    ((أقسام الهجرة :الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان .
    القسم الأول: هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي ويكثر فيه الفسوق وربما يكون بلد كفر إلى بلد لا يوجد فيه ذلك .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (2) شرح حديث ( إنما الأعمال بالنيات)


    وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وقد ذكر أهل العلم أنه تجب الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يظهر دينه .
    وأما إذا كان قادراً على إظهار دينه ولا يعارض إذا أقام شعائر الإسلام فإن الهجرة لا تجب عليه ولكنها تستحب، وبناء على ذلك يكون السفر إلى بلد الكفر أعظم من البقاء فيه، فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان إذا لم يستطع إقامة دينه فيه وجب عليه مغادرته والهجرة منه .
    فكذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام ومن بلاد المسلمين فإنه لا يجوز له أن يسافر إلى بلد الكفر لما في ذلك من الخطر على دينه وعلى أخلاقه ولما في ذلك من إضاعة ماله ولما في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع كما قال الله تبارك تعالى: { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين } وقال تعالى: { ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } فالكافر أياً كان، سواء كان من النصارى أو من اليهود أو من الملحدين، وسواء تسمى بالإسلام أو لم يتسم بالإسلام، الكافر عدو لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين جميعاً، مهما تلبس بما يتلبس به فإنه عدو .
    فلا يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد الكفر إلا بشروط ثلاثة:
    الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات، لأن الكفار يوردون على المسلمين شبهاً في دينهم وفي رسولهم وفي كتابهم وفي أخلاقهم، في كل شيء يوردون الشبهة ليبقى الإنسان شاكاً متذبذباً، ومن المعلوم أن الإنسان إذا شك في الأمور التي يجب فيها اليقين فإنه لم يقم بالواجب، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره يجب أن يكون يقيناً فإن شك الإنسان في شيء من ذلك فهو كافر .
    فالكفار يدخلون على المسلمين الشك حتى أن بعض زعمائهم صرح قائلاً: لا تحاولوا أن تخرجوا المسلم من دينه إلى دين النصارى ولكن يكفي أن تشككوه في دينه، لأنكم إذا شككتموه في دينه سلبتموه الدين وهذا كاف .
    أنتم أخرجوه من هذه الحظيرة التي فيها العزة والغلبة والكرامة ويكفي، أما أن تحاولوا أن تدخلوه في دين النصارى المبني على الضلال والسفاهة فهذا لا يمكن، لأن النصارى ضالون كما جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان فدين المسيح دين حق لكنه دين الحق في وقته قبل أن ينسخ برسالة النبي صلى الله عليه وسلم .
    الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات لأن الإنسان الذي ليس عنده دين إذا ذهب إلى بلاد الكفر انغمس لأنه يجد زهرة الدنيا هناك، من خمر وزنى ولواط وغير ذلك .
    الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك مثل أن يكون مريضاً يحتاج إلى السفر إلى بلاد الكفر للاستشفاء، أو يكون محتاجاً إلى علم لا يوجد في بلاد الإسلام تخصص فيه فيذهب إلى هناك أو يكون الإنسان محتاجاً إلى تجارة، يذهب ويتجر ويرجع المهم أن يكون هناك حاجة ولهذا أرى أن الذين يسافرون إلى بلد الكفر من أجل السياحة فقط أرى أنهم آثمون، وأن كل قرش يصرفونه لهذا السفر فإنه حرام عليهم وإضاعة لمالهم وسيحاسبون عنه يوم القيامة حين لا يجدون مكاناً يتفسحون فيه أو يتنزهون فيه .
    حين لا يجدون إلا أعمالهم لأن هؤلاء يضيعون أوقاتهم ويتلفون أموالهم ويفسدون أخلاقهم وكذلك ربما يكون معهم عوائلهم، ومن عجب أن هؤلاء يذهبون إلى بلاد الكفر التي لا يسمع فيها صوت مؤذن ولا ذكر ذاكر وإنما يسمع فيها أبواق اليهود ونواقيس النصارى ثم يبقون فيها مدة هم وأهلوهم وبنوهم وبناتهم فيحصل في هذا شر كثير نسأل الله العافية والسلامة .
    وهذا من البلاء الذي يحل الله به النكبات والنكبات التي تأتينا والتي نحن الآن نعيشها كلها بسبب الذنوب والمعاصي، كما قال الله: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } نحن غافلون في بلادنا كأن ربنا غافل عنا كأنه لا يعلم، كأنه لا يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .
    والناس يعصرون في هذه الحوادث ولكن قلوبهم قاسية والعياذ بالله وقد قال الله سبحانه: { ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون } أخذهم العذاب ونزل بهم ومع ذلك ما استكانوا إلى الله وما تضرعوا إليه بالدعاء وما خافوا من سطوته، لكن قست القلوب نسأل الله العافية وماتت حتى أصبحت الحوادث المصيرية تمر على القلب وكأنها ماء بارد .
    نعوذ بالله من موت القلب وقسوته وإلا لو كان الناس في عقل وصحوة وفي قلوب حية ما ساروا على هذا الوضع الذي عليه نحن الآن مع أننا في وضع نعتبر أننا في حال حرب مدمرة مهلكة، حرب غازات الأعصاب والجنود وغير ذلك ومع هذا لا تجد أحداً حرك ساكناً إلا أن يشاء الله .
    إن أناساً في هذه الظروف العصيبة ذهبوا بأهليهم يتنزهون في بلاد الكفر وفي بلاد الفسق وفي بلاد المجون والعياذ بالله
    أقول مرة ثانية إن الهجرة من بلد الكفر الذي لا يستطيع أن يقيم الإنسان فيه دينه واجبة .
    والسفر إلى بلاد الكفر للدعوة يجوز إذا كان له أثر وتأثير هناك فإنه جائز لأنه سفر لمصلحة، وبلاد الكفر كثير من عوامهم قد عمي عليهم الإسلام لا يدرون عن الإسلام شيئاً بل قد ضللوا وقيل لهم إن الإسلام دين وحشية وهمجية ورعاع ولا سيما إذا سمع الغرب هذه الحوادث التي جرت على يد أناس يقولون إنهم مسلمون سيقولون أين الإسلام ؟ هذه وحشية فينفرون من الإسلام بسبب المسلمين وأفعالهم، نسأل الله أن يهدينا أجمعين .
    القسم الثاني: هجرة العمل، وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه فاهجر كل ما حرم الله عليك سواء كان مما يتعلق بحقوق الله أو مما يتعلق بحقوق عباد الله فتهجر السب والشتم والقتل والغش وأكل المال بالباطل وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وكل شيء حرم الله تهجره، حتى لو أن نفسك دعتك إلى هذا وألحت عليك فذكرها أن الله حرم ذلك حتى تهجره وتبعد عنه
    القسم الثالث: هجرة العامل، فالعامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية الذي لا يبالي بها فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة .
    والمصلحة والفائدة أنه إذا هجر عرف قدر نفسه ورجع عن المعصية .
    ومثال ذلك: رجل معروف بالغش بالبيع والشراء فيهجره الناس فإذا هجروه تاب من هذا ورجع وندم ورجل ثان يتعامل بالربا فيهجره الناس ولا يسلمون عليه ولا يكلموه فإذا عرف هذا خجل من نفسه وعاد إلى صوابه .
