وعن أمِّ المؤمِنينَ أمِّ عبدِ اللهِ عائشةَ رضي الله عنها ، قالت : قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ )) . قَالَتْ : قلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ،كَيْفَ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهمْ أسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ؟! قَالَ : (( يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيّاتِهمْ )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . هذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ .
رواه البخاري (1975) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : (فذكرته رضي الله عنها)
ـ قال الامام الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري 6/ 442):
قَوْله : ( عَنْ مُحَمَّدِ بْن سُوقَةَ )
بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا قَافٌ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ عَابِدٌ يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْحَدِيث وَآخَر تَقَدَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ .
قَوْله : ( عَنْ نَافِع بْن جُبَيْر )
أَيْ اِبْن مُطْعِمٍ النَّوْفَلِيّ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة سِوَى هَذَا الْحَدِيث ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن بَكَّار عَنْ إِسْمَاعِيل بْن زَكَرِيَّا عَنْ مُحَمَّد بْن سُوقَهُ " سَمِعْت نَافِعَ بْن جُبَيْر " أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ .
قَوْله : ( حَدَّثَتْنِي عَائِشَة )
هَكَذَا قَالَ إِسْمَاعِيل بْن زَكَرِيَّا عَنْ مُحَمَّد بْن سُوقَة ، وَخَالَفَهُ سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ فَقَالَ " عَنْ مُحَمَّد بْن سُوقَة عَنْ نَافِع بْن جُبَيْر عَنْ أُمّ سَلَمَة " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون نَافِع اِبْن جُبَيْر سَمِعَهُ مِنْهُمَا فَإِنَّ رِوَايَتَهُ عَنْ عَائِشَة أَتَمُّ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ أُمّ سَلَمَة ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ وَجْه آخَر عَنْ عَائِشَة ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث حَفْصَة شَيْئًا مِنْهُ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ نَحْوَهُ .
قَوْله : ( يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ )
فِي رِوَايَة مُسْلِمٍ " عَبَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامه فَقُلْنَا لَهُ صَنَعْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ ، قَالَ : الْعَجَب أَنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ " وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ أُمّ سَلَمَة قَالَتْ ذَلِكَ زَمَنُ اِبْن الزُّبَيْرِ ، وَفِي أُخْرَى أَنَّ عَبْد اللَّه بْن صَفْوَان أَحَد رُوَاة الْحَدِيث عَنْ أُمّ سَلَمَة قَالَ : وَاَللَّهِ مَا هُوَ هَذَا الْجَيْشُ .(1)
قال العلامة محمد علي بن محمد بن علان بن إبراهيم البكري الصديقي الشافعي (المتوفى: 1057هـ) في كتابه دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 61):
قال القرطبي: وقد ظهر ما قال، فإن الجيش المرسل إلى ابن الزبير لم يخسف به اهـ.
قال العاقولي: والأولى إجراء الحديث على إطلاقه وعدم تقييده بأحد.
قَوْله : ( بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ )
فِي رِوَايَة مُسْلِمٍ " بِالْبَيْدَاءِ " وَفِي حَدِيث صَفِيَّة عَلَى الشَّكِّ ، وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَر الْبَاقِرِ قَالَ : هِيَ بَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ . اِنْتَهَى .
وَالْبَيْدَاءُ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة (2)
قال العلامة محمد علي في دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (1/ 61):
قال القرطبي: والبيداء: أرض ملساء لا شيء فيها. وفي «الصحاح» : البيداء المفازة والجمع بيد،
قَوْله : ( يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرهمْ )
زَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيث صَفِيَّة " وَلَمْ يَنْجُ أَوْسَطُهُمْ " وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيث حَفْصَة " فَلَا يَبْقَى إِلَّا الشَّرِيد الَّذِي يُخْبِرُ عَنْهُمْ " وَاسْتُغْنِيَ بِهَذَا عَنْ تَكَلُّفِ الْجَوَابِ عَنْ حُكْمِ الْأَوْسَطِ وَأَنَّ الْعُرْفَ يَقْضِي بِدُخُولِهِ فِيمَنْ هَلَكَ أَوْ لِكَوْنِهِ آخِرًا بِالنِّسْبَةِ لِلْأَوَّلِ وَأَوَّلًا بِالنِّسْبَةِ لِلْآخِرِ فَيَدْخُلُ .(3)
قَوْله : ( وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ )
كَذَا عِنْد الْبُخَارِيِّ بِالْمُهْمَلَةِ وَالْقَاف جَمْعُ سُوقٍ وَعَلَيْهِ تَرْجَمَ ، وَالْمَعْنَى أَهْل أَسْوَاقهمْ أَوْ السُّوقَةُ مِنْهُمْ .
وَقَوْله " وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ " أَيْ مَنْ رَافَقَهُمْ وَلَمْ يَقْصِدْ مُوَافَقَتَهُمْ .
وَلِأَبِي نُعَيْم مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن سُلَيْمَان عَنْ إِسْمَاعِيل بْن زَكَرِيَّا " وَفِيهِمْ أَشْرَافُهُمْ " بِالْمُعْجَمَةِ وَالرَّاء وَالْفَاء ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد اِبْن بَكَّار عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ " وَفِيهِمْ سِوَاهُمْ " وَقَالَ وَقَعَ فِي رِوَايَة الْبُخَارِيّ " أَسْوَاقُهُمْ " فَأَظَنَّهُ تَصْحِيفًا فَإِنَّ الْكَلَام فِي الْخَسْف بِالنَّاسِ لَا بِالْأَسْوَاقِ .
قُلْت : بَلْ لَفْظ " سِوَاهُمْ " تَصْحِيفٌ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى قَوْله وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْرَارُ ، بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ . نَعَمْ أَقْرَب الرِّوَايَات إِلَى الصَّوَاب رِوَايَة أَبِي نُعَيْم ، وَلَيْسَ فِي لَفْظ " أَسْوَاقهمْ " مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُون الْخَسْفُ بِالنَّاسِ فَالْمُرَاد بِالْأَسْوَاقِ أَهْلُهَا أَيْ يُخْسَفُ بِالْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْقِتَالِ كَالْبَاعَةِ ، وَفِي رِوَايَة مُسْلِم " فَقُلْنَا إِنَّ الطَّرِيقَ يَجْمَعُ النَّاسَ ، قَالَ نَعَمْ فِيهِمْ الْمُسْتَبْصِر - أَيْ الْمُسْتَبِينُ لِذَلِكَ الْقَاصِدُ لِلْمُقَاتَلَةِ - وَالْمَجْبُورُ بِالْجِيمِ وَالْمُوَحَّدَة - أَيْ الْمُكْرَه - وَابْن السَّبِيل - أَيْ - مَالِك الطَّرِيق مَعَهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ " وَالْغَرَضُ كُلُّهُ أَنَّهَا اِسْتَشْكَلَتْ وُقُوعَ الْعَذَابِ عَلَى مَنْ لَا إِرَادَةَ لَهُ فِي الْقِتَال الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعُقُوبَةِ فَوَقَعَ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْعَذَابَ يَقَع عَامًا لِحُضُورِ آجَالِهِمْ وَيُبْعَثُونَ بَعْد ذَلِكَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ ، وَفِي رِوَايَة مُسْلِم " يَهْلِكُونَ مَهْلِكًا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى " وَفِي حَدِيث أُمّ سَلَمَة عِنْد مُسْلِم " فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه فَكَيْف بِمَنْ كَانَ كَارِهًا ؟ قَالَ : يُخْسَفُ بِهِ ، وَلَكِنْ يُبْعَثُ يَوْم الْقِيَامَة عَلَى نِيَّتِهِ " أَيْ يُخْسَفُ بِالْجَمِيعِ لِشُؤْمِ الْأَشْرَارِ ثُمَّ يُعَامَلُ كُلُّ أَحَد عِنْد الْحِسَاب بِحَسَبِ قَصْدِهِ (4)
قال الامام محمد بن صالح بن محمد العثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (ص4):
وقوله: (حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض) أي: بأرض واسعة، خسف الله بأولهم وآخرهم
خسفت بهم الأرض وساخوا فيها هم وأسواقهم وكل من معهم .
وفي هذا دليل على أنهم جيش عظيم لأن معهم أسواقهم للبيع والشراء وغير ذلك .
فيخسف الله بأولهم وآخرهم .
لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا ورد على خاطر عائشة رضي الله عنها سؤال: (كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ؟ ) أسواقهم الذين جاءوا للبيع والشراء ليس لهم قصد سيئ في غزو الكعبة وفيهم أناس ليسوا منهم تبعوهم من غير أن يعلموا بخطتهم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يخسف بأولهم وآخرهم وأسواقهم ومن ليس منهم ثم يبعثون يوم القيامة على نياتهم كل له ما نوى .
هذا فرد من أفراد قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى))
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (6/ 442):
قَالَ الْمُهَلَّب : فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فِي الْمَعْصِيَةِ مُخْتَارًا أَنَّ الْعُقُوبَةَ تَلْزَمُهُ مَعَهُمْ .
قَالَ وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ مَالِكٌ عُقُوبَةَ مَنْ يُجَالِسُ شَرَبَةَ الْخَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ ، وَتَعَقَّبَهُ اِبْن الْمُنَيِّر بِأَنَّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي فِي الْحَدِيث هِيَ الْهَجْمَةُ السَّمَاوِيَّةُ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا الْعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَيُؤَيِّدُهُ آخِرُ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ " وَيُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ "
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَعْمَال تُعْتَبَرُ بِنِيَّةِ الْعَامِلِ ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ مُصَاحَبَةِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَمُجَالَسَتِهِمْ وَتَكْثِير سَوَادهمْ إِلَّا لِمَنْ اُضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ ، وَيَتَرَدَّدُ النَّظَرُ فِي مُصَاحَبَةِ التَّاجِر لِأَهْلِ الْفِتْنَةِ هَلْ هِيَ إِعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ أَوْ هِيَ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ عَمَلُ كُلِّ أَحَد بِنِيَّتِهِ . وَعَلَى الثَّانِي يَدُلُّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (ص: 4):
وفي هذا الحديث عبرة: أن من شارك أهل الباطل وأهل البغي والعدوان فإنه يكون معهم في العقوبة الصالح والطالح، العقوبة إذا وقعت تعم ولا تترك أحداً ثم يوم القيامة يبعثون على نياتهم .
يقول الله عز وجل: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب }الأنفال 25
قال الحافظ رحمه الله في فتح الباري (6/ 138):
َوَجْه الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ هُنَا أَنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي الْعَمَلِ لِاقْتِضَاءِ الْخَبَرِ أَنْ فِي الْجَيْشِ الْمَذْكُورِ الْمُكْرَهَ وَالْمُخْتَارَ فَإِنَّهُمْ إِذَا بُعِثُوا عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَقَعَتْ الْمُؤَاخَذَة عَلَى الْمُخْتَارِ دُونَ الْمُكْرَهِ
وقال العلامة صالح بن عثيمين في شرح رياض الصالحين (ص: 4):
والشاهد من هذا الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ثم يبعثون على نياتهم فهو كقوله: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .

(1) فتح الباري لابن حجر (6/ 442):
(2) و(3) و(4) نفس المصدر