وعن أبي عبدِ اللهِ جابر بن عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضي اللهُ عنهما قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في غَزَاةٍ فَقالَ : (( إِنَّ بالمدِينَةِ لَرِجَالاً ما سِرْتُمْ مَسِيراً ، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِياً ، إلاَّ كَانُوا مَعَكمْ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ )) .
وَفي روَايَة : (( إلاَّ شَرَكُوكُمْ في الأجْرِ )) رواهُ مسلمٌ .
ورواهُ البخاريُّ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ : رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( إنَّ أقْواماً خَلْفَنَا بالْمَدِينَةِ مَا سَلَكْنَا شِعْباً وَلاَ وَادياً ، إلاّ وَهُمْ مَعَنَا ؛ حَبَسَهُمُ العُذْرُ )) .
ـ التخريج للحديث
أخرجه البخاري (9/ 431) (2627) قال : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ مُوسَى حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْأَوَّلُ أَصَحُّ
وفي (13/ 334) (4071 ) قال : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وأخرجه مسلم (10/ 21) (3534) قال : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه
و حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ح و حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ قَالَا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ح و حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ كُلُّهُمْ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ (إِلَّا شَرِكُوكُمْ فِي الْأَجْرِ )
الشرح
قوله :(ولا قطعتم وادياً) فيه إشارة إلى قوله تعالى: { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) } (التوبة)
قال العلامة الإمام عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي في كتابه العظيم (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص: 355):
((ففي هذه الآيات أشد ترغيب وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل اللّه، والاحتساب لما يصيبهم فيه من المشقات، وأن ذلك لهم رفعة درجات، وأن الآثار المترتبة على عمل العبد له فيها أجر كبير.)) انتهى
قَوْلُهُ : ( إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ اَلْعُذْرُ )
قال الإمام ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (8/ 453):
قَوْلُهُ : ( إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ اَلْعُذْرُ ) الْمُرَادُ بِالْعُذْرِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمَرَضِ وَعَدَمُ اَلْقُدْرَةِ عَلَى اَلسَّفَرِ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ " حَبَسَهُمُ اَلْمَرَضُ " وَكَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اَلْأَغْلَبِ
وقال العلامة محمد بن عبد الهادي السندي رحمه الله في ( حاشية السندي على ابن ماجه 5/ 394):
قَوْله ( حَبَسَهُمْ الْعُذْر )
أَيْ وَإِلَّا فَنِيَّتُهُمْ الْجِهَاد وَعَادَتهمْ الْخُرُوج إِلَيْهِ وَالْمَعْذُور يُكْتَبُ لَهُ الْعَمَل الَّذِي يَعْتَادُهُ إِذَا مَنَعَهُ الْعُذْر عَنْ ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم
ـ من فوائد الحديث أَنَّ اَلْمَرْءَ يَبْلُغُ بِنِيَّتِهِ أَجْرَ الْعَامِلِ إِذَا مَنَعَهُ اَلْعُذْر عَنْ اَلْعَمَلِ كما ذكر ذلك الإمام السندي رحمه الله في حاشيته على ابن ماجه (1)
قال الإمام أبو الحسن علي بن بطال القرطبي رحمه الله في (شرح البخاري 9/ 57) :
((قال المهلب: فيه دليل على أن من حبسه العذر عن الجهاد وغيره من أعمال البر مع نيته فيه فله أجر المجاهد والعامل؛ لأن نص الآية على المفاضلة بين المجاهد والقاعد ثم استثنى من المفضولين أولى الضرر، وإذا استثناهم من المفضولين فقد ألحقهم بالفاضلين، وقد بين النبى - - صلى الله عليه وسلم - - هذا المعنى، فقال: « إن بالمدينة أقوامًا ما سلكنا واديًا، وشعبًا إلا وهم معنا حبسهم العذر » وقد جاء عن الرسول فيمن كان يعمل شيئًا من الطاعة ثم حبسه عنه مرض أو غيره أنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح، وكذلك من نام عن حزبه نومًا غالبًا كتب له أجر حزبه، وكان نومه صدقة عليه، وهذا معنى قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} أى غير مقطوع بزمانة أو كبر أو ضعف، ففى هذا أن الإنسان يبلغ بنيته أجر العامل إذا كان لا يستطيع العمل الذى ينويه)) انتهى
وقال العلامة أبو عبد الله محمد القرطبي رحمه الله في (الجامع لأحكام القرآن 8/ 292):
(( روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه) قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: (حبسهم العذر).
