الإرشاد
إلي حكم وكيفية مناصحة الولاة
كتبه
أبو مريم أيمن بن دياب العابديني
غفر الله تعالى له ولوالديه



إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله:"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ "سورة آل عمران"الآية (102) "يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "سورة"النساء"الآية(1) " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فوزا عظيما" سورة"الأحزاب"الآية (70-71) .
،،، أما بعد ،،،
فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
،،، أما بعد ،،،
فإن الإمام بَشَرٌ، يعتريه ما يعتري البشر من الضعف والخطأ والنسيان، ولذلك شرعت النصيحة له لتذكيره وتبيين ما قد يخفى عليه من الأمور .
بيان حكم وكيفية مناصحتهم:

قال حافظ المغرب ابن عبد البر-رحمه الله تعالى-:(وأما مناصحة ولاة الأمر، فلم يختلف العلماء في وجوبها ) ( ).
قلت: ودليل ذلك:
(1) ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيّ أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ:« الدِّينُ النَّصِيحَةُ ». وفي رواية- قالها ثلاثًا- قُلْنَا: لِمَنْ ؟ قَالَ:( لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)( )، وهذا من الأحاديث العظيمة ومن جوامع كلمه .
قال الإمام النووي-رحمه الله-:(وَأَمَّا مَا قَالَهُ جَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء أَنَّهُ أَحَد أَرْبَاع الْإِسْلَام: أَيْ أَحَد الْأَحَادِيث الْأَرْبَعَة الَّتِي تَجْمَع أُمُورَ الْإِسْلَام فَلَيْسَ كَمَا قَالُوهُ ، بَلْ الْمَدَارُ عَلَى هَذَا وَحْدَهُ)( ).
ومعنى النصيحة لأئمة السلمين كما نقله الإمام النووي-رحمه الله- عن الخطابي وغيره من العلماء:( وَأَمَّا النَّصِيحَة لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَمُعَاوَنَتهمْ عَلَى الْحَقّ، وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَأَمْرُهُمْ بِهِ، وَتَنْبِيههمْ وَتَذْكِيرهمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ،وَإِعْلَامهمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغهُمْ مِنْ حُقُوق الْمُسْلِمِينَ ، وَتَرْك الْخُرُوج عَلَيْهِمْ، وَتَأَلُّف قُلُوب النَّاس لِطَاعَتِهِمْ .
قَالَ الإمامُ الْخَطَّابِيُّ-رَحِمَهُ اللَّه-:وَمِنْ النَّصِيحَة لَهُمْ الصَّلَاة خَلْفهمْ، وَالْجِهَاد مَعَهُمْ، وَأَدَاء الصَّدَقَات إِلَيْهِمْ، وَتَرْك الْخُرُوج بِالسَّيْفِ عَلَيْهِمْ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ حَيْفٌ أَوْ سُوءُ عِشْرَة، وَأَنْ لَا يُغَرُّوا بِالثَّنَاءِ الْكَاذِب عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُدْعَى لَهُمْ بِالصَّلَاحِ.
وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَفَاء وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَقُوم بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَاب الْوِلَايَاتِ.وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور) ( ) .
والنصيحة كما قَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ-رَحِمَهُ اللَّه-:(النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ مَعْنَاهَا حِيَازَة الْحَظِّ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ . قَالَ: وَيُقَال : هُوَ مِنْ وَجِيز الْأَسْمَاء، وَمُخْتَصَر الْكَلَام، وَلَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كَلِمَة مُفْرَدَة يُسْتَوْفَى بِهَا الْعِبَارَة عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَة) ( ) .
وقال أبو عمرو بن الصلاح-رحمه الله-:( النصيحة :كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً )( ).
وقال العلامة ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-:"في جامعه" عندما شرح حديث تميم الداري :(الدين النصيحة)قال:(وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم وحب اجتماع الأمة عليهم وكراهة افتراق الأمة عليهم والتدين بطاعتهم في طاعة الله  والبغض لمن رأى الخروج عليهم وحب إعزازهم في طاعة الله ) إلى أن قال -رحمه الله-:(معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم به وتنبيههم في رفق ولطف ومجانبة الوثوب عليهم والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك) أهـ.( ).
(2) ومنها عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ  قَالَ:قَامَ رَسُولُ اللَّهِ  بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى فَقَال:« نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» ( ) .
