ـ عن عائِشةَ رضيَ اللهُ عنها ، قَالَتْ : قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
التخريج للحديث
قال العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل 5/ 8):
صحيح.
أخرجه البخارى (2/198) و208 و267 و301) ومسلم (6/28)
وأبو داود (2480) والنسائي (2/183) والترمذي (1/301) والدا رمى (2/239) وابن الجارود (1030) وأحمد (226 و1/266 و315 ـ 316 و344) والطبراني في " الكبير " (3/103/2) من طريق منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: " لا هجرة بعد الفتح , ولكن جهاد ونية , وإذا استنفرتم فانفروا ".
وليس عند مسلم وغيره " بعد الفتح " وهو رواية للبخارى , وهى عند الترمذى وقال: " حديث حسن صحيح ".
ورواه عبد الله بن صالح: حدثنى ابن كاسب: حدثنى سفيان عن عمرو بن دينار وإبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: " قيل لصفوان بن أمية وهو بأعلى مكة: إنه لا دين لمن لم يهاجر , فقال: لا أصل إلى بيتى حتى أقدم المدينة , فقدم المدينة , فنزل على العباس بن عبد المطلب , ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم , فقال ما جاء بك يا أبا وهب؟ قال: قيل: إنه لا دين لمن لم يهاجر , فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة , فقروا على ملتكم , فقد انقطعت الهجرة , ولكن جهاد ونية , وإن استنفرتم فانفروا ".
أخرجه البيهقى (9/16 ـ 17) وابن أبى عاصم (97/1) حدثنا ابن كاسب به مختصرا قلت: وهذا إسناد جيد , وابن كاسب هو يعقوب بن حميد , وعبد الله بن صالح هو أبو صالح العجلى.
كلاهما ثقة وفى ابن كاسب كلام يسير , ولما رواه شاهد من طريق عبد الله بن طاوس عن أبيه عن صفوان بن أمية قال: " قلت: يا رسول الله إنهم يقولون: إن الجنة لا يدخلها إلا مهاجر قال: لا هجرة بعد فتح مكة.. الحديث ".
أخرجه النسائى وأحمد (3/401) .
قلت: وإسناده صحيح.
ورواه الزهرى عن صفوان بن عبد الله بن صفوان عن أبيه أن صفوان بن أمية بن خلف قيل له: " هلك من لم يهاجر , قال: فقلت: لا أصل إلى أهلى حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فركبت راحلتى , فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله زعموا أنه هلك من لم يهاجر , قال: كلا أبا وهب , فارجع إلى أباطح مكة ".أخرجه أحمد (3/401 و6/456) .
قلت: وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وللحديث شواهد من حديث عائشة وأبى سعيد الخدرى ومجاشع بن مسعود.
أما حديث عائشة , فيرويه عطاء عنها قالت: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة؟ فقال.. " فذكره بتمامه.
أخرجه مسلم (6/28) وأبو يعلى فى " مسنده " (ق 237/2) .
ورواه البخارى (3/146) من طريق آخر عن عطاء بن أبى رباح قال: " زرت عائشة مع عبيد بن عمير , فسألها عن الهجرة.
فقالت: لا هجرة اليوم , كان المؤمن يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه , فأما اليوم , فقد أظهر الله الإسلام , فالمؤمن يعبد ربه حيث شاء , ولكن جهاد ونية ".وهكذا أخرجه البيهقى (9/17) .
وأما حديث أبى سعيد الخدرى , فيرويه أبو البخترى الطائى عن أبى سعيد الخدرى أنه قال: " لما نزلت هذه السورة (إذا جاء نصر الله والفتح , ورأيت الناس) قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها , وقال الناس حيز , وأنا وأصحابى حيز وقال: لا هجرة بعد الفتح , ولكن جهاد ونية , فقال له مروان: كذبت , وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت , وهما قاعدان معه على السرير , فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك , ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه , وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة , فسكتا , فرفع مروان عليه الدرة ليضربه , فلما رأيا ذلك , قالا: صدق "
أخرجه الطيالسى (601 و967 و2205) وأحمد (3/22 و5/187) .
قلت: وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وأما حديث مجاشع , فيرويه يحيى بن إسحاق عنه: " أنه أتى النبى صلى الله عليه وسلم بابن أخ له يبايعه على الهجرة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا , بل يبايع على الإسلام , فإنه لا هجرة بعد الفتح ,ويكون من التابعين بإحسان ".
أخرجه أحمد (3/468 و469) من طريق يحيى بن أبى كثير عن يحيى بن إسحاق.
قلت: وإسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير يحيى بن إسحاق وهو ثقة كما قال ابن معين وابن حبان وابن حجر.(1)
وله عن ابن عباس طريق أخرى , يرويه الأعمش عن أبى صالح عنه مرفوعا.
أخرجه ابن أبى عاصم (79/1) بسند رجاله ثقات.
الشرح :
- قَوْله : ( لَا هِجْرَة بَعْد الْفَتْح ) أَيْ فَتْح مَكَّة
قال الامام ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري لابن حجر 8/ 432):
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره : ((كَانَتْ الْهِجْرَة فَرْضًا فِي أَوَّل الْإِسْلَام عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ وَحَاجَتهمْ إِلَى الِاجْتِمَاع ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّه مَكَّة دَخَلَ النَّاس فِي دِين اللَّه أَفْوَاجًا فَسَقَطَ فَرْض الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة وَبَقِيَ فَرْض الْجِهَاد وَالنِّيَّة عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ أَوْ نَزَلَ بِهِ عَدُوّ)) اِنْتَهَى .
وَكَانَتْ الْحِكْمَة أَيْضًا فِي وُجُوب الْهِجْرَة عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِيَسْلَم مِنْ أَذَى ذَوِيهِ مِنْ الْكُفَّار فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَذِّبُونَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إِلَى أَنْ يَرْجِع عَنْ دِينه ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ
( إِنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَة ظَالِمِي أَنْفُسهمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض ، قَالُوا أَلَم تَكُنْ أَرْض اللَّه وَاسِعَة فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ) الْآيَة .