    أما إذا كان الهجر لا يفيد ولا ينفع وهو من أجل معصية لا من أجل كفر لأن الكافر المرتد يهجر على كل حال - أفاد أم لم يفد - لكن صاحب المعصية التي دون الكفر إذا لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يحل هجره لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ومن المعلوم أن المعاصي التي دون الكفر عند أهل السنة والجماعة لا تخرج من الإيمان فيبقى النظر هل الهجر يفيد أم لا، فإن أفاد فإنه يهجر ودليل ذلك قصة كعب بن مالك، وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بهجرهم لكنهم انتفعوا في ذلك انتفاعاً عظيماً، ولجؤوا إلى الله وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فتابوا وتاب الله عليهم .
    هذه أنواع الهجرة: هجرة المكان، وهجرة العمل، وهجرة العامل .)) انتهى
    18ـ إن سائر الأعمال كالهجرة في هذا المعني فصلاحها وفسادها بحسب النية الباعثة عليها
    قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه (جامع العلوم والحكم ص 14)
    ((وسائر الأعمال كالهجرةِ في هذا المعنى ، فصلاحُها وفسادُها بحسب النِّيَّة الباعثَةِ عليها ، كالجهادِ والحجِّ وغيرهما ، وقد سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اختلاف نيَّاتِ النَّاس في الجهاد وما يُقصَدُ به من الرِّياء ، وإظهار الشَّجاعة والعصبيَّة ، وغير ذلك : أيُّ ذلك في سبيل الله ؟ فقال : (( مَنْ قاتَل لِتَكونَ كلمةُ اللهِ هي العليا ، فهو في سبيل الله ))
    فخرج بهذا كلُّ ما سألوا عنه من المقاصد الدُّنيوية . ففي " الصحيحين " عن أبي موسى الأشعريِّ : أنَّ أعرابياً أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله : الرَّجُلُ يُقاتِلُ للمَغْنمِ ، والرَّجلُ يُقاتِل للذِّكر ، والرَّجُلُ يقاتِل ليُرى مكانُهُ ، فمن في سبيل الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ قَاتَل لتكُونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا ، فهو في سبيل الله )) وفي رواية لمسلم : سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ الرَّجُلِ يُقَاتلُ شجاعةً ، ويقاتِلُ حميَّةً ، ويقاتل رياءً ، فأيُّ ذلك في سبيل الله ؟ فذكرَ الحديث .
    وفي رواية له أيضاً : الرَّجُلُ يقاتِلُ غضباً ، ويُقاتلُ حَمِيَّةً ،وخَرَّج النَّسائيُّ من حديث أبي أُمامة رضى الله عنه ، قال : جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أرأيت رجلاً غزا يلتمِسُ الأجرَ والذِّكْرَ ، ما لَهُ ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا شيءَ له )) ، ثمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ الله لا يقبلُ من العملِ إلاَّ ما كانَ خالصاً ، وابتُغي به وجهُهُ )) .(14) وخرَّج أبو داود من حديث أبي هريرة : أنَّ رجلاً قال : يا رسول اللهِ ، رجلٌ يريدُ الجِهادَ وهو يبتغي عَرَضاً مِنْ عَرَضِ الدُّنيا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا أجر له )) فأعاد عليه ثلاثاً ، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا أجر له )) (15) وخرَّج الإمام أحمدُ وأبو داود منْ حديثِ مُعاذِ بنِ جبلٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قال : (( الغزوُ غَزوانِ ، فأمَّا من ابتغى وجهَ الله ، وأطاعَ الإمام ، وأنفق الكريمةَ ، وياسرَ الشَّريكَ ، واجتنبَ الفسادَ ، فإنَّ نومَهُ ونَبهَهُ أجرٌ كلُّه ، وأمَّا مَنْ غَزا
    فخراً ورياءً وسُمعةً ، وعصى الإمام ، وأفسدَ في الأرض ، فإنَّه لم يرجع
    بالكفاف )) (16) .
    وخرَّج أبو داود من حديث عبدِ الله بنِ عمرٍو قال : قلتُ : يا رسول الله ، أخبرني عن الجهاد والغزو ، فقال : (( إنْ قاتلت صابراً محتسباً ، بعثك الله صابراً محتسباً ، وإنْ قاتلتَ مُرائياً مُكاثراً ، بعثَك الله مُرائياً مُكاثراً ، على أيِّ حالٍ قَاتَلْتَ أو قُتِلْتَ بعثكَ الله على تِيك الحالِ )) (17) وخرَّج مسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - : سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقضى يومَ القيامةِ عليه رجلٌ استُشهِدَ ، فأُتِي به ، فعرَّفه نِعَمَهُ عليه ، فعرفها ، قال : فما عَمِلتَ فيها ؟ قالَ : قاتلتُ فيكَ حتّى استُشْهِدتُ ، قالَ : كذبتَ ، ولكنَّكَ قاتلتَ ؛ لأنْ يُقَالَ : جَريءٌ ، فقد قيل ، ثمَّ أُمِرَ به ، فسُحِبَ على وجهه ، حتى أُلقي في النَّارِ ، ورجلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمه ، وقرأَ القُرآن ، فأُتِي به ، فعرَّفه نِعَمَهُ عليه فعرَفها ، قال : فما عملتَ فيها ؟ قال : تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه ، وقرأتُ فيكَ القرآنَ . قال : كذبتَ ، ولكنَّك تعلَّمتَ العلمَ ، ليُقال : عالمٌ ، وقرأتَ القرآنَ ليقال : قارىءٌ ، فقد قيلَ ، ثمَّ أُمِر به ، فسُحِب على وجهه حتّى أُلقي في النّار ، ورجلٌ وسَّع الله عليه ، وأعطاه من أصنافِ المال كلِّه ، فأُتي به ، فعرَّفه نِعَمَهُ عليه ، فعرفها ، قال : فما عَمِلتَ فيها ؟ قال : ما تركتُ من سبيلٍ تُحبُّ أن يُنفقَ فيها إلاَّ أنفقتُ فيها لكَ ، قال : كذبتَ ، ولكنَّك فعلتَ ، ليُقالَ : هو جوادٌ ، فقد قيلَ ، ثمَّ أُمِر به ، فسُحب على وجهه ، حتى أُلقي في النار )) . وفي الحديث : إنَّ معاويةَ لمَّا بلغه هذا الحديثُ ، بكى حتَّى غُشِي عليه ، فلمَّا أفاق ، قال : صدَقَ الله ورسولُه ، قال الله - عز وجل - : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّار } هود : 15-16 .
    وقد وردَ الوعيدُ على تعلُّم العِلم لغيرِ وجه الله ، كما خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داود وابنُ ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( مَنْ تعلَّم عِلماً مِمَّا يُبتَغى به وجهُ الله ، لا يتعلَّمُه إلاَّ ليُصيبَ بهِ عَرَضاً من الدُّنيا ، لم يَجِدْ عَرْفَ الجنَّة يومَ القيامَةِ )) يعني : ريحها .
    وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ كعبِ بن مالك ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( مَنْ طَلَب العلمَ ليُمارِي به السُّفهَاء ، أو يُجاري به العُلَماء ، أو يَصرِفَ به وجُوهَ النَّاسِ إليه ، أدخله الله النَّار )) .