مما سبق نستنتج أن النصيحة أصل عظيم من أصول الإسلام ولذلك عدها ابن بطة-رحمه الله- من أصول السنة عند السلف رضوان الله عليهم ( ).
وقد كان النبي  عندما يبايع أحدًا ، يشترط عليه النصح لكل مسلم . قال جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّه :(بَايَعْتُ النَّبِيَّ  عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) ( ).
وقد دأب الصحابة -رضوان الله عليهم- على أداء هذا الحق لأئمتهم، فقد روى الإمام أحمد بسنده عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ  لَقِيَ نَاسًا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ فَقَالَ:(مِنْ أَيْنَ جَاءَ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا:"خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ الْأَمِيرِ مَرْوَانَ" قَالَ: وَكُلُّ حَقٍّ رَأَيْتُمُوهُ تَكَلَّمْتُمْ بِهِ وَأَعَنْتُمْ عَلَيْهِ وَكُلُّ مُنْكَرٍ رَأَيْتُمُوهُ أَنْكَرْتُمُوهُ وَرَدَدْتُمُوهُ عَلَيْهِ؟ قَالُوا:"لَا وَاللَّهِ" بَلْ يَقُولُ مَا يُنْكَرُ فَنَقُولُ: قَدْ أَصَبْتَ أَصْلَحَكَ اللَّهُ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ قُلْنَا:قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَظْلَمَهُ وَأَفْجَرَهُ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا بِعَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ  نَعُدُّ هَذَا نِفَاقًا لِمَنْ كَانَ هَكَذَا)( ).
قلت: وقد رغب النبي  في أن تؤدي هذه النصيحة ولو إلى أئمة الجور-إن وجدوا- وإن خاف منهم الهلاك وعد ذلك من أفضل الجهاد يدل عليه الأحاديث التالية :
(1) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ  قَالَ: عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ  رَجُلٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى فَقَالَ:« يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ فَلَمَّا رَأَى الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ سَأَلَهُ فَسَكَتَ عَنْهُ فَلَمَّا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ لِيَرْكَبَ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:« أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر » ( ) .
قَالَ الْإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخَطَّابِيُّ-رَحِمَهُ اللَّه-:(إنما كان هذا أفضل الجهاد لأن من جاهد العدو كان على أمل الظفر بعدوه ولا يتيقن العجز عنه، لأنه لا يعلم يقينًا أنه مغلوب، وهذا يعلم أن يد سلطانه أقوى من يده، فصارت المثوبة فيه على قدر عظيم المئونة ( ).
(2) وعن جابر  عن النبي  قال:«خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى رجل فأمره ونهاه في ذات الله فقتله على ذلك » ( ).

وأما كيفيتها:
فتكون سراً، يخلوا به، فإن قبل، فذاك، كما نطق بذلك الخبر الصادق من الصادق، وهو نص صحيح صريح في الباب، لا ينبغي العدول عنه إلى قول قائل أو احتجاج بفعل فاعل، كائناً من كان .
لما روى الإمام أحمد-رحمه الله- في " مسنده "ح (14792) قال:حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِيُّ وَغَيْرُهُ-رحمهم الله تعالى-قَالَ:(( جَلَدَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ صَاحِبَ دَارِيَا حِينَ فُتِحَتْ فَأَغْلَظَ لَهُ هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ الْقَوْلَ حَتَّى غَضِبَ عِيَاضٌ ثُمَّ مَكَثَ لَيَالِيَ فَأَتَاهُ هِشَامُ بْنُ حَكِيمٍ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ هِشَامٌ لِعِيَاضٍ أَلَمْ تَسْمَعْ النَّبِيَّ  يَقُولُ : " إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا أَشَدَّهُمْ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا لِلنَّاسِ " فَقَالَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ (وهو ممن بايع بيعة الرضوان) يَا هِشَامُ بْنَ حَكِيمٍ قَدْ سَمِعْنَا مَا سَمِعْتَ وَرَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ أَوَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ : " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ ". وَإِنَّكَ يَا هِشَامُ لَأَنْتَ الْجَرِيءُ إِذْ تَجْتَرِئُ عَلَى سُلْطَانِ اللَّهِ فَهَلَّا خَشِيتَ أَنْ يَقْتُلَكَ السُّلْطَانُ فَتَكُونَ قَتِيلَ سُلْطَانِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى)).( ) .
كما أنه ينبغي للناصح للسلطان أن يراعي مكانته بحيث لا يخرق هيبته .