أخرجه مسلم من حديث جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة
فقال: (إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم المرض).
فأعطى صلى الله عليه وسلم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل.
وقد قال بعض الناس: إنما يكون الأجر للمعذور غير مضاعف، ويضاعف للعامل المباشر.
قال ابن العربي ـ رحمه الله ـ : وهذا تحكم على الله تعالى وتضييق لسعة رحمته، وقد عاب بعض الناس فقال: إنهم يعطون الثواب مضاعفا قطعا، ونحن لا نقطع بالتضعيف في موضع فإنه مبني على مقدار النيات، وهذا أمر مغيب، والذي يقطع به أن هناك تضعيفا وربك أعلم بمن يستحقه.
قلت: الظاهر من الأحاديث والآي المساواة في الأجر، منها قوله عليه الصلاة و السلام: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) وقوله: (من توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها).
وهو ظاهر قوله تعالى: " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " [ النساء: 100 ] وبدليل أن النية الصادقة هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها صاحبها لمانع منع منها فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل ويزيد عليه، لقوله عليه السلام: (نية المؤمن خير من عمله).
والله أعلم)) انتهى
وقال في (5/ 342):
(( قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَهْلُ الضَّرَرِ هُمْ أَهْلُ الْأَعْذَارِ إِذْ قَدْ أَضَرَّتْ بِهِمْ حَتَّى مَنَعَتْهُمُ الْجِهَادَ. وَصَحَّ وَثَبَتَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ- وَقَدْ قَفَلَ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلَا سِرْتُمْ مَسِيرًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ أُولَئِكَ قَوْمٌ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) .
فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ صَاحِبَ الْعُذْرِ يُعْطَى أَجْرُ الْغَازِي، فَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُ مُسَاوِيًا، وَفِي فَضْلِ اللَّهِ مُتَّسَعٌ، وَثَوَابُهُ فَضْلٌ لَا اسْتِحْقَاقٌ، فَيُثِيبُ عَلَى النِّيَّةِ الصادقة مالا يُثِيبُ عَلَى الْفِعْلِ. وَقِيلَ: يُعْطَى أَجْرَهُ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ فَيَفْضُلُهُ الْغَازِي بِالتَّضْعِيفِ لِلْمُبَاشَرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا) وَلِحَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ) الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ ) ( 2) وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اكْتُبُوا لِعَبْدِي مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الصِّحَّةِ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ أو أقبضه إلي) .
وقال الإمام أبو العباسأحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني رحمه الله في ( منهاج السنة النبوية 8/ 217):
(( ثم إن الرجل إذا قصد الخير قصدا جازما وعمل منه ما يقدر عليه كان له أجر كامل
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح (إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ، قالوا وهم في المدينة ؟ قال وهم بالمدينة حبسهم العذر)
ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الصحيح
(من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من أتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا) وهذا مبسوط في موضع آخر)) انتهى
وقال رحمه الله في مجموع فتاوى (2/ 127):
(( فَلَيْسَ كُلُّ مَا فُضِّلَ بِهِ الْفَاضِلُ يَكُونُ مَقْدُورًا لِمَنْ دُونَهُ فَكَذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ وَلَا أَكْثَرُهُمْ فَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَحَقَّقُوا بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي فَضَّلَ اللَّهُ بِهَا غَيْرَهُمْ وَلَا تَرَكُوا وَاجِبًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ مِنْ الْمَوَاهِبِ وَالْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } وَقَالَ : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } . وَمِثْلُ هَذِهِ السَّكِينَةِ قَدْ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَجَزَاءً عَلَى عَمَلٍ سَابِقٍ كَمَا قَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } كَمَا قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } وَكَمَا قَالَ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ }
وَلِهَذَا قِيلَ : مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ؛ وَهَذَا الْجِنْسُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ ؛ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ هُوَ أَيْضًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَإِقْدَارِهِ لَهُمْ ؛ لَكِنَّ الْأُمُورَ قِسْمَانِ :
مِنْهُ مَا جِنْسُهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ لِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ
وَمِنْهُ مَا جِنْسُهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُمْ .
إذَا قِيلَ : إنَّ اللَّهَ يُعْطِي مَنْ أَطَاعَهُ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ يَكُونُ بِهَا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَعْنَى ، قَالَ تَعَالَى : { إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَدْ قَالَ : { إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ وَهَذَا الثَّبَاتُ يُوحِي إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُذَمُّ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ ذَاكَ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَفْضُولُ تَرَكَ وَاجِبًا
فَيُقَالُ : وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يُؤْمَرُ الْقَادِرُ عَلَى الْفِعْلِ بِمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَاجِزُ عَنْهُ وَيُؤْمَرُ بَعْضُ النَّاسِ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ ؛ لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ قَدْ يُعْطَى الْإِنْسَانُ مِثْلَ أَجْرِ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا وَيُرِيدُهَا جُهْدَهُ وَلَكِنَّ بَدَنَهُ عَاجِزٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } فَاسْتَثْنَى أُولِي الضَّرَرِ . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } . وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري : { هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ : { إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ : رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَتَّقِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ } . وَلَفْظُ ابْنِ ماجه : { مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ : رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْت فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْتَبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَرَجُلٍ لَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا وَلَا مَالًا وَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْت مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ } . كَالشَّخْصَيْنِ إذَا تَمَاثَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ مَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا وَحُبًّا وَقُوَّةً وَحَالًا وَمَقَامًا فَقَدْ يَتَمَاثَلَانِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبَدَنِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَدَنُ الْآخَرِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : إنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَالْمُنَافِقُ قُوَّتُهُ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ ذُو الصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } وَقَدْ قَالَ : { رَأَيْت كَأَنِّي أَنْزِعُ عَلَى قَلِيبٍ فَأَخَذَهَا ابْن أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ فِي يَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ حَتَّى صَدَرَ النَّاسُ بِعَطَنِ } فَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَضْعَفُ وَسَوَاءٌ أَرَادَ قَصْرَ مُدَّتِهِ أَوْ أَرَادَ ضَعْفَهُ عَنْ مِثْلِ قُوَّةِ عُمَرَ فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْوَى إيمَانًا مِنْ عُمَرَ . وَعُمَرُ أَقْوَى عَمَلًا مِنْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ ؛ وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ قُوَّةِ الْعَمَلِ وَصَاحِبُ الْإِيمَانِ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِ غَيْرِهِ ، وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سِيرَتِهِ مَكْتُوبٌ مِثْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ . وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُزِنَ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ } وَكَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَحْصُلُ لِعُمَرِ بِسَبَبِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَهُوَ قَدْ دَعَاهُ إلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ بِجُهْدِهِ وَالْمُعِينُ عَلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ يُرِيدُهُ إرَادَةً جَازِمَةً كَانَ كَفَاعِلِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } وَقَالَ : { مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ } وَقَالَ :{مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ { مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بَلْ يَتَفَاضَلَانِ وَيَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ فَلَا يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ لَمْ يَهِبْهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا وَهَبَهُ لِلْفَاضِلِ وَلَا أَعْطَى قَلْبَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَنَالُ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الْفَاضِلَ مَا أَعْطَى الْمَفْضُولَ وَلِهَذَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْفَاضِلُ أَقَلَّ عَمَلًا مِنْ الْمَفْضُولِ كَمَا فَضَّلَ اللَّهُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُدَّةَ نُبُوَّتِهِ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً - عَلَى نُوحٍ وَقَدْ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَفَضَّلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ عَمِلُوا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَأَعْطَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجْرَيْنِ وَأَعْطَى كُلًّا مِنْ أُولَئِكَ أَجْرًا أَجْرًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ وَكَانَ أُولَئِكَ أَكْثَرَ عَمَلًا ؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَهُوَ فَضْلُهُ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَفَضَّلَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَخَصَّهُمْ بِهَا .
وَهَكَذَا سَائِرُ مَنْ يُفَضِّلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُفَضِّلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا التَّفْضِيلَ بِالْجَزَاءِ كَمَا يَخُصُّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ بِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَبِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْيَقِينَ وَالصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْإِخْلَاصَ ؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا فَضَّلَهُ فِي الْجَزَاءِ بِمَا فَضَّلَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } { وَلَا تُؤْمِنُوا إلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وَقَالَ : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ })) انتهى
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في( بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيارفي شرح جوامع الأخبار ص: 8):
والأعمال إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العامل من الإيمان والإخلاص، حتى إن صاحب النية الصادقة - وخصوصا إذا اقترن بها ما يقدر عليه من العمل - يلتحق صاحبها بالعامل ، قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]
وفي الصحيح مرفوعا «إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ ما كان يعمل صحيحا مقيما» ، «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم - أي: في نياتهم وقلوبهم وثوابهم - حبسهم العذر» وإذا هم العبد بالخير، ثم لم يقدر له العمل، كتبت همته ونيته له حسنة كاملة.)) انتهى
ـ أيضا مما ينبه عليه في هذا المقام ومن باب الشيء بالشيء يذكر أن مما هو مقرر من قواعد الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل أو مقدمات الفعل نزل صاحبه فى الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام فدل هذا على أن من سعى إلى فعل المحرم فعجز عنه فهو في الأثم كالفاعل
قال الإمام ابن تيمية الحراني رحمه الله في (مجموع فتاوى 3/ 235):
(( أَنَّ الْهِمَّةَ إذَا صَارَتْ عَزْمًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يُؤَاخَذُ بِهَا احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ : { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } الْحَدِيثَ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ قَتْلَ الْآخَرِ وَهَذَا لَيْسَ عَزْمًا مُجَرَّدًا ؛ بَلْ هُوَ عَزْمٌ مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ ؛ لَكِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إتْمَامِ مُرَادِهِ وَهَذَا يُؤَاخَذُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ اجْتَهَدَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَسَعَى فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَإِنَّهُ آثِمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ كَالشَّارِبِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ شُرْبٌ وَكَذَلِكَ مَنْ اجْتَهَدَ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ آثِمٌ كَالْفَاعِلِ وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي قَتْلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِ كَمَا جَعَلَ الدَّاعِيَ إلَى الْخَيْرِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْمَدْعُوِّ وَوِزْره لِأَنَّهُ أَرَادَ فِعْلَ الْمَدْعُوِّ وَفِعْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْفَاعِلِ وَوِزْرِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ . وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي الْآيَةِ أَنَّ { أُولِي الضَّرَرِ } نَوْعَانِ :
نَوْعٌ لَهُمْ عَزْمٌ تَامٌّ عَلَى الْجِهَادِ وَلَوْ تَمَكَّنُوا لَمَا قَعَدُوا وَلَا تَخَلَّفُوا وَإِنَّمَا أَقْعَدَهُمْ الْعُذْرُ فَهُمْ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } وَهُمْ أَيْضًا كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري { هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } وَكَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا } فَأَثْبَتَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ عَزْمَهُ تَامٌّ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْعُذْرُ .
و النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ " أُولِي الضَّرَرِ " الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ عَزْمٌ عَلَى الْخُرُوجِ فَهَؤُلَاءِ يُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ الْخَارِجُونَ الْمُجَاهِدُونَ وَأُولُو الضَّرَرِ الْعَازِمُونَ عَزْمًا جَازِمًا عَلَى الْخُرُوجِ )) انتهى
وقال الإمام شيخ الاسلام أبوعبدالله محمد بن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه القيم (طريق الهجرتين وباب السعادتين ص: 418 ـ 419 ـ 420 ط المكتبة العصرية بيروت ) عند تفسير قوله تعالى : {لا يَسْتَوِى القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّل اللهَ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلا وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 95- 96] ، فنفى سبحانه وتعالى التسوية بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين، ثم أخبر عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة ثم أخبر عن تفضيلهم عليهم درجات.
وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من الناس من جهة أن القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدون بدرجات إن كانوا هم القاعدون الذين فضل عليهم أولو الضرر فيكون المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقاً، وعلى هذا فما وجه استثناءِ أُولى الضرر من القاعدين وهم لا يستوون والمجاهدين أصلاً؟ فيكون حكم المستثنى والمستثنى منه واحداً، فهذا وجه الإشكال، ونحن نذكر ما قاله فى الأية ثم نذكر ما يزيل الإشكال بحمد الله......
إلى أن قال رحمه الله : ولكن بقى أن يقال: إذا كان المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقاً لزم أن لا يستوى مجاهد وقاعد مطلقاً، فلا يبقى فى تقييد القاعدين بكونهم من غير أُولى الضرر فائدة، فإنه لا يستوى المجاهدون والقاعدون من أُولى الضرر أيضاً.
وأيضاً فإن القاعدين المذكورين فى الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولى الضرر لا القاعدون الذين هم أولوا الضرر، فإنهم لم يذكر حكمهم فى الآية، بل استثناهم وبين أن التفضيل على غيرهم، فاللام فى "القاعدين" للعهد والمعهود هم غير أولى الضرر لا المضرورون
وأيضاً فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم" قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة حبسهم العذر"،
وعلى هذا فالصواب أن يقال: الآية دلت على أن القاعدين من غير أُولى الضرر لا يستوون هم والمجاهدون، وسكت عن القاعدين من أولى الضرر فلم يدل على حكمهم بطريق منطوقها عن حكمهم بطريق منطوقها ولا يدل مفهومها على مساواتهم للمجاهدين.
بل هذا النوع منقسم إلى معذور من أهل الجهاد غلبه عذره وأقعده عنه ونيته جازمة لم يتخلف عنها مقدورها، وإنما أقعده العجز، فهذا الذي تقتضيه أدلة الشرع أن له مثل أجر المجاهد.
وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفى التسوية، وهذا لأن قاعدة الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل أو مقدمات الفعل نزل صاحبه فى الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار"، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".
وفى الترمذى ومسند الإمام أحمد من حديث أبى كبشة الأنمارى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتقى فى ماله ربه ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل [عند الله] ، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو يقول: لو أن لى مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، وهما فى الأجر سواءٌ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو لا يتقى فى ماله ربه، ولا يصل به رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأسوإِ المنازل عند الله، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لى مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، وهما فى الوزر سواءٌ"، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن وزر الفاعل والناوى الذى ليس مقدوره إلا بقوله دون فعله سواءٌ، لأنه أتى بالنية ومقدوره التام، وكذلك أجر الفاعل والناوى الذى اقترن قوله بنيته. وكذلك المقتول الذى سل السيف وأراد به قتل أخيه المسلم فقتل، نزل منزلة القاتل لنيته التامة التى اقترن بها مقدورها من السعى والحركة.
ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، فإن بدلالته ونيته نزل منزلة الفاعل. ومثله: "من دعا إلى هدى فله مثل أُجور من اتبعه"، ومن دعا إلى ضلالة عليه من الوزر مثل آثام من تبعه لأجل نيته واقتران مقدورها بها من الدعوة، ومثله: "إذ جاءَ المصلى إلى المسجد ليصلى جماعة فأدركهم وقد صلوا فصلى وحده كتب له مثل أجر صلاة الجماعة بنيته وسعيه"، كما قد جاءً مصرحاً به فى حديث مروي.
ومثل هذا من كان له ورد يصليه من الليل فنام ومن نيته أن يقوم إليه فغلب عينه نوم كتب له أجر ورده، وكان نومه عليه صدقة، ومثله المريض والمسافر إذا كان له عمل يعمله، فشغل عنه بالمرض والسفر كتب له مثل عمله وهو صحيح مقيم، ومثله: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغة الله، منازل الشهداءِ ولو مات على فراشه"، ونظائر ذلك كثيرة.
والقسم الثانى معذور ليس من نيته الجهاد، ولا هو عازم عليه عزماً تاماً، فهذا لا يستوى هو والمجاهد فى سبيل الله، بل قد فضل الله المجاهدين عليه وإن كان معذوراً لأنه لا نية له تلحقه بالفاعل التام كنية أصحاب القسم الأول.
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث عثمان ابن مظعون: "إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته"، فلما كان القسم المعذور فيه هذا التفصيل لم يجز أن يساوى بالمجاهد مطلقاً، ولا ينفى عنه المساواة مطلقاً، ودلالة المفهوم لا عموم لها، فإن العموم إنما هو من أحكام الصيغ العامة وعوارض الألفاظ.
والدليل الموجب للقول بالمفهوم لا يدل على أن له عموماً يجب اعتباره.
فإن أدلة المفهوم ترجع إلى شيئين: أحدهما التخصيص، والآخر التعليل.
فأما التخصيص فهو أن تخصيص الحكم بالمذكور يقتضى نفى الحكم عما عداه وإلا بطلت فائدة التخصيص، وهذا لا يقتضى العموم وسلب حكم المنطوق عن جميع صور المفهوم لأن فائدة التخصيص قد تحصل بانقسام صور المفهوم إلى ما يسلب الحكم عن بعضها ويثبت لبعضها ثبوت تفصيل فيه، فيثبت له حكم المنطوق على وجه دون وجه، إما بشرط لا تجب مراعاته فى المنطوق، وإما فى وقت دون وقت، بخلاف حكم المنطوق فإنه ثابت أبداً، ونحو ذلك من فوائد التخصيص.
وإذا كانت فائدة التخصيص حاصلة بالتفصيل والانقسام فدعوى لزوم العموم من التخصيص دعوى باطلة فإثباته [بمجرد] التحكم، وأما التعليل فإنهم قالوا: ترتيب الحكم على هذا الوصف المناسب له يقتضى نفى الحكم عما عداه وإلا لم يكن الوصف المذكور علة.
وهذا أيضاً لا يستلزم عموم النفى عن كل ما عداه، وإنما غايته اقتضاؤه نفى الحكم المرتب على ذلك الوصف عن الصور المنفى عنها الوصف، وأما نفى الحكم جملة فلا تجوز ثبوته بوصف آخر وعلة أُخرى، فإن الحكم الواحد بالنوع يجوز تعليله بعلل مختلفة، وفى الواحد بالعين كلام ليس هذا موضعه.
ومثال هذا ما نحن فيه [فإن] قوله تعالى: {لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرِ أُولِى الضَرَّرِ وَالُْمُجاهِدُونَ} [النساء: 95] لا يدل على مساواة المضرورين [للمجاهدين] مطلقاً من حيث الصورة، بل إن ثبتت المساواة فإنها معللة بوصف آخر وهى النية الجازمة والعزم التام، والضرر المانع من الجهاد فى ذلك الحال لا يكون [مانعاً] من المساواة فى الأجر، والله أعلم.)) انتهى
ـ يستفاد من الحديث أنه كل من كان متبعا للرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به باطنا وظاهرا كان الله معه بحسب هذا الإتباع وله نصيب من معنى قوله جل في علاه (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) فإن هذا قلبه موافق للرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن صحبه ببدنه والأصل في هذا القلب
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس روحه في كتابه (منهاج السنة النبوية 8/ 486):
(( والمقصود هنا أن الصحبة المذكورة في قوله (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) سورة التوبة 40 صحبة موالاة للمصحوب ومتابعة له لا صحبة نفاق كصحبة المسافر للمسافر وهي من الصحبة التي يقصدها الصاحب لمحبة المصحوب كما هو معلوم عند جماهير الخلائق علما ضروريا بما تواتر عندهم من الأمور الكثيرة أن أبا بكر كان في الغاية من محبة النبي صلى الله عليه و سلم وموالاته والإيمان به أعظم مما يعلمون أن عليا كان مسلما وأنه كان ابن عمه
وقوله (إن الله معنا) لم يكن لمجرد الصحبة الظاهرة التي ليس فيها متابعة فإن هذه تحصل للكافر إذا صحب المؤمن ليس الله معه بل إنما كانت المعية للموافقة الباطنية والموالاة له والمتابعة
ولهذا كل من كان متبعا للرسول كان الله معه بحسب هذا الإتباع قال الله تعالى (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) سورة الأنفال 64 أي حسبك وحسب من أتعبك فكل من اتبع الرسول من جميع المؤمنين فالله حسبه وهذا معنى كون الله معه
والكفاية المطلقة مع الإتباع المطلق والناقصة مع الناقص وإذا كان بعض المؤمنين به المتبعين له قد حصل له من يعاديه على ذلك فالله حسبه وهو معه وله نصيب من معنى قوله (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) فإن هذا قلبه موافق للرسول وإن لم يكن صحبه ببدنه والأصل في هذا القلب كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( إن بالمدينة رجالا ما سرتم ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال
وهم بالمدينة حبسهم العذر) فهؤلاء بقلوبهم كانوا مع النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه الغزاة فلهم معنى صحبته في الغزاة فالله معهم بحسب تلك الصحبة المعنوية
ولو انفرد الرجل في بعض الأمصار والأعصار بحق جاء به الرسول ولم تنصره الناس عليه فإن الله معه وله نصيب من قوله (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) سورة التوبة 40 فإن نصر الرسول هو نصر دينه الذي جاء به حيث كان ومتى كان ومن وافقه فهو صاحبه عليه في المعنى فإذا قام به ذلك الصاحب كما أمر الله فإن الله مع ما جاء به الرسول ومع ذلك القائم به ، وهذا المتبع له حسبه الله وهو حسب الرسول كما قال تعالى ( حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) سورة الأنفال 64 )) انتهى