    وخرَّجه ابن ماجه - بمعناه - مِنْ حديث ابن عمر ، وحذيفةَ ، وجابرٍ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، ولفظُ حديث جابرٍ : (( لا تَعَلَّموا العِلمَ ، لتُباهُوا به العُلماءَ ، ولا لِتُماروا به السُّفَهاءَ ، ولا تَخَيَّروا به المجالس ، فَمَنْ فعل ذلك ، فالنَّارَ النَّارَ )) .
    وقال ابنُ مسعودٍ : ״لا تعلَّموا العِلمَ لثلاثٍ : لِتُماروا به السُّفَهاء ، أو لِتُجادِلوا به الفُقهاء ، أو لتصرفوا بهِ وُجُوه النَّاس إليكم ، وابتغُوا بقولِكُم وفعلِكم ماعندَ اللهِ ، فإنَّه يبقَى ويذهبُ ما سواهُ״ .
    وقد ورد الوعيدُ على العمل لغيرِ اللهِ عموماً ، كما خرَّج الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبيّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( بَشِّرْ هذه الأمَّةَ بالسَّناء والرِّفْعَة والدِّين والتمكينِ في الأرض ، فمن عَمِلَ منهُم عملَ الآخرةِ للدُّنيا ، لم يكنْ له في الآخرةِ نصيبٌ )) انتهى
    20ـ وقال رحمه الله في نفس المصدر
    (( واعلم أنَّ العمل لغيرِ الله أقسامٌ :
    فتارةً يكونُ رياءً محضاً ، بحيثُ لا يُرادُ به سوى مرئيات المخلوقين لغرضٍ دُنيويٍّ ، كحالِ المنافِقين في صلاتهم ، كما قال الله - عز وجل - : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إلاَّ قَلِيلاً } النساء : 142 .
    وقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ } الآية الماعون : 4-6 .
    وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرِّياء في قوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله } الأنفال : 47 .
    وهذا الرِّياءُ المحضُ لا يكاد يصدُرُ من مُؤمنٍ في فرض الصَّلاةِ والصِّيامِ ، وقد يصدُرُ في الصَّدقةِ الواجبةِ أو الحجِّ ، وغيرهما من الأعمال الظاهرةِ ، أو التي يتعدَّى نفعُها ، فإنَّ الإخلاص فيها عزيزٌ ، وهذا العملُ لا يشكُّ مسلمٌ أنَّه حابِطٌ ، وأنَّ صاحبه يستحقُّ المقتَ مِنَ اللهِ والعُقوبة .
    وتارةً يكونُ العملُ للهِ ، ويُشارِكُه الرِّياءُ
    فإنْ شارَكَهُ مِنْ أصله ، فالنُّصوص الصَّحيحة تدلُّ على بُطلانِهِ و حبوطه أيضاً
    وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : (( يقولُ الله تبارك وتعالى : أنا أغنى الشُّركاءِ عن الشِّرك ، مَنْ عَمِل عملاً أشركَ فيه معي غيري ، تركته وشريكَه )) ، وخرَّجه ابنُ ماجه ، ولفظه : (( فأنا منه بريءٌ ، وهوَ للَّذي أشركَ )) وخرَّج الإمام أحمد عن شدّاد بن أوسٍ ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( مَنْ صَلَّى يُرائِي ، فقد أشرَكَ ، ومنْ صَامَ يُرائِي فقد أشرَكَ ، ومن تَصدَّقَ يُرائِي فقد أشرك ، وإنَّ الله - عز وجل - يقولُ : أنا خيرُ قسيمٍ لِمَنْ أشرَكَ بي شيئاً ، فإنَّ جُدَّةَ عَمَلِهِ قليله وكثيره لشريكِهِ الذي أشركَ به ، أنا عنه غنيٌّ )) (18)
    وخرَّج الإمام أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجه مِنْ حديث أبي سعيد بن أبي فضالةَ - وكان مِنَ الصَّحابة - قال : قالَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا جمع الله الأوَّلين والآخِرين ليومٍ لا ريبَ فيه ، نادَى مُنادٍ : مَنْ كانَ أشركَ في عملٍ عمِلَهُ لله - عز وجل - فليَطلُبْ ثوابَهُ من عند غير الله - عز وجل - ، فإنّ الله أغنى الشُّركاءِ عن الشِّرك )) .
    وخرَّج البزّار في " مسنده " من حديثِ الضَّحَّاكِ بن قيسٍ ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( إنَّ الله - عز وجل - يقول : أنا خيرُ شريكٍ ، فمن أشركَ معي شريكاً ، فهو لشريكي . يا أيُّها النَّاسُ أخلِصوا أعمالَكُم لله - عز وجل - ؛ فإنَّ الله لا يقبلُ مِنَ الأعمالِ إلاَّ ما أُخْلِصَ لَهُ ، ولا تقولوا : هذا للهِ وللرَّحِمِ ، فإنّها للرَّحِم ، وليس لله منها شيءٌ ، ولا تقولوا : هذا لله ولوجُوهِكُم ، فإنَّها لوجوهكم ، وليس لله فيها شيءٌ)) .(19)
    وخرَّج النَّسائيُّ بإسنادٍ جيِّدٍ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ : أنَّ رجُلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال : يا رسولَ اللهِ ، أرأيتَ رجلاً غزا يلتَمِسُ الأجْرَ والذِّكر؟ فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا شيءَ لهُ )) فأعادها ثلاث مرات ، يقول له رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (( لا شيء له )) ، ثمَّ قال : (( إنَّ الله لا يقبلُ منَ العَمَل إلاَّ ما كانَ له خالصاً ، وابتُغِي به وجهُه ))
    وَخَرَّج الحاكمُ مِنْ حديث ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ، إني أقف الموقف أُريد به وجْه الله ، وأريدُ أنْ يُرى موطِني ، فلم يردَّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا حتّى نزلت : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } (20) .
    وممَّن رُوي عنه هذا المعنى ، وأنَّ العملَ إذا خالطه شيءٌ مِنَ الرِّياءِ كان
    باطلاً : طائفةٌ مِنَ السَّلفِ، منهم : عبادةُ بنُ الصَّامتِ ، وأبو الدَّرداءِ ، والحسنُ ، وسعيدُ بنُ المسيَّبِ ، وغيرهم .
    وفي مراسيلِ القاسم بنِ مُخَيمرة ، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( لا يَقبَلُ الله عملاً فيه مثقالُ حبَّةِ خردلٍ مِنْ رياءٍ )) (21) .
    ولا نعرفُ عنِ السَّلفِ في هذا خلافاً ، وإنْ كانَ فيه خلافٌ عن بعضِ المتأخِّرينَ
    فإنْ خالطَ نيَّةَ الجهادِ مثلاً نيّة غير الرِّياءِ ، مثلُ أخذِ أجرة للخِدمَةِ ، أو أخذ شيءٍ مِنَ الغنيمةِ ، أو التِّجارة ، نقصَ بذلك أجرُ جهادهم ، ولم يَبطُل بالكُلِّيَّة ، وفي " صحيح مسلم " عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قال : (( إنَّ الغُزَاةَ إذا غَنِموا غنيمةً ، تعجَّلوا ثُلُثي أجرِهِم ، فإنْ لم يغنَمُوا شيئاً ، تمَّ لهُم أجرُهم ))
    وقد ذكرنا فيما مضى أحاديثَ تدلُّ على أنَّ مَنْ أراد بجهاده عَرَضاً مِنَ الدُّنيا أنَّه لا أجرَ له ، وهي محمولةٌ على أنَّه لم يكن له غرَضٌ في الجهاد إلاَّ الدُّنيا .