كما أنه يجب على الناصح أن يحذر التأنيب والتعيير ( ) والغيبة والسعاية حتى تكون خالصة لله تعالى .
وعلى هذا الأصل، جرى عمل الصحابة ، فهذان صحابيان آخران يؤكدان هذا الأصل، وينكران بشدة عَلَى من خالفه:
الصحابي الأول: أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ  فقد قِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ فَقَال:((أَتَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ...))( ).
الصحابي الثاني: عبد الله بن أبي أوفى، فقد أخرج أَحْمَد فِي مسنده (4/382) قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا الْحَشْرَجُ ابْنُ نُبَاتَةَ الْعَبْسِيُّ كُوفِيٌّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ قَالَ:( لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى وَهُوَ مَحْجُوبُ الْبَصَرِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ.
قَالَ لِي مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ.
قَالَ فَمَا فَعَلَ وَالِدُكَ ؟ قَالَ قُلْتُ: قَتَلَتْهُ الْأَزَارِقَةُ.
قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْأَزَارِقَةَ، لَعَنَ اللَّهُ الْأَزَارِقَةَ، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ  " أَنَّهُمْ كِلَابُ النَّارِ".
قَالَ قُلْتُ: الْأَزَارِقَةُ وَحْدَهُمْ أَمْ الْخَوَارِجُ كُلُّهَا؟ قَالَ: بَلَى الْخَوَارِجُ كُلُّهَا .
قَالَ قُلْتُ: فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَظْلِمُ النَّاسَ وَيَفْعَلُ بِهِمْ؟
قَالَ: فَتَنَاوَلَ يَدِي فَغَمَزَهَا بِيَدِهِ غَمْزَةً شَدِيدَةً ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ جُمْهَانَ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ عَلَيْكَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ يَسْمَعُ مِنْكَ فَأْتِهِ فِي بَيْتِهِ فَأَخْبِرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فَإِنْ قَبِلَ مِنْكَ وَإِلَّا فَدَعْهُ فَإِنَّكَ لَسْتَ بِأَعْلَمَ مِنْهُ)( ).
وَقَالَ ابن قتيبة-رحمه الله-فِي كتابه (السلطان) تحت باب:"التلطف فِي مخاطبة السلطان وإلقاء النصيحة إليه"(ص211): (العتبي قَالَ: قَالَ عمرو بن عتبة، للوليد حين تنكر له الناس: يا أمير المؤمنين، إنك تنطقني بالأنس بك، وأنا أكفت ذَلِكَ بالهيبة لك وأراك تأمن أشياء أخافها عليك، أفأسكت مطيعًا؟ أم أقول مشفقًا؟
فَقَالَ: كلٌّ مقبول منك، ولله فينا علم غيب نَحنُ صائرون إليه.
وفي إلقاء النصيحة إليه: قرأت فِي كتاب للهند أن رجلاً دخلَ عَلَى بعض ملوكهم.
فَقَالَ له: أيها الملك نصيحتك واجبة فِي الحقير والصغير، بَله الجليل الخطير، ولولا الثقة بفضيلة رأيك واحتمالك ما يسوء موقعه من الأسماع والقلوب فِي جنب صلاح العاقبة وتلافي الحادث قبل تفاقمه، لكان خرقًا مني أن أقول.
وإن كُنَّا إذا رجعنا إلى أن بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا مُعلَّقة بنفسك لَم أجد بُدًّا من أداء الحق إليك وإن لَم تسألني أو خفت ألا تقبل مني.
فإنه يُقال: من كتم السلطان نصحه، والأطباء مرضه، والإخوان بثه، فقد خان نفسه).اهـ.
وسئل سَماحة العلامة ابن باز-رحمه الله-:هل من منهج السَّلَف نقد الولاة من فوق المنابر؟ وما منهج السَّلَف فِي نصح الولاة ؟
فأجابَ-رحمه الله-:(ليس من منهج السَّلَف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذَلِكَ عَلَى المنابر لأن ذَلِكَ يُفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة فِي المعروف ويُفضي إلى الخوض الَّذِي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عِنْد السَّلَف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلونَ به حتَّى يوجه إلى الخير؛ وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل فيُنكر الزنا، ويُنكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر فلانًا يفعلها لا حاكم ولا غير حاكم.