فائدة :
قال الامام ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري لابن حجر 8/ 432):
((وَهَذِهِ الْهِجْرَة بَاقِيَة الْحُكْم فِي حَقّ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَار الْكُفْر وَقَدَرَ عَلَى الْخُرُوج مِنْهَا ، وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيق بَهْز بْن حَكِيم بْن مُعَاوِيَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه مَرْفُوعًا " لَا يَقْبَل اللَّه مِنْ مُشْرِك عَمَلًا بَعْدَمَا أَسْلَمَ أَوْ يُفَارِق الْمُشْرِكِينَ " وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيث سَمُرَة مَرْفُوعًا " أَنَا بَرِيء مِنْ كُلّ مُسْلِم يُقِيم بَيْن أَظْهُر الْمُشْرِكِينَ " وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَنْ لَمْ يَأْمَن عَلَى دِينه ، وَسَيَأْتِي مَزِيد لِذَلِكَ فِي أَبْوَاب الْهِجْرَة مِنْ أَوَّل كِتَاب الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .)) انتهى
وقال العلامة ناصر الدين الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (6/ 356):
عند تخريج الحديث " إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله و أقمتم الصلاة و آتيتم الزكاة و فارقتم المشركين و أعطيتم من الغنائم الخمس و سهم النبي صلى الله عليه وسلم ، و الصفي - و ربما قال : و صفيه - فأنتم آمنون بأمان الله و أمان رسوله "
ثم قال بعد التخريج هذا الحديث ذاكرا بعض فوائده منها
قلت (المحدث قدس الله روحه وجعل الجنة مثواه ) : في هذا الحديث بعض الأحكام التي تتعلق بدعوة الكفار إلى الإسلام من ذلك : أن لهم الأمان إذا قاموا بما فرض الله عليهم ومنها : أن يفارقوا المشركين و يهاجروا إلى بلاد المسلمين . و في هذا أحاديث كثيرة ، يلتقي كلها على حض من أسلم على المفارقة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، لا تتراءى نارهما " ، و في بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط على بعضهم في البيعة أن يفارق المشرك . و في بعضها
قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا ،أو يفارق المشركين إلى المسلمين " . إلى غير ذلك من الأحاديث ، و قد خرجت بعضها
في " الإرواء " ( 5 / 29 - 33 ) و فيما تقدم برقم ( 636 ) .
و إن مما يؤسف له أشد الأسف أن الذين يسلمون في العصر الحاضر - مع كثرتهم و الحمد لله – لا يتجاوبون مع هذا الحكم من المفارقة ، و هجرتهم إلى بلاد الإسلام ، إلا القليل منهم ، و أنا أعزو ذلك إلى أمرين اثنين
الأول : تكالبهم على الدنيا ، و تيسر وسائل العيش و الرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة ، لا روح فيها ، كما هو معلوم ، فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا تتوفر لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم .
و الآخر - و هو الأهم - : جهلهم بهذا الحكم ، و هم في ذلك معذورون ، لأنهم لم يسمعوا به من أحد من الدعاة الذين تذاع كلماتهم مترجمة ببعض اللغات الأجنبية ، أو من الذين يذهبون إليهم باسم الدعوة لأن أكثرهم ليسوا فقهاء و بخاصة منهم جماعة التبليغ ، بل إنهم ليزدادون لصوقا ببلادهم ، حينما يرون كثيرا من المسلمين قد عكسوا الحكم بتركهم لبلادهم إلى بلاد الكفار ! فمن أين لأولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام أن يعرفوا مثل هذا الحكم و المسلمون أنفسهم مخالفون له ؟! ألا فليعلم هؤلاء و هؤلاء أن الهجرة ماضيه كالجهاد ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل " ، و في حديث آخر : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " و هو مخرج في " الإرواء " ( 1208 ) .
و مما ينبغي أن يعلم أن الهجرة أنواع و لأسباب عدة ، و لبيانها مجال آخر ، و المهم هنا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام مهما كان الحكام فيها منحرفين عن الإسلام ، أو مقصرين في تطبيق أحكامه ، فهي على كل حال خير بما لا يوصف من بلاد الكفر أخلاقا و تدينا و سلوكا ، و ليس الأمر - بداهة - كما زعم أحد الجهلة الحمقى الهوج من الخطباء : " والله لو خيرت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود و بين أن أعيش في أي عاصمة عربية لاخترت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود "! و زاد على ذلك فقال ما نصه : " ما أرى إلا أن الهجرة واجبة من الجزائر إلى
(تل أبيب ) " !! كذا قال فض فوه ، فإن بطلانه لا يخفى على مسلم مهما كان غبيا !و لتقريب ما ذكرت من الخيرية إلى أذهان القراء المحبين للحق الحريصين على معرفته و إتباعه ، الذين لا يهولهم جعجعة الصائحين ، و صراخ الممثلين ، واضطراب الموتورين من الحاسدين و الحاقدين من الخطباء و الكاتبين : أقول لأولئك المحبين : تذكروا على الأقل حديثين اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما : " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها " . أخرجه البخاري و مسلم و غيرهما . و الآخر : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله و هم ظاهرون " ، و هو حديث صحيح متواتر رواه جماعة من الصحابة ، و تقدم تخريجه عن جمع منهم برقم
( 270 و 1108 و 1955 و 1956 ) ، و "صحيح أبي داود " ( 1245 ) ،
و في بعضها أنهم " أهل المغرب " أي الشام ، و جاء ذلك مفسرا عند البخاري و غيره عن معاذ ، و عند الترمذي و غيره مرفوعا بلفظ : "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ، و لا تزال طائفة من أمتي .. " الحديث .
و في هذه الأحاديث إشارة قوية إلى أن العبرة في البلاد إنما هي بالسكان و ليس بالحيطان .
و قد أفصح عن هذه الحقيقة سلمان الفارسي رضي الله عنه حين كتب أبو
الدرداء إليه : أن هلم إلى الأرض المقدسة ، فكتب إليه سلمان : إن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا ، و إنما يقدس الإنسان عمله . ( موطأ مالك 2 / 235 ) و لذلك فمن الجهل المميت و الحماقة المتناهية - إن لم أقل و قلة الدين - أن يختار خطيب أخرق الإقامة تحت الاحتلال اليهودي ، و يوجب على الجزائريين المضطهدين أن يهاجروا إلى ( تل أبيب ) ، دون بلده المسلم ( عمان ) مثلا ، بل و دون مكة و المدينة ، متجاهلا ما نشره اليهود في فلسطين بعامة ، و( تل أبيب ) و ( حيفا ) و ( يافا ) بخاصة من الفسق و الفجور و الخلاعة حتى سرى ذلك بين كثير من المسلمين و المسلمات بحكم المجاورة و العدوى ، مما لا يخفى على من ساكنهم ثم نجاه الله منهم ، أو يتردد على أهله هناك لزيارتهم في بعض الأحيان . و ليس بخاف على أحد أوتي شيئا من العلم ما في ذاك الاختيار من المخالفة لصريح قوله تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟! فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا ، و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما ( أي تحولا ) كثيرا و سعة ، و من يخرج من بيته مهاجرا إلى الله و رسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله و كان الله غفورا رحيما )* ( النساء 97 - 100 ) . قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " ( 1 / 542 ) : " نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين ، و هو قادر على الهجرة ، و ليس متمكنا من إقامة الدين ، فهو ظالم لنفسه ، مرتكب حراما بالإجماع ، و بنص هذه الآية " . و إن مما لا يشك فيه العالم الفقيه أن الآية بعمومها تدل على أكثر من الهجرة من بلاد الكفر ، وقد صرح بذلك الإمام القرطبي ، فقال في " تفسيره " ( 5 / 346 ) : " و في هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي ، و قال سعيد ابن جبير : إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها ، و تلا : *( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ )* " . و هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 2 / 174/ 1 ) بسند صحيح عن سعيد . و أشار إليه الحافظ في " الفتح "
فقال ( 8 / 263 ) :" و استنبط سعيد بن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعصية " . و قد يظن بعض الجهلة من الخطباء و الدكاترة و الأساتذة ، أن قوله صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح " <2> ناسخ للهجرة مطلقا ، و هو جهل فاضح بالكتاب و السنة و أقوال الأئمة ، و قد سمعت ذلك من بعض مدعي العلم من الأساتذة في مناقشة جرت بيني و بينه بمناسبة الفتنة التي أثارها علي ذلك الخطيب المشار إليه آنفا ، فلما ذكرته بالحديث الصريح في عدم انقطاع التوبة المتقدم بلفظ : " لا تنقطع الهجرة .. " إلخ .. لم يحر جوابا ! و بهذه المناسبة أنقل إلى القراء الكرام ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديثين المذكورين ، و أنه لا تعارض بينهما ، فقال في " مجموع الفتاوى " ( 18 / 281 ) : " و كلاهما حق ، فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه ، و هي الهجرة إلى المدينة من مكة و غيرها من أرض العرب ، فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة و غيرها دار كفرو حرب ، و كان الإيمان بالمدينة ، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها ، فلما فتحت مكة و صارت دار الإسلام و دخلت العرب في الإسلام صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام ، فقال : " لا هجرة بعد الفتح " ، وكون الأرض دار كفر و دار إيمان ، أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها : بل هي صفة عارضة بحسب سكانها ، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت ، و كل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت ، و كل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت ، فإن سكنها غير ما ذكرنا و تبدلت بغيرهم فهي دارهم و كذلك المسجد إذا تبدل بخمارة أو صار دار فسق أو دار ظلم أوكنيسة يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه ، و كذلك دار الخمر و الفسوق و نحوها إذا جعلت مسجدا يعبد الله فيه جل وعز كان بحسب ذلك ، و كذلك الرجل الصالح يصير فاسقا و الكافر يصير مؤمنا أو المؤمن يصير كافرا أو نحو ذلك ، كل بحسب انتقال الأحوال من حال إلى حال و قد قال تعالى : *( و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة )* الآية نزلت في مكة لما كانت دار كفر و هي ما زالت في نفسها خير أرض الله ، و أحب أرض الله إليه ، و إنما أراد سكانها . فقد روى الترمذي مرفوعا أنه قال لمكة و هو واقف بالحزورة : " والله إنك لخير أرض الله ، و أحب أرض الله إلى الله ، و لولا قومي أخرجوني منك لما خرجت " <3> ، و في رواية : " خير أرض الله و أحب أرض الله إلي " ، فبين أنها أحب أرض الله إلى الله و رسوله ، و كان مقامه بالمدينة و مقام من معه من المؤمنين أفضل من مقامهم بمكة لأجل أنها دار هجرتهم، و لهذا كان الرباط بالثغور أفضل من مجاورة مكة و المدينة ، كما ثبت في الصحيح : " رباط يوم و ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر و قيامه ، و من مات مرابطا مات مجاهدا ، و جرى عليه عمله ، و أجرى رزقه من الجنة ، و أمن الفتان " <4> . و في السنن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوما فيما سواه من المنازل " <5> . و قال أبو هريرة <6> : لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود . و لهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان أرض يكون فيها أطوع لله و رسوله ، و هذا يختلف باختلاف الأحوال ، و لا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل ، و إنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوى و الطاعة و الخشوع و الخضوع و الحضور ، و قد كتب أبو الدرداء إلى سلمان : هلم إلى الأرض المقدسة ! فكتب إليه سلمان إن الأرض لا تقدس أحدا و إنما يقدس العبد عمله . و كان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان و أبي الدرداء . و كان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا . و قد قال الله تعالى لموسى عليه السلام : *( سأريكم دار الفاسقين )* و هي الدار التي كان بها أولئك العمالقة ، ثم صارت بعد هذا دار المؤمنين ، و هي الدار التي دل عليها القرآن من الأرض المقدسة ، و أرض مصر التي أورثها الله بني إسرائيل ، فأحوال البلاد كأحوال العباد فيكون الرجل تارة مسلما و تارة كافرا ، و تارة مؤمنا و تارة منافقا ، و تارة برا تقيا و تارة فاسقا ، و تارة فاجرا شقيا . و هكذا المساكن بحسب سكانها ، فهجرة الإنسان من مكان الكفر و المعاصي إلى مكان الإيمان و الطاعة كتوبته و انتقاله من الكفر و المعصية إلى الإيمان و الطاعة ، و هذا أمر باق إلى يوم القيامة ، و الله تعالى قال : *( والذين آمنوا [ من بعد ] و هاجروا و جاهدوا معكم فأولئك منكم )* [ الأنفال : 75] .
قالت طائفة من السلف : هذا يدخل فيه من آمن و هاجر و جاهد إلى يوم القيامة، و هكذا قوله تعالى : *( ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و
صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم )* [ النحل : 110 ] <7> يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية ثم هجر السيئات و جاهد نفسه و غيرها من العدو ، و جاهد المنافقين بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و غير ذلك ، وصبر على ما أصابه من قول أو فعل . و الله سبحانه و تعالى أعلم " .
فأقول : هذه الحقائق و الدرر الفرائد من علم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، يجهلها جهلا تاما أولئك الخطباء و الكتاب و الدكاترة المنكرون لشرع الله *( و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )* ، فأمروا الفلسطينيين بالبقاء في أرضهم و حرموا عليهم الهجرة منها ، و هم يعلمون أن في ذلك فساد دينهم و دنياهم ، و هلاك رجالهم و
فضيحة نسائهم ، و انحراف فتيانهم و فتياتهم ، كما تواترت الأخبار بذلك عنهم بسبب تجبر اليهود عليهم ، و كبسهم لدورهم و النساء في فروشهن ، إلى غير ذلك من
المآسي و المخازي التي يعرفونها ، ثم يتجاهلونها تجاهل النعامة الحمقاء للصياد! فيا أسفي عليهم إنهم يجهلون ، و يجهلون أنهم يجهلون ، كيف لا و هم في القرآن
يقرؤون : *( و لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم )* ! و ليت شعري ماذا يقولون في الفلسطينيين الذين كانوا خرجوا من بلادهم تارة باسم لاجئين ، و تارة باسم نازحين ، أيقولون فيهم : إنهم كانوا من الآثمين ، بزعم أنهم فرغوا أرضهم لليهود ؟! بلى . و ماذا يقولون في ملايين الأفغانيين الذين هاجروا من بلدهم إلى ( بشاور ) مع أن أرضهم لم تكن
محتلة من الروس احتلال اليهود لفلسطين ؟! و أخيرا .. ماذا يقولون في البوسنيين الذين لجأوا في هذه الأيام إلى بعض البلاد الإسلامية و منها الأردن ، هل يحرمون عليهم أيضا خروجهم ، و يقول فيهم أيضا رأس الفتنة : " يأتون إلينا ؟ شو بساووا هون ؟! " . إنه يجهل أيضا قوله تعالى : *( و الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ، و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة )* ، أم هم كما قال تعالى في بعضهم : *( يحلونه عاما و يحرمونه عاما )* ؟! ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ...و يأتيك بالأنباء من لم تزود .)) انتهى
ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أتحف القراء الكرام بكلام نفيس للعلامة محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله يرد فيه على من قال وزعم أن (الهجرة من بلاد الكفر ليست واجبة ) تتمما للفائدة التي من أجلها نقلنا كلام العلامة ناصر الدين رحمه الله ، ولما رأينا من تكالب ضعاف القلوب والإيمان من أهل الإسلام على الهجرة من ديار الإسلام إلى ديار الكفر ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ وهذا من جهلهم بأحكام الإسلام كما نص على ذلك الإمام أبوعبد الرحمن الألباني رحمه الله
قال العلامة محمد بن الشيخ عبد اللطيف رحمه في الدرر السنية ص 428
((بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
من محمد بن عبد اللطيف، إلى عبد الله بن علي الزحيفي، سلام على عباد الله الصالحين. أما بعد، فقد بلغنا عنك شبهة عظيمة، وزلة وخيمة، لا تكاد تصدر ممن يدعي أنه من المسلمين، وذلك أنك تزعم أن الهجرة ليست بواجبة، بل هي مستحبة، أو أنها منقطعة على الدوام، مستدلاً على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" 8. فليس الأمر كما زعمت، ولا ما إليه جنحت وقصدت، بل لم تفهم المراد من الحديث، والمقصود منه؛ ولكن لما غلب على قلبك من الهوى ومخالفة الحق، وما طبع عليه من الرين، بعدم الفرق بين القبيح والشين، واستحباب الحياة الدنيا وإيثارها على الآخرة، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى.
فإن معنى الحديث: أن مكة لما صارت بلد إسلام، ومعقل إيمان، لم تكن الهجرة منها واجبة; وأما إذا كانت البلاد مكة فما دونها، بلاد كفر ومحل شرك، فالهجرة منها واجبة متعينة، على كل من له قدرة، بنص الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحنيفية والملة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97].
قال ابن كثير في تفسير الآية: هذه الآية دالة على وجوب الهجرة، عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين؛ فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: بترك الهجرة، {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] أي: لِم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة؟ ولم يقولوا: كيف تصديقكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} [سورة النساء آية: 97]، أي: لا نقدر على الخروج ولا الذهاب في الأرض. {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} إلى قوله: {غَفُوراً رَحِيماً} [سورة النساء آية: 97-99]. انتهى.
وقال البيضاوي: الآية دالة على وجوب الهجرة، ففي الحديث: "من فر بدينه من أرض إلى أرض، استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم عليه السلام، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم". انتهى. وقال ابن حجر في فتح الباري: قال البخاري، رحمه الله تعالى: باب لا هجرة بعد الفتح، أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك، إشارة إلى أن حكم غير مكة في ذلك كحكمها، فلا تجب الهجرة من بلدة قد فتحها المسلمون.
أما قبل فتح البلد، فمن بها أحد ثلاثة أقسام:
الأول: قادر على الهجرة منها، ولم يمكنه إظهار دينه، ولا أداء واجباته، فالهجرة منها واجبة.
الثاني: قادر على الهجرة، يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته، فالهجرة منها مستحبة، لتكثير سواد المسلمين، ومعونتهم، وجهاد الكفار والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.
الثالث: عاجز بعذر من أسْر، أو مرض، أو غير ذلك من الأعذار، فهذا ممن عذر الله، فتجوز له الإقامة; فإن حمل على نفسه، وتكلف الخروج منها أجر. انتهى كلامه.
فانظر إلى قوله: لكنه يمكنه إظهار دينه، فإنه إذا حصل منه ذلك، لم تكن الهجرة واجبة في حقه، بل مستحبة، لأجل ما ذكره، رحمه الله؛ ولكن هذا القسم الثاني عزيز الوجود، فالله المستعان.
وقال الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، رحمه الله، في العقد الثمين: وقد زعم قوم أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام والإيمان، ليست واجبة، ولا متعينة في هذه الأزمان، وأن محكم عقدها مفسوخ، ووجوبها المستمر منسوخ، متمسكين من الدليل بما لا يروي الغليل، ولا يشفي القلب العليل، وذلك ظاهر قول خير البرية: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" ، وظاهر حديث: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" 9؛ وليس الأمر كما زعموا، ولا المعنى كما فهموا، بل ليس الأمر كما جزموا به وحكموا، وإنما المراد المقصود، والمنهج المسدود: الهجرة من مكة إلى المدينة، بعد فتحها للمسلمين، وزوال أوثان المشركين، وإضاءة أرجائها بأنوار الدين، ورفع قواعد التوحيد، وقصم كل جبار عنيد، لأن الله تعالى قد بدل الحال، والمحذور فيها قد زال، والمهاجرة منها تؤدي إلى الإحلال بأم القرى والتعطيل؛ فسد بعد ماضي تلك الحكمة وذلك السبيل.
وأما الهجرة من بلدان المشركين والكفار، وعدم السكن معهم والاستقرار، إلى ما للمسلمين من الديار، حيث لا يمكن إقامة دين للموحدين، ولا إظهار ولا تعزيز للإسلام ولا انتصار، فحكمها إلى الآن ثابت الوجوب، والإلزام، مستمر على مر السنين والأعوام، كما صرح بذلك الأئمة الأعلام؛ والآيات دالة على ذلك، دلالة صريحة، والأحاديث ثابتة صحيحة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} الآية [سورة النساء آية: 97]. وذكر كلام ابن كثير المتقدم.
وقال أبو داود في سننه، عن سمرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جامع المشرك أو سكن معه، فهو مثله" 10.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى: هذا الحديث على ظاهره، وهو: أن الذي يدعي الإسلام، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة والمنـزل، بحيث يعده المشركون منهم، فهو كافر إن ادعى الإسلام، إلا إن كان يظهر دينه، ولا يتولى المشركين.
ولهذا لما ادعى بعض الناس الذين أقاموا بمكة بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادعوا الإسلام، إلا أنهم أقاموا في مكة، يعدهم المشركون منهم، وخرجوا معهم يوم بدر كارهين للخروج، فقُتلوا. فقال الصحابة: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية [سورة النساء آية: 97]، فلم يعذر الله منهم إلا المستضعفين. انتهى. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين، ما لم تتراءى ناراهما" 11، رواه أبو داود؛ ولو لم يكن إلا هذا الحديث في الاستدلال، لكان كافياً بالمقصود وافياً.
وما أحسن ما قال ابن القيم، رحمه الله، في الكافية الشافية:
من لم يكن يكفيه ذان فلا كفا ........هُ الله شرَّ حوادث الأزمانِ
من لم يكن يشفيه ذان فلا شفا .........هُ الله في قلب ولا أبدانِ
من لم يكن يغنيه ذان رماه رَبْـ ........ـبُ العرش بالإعدام والحرمانِ
من لم يكن يهديه ذان فلا هدا ...........هُ الله سبيلَ الحق والإيمانِ
وكذلك تزعم أيضاً أنك تظهر دينك وتسب المشركين، فهذه طامة كبرى ومصيبة عظمى، قد دهى بها الشيطان كثيراً من الناس، من أشباهك وأمثالك؛ فغلطتم في إظهار الدين، وظننتم أنه مجرد الصلوات الخمس، والأذان والصوم وغير ذلك، وأنكم إذا جلستم في بعض المجالس الخاصة، قلتم: هؤلاء كفار، هؤلاء مشركون، وليس معهم من الدين شيء، وأنهم يعلمون أنا نبغضهم، وأنا على طريقة الوهابية، وتظنون أن هذا هو إظهار الدين، فأبطلتم به وجوب الهجرة.
فليس الأمر كما زعمتم، فإن الله سبحانه ذكر في كتابه المرادَ من إظهار الدين، وأنه ليس ما توهمتم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] إلى آخر السورة؛ فأمره أن يقول لهم: إنكم كافرون، وإنه بريء من معبوداتهم، وإنهم بريئون من عبادة الله، وهو قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3]، وقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية: 6]: تصريح بالبراءة من دينهم الذي هو الشرك، وتمسك بدينه الذي هو الإسلام؛ فمن قال ذلك للمشركين ظاهراً، في مجالسهم ومحافلهم وغشاهم به، فقد أظهر دينه. وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الممتحنة آية: 4].
قال شيخنا حمد بن عتيق، رحمه الله: فأخبر الله تعالى عن جميع المرسلين، أنهم تبرؤوا من الشرك والمشركين، فإن معنى قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: من المرسلين، وقوله: {وَبَدَا} أي: ظهر وبان؛ وهذا هو الواجب: أن تكون العداوة والبغضاء ظاهرة، يعلمها المشركون من المسلم، وتكون مستمرة. انتهى.
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105]، فذكر له البراءة من معبوداتهم، وتصريحه بالتوحيد في قوله: {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [سورة يونس آية: 104]، فذكر أنه لا يعبد إلا الله، وأنه من المسلمين الذين هم أعداء لهم، وأن الله أمره أن يكون حنيفاً، وحذره أن يكون من المشركين; هذا معنى كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب على الآية، رحمه الله.
فمن صرح لهم بذلك، فقد أظهر دينه وصرح بالعداوة؛ وهذا هو إظهار الدين، لا كما يظن الجهلة، من أنه إذا تركه الكفار، وخلوا بينه وبين أن يصلي، ويقرأ القرآن، ويشتغل بما شاء من النوافل، أنه يصير مظهراً لدينه. هذا غلط فاحش؛ فإن من يصرح بالعداوة للمشركين، والبراءة منهم، لا يتركونه بين أظهرهم، بل إما قتلوه، وإما أخرجوه إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، كما ذكره الله عن الكفار. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} الآية [سورة إبراهيم آية: 13]، وقال، إخباراً عن قوم شعيب: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} الآية [سورة الأعراف آية: 88]. وذكر عن أهل الكهف، أنهم قالوا: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20]. وهل اشتدت العداوة بين الرسل وقومهم، إلا بعد التصريح بمسبة دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم؟
وقال شيخ الإسلام والمسلمين، محيي ما اندرس من الملة والدين، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في ستة المواضع التي من السيرة النبوية: أنه لا يستقيم للإنسان إسلام، ولو وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22]. انتهى. فصرح الشيخ، رحمه الله، بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالتصريح للمشركين بالعداوة والبغضاء. وتأمل ما استدل به على ذلك، تجد الأمر واضحاً بحمد الله ، ولكن كما قيل شعراً:
فيا لك من آيات حق لو اهتدى .....بهن مريد الحق كن هواديا
ولكن على تلك القلوب أكنة ........فليست وإن أصغت تجيب المناديا
وأنت لم تكتف بمجرد إقامتك بين أظهر المشركين، وانتقالك إليهم، بل آل بك الأمر إلى المجادلة والمخاصمة، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} الآية [سورة غافر آية: 56]، وقال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} الآية [سورة غافر آية: 5].
وأنت قد عهد منك في سابق الأمر: الشدة، والغلظة على من تولى المشركين، وركن إليهم، ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8]. فتب إلى ربك واستغفر من ذنبك، وهاجر إلى الله والدار الآخرة، بالأجر العظيم والفضل العميم.
نسأل الله لنا ولإخواننا الثبات على الإسلام، ونعوذ به من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. والله أسأل أن ينصر دينه، وكتابه ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد. )) انتهى
قال العلامة جلال الدين السيوطي رحمه الله في الديباج على مسلم (3/ 397):
قال العلماء الهجرة من دار الحرب إلى دار السلام باقية إلى يوم القيامة وفي تأويل هذا الحديث قولان :
الأول : لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام وإنما تكون الهجرة من دار الحرب وهذا يتضمن معجزة له صلى الله عليه وسلم بأنها تبقى دار إسلام لا يتصور منها الهجرة
والثاني : معناه لاهجرة بعد الفتح فضلها كفضلها ما قبل الفتح كما قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل }))انتهى ( انظر شرح النووي على مسلم)
وقال الإمام محمد بن صالح بن محمد العثيمين رحمه الله في (شرح رياض الصالحين ج 1ص: 14):
وفي هذا: دليل على أن مكة لن تعود لتكون بلاد كفر بل ستبقى بلاد إسلام إلى أن تقوم الساعة أو إلى أن يشاء الله .
قَوْله : ( وَلَكِنْ جِهَاد وَنِيَّة )
قَالَ الطِّيبِيُّ وَغَيْره : هَذَا الِاسْتِدْرَاك يَقْتَضِي مُخَالَفَة حُكْم مَا بَعْده لِمَا قَبْله ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهِجْرَة الَّتِي هِيَ مُفَارَقَة الْوَطَن الَّتِي كَانَتْ مَطْلُوبَة عَلَى الْأَعْيَان إِلَى الْمَدِينَة اِنْقَطَعَتْ إِلَّا أَنَّ الْمُفَارَقَة بِسَبَبِ الْجِهَاد بَاقِيَة ، وَكَذَلِكَ الْمُفَارَقَة بِسَبَبِ نِيَّة صَالِحَة كَالْفِرَارِ مِنْ دَار الْكُفْر وَالْخُرُوج فِي طَلَب الْعِلْم وَالْفِرَار بِالدِّينِ مِنْ الْفِتَن وَالنِّيَّة فِي جَمِيع ذَلِكَ (12).
قَوْله : ( وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا )
قَالَ النَّوَوِيّ : يُرِيد أَنَّ الْخَبَر الَّذِي اِنْقَطَعَ بِانْقِطَاعِ الْهِجْرَة يُمْكِن تَحْصِيله بِالْجِهَادِ وَالنِّيَّة الصَّالِحَة ، وَإِذَا أَمَرَكُمْ الْإِمَام بِالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَاد وَنَحْوه مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة فَاخْرُجُوا إِلَيْهِ .
وَقَالَ الطِّيبِيُّ : قَوْله " وَلَكِنْ جِهَاد " مَعْطُوف عَلَى مَحَلّ مَدْخُول " لَا هِجْرَة " أَيْ الْهِجْرَة مِنْ الْوَطَن إِمَّا لِلْفِرَارِ مِنْ الْكُفَّار أَوْ إِلَى الْجِهَاد أَوْ إِلَى غَيْر ذَلِكَ كَطَلَبِ الْعِلْم ، فَانْقَطَعَتْ الْأُولَى وَبَقِيَ الْأُخْرَيَانِ فَاغْتَنَمُوهُمَا وَلَا تَقَاعَدُوا عَنْهُمَا ، بَلْ إِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا .
قُلْت ( الحافظ ) : وَلَيْسَ الْأَمْر فِي اِنْقِطَاع الْهِجْرَة مِنْ الْفِرَار مِنْ الْكُفَّار عَلَى مَا قَالَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْرِير ذَلِكَ .
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : الْهِجْرَة هِيَ الْخُرُوج مِنْ دَارَ الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام ، كَانَتْ فَرْضًا فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَمَرَّتْ بَعْده لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسه ، وَاَلَّتِي اِنْقَطَعَتْ أَصْلًا هِيَ الْقَصْد إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ(13 ) .
قال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في ( شرح رياض الصالحين ج1ص: 15): ((قوله صلى الله عليه وسلم :( وإذا استنفرتم فانفروا ))
يعني: إذا استنفركم ولي أمركم للجهاد في سبيل الله فانفروا وجوباً، وحينئذ يكون الجهاد فرض عين .( 14)
فلا يتخلف أحد إلا من عذره الله، لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليما ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً) التوبة 38 ـ 39 وهذا أحد المواضع التي يكون فيها الجهاد فرض عين .
والموضع الثاني: إذا حصر بلدة العدو، أي جاء العدو حتى وصل إلى البلد وحصر البلد صار الجهاد فرض عين ووجب على كل أحد أن يقاتل حتى على النساء والشيوخ القادرين في هذه الحال لأن هذا قتال دفاع .
وفرق بين قتال الدفاع وقتال الطلب .
فيجب في هذه الحال أن ينفر الناس كلهم للدفاع عن بلدهم .
الحالة الثالثة: إذا حضر الصف والتقى الصفان، صف الكفار وصف المسلمين صار الجهاد حينئذ فرض عين ولا يجوز لأحد أن ينصرف كما قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير }الأنفال 15 ـ 16 وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من السبع الموبقات .
الموضع الرابع: إذا احتيج إلى الإنسان بأن يكون السلاح لا يعرفه إلا فرد من الأفراد وكان الناس يحتاجون إلى هذا الرجل لاستعمال هذا السلاح الجديد مثلاً فإنه يتعين عليه أن يجاهد وإن لم يستنفره الإمام وذلك لأنه محتاج إليه .
ففي هذه المواطن الأربعة، يكون الجهاد فرض عين .
وما سوى ذلك فإنه يكون فرض كفاية .
قال أهل العلم: ويجب على المسلمين أن يكون منهم جهاد في العام مرة واحدة يجاهد أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن لأنه وطن، لأن الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم لكن المسلم يدافع عن دين الله، فيدافع عن وطنه لا لأنه وطنه مثلاً، ولكن لأنه بلد إسلامي فيدافع عنه حماية للإسلام .
ولهذا يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم يجب علينا أن نذكر جميع العامة بأن الدعوة إلى تحرير الوطن وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة دينية، ويقال: إننا ندافع عن ديننا قبل كل شيء لأن بلدنا بلد دين وإسلام يحتاج إلى حماية ودفاع، فلابد أن ندافع عنه بهذه النية .
أما الدفاع بنية الوطنية أو بنية القومية فهذا يكون من المؤمن والكافر ولا ينفع صاحبه يوم القيامة ، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليرى مكانه أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله انتبه إلى هذا القيد .
إذا كنت تقاتل لوطنك فأنت والكافر سواء، لكن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ممثلة في بلدك لأن بلدك بلد الإسلام ففي هذه الحال ربما يكون القتال قتالاً في سبيل الله
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - أي يجرح - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثغب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك)
فانظر كيف اشترط النبي صلى الله عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان يقاتل في سبيل الله ،فيجب على طلبة العلم أن يبينوا هذا والله الموفق .)) انتهى
ـ إِنَّ هَذَا الْحَدِيث يُمْكِن تَنْزِيله عَلَى أَحْوَال السَّالِك لِأَنَّهُ أَوَّلًا يُؤْمَر بِهِجْرَةٍ مَأْلُوفه حَتَّى يَحْصُل لَهُ الْفَتْح ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُل لَهُ أَمْر بِالْجِهَادِ وَهُوَ مُجَاهَدَة النَّفْس وَالشَّيْطَان مَعَ النِّيَّة الصَّالِحَة فِي ذَلِكَ (15) .
ـ قال الإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار 12/ 268):
((وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ ، فَقَالَ الْخَطَّابِيِّ وَغَيْرُهُ : كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرْضًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ وَحَاجَتُهُمْ إلَى الِاجْتِمَاعِ ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ، فَسَقَطَ فَرْضُ الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ وَبَقِيَ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ أَوْ نَزَلَ بِهِ عَدُوٌّ انْتَهَى .
قَالَ الْحَافِظُ : وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ لِيَسْلَمَ مِنْ أَذَى مَنْ يُؤْذِيهِ مِنْ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَذِّبُونَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دِينِهِ ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ؟ قَالُوا كُنَّا فِيهَا } الْآيَةَ ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ فِي حَقِّ مِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْكُفْرِ وَقَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إذَا قَدَرَ عَلَى إظْهَارِ الدِّينِ فِي بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ فَقَدْ صَارَتْ الْبَلَدُ بِهِ دَارَ إسْلَامٍ ، فَالْإِقَامَةُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الرِّحْلَةِ عَنْهَا لِمَا يُتَرَجَّى مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الرَّأْيِ مِنْ الْمُصَادَمَةِ لِأَحَادِيثِ الْبَابِ الْقَاضِيَةِ بِتَحْرِيمِ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيِّ أَيْضًا : إنَّ الْهِجْرَةَ اُفْتُرِضَتْ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ إلَى حَضْرَتِهِ لِلْقِتَالِ مَعَهُ وَتَعَلُّمِ شَرَائِع الدِّينِ .
وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ حَتَّى قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْقَبَائِلِ انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ الْوَاجِبَةُ وَبَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ .
وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ : يُحْتَمَلُ الْجَمْعُ بِطَرِيقٍ أُخْرَى ، فَقَوْلُهُ : " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ " أَيْ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَقَوْلُهُ : " لَا تَنْقَطِعُ " أَيْ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ : وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : " لَا هِجْرَةَ " أَيْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ بِنِيَّةِ عَدَمِ الرُّجُوعِ إلَى الْوَطَنِ الْمُهَاجَرِ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنٍ ، فَقَوْلُهُ : " لَا تَنْقَطِعُ " أَيْ هِجْرَةُ مَنْ هَاجَرَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَصْفِ مِنْ الْأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ .
وَقَدْ أَفْصَحَ ابْنُ عُمَرَ بِالْمُرَادِ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بِلَفْظِ { انْقَطَعَتْ الْهِجْرَةُ بَعْدَ الْفَتْحِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ } أَيْ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا دَارُ كُفْرٍ فَالْهِجْرَةُ وَاجِبَةٌ مِنْهَا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَخَشِيَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَى دِينِهِ ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ أَنْ لَا يَبْقَى فِي الدُّنْيَا دَارُ كُفْرٍ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَنْقَطِعُ لِانْقِطَاعِ مُوجِبِهَا .
وَأَطْلَقَ ابْنُ التِّينِ أَنَّ الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ وَاجِبَةً ، وَأَنَّ مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ كَافِرًا .
قَالَ الْحَافِظُ : وَهُوَ إطْلَاقٌ مَرْدُودٌ .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : الْهِجْرَةُ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَكَانَتْ فَرْضًا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَمَرَّتْ بَعْدَهُ لِمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَاَلَّتِي انْقَطَعَتْ أَصْلًا هِيَ الْقَصْدُ إلَى حَيْثُ كَانَ .
وَقَدْ حَكَى فِي الْبَحْرِ أَنَّ الْهِجْرَةَ عَنْ دَارِ الْكُفْرِ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا حَيْثُ حُمِلَ عَلَى مَعْصِيَةِ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ طَلَبَهَا الْإِمَامُ بِقُوَّتِهِ لِسُلْطَانِهِ .
وَقَدْ ذَهَبَ جَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ وَبَعْضُ الْهَادَوِيَّةِ إلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَنْ دَارِ الْفِسْقِ قِيَاسًا عَلَى دَارِ الْكُفْرِ ، وَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ .
وَالْحَقُّ عَدَمُ وُجُوبِهَا مِنْ دَارِ الْفِسْقِ لِأَنَّهَا دَارُ إسْلَامِ ، وَإِلْحَاقُ دَارِ الْإِسْلَامِ بِدَارِ الْكُفْرِ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ الْمَعَاصِي فِيهَا عَلَى وَجْهِ الظُّهُورِ لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِعِلْمِ الرِّوَايَةِ وَلَا لِعِلْمِ الدِّرَايَةِ ، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَفَاصِيلِ الدُّورِ وَالْأَعْذَارِ الْمُسَوِّغَةِ لِتَرْكِ الْهِجْرَةِ مَبَاحِثُ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِهَا .)) انتهى
ـ لطيفة: استدل الامام الشوكاني رحمه الله بهذا الحديث لما طلب منه أن يجعل شرحا لصحيح البخاري فقال مجيبا عن سؤال السائل ("لا هجرة بعد الفتح".)) هذا منه رحمه ووجهة نظره وكلامه عظيم وأن فتح الباري لا يستغنى عنه طالب العلم مهم بلغ من العلم فهو الأم ومنه يستقى ولكن التحقيق والتحرير في هذه المسألة ما قاله الشيخ العالم عبد الكريم الخضير حفظه الله في شرحه (كتاب التوحيد ) عند مقدمة الشرح : ((قد يقول قائل: إن المؤلفات قد تبلغ المئات في فن واحد، بل في شرح كتاب واحد، فكم من تفسير ألفه المسلمون على كتاب الله -جل وعلا-؟ لماذا لم يكتفي بعضهم بمؤلف البعض الآخر؟ لماذا لم يكتفي المتأخر بمؤلف المتقدم؟ ومازال العلماء يفسرون كلام الله إلى يومنا هذا، بل وإلى ما شاء الله، ولم يكتفِ بعضهم ببعض، وقل مثل هذا في شروح الأحاديث، فإذا كان .. ، إذا كانت التفاسير التي تشرح كتاب الله -جل وعلا- لا يمكن أن يحاط بها، فإذا وجد من الحواشي على تفسير واحد أكثر من مائة حاشية، فكيف بجميع التفاسير؟
ما قال: إنه يُكتفى بتفسير الطبري عن تفسير البغوي، عن تفسير ابن كثير، عن كذا كذا، والحاجة مازالت داعية إلى التفسير، ومازال العلماء كل من جاء يرى أن هناك جانب من جوانب التفسير لم توفَّ حقَّها، فلذا تجدون لكل تفسير خصائص لا توجد في غيره، وأما التفاسير التي هي مجرد نقل من غير تحرير ولا تحقيق ولا تجديد، هذه حكمها حكم العدم.
وكذلك الشروح، لو قال قائل: إن البخاري مازال بحاجة إلى شرح، مع أنه شرح شروحاً كثيرة جداً، مطولات ومختصرات، حتى قال الشوكاني -رحمه الله- لما سئل -طلب منه أن يشرح البخاري- قال: "لا هجرة بعد الفتح".
وهل معنى هذا أن الحاجة سُدَّت بفتح الباري فقط؟ لا، فتح الباري لا يغني عن عمدة القاري، عمدة القاري لا تغني عن إرشاد الساري، وكلها لا تغني عن شرح ابن رجب، وهكذا.)) انتهى
ـ يستدل بالحديث أن الأماكن تتفاضل بحسب ما فيها من الإيمان والكفر كما إن العبد يتفاضل بحسب ما فيه من الإيمان والطاعة والكفر والمعصية
قال شيخ الاسلام أبو العباس الحراني رحمه الله في " مجموع الفتاوى"( 18 / 281 ) : " و كلاهما حق ، فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه ، و هي الهجرة إلى المدينة من مكة و غيرها من أرض العرب ، فإن هذه الهجرة كانت مشروعة لما كانت مكة و غيرها دار كفرو حرب ، و كان الإيمان بالمدينة ، فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبة لمن قدر عليها ، فلما فتحت مكة و صارت دار الإسلام و دخلت العرب في الإسلام صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام ، فقال : " لا هجرة بعد الفتح " ، وكون الأرض دار كفر و دار إيمان ، أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها : بل هي صفة عارضة بحسب سكانها ، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت ، و كل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت ، و كل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت ، فإن سكنها غير ما ذكرنا و تبدلت بغيرهم فهي دارهم و كذلك المسجد إذا تبدل بخمارة أو صار دار فسق أو دار ظلم أوكنيسة يشرك فيها بالله كان بحسب سكانه ، و كذلك دار الخمر و الفسوق و نحوها إذا جعلت مسجدا يعبد الله فيه جل وعز كان بحسب ذلك ، و كذلك الرجل الصالح يصير فاسقا و الكافر يصير مؤمنا أو المؤمن يصير كافرا أو نحو ذلك ، كل بحسب انتقال الأحوال من حال إلى حال)) انتهى ( انظر السلسلة الصحيحة 6/ 356)
والحمد لله وحده وصلى الله على المصطفى محمد وعلى أله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلي يوم الدين والله أعلم

(1) السلسلة الصحيحة (1/ 289):
ثم أخرجه من طريق أبي عثمان النهدي عن مجاشع بن مسعود قال :" انطلقت بأخي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح ، فقلت : يا رسول الله بايعه على الهجرة ، فقال : مضت الهجرة لأهلها ، قال : فقلت فماذا ؟قال : على الإسلام و الجهاد " .زاد في رواية أخرى عن أبي عثمان النهدي :" قال : فلقيت معبدا بعد ، و كان هو أكبرهما ، فسألته ؟ فقال : صدق مجاشع " و إسناده صحيح على شرط الشيخين .
و يلاحظ القارىء أن المبايع في الرواية الأولى ابن أخي مجاشع ، و في هذه أنه هو أخوه نفسه و اسمه معبد ، و هو أصح . و الله أعلم .
[2] متفق عليه ، و هو مخرج في" الإرواء " ( 1057 )
[3] إسناده صحيح ، و هو مخرج في " المشكاة " ( 2725 ) .
[4] رواه مسلم و غيره ، و هو مخرج في " الإرواء " ( 1200 ) .
[5] قلت : و حسنه الترمذي ، و صححه الحاكم و الذهبي ، و هو مخرج في تعليقي على" المختارة " ( رقم 307 ) .
[6] بل هو مرفوع ، كذلك رواه ابن حبان و غيره بسند صحيح ، و هو مخرج في "الصحيحة " ( 1068 ) .
[7] وقع في هذه الآية خطأ مطبعي في الأصل ، كما سقط منه ما بين المعقوفتين في
الآية الأولى . اهـ .
8 البخاري: الجهاد والسير (2783), ومسلم: الحج (1353), والترمذي: السير (1590), والنسائي: البيعة (4170), وأبو داود: الجهاد (2480), وأحمد (1/226, 1/315, 1/355), والدارمي: السير (2512).
9 البخاري: الإيمان (10), والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996), وأبو داود: الجهاد (2481), وأحمد (2/192, 2/205, 2/209, 2/212, 2/224).
10 أبو داود: الجهاد (2787).
11 الترمذي: السير (1604), والنسائي: القسامة (4780), وأبو داود: الجهاد (2645)
(12) (13) شرح فتح الباري
(14) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري 8/ 432): ((وَفِيهِ وُجُوب تَعْيِين الْخُرُوج فِي الْغَزْو عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ الْإِمَام ، وَأَنَّ الْأَعْمَال تُعْتَبَر بِالنِّيَّاتِ .))
(15)فتح الباري (8/ 432)