    وقال الإمامُ أحمدُ : التَّاجِرُ والمستأجر والمُكاري أجرهم على قدر ما يخلُصُ من نيَّتهم في غزاتِهم ، ولا يكونُ مثل مَنْ جاهَدَ بنفسه ومالِه لا يَخلِطُ به غيرَهُ .
    وقال أيضاً فيمن يأخذُ جُعْلاً على الجهاد : إذا لم يخرج لأجلِ الدَّراهم فلا بأس أنْ يأخذَ ، كأنّه خرجَ لدينِهِ ، فإنْ أُعطي شيئاً أخذه .
    وكذا رُوي عن عبد الله بن عمرٍو ، قال : إذا أجمعَ أحدُكم على الغزوِ ، فعوَّضَه الله رزقاً ، فلا بأسَ بذلك ، وأمَّا إنْ أحَدُكُم إنْ أُعطي درهماً غزا ، وإنْ مُنع درهماً مكث ، فلا خيرَ في ذلك .
    وكذا قال الأوزاعي : إذا كانت نيَّةُ الغازي على الغزو ، فلا أرى بأساً . وهكذا يُقالُ فيمن أخذَ شيئاً في الحَجِّ ليحُجَّ به : إمَّا عَنْ نفسه ، أو عَنْ غيرِه ، وقد رُوي عَنْ مُجاهد أنّه قال في حجِّ الجمَّال وحجِّ الأجيرِ وحجِّ التَّاجِر : هو تمامٌ لا يَنقُصُ من أُجُورهم شيءٌ ، وهذا محمولٌ على أنَّ قصدهم الأصليَّ كان هو الحجَّ دُونَ التَّكسُّب .
    وأمَّا إنْ كان أصلُ العمل للهِ ، ثم طرأت عليه نيَّةُ الرِّياءِ ، فإنْ كان خاطراً ودفَعهُ ، فلا يضرُّه بغيرِ خلافٍ ، وإن استرسلَ معه ، فهل يُحبَطُ عملُه أم لا يضرُّه ذلك ويجازى على أصل نيَّته ؟
    في ذلك اختلافٌ بين العُلماءِ مِنَ السَّلَف قد حكاه الإمامُ أحمدُ وابنُ جريرٍ الطَّبريُّ ، ورجَّحا أنَّ عمله لا يبطلُ بذلك ، وأنّه يُجازى بنيَّتِه الأُولى ، وهو مرويٌّ عنِ الحسنِ البصريِّ وغيره .
    ويُستدلُّ لهذا القولِ بما خَرَّجه أبو داود في " مراسيله " عن عطاءٍ الخُراسانيِّ : أنَّ رجلاً قال : يا رسولَ الله، إنّ بنِي سلمِةَ كُلهم يقاتلُ ، فمنهم من يُقاتِلُ للدُّنيا، ومنهم من يُقاتِلُ نَجدةً ، ومنهم مَنْ يُقاتِلُ ابتغاءَ وجهِ الله ، فأيُّهُم الشهيد ؟ قال: (( كلُّهم إذا كان أصلُ أمره أنْ تكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا )) .
    وذكر ابنُ جريرٍ أنَّ هذا الاختلافَ إنَّما هو في عملٍ يرتَبطُ آخرُه بأوَّلِه ، كالصَّلاةِ والصِّيام والحجِّ ، فأمَّا ما لا ارتباطَ فيه كالقراءة والذِّكر وإنفاقِ المالِ ونشرِ العلم، فإنَّه ينقطعُ بنيَّةِ الرِّياءِ الطَّارئة عليه، ويحتاجُ إلى تجديدِ نيةٍ . وكذلك رُوي عن سُليمانَ بنِ داود الهاشميّ أنَّه قال : ربَّما أُحدِّثُ بحديثٍ ولي نيةٌ ، فإذا أتيتُ على بعضِه ، تغيَّرت نيَّتي ، فإذا الحديثُ الواحدُ يحتاجُ إلى نيَّاتٍ .
    ولا يَرِدُ على هذا الجهادُ ، كما في مُرسل عطاءٍ الخراساني ، فإنَّ الجهادَ يلزَم بحُضورِ الصَّفِّ ، ولا يجوزُ تركُه حينئذٍ ، فيصيرُ كالحجِّ .
    فأمَّا إذا عَمِلَ العملَ لله خالصاً ، ثم ألقى الله لهُ الثَّناء الحسنَ في قُلوبِ المؤمنين بذلك ، ففرح بفضل الله ورحمته ، واستبشرَ بذلك ، لم يضرَّه ذلك .
    وفي هذا المعنى جاء حديثُ أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أنَّه سُئِلَ عن الرَّجُل يعملُ العَمَل لله مِنَ الخير ويحمَدُه النَّاسُ عليه ، فقال : (( تلك عاجلُ بُشرى المؤمن )) خرَّجه مسلم، وخرَّجه ابن ماجه، وعنده : الرَّجُلُ يعمَلُ العملَ للهِ فيحبُّه النَّاسُ عليه . وبهذا المعنى فسَّره الإمامُ أحمدُ ، وإسحاقُ بن راهويه ، وابنُ جريرٍ الطَّبريّ وغيرهم
    وكذلك الحديثُ الذي خرَّجه الترمذيُّ وابنُ ماجه مِنْ حديثِ أبي هريرةَ : أنَّ رجُلاً قال : يا رسول الله ، الرَّجُلُ يعملُ العملَ فيُسِرُّهُ ، فإذا اطُّلع عليه أعجَبهُ ، فقال : (( له أجران : أجرُ السِّرِّ ، وأجرُ العلانيةِ )) (22) .
    ولنقتَصِر على هذا المقدار مِنَ الكلامِ على الإخلاصِ والرِّياء ، فإنَّ فيه كفايةً .
    وبالجملةِ ، فما أحسن قولَ سهلِ بن عبد الله التُّستري : ليس على النَّفس شيءٌ أشقُّ مِنَ الإخلاصِ ؛ لأنَّه ليس لها فيه نصيبٌ .