ولَمَّا وقعت الفتنة فِي عهد عُثْمَان  قَالَ: بعضُ الناس لأسامة بن زيد  ألا تكلِّم عُثْمَان؟ فَقَالَ: إنكم ترون أني لا أكلِّمه إلاَّ أُسمعكم؟ إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرًا لا أحبُّ أن أكونَ أول من افتتحه.
ولَمَّا فتحوا الشر فِي زمان عُثْمَان  وأنكروا عَلَى عُثْمَان جهرة تَمَّت الفتنة والقتال والفساد الَّذِي لا يزال الناس فِي آثاره إلى اليوم حتَّى حصلت الفتنة بين عليّ ومعاوية، وقُتِلَ عُثْمَان بأسباب ذَلِكَ، وقُتِلَ جَمْعٌ كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنًا حتَّى أبغض الناس ولي أمرهم وقتلوه، نسأل الله العافية)( ).اهـ.
وفِي حوار مع فضيلة الشيخ صالِح بن فوزان الفوزان -حفظه الله- سُئِلَ: بعض الشباب اليوم يفهم قوله تعالى:{وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}[المائدة: 54]. أنهم أولئك الذين يذكرون أخطاء الحكام عَلَى المنابر، وأمام الملأ، وفي الأشرطة المسجلة، ويَحصرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فِي ذَلِكَ أيضًا، نرجو توجيه أولئك الشباب هداهم الله إلَى السلوك الصحيح وتوضيح المعنى الصحيح لِهذه الآية، وحكم أولئك الذين يتكلمونَ فِي الْحُكَّام علنًا؟
الجــواب: يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}[المائدة: 54]، هذه الآية فِي كل من قَالَ كلمة الحق وجَاهدَ فِي سبيل الله، وأمر بالمعروف ونَهَى عن المنكر طاعة لله تعالى، ولَم يترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد فِي سبيل الله من أجل الناس أو من خشية الناس، لكن قضية النصيحة والدعوة إلى الله كما قَالَ تعالَى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125]، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ لِموسى، وهارون-عليهما السلام- لَمَّا أرسلهما إلَى فرعون:{فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، وَقَالَ تعالى فِي حق نبينا مُحَمَّد :{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159].فالنصيحة للحُكَّام تكون بالطرق الكفيلة لوصولِها إليهم من غير أن يُصاحبها تشهير أو يُصاحبها استنفار لعقول السُّذج والدَهْمَاء من الناس، والنصيحة تكون سرًّا بين الناصح وبين ولي الأمر، إمَّا بالمشافهة، وإمَّا بالكتابة له، وإمَّا أن يَتَّصل به ويبين له هذه الأمور، ويكون ذَلِكَ بالرفق، ويكون ذَلِكَ بالأدب المطلوب، أمَّا الكلام فِي الولاة عَلَى المنابر، وفِي المحاضرات العامة، فهذه ليست نصيحة، هذا تشهير، وهذا زرع للفتنة، والعداوة بين الحُكَّام وشعوبِهم، وهذا يترتب عليه أضرار كبيرة، قد يتسلط الولاة عَلَى أهل العلم وعلى الدعاة بسبب هذه الأفعال، فهذه تفرز من الشرور ومن المحاذير أكثر مِمَّا يظن فيها من الخير، فلو رأيت عَلَى شخص عادي ملاحظة أو وقع فِي مُخالفة، ثُمَّ ذهبت إلى الملأ وقلت: فلان عمل كذا وكذا لاعتبر هذا من الفضيحة وليس من النصيحة؛ وَالْنَّبِيّ  قَالَ:(من سَتَر مسلمًا ستره الله فِي الدُّنْيَا والآخرة)، وَكَان النَّبِي  إذا أراد أن ينبه عَلَى شَخص لا يَخص قومًا بأعيانِهم، بل يقول:(ما بال أقوام يفعلونَ كذا وكذا)؛ لأن التصريح بالأشخاص يُفسد أكثر مِمَّا يُصلح، بل ربما لا يكون فيه صلاح، بل فيه مُضاعفة سيئة عَلَى الفرد وعلى الجماعة، وطريق النصيحة معروف، وأهل النصيحة الذين يقومون بِها لا بد أن يكونوا عَلَى مستوى من العلم والمعرفة، والإدراك والمقارنة بين المضار والمصالِح، والنظر فِي العواقب، ربما يكون إنكار المنكر منكرًا كما قَالَ ذَلِكَ شيخ الإسلام:وذلك إذا أنكر المنكر بطريقة غير شرعية، فإن الإنكار نفسه يكون منكرًا لِمَا يولد من الفساد، وكذلك النصيحة ربما نسميها فضيحة ولا نسميها نصيحة، نسميها تشهيرًا، نسميها إثارة، ونسميها زيادة فتنة إذا جاءت بغير الطريق الشرعي المأمور به)( ). اهـ .