    وقال يوسفُ بنُ الحسينِ الرازيُّ : أعزّ شيءٍ في الدُّنيا الإخلاصُ ، وكم اجتهد في إسقاطِ الرِّياءِ عَنْ قلبي ، وكأنَّه ينبُتُ فيه على لون آخر . وقال ابنُ عيينةَ : كان من دُعاء مطرِّف بن عبد الله : اللهمَّ إنِّي أستغفرُكَ ممَّا تُبتُ إليكَ منه ، ثمّ عُدتُ فيه ، وأستغفرُكَ ممَّا جعلتُهُ لكَ على نفسي ، ثمَّ لم أفِ لك به ، وأستغفركَ ممَّا زعمتُ أنِّي أردتُ به وجهَك ، فخالطَ قلبي منه ما قد علمتَ)) انتهى
    21ـ وقد اشتهرَ أنَّ قصَّةَ مُهاجرِ أمِّ قيسٍ هي كانت سببَ قولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ كانت هجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها أو امرأةٍ ينكِحُها )) ، وذكر ذلك كثيرٌ من المتأخِّرين في كُتُبهم ، ولم نر لذلك أصلاً بإسنادٍ يصحُّ ، والله أعلم ( 23)
    قال الإمام أبو الفضل بن حجر العسقلاني الشافعي رحمه الله في ( فتح الباري ج 1 / ص 10) ((وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد بن منصور قال أخبرنا أبو معاوية عن الآعمش عن شقيق عن عبد الله هو بن مسعود قال من هاجر يبتغي شيئا فإنما له ذلك هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك)) انتهى
    وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ((وقد روى وكيعٌ في كتابه عن الأعمش ، عن شقيقٍ - هو أبو وائلٍ - قال : خطبَ أعرابيٌّ مِنَ الحيِّ امرأةً يقال لها : أم قيسٍ . فأبت أن تزوَّجَهُ حتى يُهاجِرَ ، فهاجَرَ ، فتزوَّجته ، فكُنَّا نُسمِّيه مهاجرَ أُم قيسٍ . قال : فقال عبدُ الله - يعني : ابن مسعود - : مَنْ هاجَر يبتغي شيئاً ، فهو له ״وهذا السِّياقُ يقتضي أنَّ هذا لم يكن في عهدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، إنَّما كان في عهدِ ابنِ مسعودٍ ، ولكن رُوي مِنْ طريقِ سفيانَ الثَّوريِّ ، عَن الأَعمشِ ،عن أبي وائلٍ ، عن ابن مسعود ، قال : كان فينا رجلٌ خطبَ امرأةً يقال لها : أم قيسٍ ، فأبت أنْ تزوَّجَه حتَّى يهاجِرَ ، فهاجَرَ ، فتزوَّجها ،فكنَّا نسمِّيه مهاجرَ أمِّ قيسٍ ، قال ابنُ مسعودٍ : مَنْ هاجرَ لشيءٍ فهو له)) انتهى
    22ـ قال شيخ الإسلام محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي في كتابه العظيم ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ج 3 / ص 112) (قال الخطابي في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل الى المحرم فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه ) انتهى
    وقال رحمه الله في ص 164
    (وقد فصل قوله صلى الله عليه وسلم { إنما الاعمال بالنيات وانما لامريء ما نوى} الامر في هذه الحيل وانواعها فأخبر ان الاعمال تابعة لمقاصدها ونياتها وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه لا ما أعلنه وأظهره وهذا نص في أن من نوى التحليل كان محللا ومن نوى الربا بعقد التبايع كان مرابيا ومن نوى المكر والخداع كان ماكرا مخادعا ويكفى هذا الحديث وحده في إبطال الحيل ولهذا صدر به حافظ الامة محمد بن إسماعيل البخاري إبطال الحيل) انتهى
    وقال الإمام أبوالعباس بن تيمية الحراني رحمه الله في (الفتاوى الكبرى ج 4 / ص 20):(أَنَّ الْعُقُودَ وَغَيْرَهَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَشْرُوطَةٌ بِالْمَقْصُودِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} وَقَدْ قُرِّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فِي كِتَابِ: ( بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ ) وَقَرَّرَتْ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ لِسَهْوٍ وَسَبْقِ لِسَانٍ أَوْ عَدَمِ عَقْلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ) انتهى
    23 ـ والحديث يدل ويستدل به على إحدى القواعد الخمس، التي بنى عليها الفقه الإسلامي ألا وهي (الأمور تبع المقاصد)
    قال الإمام الأصولي الفقيه محمد الأمين الشنقيطي قدس الله سره في كتابه ( أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج 5 / ص 301) ((الأمور تبع المقاصد، ودليل هذه حديث "إنما الأعمال بالنيات")) انتهى
    وقال الإمام عبدالرحمن السعدي رحمه الله في القواعد الحسان في تفسير القرآن ص 93)
    ((القاعدة السابعة والثلاثون: اعتبار المقاصد في ترتيب الأحكام
    اعتبر الله القصد والإرادة في ترتيب الأحكام على أعمال العباد، وهذا الأصل العظيم: صرح به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: ( إنما الأعمال بالنيات ) متفق عليه
    والمقصود هنا: أنه ورد آيات كثيرة جداً في هذا الأصل فمنها ـ وهو أعظمها ـ أنه رتب حصول الآجر العظيم على الأعمال بإرادة وجهه تعالى، لما ذكر الصدقة والمعروف، والإصلاح بين الناس، قال في سورة النساء: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 114] وقال في سورة البقرة: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } [البقرة: 265] وفي مقابله قال: { رِئَاءَ النَّاسِ } [ البقرة: 264] .
    ووصف الله نبيه وخيار خلقه الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ومن تبعهم بأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا . وقال في الرجعة في سورة البقرة: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً } [البقرة: 228] وقال في سورة البقرة: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة: 225] .
    وقال في سورة النساء: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ ْ} [النساء: 12] وقال في سورة النساء: { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً } [النساء: 4] وفي سورة البقرة: { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [البقرة: 188] وفي سورة البقرة:{ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } [البقرة: 220] وفي دعاء المؤمنين في سورة البقرة: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة: 286] فقال الله [ قد فعلت ](1) وقال في سورة الأحزاب: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } [الأحزاب: 5]
    وذكر الله قتل الخطأ ورتب عليه الدية والكفارة، ثم قال في سورة النساء: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [النساء:93] وقال في جزاء الصيد في سورة المائدة: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ـ الآية }[المائدة: 95] وقال في سورة البقرة: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } [البقرة: 235] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن أعمال الأبدان وأقوال اللسان، وصحتها وفسادها، ورتب أجرها أو وزرها: بحسب ما قام بالقلب من القصد والنية .)) انتهى
    24 ـ إن الشرط في النية الجزم واليقين وهذه القاعدة مهمة في منهجية حياة المسلم إذ تريحه وتغلق عليه باب الوسوسة التشكيك والذبذبة والتردد
    قال العلامة عطية محمد سالم رحمه الله في (تتيمة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج 9 / ص 189)
    ((أما الأول فهو إذا كانت مهمة الوسوسة التشكيك والذبذبة والتردد فإن عمومات التكليف تلزم المسلم بالعزم واليقين والمضي دون تردد كما في قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] وامتدح بعض الرسل بالعزم وأمر بالاقتداء بهم {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الاحقاف:35].
    وقال صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يربيك".
    والقاعدة الفقهية "اليقين لا يرفع بشك".
    والحديث "يأتي الشيطان لأحدكم وهو في الصلاة فينفخ في مقعدته فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا".
    ومن هنا كانت التكاليف كلها على اليقين فالعقائد لا بد فيها من اليقين.
    والفروع في العبادات لا بد فيها من النية "إنما الأعمال بالنيات".
    والشرط في النية الجزم واليقين فلو نوى الصلاة على أنه إن حضر فلان تركها لا تنعقد نيته ولو نوى صوما أنه إن شاء أفطر لا ينعقد صومه.
    ونص مالك في الموطإ أنه إن نوى ليوم الشك في ليلته الصوم غدا على أنه إن صح من رمضان فهو لرمضان وإلا فهو نافلة لا ينعقد صومه لا فرضا ولا نفلا حتى لو جاء رمضان لا يعتبر له منه وعليه قضاؤه لعدم الجزم بالنية.
    والحج لو نواه لزمه ولزمه المضي فيه ولا يملك الخروج منه باختياره.
    وهكذا المعاملات في جميع العقود مبناها على الجزم حتى في المزح واللعب يؤاخذ في البعض كالنكاح والطلاق والعتاق.
    فمن هذا كله كانت دوافع العزيمة مستقاة من التكاليف مما يقضي على نوازع الشك والتردد ولم يبق في قلب المؤمن مجال لشك ولا محل لوسوسة.
    وقد كان الشيطان يفر من طريق عمر رضي الله عنه.))
    25 ـ فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فِي قَوْلِهِمْ : الْإِيمَانُ إقْرَارٌ بِاللِّسَانِ دُونَ الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِ الْإِيمَانِ مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ، وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُرْجِئَةُ مَرْدُودٌ بِالنُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ .(24)
    26 ـ فِي قَوْلِ عَلْقَمَةَ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ فيه رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْوَاحِدَ إذَا ادَّعَى شَيْئًا كَانَ فِي مَجْلِسِ جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعِلْمِهِ دُونَ أَهْلِ الْمَجْلِسِ لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يُبَايِعَهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُسْتَدِلِّينَ بِقِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ رِوَايَةِ أَحَدٍ عَنْ عُمَرَ إلَّا عَلْقَمَةَ مَعَ كَوْنِهِ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّاسِ وَانْفَرَدَ عَلْقَمَةُ بِنَقْلِهِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ بَلْ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بِهِ حِينَ وَصَلَ إلَى دَارِ الْهِجْرَةِ وَشَهَرَ الْإِسْلَامَ ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ سَمِعَهُ جَمْعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ غَيْرُ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ كَمَا تَقَدَّمَ .
    وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّتِهِ فَلَوْ اشْتَرَطَ مُتَابَعَةَ الرَّاوِي لَمَّا حَضَرَهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ انْفِرَادُهُ بِهِ لِمَا قَبِلُوهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَإِنَّمَا اسْتَفْهَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ فِي ظَنِّهِ فَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا مُخَالَفَةٌ لِمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ .(25)
    27 ـ فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْخَطِيبِ أَنْ يُورِدَ أَحَادِيثَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ أَيْضًا ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ .(26)
    28 ـ وقد دخلت النية في علوم أخر غير الفقه من العربية والشعر فمن ذلك الكلام يشترط القصد على ما ذهب إليه سيبويه والجمهور،والمنادى النكرة إن قصدنه أواحد بعينه تعرف وبني على الضم وإلا فلا والمنادى المقصود نحو
    (يا فتى ) وشرط أهل العروض في الشعر أن يكون موزونا مقصودا فما يقع موزونا إتفاقا لا عن قصد من المتكلم لا يسمى شعرا وعلى ذلك خرج ماوقع في لبقرآن والحديث موزونا (27)
    25 ــ في الحديث دليل على إنه يستحب للإمام الأعظم الخطبة عند الأمور المهمة وتعليم الحكم المهمة لأنه أبلغ في الإشاعة والإشتهار(28)
    26ـ . ومن فوائد الحديث: حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بتنويع الكلام وتقسيم الكلام، لأنه قال:( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وهذا للعمل وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) وهذا للمعمول له.
    ثانيهما: تقسيم الهجرة إلى قسمين: شرعية وغير شرعية، وهذا من حسن التعليم، ولذلك ينبغي للمعلم أن لايسرد المسائل على الطالب سرداً لأن هذا يُنْسِي، بل يجعل أصولاً، وقواعد وتقييدات، لأن ذلك أقرب لثبوت العلم في قلبه، أما أن تسرد عليه المسائل فما أسرع أن ينساها.(29)
    27 ــ من فوائد الحديث: قرن الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى بالواو حيث قال: (إلى الله ورسوله) ولم يقل: ثم رسوله، مع أن رجلاً قال للرسول :(مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ: بَلْ مَاشَاءَ اللهُ وَحْدَه) فما الفرق؟
    والجواب: أما ما يتعلّق بالشريعة فيعبر عنه بالواو، لأن ماصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع كالذي صدر من الله تعالى كما قال: (مَنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) النساء: 80
    وأما الأمور الكونية: فلا يجوز أن يُقرن مع الله أحدٌ بالواو أبداً، لأن كل شيء تحت إرادة الله تعالى ومشيئته.
    فإذا قال قائلٌ: هل ينزل المطر غداً ؟
    فقيل: الله ورسوله أعلم، فهذا خطأ، لأن الرسول ليس عنده علم بهذا.
    مسألة: وإذا قال: هل هذا حرامٌ أم حلال ؟
    قيل في الجواب: الله ورسوله أعلم، فهذا صحيح، لأن حكم الرسول في الأمور الشرعية حكم الله تعالى كما قال عزّ وجل: (مَنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ )النساء: 80 (30)
    28 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني رحمه الله في (الفتاوى الكبرى ج 2 / ص 88)((مَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ دُونَ اللِّسَانِ، بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ: الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالْعِتْقِ وَالْجِهَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
    وَلَوْ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ بِخِلَافِ مَا نَوَى فِي قَلْبِهِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَا نَوَى بِقَلْبِهِ، لَا بِاللَّفْظِ، وَلَوْ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ تَحْصُلْ النِّيَّةُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُجْزِئْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
    فَإِنَّ النِّيَّةَ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْقَصْدِ ؛ وَلِهَذَا تَقُولُ الْعَرَبُ نَوَاك اللَّهُ بِخَيْرٍ: أَيْ قَصَدَكَ بِخَيْرٍ.
    وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ} مُرَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّيَّةِ النِّيَّةُ الَّتِي فِي الْقَلْبِ ؛ دُونَ اللِّسَانِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ: الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ.
    وَسَبَبُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ سَبَبَهُ أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: أُمُّ قَيْسٍ، فَسُمِّيَ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ.
    فَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ.
    وَهَذَا كَانَ نِيَّتُهُ فِي قَلْبِهِ.
    وَالْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ الْجَاهِرُ بِالنِّيَّةِ مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ، إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مِنْ الشَّرْعِ: فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ، يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ، وَإِلَّا الْعُقُوبَةُ عَلَى ذَلِكَ، إذَا أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ وَالْبَيَانِ لَهُ، لَا سِيَّمَا إذَا آذَى مَنْ إلَى جَانِبِهِ بِرَفْعِ صَوْتِهِ، أَوْ كَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: إنَّ صَلَاةَ الْجَاهِرِ بِالنِّيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْخَافِتِ بِهَا، سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا، أَوْ مُنْفَرِدًا.
    وَأَمَّا التَّلَفُّظُ بِهَا سِرًّا فَلَا يَجِبُ أَيْضًا، عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ: إنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ وَاجِبٌ، لَا فِي طَهَارَةٍ وَلَا فِي صَلَاةٍ، وَلَا صِيَامٍ، وَلَا حَجٍّ.
    وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ: أُصَلِّي الصُّبْحَ، وَلَا أُصَلِّي الظُّهْرَ، وَلَا الْعَصْرَ، وَلَا إمَامًا وَلَا مَأْمُومًا، وَلَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ: فَرْضًا وَلَا نَفْلًا، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِي قَلْبِهِ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الْقُلُوبِ. وَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءِ يَكْفِي فِيهِ نِيَّةُ الْقَلْبِ.
    وَكَذَلِكَ نِيَّةُ الصِّيَامِ فِي رَمَضَانَ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا صَائِمٌ غَدًا.
    بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ: بَلْ يَكْفِيهِ نِيَّةُ قَلْبِهِ.
    وَالنِّيَّةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ، فَمَنْ عَلِمَ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، فَإِذَا عَلِمَ الْمُسْلِمُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ مِمَّنْ يَصُومُ رَمَضَانَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ غَدًا الْعِيدَ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
    وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ: فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْقَائِمَةَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، أَوْ الظُّهْرِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْفَجْرِ، أَوْ الظُّهْرِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَنْوِي تِلْكَ الصَّلَاةَ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا الْفَجْرُ، وَيَنْوِيَ الظُّهْرَ.
    وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ، وَالنِّيَّةُ تَتْبَعُ الْعِلْمَ وَالِاعْتِقَادَ اتِّبَاعًا ضَرُورِيًّا، إذَا كَانَ يَعْلَمُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ.
    فَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ صَلَاةُ الظُّهْرِ، امْتَنَعَ أَنْ يَقْصِدَ غَيْرَهَا، وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
    وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ خَرَجَ فَنَوَى الصَّلَاةَ بَعْدَ الْوَقْتِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا فِي الْوَقْتِ أَجْزَأَتْهُ الصَّلَاةُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ.
    وَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْجِنَازَةِ - أَيَّ جِنَازَةٍ كَانَتْ - فَظَنَّهَا رَجُلًا، وَكَانَتْ امْرَأَةً، صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ مَا نَوَى.
    وَإِذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُهُ فُلَانًا، وَصَلَّى عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فُلَانٌ، فَتَبَيَّنَ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ هُنَا لَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ عَلَى ذَلِكَ الْحَاضِرِ.
    وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ لَا يَجِبُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ: وَلَكِنْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ خَرَّجَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِوُجُوبِ ذَلِكَ، وَغَلَّطَهُ جَمَاهِيرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ غَلَطُهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ فِي أَوَّلِهَا، فَظَنَّ هَذَا الْغَالِطُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ النُّطْقَ بِالنِّيَّةِ، فَغَلَّطَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ جَمِيعُهُمْ، وَقَالُوا: إنَّمَا أَرَادَ النُّطْقَ بِالتَّكْبِيرِ، لَا بِالنِّيَّةِ.
    وَلَكِنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ؟ أَمْ لَا؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْفُقَهَاءِ.
    مِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّ التَّلَفُّظَ بِهَا، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَالُوا: التَّلَفُّظُ بِهَا أَوْكَدُ، وَاسْتَحَبُّوا التَّلَفُّظَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
    وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَحِبَّ التَّلَفُّظَ بِهَا، كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا.
    وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، سُئِلَ تَقُولُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا.
    وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ يَتَلَفَّظُ بِالنِّيَّةِ، لَا فِي الطَّهَارَةِ، وَلَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَا فِي الصِّيَامِ، وَلَا فِي الْحَجِّ.
    وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَلَا خُلَفَاؤُهُ، وَلَا أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَتَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ بَلْ قَالَ لِمَنْ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: كَبِّرْ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
    وَلَمْ يَتَلَفَّظْ قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِنِيَّةٍ، وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا عَلَّمَ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ.
    وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَلِمَهُ الْمُسْلِمُونَ.
    وَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ إنَّمَا كَانَ يَسْتَفْتِحُ الْإِحْرَامَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَشَرَعَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُلَبُّوا فِي أَوَّلِ الْحَجِّ، {وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ: حُجِّي وَاشْتَرِطِي، فَقُولِي: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي} فَأَمَرَهَا أَنْ تَشْتَرِطَ بَعْدَ التَّلْبِيَةِ.
    وَلَمْ يُشْرَعْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ شَيْئًا.
    لَا يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدَ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ، وَلَا الْحَجَّ وَالْعَمْرَةَ، وَلَا يَقُولَ: فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، وَلَا يَقُولَ: نَوَيْتُهُمَا جَمِيعًا، وَلَا يَقُولَ: أَحْرَمْتُ لِلَّهِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا.
    وَلَا يَقُولَ قَبْلَ التَّلْبِيَةِ شَيْئًا، بَلْ جَعَلَ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ.
    وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: فُلَانٌ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، أَوْ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا.
    كَمَا يُقَالُ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، وَالْإِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَكَانَ يَقُولُ فِي تَلْبِيَتِهِ: {لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَةً} يَنْوِي مَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ التَّلْبِيَةِ، لَا قَبْلَهَا.
    وَجَمِيعُ مَا أَحْدَثَهُ النَّاسُ مِنْ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ قَبْلَ التَّكْبِيرِ، وَقَبْلَ التَّلْبِيَةِ، وَفِي الطَّهَارَةِ، وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَهِيَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وَكُلُّ مَا يَحْدُثُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَشْرُوعَةِ مِنْ الزِّيَادَاتِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ بِدْعَةٌ بَلْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَاوِمُ فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى تَرْكِهَا، فَفِعْلُهَا وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ مُسْتَحَبٌّ، أَيْ يَكُونُ فِعْلُهُ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ أَلْبَتَّةَ، فَيَبْقَى حَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ، إنَّمَا فَعَلْنَاهُ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ مِمَّا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ، فَقَالَ:"أَخَافُ عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: أَيُّ فِتْنَةٍ فِي ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا زِيَادَةُ أَمْيَالٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
    قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ فِي نَفْسِكَ أَنَّكَ خُصِّصْتَ بِفَضْلٍ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي}"فَأَيُّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ سُنَّةً أَفْضَلُ مِنْ سُنَّتِي، فَرَغِبَ عَمَّا سَنَّيْتُهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ مَا رَغِبَ فِيهِ أَفْضَلُ مِمَّا رَغِبَ عَنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ؛ لِأَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
    فَمَنْ قَالَ: إنَّ هُدَى غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ هُدَى مُحَمَّدٍ فَهُوَ مَفْتُونٌ ؛ بَلْ ضَالٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - إجْلَالًا لَهُ وَتَثْبِيتُ حُجَّتِهِ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً - {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَيْ: وَجِيعٌ.
    وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِاتِّبَاعِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبَ مَا أَوْجَبَهُ، وَاسْتِحْبَابَ مَا أَحَبَّهُ.