قُلْتُ:واعلم -رحمك الله- أن هؤلاء الذين يبدون للسلطان النصيحة من عَلَى المنابر، ويُشهِّرون بأخطائه ويؤلبون العامة عليه، هُم صنفٌ ليس بالجديد، بل هُم القَعَدية من الخوارج.
قَالَ الحافظ-رحمه الله- فِي مقدمة الفتح (ص432):(القعدية قوم من الخوارج كانوا يقولون بقولِهم، ولا يرون الخروج بل يزينونه).
وَقَالَ-رحمه الله- فِي الإصابة (5/303) عن عمران بن حطان:(تابعي مشهور، وَكَان من رءوس الخوارج من القَعَدية -بفتحتين- وهم الذين يُحسِّنون لغيرهم الخروج عَلَى المسلمين، ولا يباشرون القتال، قَالَ المبرد: وقيل القعدية: لا يرون الحرب وإن كانوا يزينونه). اهـ
وَقَالَ-رحمه الله- فِي التهذيب (4/398) فِي ترجمة عمران: (والقعد الخوارج كانوا لا يرون الحرب، بل يُنكرون عَلَى أمراء الجَوْر حسب الطاقة، ويدعون إلى رأيهم ويزينون مع ذَلِكَ الخروج ويُحسِّنونه).
ثُمَّ-رحمه الله- قَالَ:(وَكَان -أي عمران- قبل ذَلِكَ مشهورًا بطلب العلم والحديث ثُمَّ ابتلي، وساق -أي الأصبهاني- بسند صحيح عن ابن سيرين-رحمه الله- قَالَ:(تزوج عمران امرأة من الخوارج ليردها عن مذهبها فذهبت به). اهـ.
قُلْتُ: فلا يعجبنَّ أحدٌ أن يُقال عن فلان أو علان مِمَّن عُرف بطلب العلم والحديث، ثُمَّ أظهر الخروج بالكلمة دون السيف، أنه من الخوارج القعدية.
وقد قَالَ الإمام الدَّارَقُطْنِيّ-رحمه الله- عن عمران:(متروك لسوء اعتقاده، وخبث مذهبه).
وفِي مسائل الإمام أَحْمَد-رحمه الله- "رواية أبي داود" (1749) (ص362- ط- مكتبة ابن تيمية): قال أبو داود: سمعت عبد الله بن مُحَمَّد أبو مُحَمَّد الضعيف قَالَ:(قَعَدُ الخوارج هُم أخبث الخوارج).
وَقَالَ الإمام السيوطي-رحمه الله- فِي تدريب الراوي (ص329):(القَعَديَّة الذين يرون الخروج عَلَى الأئمة ولا يُباشرون ذَلِكَ).
وَقَالَ ابن مالك الطائي-رحمه الله- فِي (إكمال الإعلام بتثليث الكلام)، (2/524):(القعد...جمع قعدي، وهو التارك للقتال من الخوارج).
وَقَالَ ابن منظور-رحمه الله- فِي لسان العرب (3/358):( قَالَ ابن الأعرابي: القعد الشراة الذين يُحكِّمون، ولا يُحاربون، وهم جمع قاعد كما قالوا حارس، وحرس، والقعدي من الخوارج الَّذِي يرى رأي القعد، الذين يرون التحكيم حقًّا غير أنهم قعدوا عن الخروج عَلَى الناس، وَقَالَ بعضُ مُجَّان المُحدِّثين فيمن يأبى أن يشرب الخمر وهو يستحسن شربها لغيره فشبهه بالذي يرى التحكيم وقد قعد عنه)( ).
وفي ترتيب القاموس المحيط (3/655): "والقَعَدُ -مُحركة-: الخوارج، ومن يرى رأيهم: قَعَدِيُّ ".أهـ.
وَقَالَ العلامة مُحَمَّد العثيمين-رحمه الله-:(بل العجب أنه وُجه الطعن إلَى الرسول ، قيل له: اعدل، وَقَالَ له: هذه قسمة ما أريد بِها وجه الله.
وهذا أكبر دليل عَلَى أن الخروج عَلَى الإمام يكون بالسيف ويكون بالقول والكلام، يعني: هذا ما أخذ السيف عَلَى الرسول  لكنه أنكر عليه.
ونَحن نعلم علم اليقين بِمقتضى طبيعة الحال أنه لا يُمكن خروج بالسيف إلا وقد سبقه خروج باللسان والقول ( ).
الناس لا يُمكن أن يأخذوا سيوفهم يُحاربون الإمام بدون شيء يثيرهم، لا بد أن يكون هناك شيء يثيرهم وهو الكلام؛ فيكون الخروج عَلَى الأئمة بالكلام خروجًا حقيقة، دلت عليه السنة ودلَّ عليه الواقع ( ). أهـ.
قُلْتُ:ومن المسائل المغيَّبة فِي هذا الباب أيضًا، هِيَ ضرورة الاعتناء بتربية النشإ المسلم عَلَى هذه العقيدة السلفية فِي الإمامة، فكما يعتني الأب -الحريص عَلَى السنة- بتعليم ولده اعتقاد السَّلَف فِي توحيد العبادة، وتوحيد الأسماء والصفات، كذلك ينبغي عليه أن يَحرص عَلَى تعليمه العقيدة السلفية في الإمامة والتي تتمثل في وجوب قيامه ببيعة حاكم المسلمين الَّذِي يعيش تَحت إمرته، وأن يرهِّبه من أمر الخروج على ولي الأمر، ويظهر أمامه الاستنكار لفعل هؤلاء الخوارج، والدعاة القطبيين، حتَّى ينشأ الولد عَلَى حب منهج السَّلَف فِي الإمامة، ويُبغض منهج الخوارج، فإنك تَعجب من سريان داء الخروج والتمرد عَلَى الحكومات الإسلامية إلى طائفة كبيرة من عامة الناس، حيث إنك تَجد واحدًا من هؤلاء الآباء يَمنع ولده من الالتزام بالهدي الظاهري من إطلاق اللحية وتقصير الثياب، ومن حضور مَجالس العلم النافع لأهل العلم السلفيين، وفي نفس الوقت يكون قد ربى ولده عَلَى الثورة عَلَى الأوضاع، وعلى سبِّ الحُكَّام، والشكوى الدائمة من مساوئهم، فلا أرضًا أنبت، ولا زرعًا أبقى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذا عبد الله بن عُمَر  يبايع عبد الملك بن مروان، ويأخذ من أولاده الإقرار بالبيعة أيضًا؛ لأنه رباهم عَلَى ما تعلَّمه من رَسُول الله  من وجوب البيعة للحاكم المسلم، ولو كانت ولايته بالغلبة، وقد كَانَ عبد الملك قد تولى بالسيف، فعن عبد الله بن دينار-رحمه الله- قَالَ: شهدت ابن عُمَر حيث اجتمعَ الناس عَلَى عبد الملك، قَالَ: كتب: إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله، عبد الملك أمير المؤمنين عَلَى سنة الله وسنة رسوله ما استطعت، وإن بنـي قد أقروا بِمثل ذَلِكَ)( ).
وهذا أبو الوليد الباجي-رحمه الله- يوصي ولديه قائلاً:"وأطيعا من ولاه الله أمركما ما لَم تدعيا إلى معصية، فيجب أن تَمتنعا منها، وتبذلا الطاعة فيما سواها"( ).
قُلْتُ:فشتان بين هذا الأب السلفي، وبين أب خارجي يفتخر أنه قد علَّم ولده أن يقول إذا سئل عن الحُكام:(كَفَرة)، ويتندر بِهذا، ويظنه منقبة لابنه، وثَمَّ أولاد يَحفظونَ القرآن عَلَى يد خارجي مهيِّج فِي مكتب تَحفيظ ونَحوه، فإذا به يُلقن هؤلاء الأولاد معتقده القطبي السروري، فينشأ جيل من الشباب المعبأ بِحقد دفين، وخارجية مكنونة، فلا يثمر إلا فتنًا، وهرجًا ومرجًا، ويصير ضحية جهل الآباء وأهوائهم ( ).

هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل[/size][/size]

(70) أَخْرَجَهُ الْبُخَاري (7203).
(71) وصية الإمام الحافظ أبي الوليد الباجي لولديه، ط. مؤسسة الريان، (ص40).
(72) نقلاً بواسطة الكواشف لأبي عبد الأعلى (ص111ـ117) بتصرف.

[عن سحاب المباركة]