    وَأَنَّهُ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
    فَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ هَذَا فَقَدْ عَصَى أَمْرَهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ - قَالَهَا ثَلَاثًا -} أَيْ: الْمُشَدِّدُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّشْدِيدِ، وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ.)) انتهى
    هذا ماتيسر لي جمعه من الفوائد الفرائد للحديث ( إنما الأعمال بالنيات ) وهو جهد مقل ونستغفر الله التواب على التقصير ، وهو مجمل ما قاله أهل الحديث والفقه والأصول وإن كنت قد أعرضت عن ذكر ما دخل تحت هذا الحديث العظيم من أبواب الفقه وتفريعات مسائله وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله:(( يدخل هذا الحديث في سبعين باباً من الفقه، وقال أيضاً: هو ثلث العلم))
    دل على أنه ذا الشأن ويجدر بأن يستقل بالتأليف فيه وجمع مسائله من شتات الكتب
    وكما قلت هذا مجمل ما قاله أهل الحديث والفقه والأصول
    أما العرفاء أصحاب الإشارة فقالوا في شأنه وما في معناه مجملا: أن أعمال ظاهر القالب متعلق بما يقع في القلوب من أنوار الغيوب والنية جمع الهم في تنفيذ العمل للمعمول له وأن لا يسنح في السر ذكر غيره وللناس فيما يعشقون مذاهب ثم نية العوام في طلب الأغراض مع نسيان الفضل والأعراض ونية الجاهل التحصين عن سوء القضاء ونزول البلاء ونية أهل النفاق التزين عند الناس مع إضمار الشقاق ونية العلماء إقامة الطاعات ونية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من العبادات ونية أهل الحقيقة ربوبية تولت عبودية وإنما لكل امرئ ما نوى من مطالب السعداءوهي الخلاص عن الدركات السفلى من الكفر والشرك والجهل والمعاصي والسمعة والرياء والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف والفوز بالدرجات العلى وهي المعرفة والتوحيد والعلم والطاعات والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن إنابته والبقاء بهويته أو من مقاصد الأشقياء وهي إجمالا ما يبعد عن الحق فمن كانت هجرته أي خروجه من مقامه الذي هو فيه سواء كان استعداده الذي جبل عليه أو منزلا من منازل النفس أو مقاما من مقامات القلب إلى الله لتحصيل مراضيه وتحسين الأخلاق والتوجه إلى توحيد الذات ورسوله باتباع أعماله واقتفاء أخلاقه والتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات فهجرته إلى الله ورسوله فتخرجه العناية الإلهية من ظلمات الحدوث والفناء إلى أنوار الشهود والبقاء وتجذبه من حضيض العبودية إلى ذروة العندية ويفنى في عالم اللاهوت ويبقى بالحي الذي لا يموت ورجع إليه الأنس ونزل محله القدس بدار القرار إلى جوار الملك الغفار وأشرقت عليه سبحات الوجه الكريم وحل بقلبه روح الرضا العميم ووجد فيها الروح المحمدي وأحبابا وعرف أن له مثوى ومآبا ومن كانت هجرته لدنيا أي لتحصيل شهوة الحرص على المال والجاه أو تحصيل لذة شهوة الفرج فيبقى مهجورا عن الحق في أوطان الغربة وديار الظلمة له نار الفرقة والقطيعة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة وأنشد بعض المخلصين لبعض المخلطين يا غافل القلب عن ذكر المنيات عما قليل ستثوى بين أموات إن الحمام له وقت إلى أجل فاذكر مصائب أيام وساعات لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها قد حان للموت يا ذا اللب أن يأتي وكن حريصا على الإخلاص في عمل فإنما العمل الزاكي بنيات(31)
    والله أعلم وأحكم وصلى الله على خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم

    (1) جامع العلوم والحكم ص 16 ط دار الفكر بيروت
    (2) فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين للنووي وابن رجب رحمهما الله ص 8 ـ 10 ط منار السبيل الجزائر
    (3) جامع العلوم والحكم ص 17 ـ 18
    (4) شرح الأربعين النووية للشيخ محمد بن صالح بن العثيمين
    (5) مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 252)
    (6) جامع العلوم والحكم ص 16 ط دار الفكر بيروت
    (7) شرح الأربعين النووية للشيخ محمد بن صالح بن العثيمين
    (8) مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 251)
    (9) مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 256)
    (10) شرح الأربعين النووية للشيخ محمد بن صالح بن العثيمين
    (11) جامع العلوم والحكم - (ج 1 / ص 14)
    (12) جامع العلوم والحكم - (ج 1 / ص 14)
    (13) نفس المصدر
    ( 14) أحكام الجنائز - (ج 1 / ص 53)
    أخرجه النسائي (2 / 59) وإسناده جيد كما قال المنذري (1 / 24).
    (15) صحيح أبي داود - (ج 7 / ص 276)
    حديث حسن، وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي.
    (16) صحيح أبي داود - (ج 7 / ص 275)
    إسناده حسن ،وانظر إلى " السلسلة الصحيحة " 4 / 643״
    (17) ضعيف أبي داود - الأم - (ج 2 / ص 306)
    وهذا إسناد ضعيف، رجاله موثقون؛ غير حنان هذا، فإنه لا يعرف؛تفرد عنه العلاء هذا، كما قال الذهبي في "الميزان ".
    (18) صحيح وضعيف الجامع الصغير - (ج 9 / ص 119) ( ضعيف )
    (19) صحيح الترغيب والترهيب - (ج 1 / ص 3)
    ( صحيح لغيره ) رواه البزار بإسناد لا بأس به والبيهقي
    (20) ضعيف الترغيب والترهيب - (ج 1 / ص 3)
    ( ضعيف )
    (21) ضعيف الترغيب والترهيب - (ج 1 / ص 6)
    ( ضعيف مرسل )
    (22)ضعيف انظرسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (ج 9 / ص 329)
    (23) جامع العلوم والحكم
    (24) طرح التثريب ج 1 / ص 396 للحافظ زين الدين أبو الفضل العراقي رحمه الله
    (25) طرح التثريب ج 1 / ص 415
    (26) طرح التثريب ج 1 / ص 416
    (27) منتهى الآمال في شرح حديث إنما الأعمال للحافظ السيوطيرحمه الله
    (28) نفس المصدر
    (29) شرح الأربعين النواوية للشيخ العلامة محمد بن عثيمين
    (30) نفس المصدر
    (31) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (ج 1 / ص 113) للعلامة الملا على القاري رحمه الله

  3. #3

    افتراضي رد: سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (2) شرح حديث ( إنما الأعمال بالنيات)


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (2) شرح حديث ( إنما الأعمال بالنيات)

    بارك الله فيكما

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Feb 2011
    المشاركات
    271

    افتراضي رد: سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (2) شرح حديث ( إنما الأعمال بالنيات)

    جزاكم الله خيرا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (2) شرح حديث ( إنما الأعمال بالنيات)

    حفظك الله أخي الكريم الطيب أباطلحة


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (7) شرح حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
    بواسطة أبو أنس بشير بن سلة الأثري في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 29-May-2011, 02:49 AM
  2. مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 21-Mar-2011, 04:07 PM
  3. مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 10-Mar-2011, 12:16 AM
  4. سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (4) شرح حديث ( لاهجرة بعد الفتح)
    بواسطة أبو أنس بشير بن سلة الأثري في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-Mar-2011, 01:49 AM
  5. سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (3) شرح حديث ( يغزوجيش الكعبة)
    بواسطة أبو أنس بشير بن سلة الأثري في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-Mar-2011, 01:46 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •