النتائج 1 إلى 7 من 7
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي دعوة إلى التفاعل والمدارسة لشرح كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله

    بسم الله الرحمن الرحيم
    والصلاة والسلام على رسول الله وعلى أله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين
    أما بعد :
    فإن العلم النبوي أفضل ما تعبد به العبد ربه به يعرف أسمائه وصفاته وما انزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الحلال والحرام
    ولهذا لا يخفى على طالب العلم أن للعلم شأن جلل، وفضل عظيم، ومكانة سامقة، فيحسن بالطلاب أن يستحضروا هذا المعنى، ويضعونه نصب أعينهم وفي سويداء قلوبهم؛ فما يقدمونه في سبيل العلم يعلي ذكرهم، ويزكي علومهم، ويعود بالنفع عليهم وعلى أمتهم.
    ولهذا فلا غرو أن تتظاهر آثار الشرع، وأقوال السلف، وكلمات الحكماء في بيان فضل العلم ونشره بين الناس قال -تعالى -: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (المجادلة: 11).
    قال وهب ابن منبه رحمه الله (( يتشعب من العلم الشرفُ وإن كان صاحبه دَنِيًّا، والعز وإن كان صاحبه مهينًا، والقرب وإن كان قصيًّا، والغنى وإن كان فقيرًا، والمهابة وإن كان وضيعًا )) (تذكرة السامع والمتكلم ص34)
    وقال أبو الوليد الباجي رحمه الله في وصيته لولديه(( والعلم لا يفضي بصاحبه إلا إلى السعادة، ولا يقصر عن درجة الرفعة والكرامة، قليله ينفع، وكثيره يعلي ويرفع، كنز يزكو على كل حال، ويكثر مع الإنفاق، ولا يغصبه غاصب، ولا يُخاف عليه سارق ولا محارب؛ فاجتهدا في تحصيله، واستعذبا التعب في حفظه والسهر في درسه، والنصب الطويل في جمعه، وواظبا على تقييده وروايته، ثم انتقلا إلى فهمه ودرايته )) (النصيحة الولدية، نصيحة أبي الوليد الباجي لولديه ص 16)
    وقال الإمام ابن حزم رحمه الله : ((لولم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك، وأن العلماء يجلونك - لكان ذلك سببًا إلى وجوب طلبه، فكيف بسائر فضله في الدنيا والآخرة ولو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء، ويغبط نظراءه من الجهال - لكان ذلك سببًا إلى وجوب الفرار عنه، فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة)) (الأخلاق والسير في مداواة النفوس لابن حزم ص21)
    وعن سفيان الثوري والشافعي -رحمهما الله-(( ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم )) (تذكرة السامع والمتكلم ص36)
    ولا تتم منفعة هذا العلم ويكثر خيره ويدوم نفعه إلا بالإخلاص لله في طلبه والمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وتوحيد مصدر التلقي الذي هو الكتاب والسنة وهذا مشروط بأن يكون على فهم سلف الأمة
    ولهذا جد واجتهاد أئمتنا وعلمائنا رحمهم الله في جمع الأدلة وتدوينها وحفظها في الكتب لكي تحفظ ولا تضيع ولاتنسى وتبقى شعلة ونجم ومنارة لمن بعدهم رحمهم الله يستضاء بها في ظلمات الجهل والشرك والبدع والمعاصي المهلكة والتعصب الذميم والتقليد الأعمى ،فمن اهتدى بها فهو المهتد ومن استمسك بها فهو الناجي المفلح
    فمن أولئك الأئمة الجهابذة العمالقة النجباء الحفاظ الأتقياء الإمام مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله وجعل جنة مثواه ومقر مأواه الذي خلف من بعده علم غزير كثير حي الذي تحي به قلوب العباد والبلاد
    ولا يخفى علينا ومما هو معلوم معروف متداول عند الصغير والكبير والجاهل والعالم والذكر والأنثى أن من العلوم التي خلفها إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله ذاك الكتاب العظيم القوي المتين (( الموطأ )) الذي كان يوم من الأيام مرجع الأمة وبمثابة الصحيحين في زمانه ولا يزال إلى يومنا هذا من كتب السنة المعتمدة ومرجع الأمة والاستدلال ومن عظمته وقيمته الرفيعة الجليلة فهو عند كثير من شعوب الأمة الإسلامية فقه عبادتهم وبه يتعبدون ربهم وعند نزاعهم يرجعون إليه ليحكموا ما فيه من السنة المطهرة النقية البيضاء
    ومن أولئك الشعوب شمال افريقيا ومنها بلادنا الجزائر التي هي مسقط رأسنا ومقر منتدانا الطيب العلمي السلفي
    ولله الحمد هذا الكتاب عنى به غاية العناية وأهتم به أيما الاهتمام من لدون زمان إمام مالك رحمه الله إلى يومنا هذا سواء من الناحية الحديثية أو الفقهية وقد تفقه في سنده ومتنه واستخرج المكنون المكنوز ما فيه من العلم السني الأثري من طرف أئمة الإسلام والاجتهاد أولي التحقيق والتنقيب والتدقيق وممن وقفت عليهم وتطرق أسماعي أنهم اعتنوا به دراستا وتدريسا في زماننا هذا من أئمتنا العلامة المحدث شيخ الشيوخ حماد الأنصاري رحمه الله والعلامة المفسر شيخ الشيوخ أمين الشنقيطي رحمه الله والعلامة الأصولي الفقيه سالم العطية رحمه الله والشيخ النحوي عبد الرحمن الكوني حفظه الله وغيرهم مما لم أقف عليهم رحم الموت وحفظ الأحياء
    ولهذا أدعوا جميع الأعضاء الكرام الأعزاء الفضلاء النجباء النبلاء في منتديات أهل الحديث السلفية أن يتفاعلوا ويشاركوا معنا لمذاكرة ومدارسة كتاب (( الموطأ )) واستخراج مكنوزه ومكنونه من العلوم الحديثية الفقهية السلفية بل حتى ما فيه من العقيدة والسير والأخلاق
    وفي عملنا هذا عدة المقاصد والغايات والمرام النبيلة الزكية
    منها أولا : إحياء السنن النبوية التي دونها أئمتنا في كتبهم
    ثانيا : بعث الهمم الزكية العالية إلى عبادة ربها بالأدلة وطرح التقليد الأعمى وإماتته
    ثالثا : إحياء تراث ‘إمام مالك رحمه الله على منهج أهل الحديث كما كان وخدمه أئمة الحديث من أمثال ابن عبدالبر والشاطبي والقرطبي وغيرهم رحمهم الله ولا يزال إلى يومنا هذا عند أئمتنا من أهل الحديث الذين ذكرتهم أنفا
    وإظهار هذا المنهج على صفحاتنا العامة في منتدياتنا ، ولا يخفى عليكم أن بعملنا هذا فيه خدمة عظيمة لعلم مالك رحمه الله وسحب بساط التقليد المذهبي الأعمى من تحت الأقدام المذهبية المقلدة المتعصبة التي سادة في البلاد وحكمت تقليدها في العباد وجعلتها دين يدان به رب العباد وأماتت بمنهجها هذا علوم الإسلام والتراث العظيم
    رابعا : هنا نكتة لطيفة وتنبيه مهم ألا وهو معظم وغالب الشباب السلفي في هذه العشرية الأخيرة فقههم وتفقهم كان على يد علمائنا من الحجاز وإمامنا ناصر الدين الألباني رحم الله الأموات وحفظ الأحياء ولا يخفى عليكم أن المذهب السائد في بلاد الحجاز هو المذهب الحنبلي وان المذهب الذي سائد في بلادنا وأرضنا المغرب المذهب المالكي وكثير ما يوجهون وينصصون أئمتنا ينبغي دعوتنا أن تكون على قدر مدارك الناس ومذهبهم وعلى قدر ما هم فيه من الخير والحق وان لا يخالف العبد قومه ويعارضهم مادام في أمر سعة وفسحة وخير وحق وهذا لا يعني مجراتهم ومداهنتهم في الحق وتمييع أحكام الدين من أجل مصلحة الدعوة كما زعم ويفعل الأخوان المسلمين والتبليغ وهم على قاعدة (( الغاية تبرر الوسيلة )) يسيرون ويطبقون ، لا وإنما منطلقنا وحكمتنا تنطلق من مبدأ و قول علي - رضي الله عنه - أنه قال: "حدِّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟". [رواه البخاري] ، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". [رواه مسلم في مقدمة الصحيح].
    ولهذا ما يحسن ولا ينبغي لطالب العلم الداعي إلى المنهج السلفي الدال على طريق الجنة بالعلم والحكمة أن يجهل مذهب قومه وأقوله ومسائله وتفريعته وأئمته والراجح والمرجوح فيه وأن يكون هو مشرقا وهم مغرب فيفسد أكثر ما يصلح وزمام الأمور بيده والعلاج عنده
    وفي هذا المقام لا يقول قائل : أن في تتلمذنا على علم مشايخنا وأئمتنا من أمثال ابن باز وابن عثيمين والألباني رحمهم الله فيه غنية وكفاية وهم أهل التحقيق والاجتهاد والحديث مع عدم تقييدهم لأي مذهب ؟؟!!
    نقول : نعم هم أئمتنا وعلمائنا وآبائنا ولا غنية لنا عنهم وهم مرجعنا والركن الذي يأوي إليه وهم عمدة دعوتنا في هذا الزمن
    ولكن هذا لا يعني أن لا ندرس مذهبنا ونعرف ما فيه ، وكيف ندعو إلى السنة من خلال المذهب الذي هو السائد عندنا
    وليكن في علم الإخوان أن اجتهاد إمام ما وبلوغه العلم ما بلغ هذا لا يعني أنه غير مذهبي وانه متحرر ومستقل عن أي مذهب من مذاهب أهل السنة كما سمعت هذا من بعض إخواننا من السنين
    يقول سماحة معالي الشيخ العلامة صالح أل الشيخ في درسه ( الفرق بين كتب الفقه وكتب الحديث ) ((من الفروق المهمة أنه يظن طالب العلم أن شارح الحديث أقرب إلى الاجتهادمن شارح المتن الفقهي، أو يكون - هذا الشارع - ولو كان يورد الأدلة، لكنه لا يسلم من التعصبأما شارح الحديث فقد يظن كثير من طلاب العلم أنه يسلم من التعصب، فيقبل على كتب الحديث بناءً على أن أصحابها متجردون - رحم الله أهل العلم جميعا. وكتب الفقه يقول :لا عندهم تقليد، وعندهم نصرة لمذاهبهم، فلا ينظر فيها، وهذا غلط من جهة أن أصول الاستنباط التي بها يستنبط العالم ما هي ؟ العالم الذي سيشرح كتب الحديث يستنبط من الأدلة ويرجح بناءً على ماذا ؟ لا شك أنه بناء على ما عنده من أصول الفقه، - لأن أصول الفقه هي أصول الاستنباط- فهو سينظر في هذه المتون، ويستنبط ويرجح بين الأقوال، لكنه لن يسلم من التقليد لأنه سيرجح بناءً على ما في مذهبه من أصول الفقه، ويظن الناظر أنه يرجح بناءً على الصحيح المطلق، وهذا غير وارد البتة، لأنه ما من شارح للحديث، إلا وعنده تبعية في أصول الفقه، أصول الاستنباط، فهو سيشرح ويقول : هذا الراجح لأنه كذا، فيأتي طالب العلم المبتدئ أو المتوسط ممن ليس له مشاركة في الاستنباط عميقة، فينظر إلى ترجيح صاحب الحديث بأنه أكثر تجرداً من ترجيح صاحب الفقه، وهذا غلط لأن صاحب الفقه متأثر في استنباطه بمذهبه، وكذلك شارح الحديث متأثر في استنباطه بمذهبه، لكن بما أنه يشرح الحديث فينظر الناظر إلى أنه متجرد، وهو متجرد بلا شك لن ينصر ما يعتقد أنه غير صحيح، لكن سيتأثر في الباطن بأصول الفقه التي دَرَسَها، ولهذا لا بدّ أن تعلم أن الشراح إنما هم أتباع مذاهب، وليسوا مجتهدين الاجتهاد المستقل أو المطلق، لأن الاجتهاد المطلق أو المستقل - على خلاف في التسمية والتعريف - راجع إلى أنه يجتهد في أصول الفقه كما أنه يجتهد في النظر في الرجال، فله اجتهاداته في الفنين جميعاً، مثل الأئمة الأربعة، وبعض من اندرست مذاهبهم كسفيان والأوزاعي وابن جرير، فهؤلاء لهم اجتهادات في أصول الفقه وفي الرجال جميعاً، وكذلك ابن حزم له طريقة مخالفة لما قبله في أصول الفقه أصول الاستنباط وكذلك في النظر في الرجال، لا يقلد، وإنما له نظره المستقل، فهذا يسمى مجتهد مستقل، لكن بعدما دوِّنت المذاهب وانتشرت لا يوجد هذا، حتى شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه في أصول الفقه وهي أصول الاستنباط يتبع مذهب الحنابلة، إلا ما ندر مما رجحه أو بحثه بحثاً مستقلاً، مثل الكلام في عموم البلوى وأشباه ذلك، في مسائل أخذها من غير أصول الحنابلة، ولهذا إذا نظرت في المسودة، مسودة آل تيمية في أصول الفقه وجدت أن استدراكات شيخ الإسلام على قول أبيه وجده في هذه المسائل نادراً أو قليلاً.
    إذا أتيت إلى مثل الحافظ ابن حجر والنووي وأشباه هؤلاء، فإنه من جهة الاستنباط سيدخلون في النظر، هل هذا اللفظ من ألفاظ العموم أم لا؟ هل المفهوم يخصص أم لا ؟ هل مفهوم المخالفة معتبر في هذا أم لا ؟ هل الدلالة دلالة نصية أو دلالة ظاهر؟ هل ينسخ هذا هذا أم لا ؟ فيرى طالب العلم الذي ليس عنده مشاركة في كتب أهل العلم في الأصول، يرى أن ما ذكره شارح الحديث أرجح مما ذكره الفقيه، لِمَ ؟ لأن هذا يشرح كتاب الحديث ويعتمد على السنة وذاك يعتمد على كتاب المذهب، وهو في الواقع ليس الأمر كذلك، لأن هذا وهذا جميعاً يتأثر في الاستنباط والنظر بأصول الفقه التي دَرَسَها . وهي أصول مذهبه.
    فالنووي وابن حجر رحمهما الله تعالى في الاستنباط في أكثر المسائل بل في جل المسائل هم تبع للشافعية، ويأتي الناظر ويقول : رجّحه النووي، ويذهب عن قول ابن قدامة مثلاً أو يذهب عن قول فلان من الحنفية أو غيره باعتبار أن ذاك ينصر مذهبه لأنه رأى القول في كتاب فقهي، وهذا لن ينصر مذهبه باعتبار أنه وجده في كتاب شرح مسلم أو البخاري أو غير ذلك، هذا من عدم معرفة الفرق بين كتب الفقه وكتب الحديث.
    في كثير من المسائل يأتي طالب العلم وينقل أقوالاً عن الحافظ ابن حجر أو عن النووي، حتى في صورة المسألة، حتى في نوعية النظر في الخلاف، وإذا تأمل وتوّسع وجد أنهم نقلوها من كتب الفقه الشافعية، وعلماء الشافعية رحمهم الله تعالى خدموا كتب الحديث، ولهذا صارت ترجيحات المحدثين المتأخرين - أو الناظر في كتب الحديث من المتأخرين - تبعاً لترجيحات الشافعية لأنهم خدموا كتب الحديث أكثر من غيرهم . خدمة الحنفية لكتب الحديث قليلة، خدمة الحنابلة لكتب الحديث أقل، وهكذا.)) انتهى
    خامسا : أن من خلال تقررنا ومدارستنا لأعظم كتاب في مذهب قومنا ومرجعهم والذي إليه يطمئنون وعليه عمدتهم نقرر ونبين ونظهر عقيدة سلفنا الصالح ومن هم علمائنا ومرجع ديننا الذين جهلهم العامة وجُهل منزلتهم في زماننا هذا فهذا من أفضل وأحسن مداخل للدعوة إلى الله تعالى وإظهار السنة والتحذير من البدعة وأهلها وتقرير منهج السلف من أهل الحديث
    سادسا : لنجتمع على أفضل مائدة من موائد العلم والحديث هذا يأتي بفائدة في العقيدة وهذا بفائدة في الحديث وذاك في الفقه وأخر في السير وأخر في الأخلاق وما جرى فيحصل من هذا من التآلف والأخوة والمودة والمحبة أيما ما هو أنفس في هذه الدنيا
    وهلا أفضل في هذه الدنيا أن يجتمع الأحباب والأخوة على كتاب الله يتدارسونه أو على كتاب من كتب السنة يتفقهون فيه وما فيه فهذا من أنبل الاجتماعات وأفضلها وكان سلفنا الصالح يعقدون له مجالس من العشاء إلى الفجر في أيام باردة لله درهم وما أزكاهم
    سابعا : كل يرى ويعلم ولا نختلف في هذا أن الهمم في الطلب والتحصيل قد ضعفت من الزمان وفي هذا الزمن أكثر وأكثر والله المستعان وأن العبد المسلم يتطلع إلى رسالة أو قصاصة صغيرة يقرأ ما فيها ويكتفي ما فيها ويستغني عن غيرها ويتطلع ما في صفحات الانترنت من المختصرات وفتاوى العلماء والفوائد العلمية المنشورة ولهذا إذا كانت هذه المدارسة العلمية من حين إلى حين وعلى شكل حلقات وسلاسل يستفاد منها أولا الباحث وثانيا متتبع لها سواء من الزوار أو الأعضاء
    وفي أخير المطاف نود أن أطرح كيفية كون هذه المدارسة أن تكون
    هي بالطبع تكون على عبارة حلقات وسلاسل
    2ـ نجعل ترجمة للإمام مالك رحمه الله
    3 ـ نأخذ نبذة عن كتاب الموطأ من هم رواته والذين شرحوه وكيف دخل إلى شمال افريقيا وإلى غير ذلك ما فيه من المزايا والمحاسن وذكر ما أنتقد عليه وما هي منزلته في الأمة وفي كتب السنة
    4 ـ ثم نبدأ في شرح أحاديث الكتاب حديثا حديثا لا نتعجل حتى لو أخذ من العمر ما أخذ ويكون هذا الشرح
    أولا: بدراسة سنده وما قيل في رجال سنده وأي درجته في السنة من الصحة والحسن والضعف
    ثانيا : فقه المتن وهذا بذكر فوائده ومسائله المطروحة في المذهب ومن ثم ترجيح الراجح الأقوال في السنة
    وكما قلت لا نتعجل لا نقفز إلى الحديث الثاني ونحن لم نكمل الأول
    والشيء المهم ألا وهو نرجو من مشايخنا فضيلة الشيخ عبدالحميد العربي الذي له إلمام بالمذهب المالكي والشيخ يوسف والشيخ عبدالرزاق أن لا يبخلوا علينا بالمشاركة والتقويم والتفاعل معنا وليكن هذا المشروع مفخرة لمنتديات أهل الحديث وأعضائه وشيوخه عبر التاريخ ومرجع أهل شمال افريقيا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: دعوة إلى التفاعل والمدارسة لشرح كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله

    ترجم الإمام مالك الأصبحي رحمه الله من ( سير أعلام النبلاء ط الحديث 7/ 150) للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد الذهبي رحمه الله
    سيرته الشخصية
    هُوَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ، حُجَّةُ الأُمَّةِ، إِمَامُ دَارِ الهِجْرَةِ، أَبُو عَبْدِ اللهِ مَالِكُ بنُ أَنَسِ بنِ مَالِكِ بنِ أَبِي عَامِرٍ بنِ عَمْرِو بنِ الحَارِثِ بنِ غَيْمَانَ بنِ خُثَيْلِ بنِ عَمْرِو بنِ الحَارِثِ، وَهُوَ ذُو أَصْبَحَ بنُ عَوْفِ بنِ مَالِكِ بنِ زَيْدٍ بنِ شداد بن زُرْعَةَ، وَهُوَ حِمْيَرُ الأَصْغَرُ الحِمْيَرِيُّ، ثُمَّ الأَصْبَحِيُّ، المَدَنِيُّ، حَلِيْفُ بَنِي تَيْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَهُم حُلفَاءُ عُثْمَانَ أَخِي طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ، أَحَدِ العَشْرَة.
    وَأُمُّهُ هِيَ: عَالِيَةُ بِنْتُ شَرِيْكٍ الأزدية. وأعمامه هم: أبو سهل نَافِعٌ، وَأُوَيْسٌ، وَالرَّبِيْعُ، وَالنَّضْرُ أَوْلاَدُ أَبِي عَامِرٍ.
    وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ وَالِدِه أَنَسٍ، وَعَمَّيْهِ أُوَيْسٍ، وَأَبِي سُهَيْلٍ. وَقَالَ: مَوْلَى التَّيْمِيِّينَ، وَرَوَى أَبُو أُوَيْسٍ عَبْدُ اللهِ عَنْ عَمِّهِ الرَّبِيْعِ، وَكَانَ أَبُوْهُم مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِيْنَ. أَخَذَ عَنْ عُثْمَانَ، وَطَائِفَةٍ.
    مَوْلِدُ مَالِكٍ عَلَى الأَصَحِّ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَتِسْعِيْنَ، عَامَ مَوْتِ أَنَسٍ خَادِمِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَشَأَ فِي صَوْنٍ وَرَفَاهِيَةٍ وَتَجمُّلٍ.
    صِفَته
    ـ عَنْ عِيْسَى بنِ عُمَرَ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَطُّ بَيَاضاً، وَلاَ حُمْرَةً أَحْسَنَ مِنْ وَجْهِ مَالِكٍ، وَلاَ أَشَدَّ بَيَاضِ ثَوْبٍ مِنْ مَالِكٍ.
    ـ نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ طُوَالاً، جَسِيْماً، عَظِيْمَ الهَامَةِ، أَشقَرَ، أَبْيَضَ الرَّأسِ وَاللِّحْيَةِ، عَظِيْمَ اللِّحْيَةِ، أَصلَعَ، وَكَانَ لاَ يُحْفِي شَارِبَه، وَيَرَاهُ مُثْلَةً.
    وَقِيْلَ: كَانَ أَزْرَقَ العِيْنَ، رَوَى بَعْضُ ذَلِكَ: ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُطَرِّفِ بنِ عَبْدِ اللهِ.
    ـ َقَالَ مُحَمَّدُ بنُ الضَّحَّاكِ الحِزَامِيُّ: كَانَ مَالِكٌ نَقِيَّ الثَّوْبِ، رَقِيْقَهُ، يُكثِرُ اخْتِلاَفَ اللَّبُوسِ.
    ـ َقَالَ الوَلِيْدُ بنُ مُسْلِمٍ: كَانَ مَالِكٌ يَلْبَسُ البَيَاضَ، وَرَأَيْتُهُ وَالأَوْزَاعِيَّ يَلْبَسَانِ السِّيجَانَ.
    ـ قَالَ أَشْهَبُ: كَانَ مَالِكٌ إِذَا اعْتَمَّ، جَعَلَ مِنْهَا تَحْتَ ذَقْنِهِ، وَيُسْدِلُ طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ.
    ـ َقَالَ خَالِدُ بنُ خِدَاشٍ: رَأَيْتُ عَلَى مَالِكٍ طَيْلَسَاناً وَثِيَاباً مَرْويَّةً جِيَاداً.
    ـ َقَالَ أَشْهَبُ: كَانَ إِذَا اكْتَحَلَ لِلضَّرُوْرَةِ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ.
    ـ قَالَ مُصْعَبٌ: كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ العَدَنِيَّةَ وَيَتَطَيَّبُ.
    ـ َقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: مَا رَأَيْتُ مُحَدِّثاً أَحْسَنَ وَجْهاً من مالك.
    ـ َقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: رَأَيْتُ مَالِكاً خَضَبَ بِحِنَّاءٍ مَرَّةً.
    ـ َقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ: كَانَ مَالِكٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهاً، وَأَجْلاَهُم عَيْناً، وَأَنْقَاهُم بَيَاضاً، وَأَتَمِّهُم طُوْلاً، فِي جَوْدَةِ بَدَنٍ.
    ـ َعَنِ الوَاقِدِيِّ: كَانَ رَبْعَةً، لَمْ يَخْضِبْ، وَلاَ دَخَلَ الحَمَّامَ.
    ـ َعَنْ بِشْرِ بنِ الحَارِثِ، قَالَ: دَخَلْتُ على مالك، فرأيت عليه طيلسانًا يساوي خمسمائة، وَقَدْ وَقَعَ جَنَاحَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِالمُلُوْكِ.
    ـ َقَالَ أَشْهَبُ: كَانَ مَالِكٌ إِذَا اعْتَمَّ، جَعَلَ مِنْهَا تَحْتَ حَنَكِه، وَأَرْسَلَ طَرَفهَا خَلْفَهُ، وَكَانَ يَتَطَيَّبُ بِالمِسْكِ وَغَيْرِه.
    وَقَدْ سَاقَ القَاضِي عِيَاضٌ مِنْ وُجُوْهٍ: حُسْنَ بَزَّةِ الإِمَامِ وَوُفُورَ تجمله.
    نسبه
    فِي نَسَبِ مَالِكٍ اخْتِلاَفٌ مَعَ اتِّفَاقِهِم عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَصْبَحِيٌّ، فَقِيْلَ فِي جَدِّهِ الأَعْلَى: عَوْفُ بنُ مَالِكِ بنِ زَيْدِ بنِ عَامِرِ بن ربيعة بن بنت مَالِكِ بنِ زَيْدِ بنِ كَهْلاَنَ بنِ سَبَأَ بنِ يَشْجُبَ بنِ يَعْرُبَ بنِ قَحْطَانَ، وَإِلَى قَحْطَانَ جِمَاعُ اليَمَنِ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ الأَصْبَحِيِّينَ مِنْ حِمْيَرٍ، وَحِمْيَرٌ فَمِنْ قَحْطَانَ.
    نَعَمْ، وَغَيْمَانُ فِي نَسَبِهِ المَشْهُوْرِ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، ثُمَّ بِآخِرِ الحُرُوْفِ عَلَى المَشْهُوْرِ وَقِيْلَ: عُثْمَانُ عَلَى الجَادَّةِ، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ. وَخُثَيْلٌ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ، ثُمَّ بِمُثَلَّثَةٍ. قَالَهُ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ وَقَالَ إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: جُثَيْل: بِجِيْمٍ، ثُمَّ بِمُثَلَّثَةٍ، وَقِيْلَ: حَنْبَلٌ، وَقِيْلَ: حِسْل وَكِلاَهُمَا تَصْحِيْفٌ.
    قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: اخْتُلِفَ فِي نَسَبِ ذِي أصبح، احتلافًا كَثِيْراً.
    طلبه للعلم وحرصه وصبره عليه وإعزازه إياه وسؤدده فيه وثناء اهل العلم عليه
    ـ طَلبَ مَالِكٌ العِلْمَ وَهُوَ ابْنُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَتَأَهَّل لِلْفُتْيَا، وَجَلَسَ لِلإِفَادَةِ، وَلَهُ إِحْدَى وَعِشْرُوْنَ سَنَةً، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ وَهُوَ حَيٌّ شَابٌّ طَرِيٌّ، وَقَصَدَهُ طَلبَةُ العِلْمِ مِنَ الآفَاقِ فِي آخِرِ دَوْلَةِ أَبِي جَعْفَرٍ المَنْصُوْرِ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ فِي خِلاَفَةِ الرَّشِيْدِ، وَإِلَى أَنْ مَاتَ.
    ـ كَانَ عَالِمَ المَدِيْنَةِ فِي زَمَانِهِ بَعْدَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبَيْهِ، زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَعَائِشَةُ، ثُمَّ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ سَعِيْدُ بنُ المُسَيِّبِ، ثُمَّ الزُّهْرِيُّ، ثُمَّ عُبَيْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، ثُمَّ مَالِكٌ.
    َـ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: مَالِكٌ عَالِمُ أَهْلِ الحِجَازِ، وَهُوَ حُجَّةُ زَمَانِهِ.
    ـ َقَالَ الشَّافِعِيُّ -وَصَدَقَ وَبَرَّ: إِذَا ذُكر العُلَمَاءُ فَمَالِكٌ النَّجْمُ.
    ـ قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: أَئِمَّةُ النَّاسِ فِي زَمَانِهِم أَرْبَعَةٌ: الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَعقَلَ مِنْ مَالِكٍ.
    ـ َلَمْ يَكُنْ بِالمَدِيْنَةِ عَالِمٌ مِنْ بَعْدِ التَّابِعينَ يُشْبِهُ مَالِكاً فِي العِلْمِ، وَالفِقْهِ، وَالجَلاَلَةِ، وَالحفظِ، فَقَدْ كَانَ بِهَا بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِثْلُ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، وَالفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ ، وَالقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَنَافِعٍ، وَطَبَقَتِهِم، ثُمَّ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَيَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، وَصَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ، وَرَبِيْعَةَ بنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَطَبَقَتِهِم، فَلَمَّا تَفَانَوْا, اشْتُهِرَ ذِكْرُ مَالِكٍ بِهَا، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَبْدِ العَزِيْزِ بنِ المَاجَشُوْنِ، وَسُلَيْمَانَ بنِ بِلاَلٍ، وفُليح بنِ سُلَيْمَانَ، وَالدَّرَاوَرْدِيِّ، وَأَقرَانِهِم، فَكَانَ مَالِكٌ هُوَ المُقَدَّمَ فِيْهِم عَلَى الإِطلاَقِ، وَالَّذِي تُضرَبُ إِلَيْهِ آبَاطُ الإِبِلِ مِنَ الآفَاقِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
    قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ -وَذَكَرَ سَادَةً مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِيْنَ بِالمَدِيْنَةِ، كَابْنِ المُسَيِّبِ وَمَنْ بَعْدَهُ- قَالَ: فَمَا ضُرِبَتْ أَكبَادُ الإِبلِ مِنَ النَّوَاحِي إِلَى أَحَدٍ مِنْهُم دُوْنَ غَيْرِهِ، حَتَّى انْقَرَضُوا، وَخلاَ عصرُهُم، ثُمَّ حَدَّث مِثْلُ ابْنِ شِهَابٍ، وَرَبِيْعَةَ، وَيَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ، وَعَبْدِ اللهِ بنِ يَزِيْدَ بنِ هُرْمُزَ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَصَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ، وَكُلُّهُم يُفْتِي بِالمَدِيْنَةِ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ وَاحِدٌ مِنْهُم بِأَنْ ضُرِبَتْ إِلَيْهِ أَكبَادَ الإِبِلِ، حَتَّى خَلاَ هَذَا العَصْرُ، فَلَمْ يَقعْ بِهِمُ التَّأْوِيْلُ فِي عَالِمِ أَهْلِ المَدِيْنَةِ. ثُمَّ حدَّثَ بَعْدَهُم مَالِكٌ، فَكَانَ مُفتِيْهَا فَضُرِبَتْ إِلَيْهِ أَكبَادُ الإِبِلِ مِنَ الآفَاقِ، وَاعْتَرَفُوا لَهُ، وَرَوَتِ الأَئِمَّةُ عَنْهُ مِمَّنْ كَانَ أَقدمَ مِنْهُ سِنّاً، كَاللَّيْثِ عَالِمِ أَهْلِ مِصْرَ، وَالمَغْرِبِ، وَكَالأَوْزَاعِيِّ عَالِمِ أَهْلِ الشَّامِ وَمُفتِيْهِم، وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ المُقَدَّمِ بِالكُوْفَةِ، وَشُعْبَةَ عَالِمِ أَهْلِ البَصْرَةِ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَحَمَلَ عَنْهُ قَبْلَهُم يَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ الأَنْصَارِيُّ حِيْنَ وَلاَّهُ أَبُو جَعْفَرٍ قَضَاءَ القُضَاةِ، فَسَأَلَ مَالِكاً أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مائَةَ حَدِيْثٍ حِيْنَ خَرَجَ إِلَى العِرَاقِ، وَمِنْ قَبْلُ كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ حَمَلَ عَنْهُ.
    ـ الحَسَنُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ الجَرَوِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ يُوْسُفَ، عَنْ خَلَفِ بنِ عمر: سمع مَالِكاً يَقُوْلُ: مَا أَجَبتُ فِي الفَتْوَى حَتَّى سَأَلْتُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي: هَلْ تَرَانِي مَوْضِعاً لِذَلِكَ؟ سَأَلْتُ رَبِيْعَةَ، وَسَأَلْتُ يَحْيَى بنَ سَعِيْدٍ، فَأَمَرَانِي بِذَلِكَ. فَقُلْتُ: فَلَو نَهَوْكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَنْتَهِي، لاَ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَبذُلَ نَفْسَه حَتَّى يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ.
    ـ يَاسِيْنُ بنُ عَبْدِ الأَحَدِ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بنُ المُحَبِّرِ الرُّعيني، قَالَ: قَدِمَ المَهْدِيُّ المَدِيْنَةَ، فَبَعَثَ إِلَى مَالِكٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ لِهَارُوْنَ وَمُوْسَى: اسْمَعَا مِنْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُجِبْهُمَا، فَأَعْلَمَا المَهْدِيَّ، فَكلَّمَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! العِلْمُ يُؤْتَى أَهْلُهُ. فَقَالَ: صَدَقَ مَالِكٌ، صِيْرَا إِلَيْهِ. فَلَمَّا صَارَا إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ مُؤَدِّبُهُمَا: اقْرَأْ عَلَيْنَا. فقال: إن أهل المدينة يقرءون عَلَى العَالِمِ، كَمَا يَقْرَأُ الصِّبْيَانُ عَلَى المُعَلِّمِ، فإذا أخطئوا، أَفْتَاهُم. فَرَجَعُوا إِلَى المَهْدِيِّ، فَبَعَثَ إِلَى مَالِكٍ، فَكلَّمَه، فَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُوْلُ: جَمَعْنَا هَذَا العِلْمَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ رِجَالٍ، وَهُمْ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ: سَعِيْدُ بنُ المُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعُرْوَةُ، وَالقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَخَارِجَةُ بنُ زَيْدٍ، وَسُلَيْمَانُ بنُ يَسَارٍ، وَنَافِعٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ هُرْمُزَ، وَمِنْ بَعْدِهِم: أَبُو الزِّنَادِ، وَرَبِيْعَةُ، وَيَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ، وَابْنُ شِهَابٍ، كُلُّ هَؤُلاَءِ يُقْرَأُ عليهم، ولا يقرءون. فقال: في هؤلاء قدوة، صيروا إليه، فاقرءوا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا.
    ـ قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ هَارُوْنُ يُرِيْدُ الحجَّ، وَمَعَهُ يَعْقُوْبُ أَبُو يُوْسُفَ، فَأَتَى مَالِكٌ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، فَقَرَّبَهُ، وَأَكرَمَه، فَلَمَّا جَلَسَ، أَقْبَلَ إِلَيْهِ أَبُو يُوْسُفَ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ عَادَ، فَسَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ عَادَ, فَسَأَلَهُ، فَقَالَ هَارُوْنُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! هَذَا قَاضِينَا يَعْقُوْبُ يَسْأَلُكَ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ مَالِكٌ، فَقَالَ: يَا هَذَا! إِذَا رَأَيتَنِي جَلَسْتُ لأَهْلِ البَاطِلِ فَتَعَالَ، أُجِبْكَ مَعَهُم.
    ـ السَّرَّاجُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ: كُنَّا إِذَا دَخَلنَا عَلَى مَالِكٍ، خَرَجَ إِلَيْنَا مُزَيَّنًا، مُكَحَّلاً، مُطَيَّباً، قَدْ لَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، وَتَصَدَّرَ الحَلْقَةَ، وَدَعَا بِالمَرَاوِحِ، فَأَعْطَى لِكُلٍّ مِنَّا مَرْوَحَةً.
    ـ هَارُوْنُ بنُ مُوْسَى الفَرْوِيُّ: سَمِعْتُ مُصْعَباً الزُّبَيْرِيَّ يَقُوْلُ: سَأَلَ هَارُوْنُ الرَّشِيْدُ مَالِكاً -وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ، وَمَعَهُ بَنُوْهُ- أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِم. قَالَ: مَا قَرَأتُ عَلَى أَحَدٍ مُنْذُ زَمَانٍ، وَإِنَّمَا يُقْرَأُ عليَّ. فَقَالَ: أَخرِجِ النَّاسَ حَتَّى أَقَرَأَ أَنَا عَلَيْكَ. فَقَالَ: إِذَا مُنع العَامُّ لِبَعْضِ الخَاصِّ، لَمْ يَنْتَفِعِ الخَاصُّ. وَأَمَرَ مَعْنَ بنَ عِيْسَى، فَقَرَأَ عَلَيْهِ.
    ـ إِسْمَاعِيْلُ بنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ خَالِي مَالِكاً عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ لِي: قِرّ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى السَّرِيْرِ، ثُمَّ قَالَ: لاَ حَولَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ. وَكَانَ لاَ يُفْتِي حَتَّى يَقُوْلَهَا.
    ـ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى المَنْصُوْرِ، وَكَانَ يدخل عليه الهاشميون، فيقبلون يده ورجله، وعصمني اللهُ مِنْ ذَلِكَ.
    ـ الحَارِثُ بنُ مِسْكِيْنٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ القَاسِمِ، قَالَ: قِيْلَ لِمَالِكٍ: لِمَ لَمْ تَأْخُذْ عَنْ عَمْرِو بنِ دِيْنَارٍ؟ قَالَ: أَتَيْتُهُ، فَوَجَدتُهُ يَأْخذُوْنَ عَنْهُ قِيَاماً، فَأَجْلَلْتُ حَدِيْثَ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ آخُذَهُ قَائِماً.
    ـ قَالَ الهَيْثَمُ بنُ جَمِيْلٍ: سَمِعْتُ مَالِكاً سُئِلَ عَنْ ثمانٍ وَأَرْبَعِيْنَ مَسْأَلَةً، فَأَجَابَ فِي اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِيْنَ مِنْهَا بِـ: لاَ أَدْرِي.
    ـ َعَنْ خَالِدِ بنِ خِدَاشٍ، قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى مَالِكٍ بِأَرْبَعِيْنَ مَسْأَلَةً، فَمَا أَجَابَنِي مِنْهَا إِلاَّ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ.
    ـ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ، سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بنَ يَزِيْدَ بنِ هُرْمُزَ يَقُوْلُ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُورِّثَ جُلَسَاءهُ قَوْلَ: "لاَ أَدْرِي"، حَتَّى يَكُوْنَ ذَلِكَ أَصْلاً يَفْزَعُوْنَ إِلَيْهِ.
    ـ قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: صَحَّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ: "لاَ أَدْرِي" نِصْفُ العلم.
    ـ قال يُوْنُسُ بنُ عَبْدِ الأَعْلَى: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، سَمِعْتُ مَالِكاً -وَقَالَ لَهُ ابْنُ القَاسِمِ: لَيْسَ بَعْدَ أَهْلِ المَدِيْنَةِ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِالبُيُوْعِ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ- فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَيْنَ عَلِمُوا ذَلِكَ? قَالَ: مِنْكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ. فَقَالَ: مَا أَعْلَمُهَا أَنَا، فكيف يعلمونها بي؟
    ـ َعَنْ مَالِكٍ، قَالَ: جُنَّة العَالِمِ: "لاَ أَدْرِي"، فَإِذَا أَغفَلَهَا أُصِيْبَتْ مَقَاتِلُهُ.(1)
    ـ قَالَ مُصْعَبُ بنُ عَبْدِ اللهِ: كَانَتْ حَلْقَةُ مَالِكٍ فِي زَمَنِ رَبِيْعَةَ مِثْلَ حَلْقَةِ رَبِيْعَةَ وَأَكْبَرَ، وَقَدْ أَفْتَى مَعَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ.
    ـ مُحَمَّدُ بنُ جَرِيْرٍ: حَدَّثَنَا العَبَّاسُ بنُ الوَلِيْدِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ حَمَّادٍ الزُّهْرِيُّ، سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُوْلُ: قَالَ لِي المَهْدِيُّ: ضَعْ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ كِتَاباً أَحْمِلُ الأُمَّةَ عَلَيْهِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، أَمَّا هَذَا الصُّقع -وَأَشَرتُ إِلَى المَغْرِبِ- فَقَدْ كُفِيْتَهُ، وَأَمَّا الشَّامُ، فَفِيْهُم مَنْ قَدْ عَلِمتَ -يَعْنِي: الأَوْزَاعِيَّ- وَأَمَّا العِرَاقُ, فَهُم أَهْلُ العِرَاقِ.
    ـ ابْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ، سَمِعْتُ بن عمر مَالِكاً يَقُوْلُ: لَمَّا حَجَّ المَنْصُوْرُ، دَعَانِي، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَحَادَثْتُه، وَسَأَلَنِي، فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: عَزمتُ أَنْ آمُرَ بِكُتُبِكَ هَذِهِ -يَعْنِي: "المُوَطَّأَ"- فَتُنسَخَ نُسَخاً، ثُمَّ أَبعَثَ إِلَى كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ المُسْلِمِيْنَ بِنُسخَةٍ، وَآمُرَهُم أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيْهَا، وَيَدَعُوا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ العِلْمِ المُحْدَثِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ أَصْلَ العِلْمِ رِوَايَةُ أَهْلِ المَدِيْنَةِ وَعِلْمُهُم. قُلْتُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ لاَ تَفْعَلْ، فإن الناس قد سيقت إليهم أقاويل، وَسَمِعُوا أَحَادِيْثَ، وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ، وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا سِيقَ إِلَيْهِم، وَعَمِلُوا بِهِ، وَدَانُوا بِهِ، مِنِ اخْتِلاَفِ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَغَيْرِهم، وَإِنَّ رَدَّهُم عَمَّا اعْتَقَدُوْهُ شَدِيْدٌ، فَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَمَا اختار أهل كل بلد لأَنْفُسِهِم. فَقَالَ: لَعَمْرِي، لَوْ طَاوَعْتَنِي لأمَرتُ بِذَلِكَ.
    ـ قَالَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ مِسْكِيْنٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ، قَالاَ: سَمِعْنَا مَالِكاً يَذْكُرُ دُخُوْلَهُ عَلَى المَنْصُوْرِ، وَقَوْلَهُ فِي انْتِسَاخِ كُتُبِهِ، وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَيْهَا، فَقُلْتُ: قَدْ رَسَخَ فِي قُلُوْبِ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ مَا اعْتَقَدُوْهُ وَعَمِلُوا بِهِ، وردُّ العَامَّةِ عَنْ مِثْلِ هَذَا عَسِيْرٌ.
    كَانَ مَجْلِسُهُ مَجْلِسَ وَقَارٍ وَحِلمٍ
    قَالَ: وَكَانَ رَجُلاً مَهِيْباً، نَبِيْلاً، لَيْسَ فِي مَجْلِسِهِ شَيْءٌ مِنَ المِرَاءِ وَاللَّغَطِ، وَلاَ رَفْعُ صَوْتٍ، وَكَانَ الغُربَاءُ يَسْأَلُوْنَهُ عَنِ الحَدِيْثِ، فَلاَ يُجِيْبُ إِلاَّ فِي الحَدِيْثِ بَعْدَ الحَدِيْثِ، وَرُبَّمَا أَذِنَ لِبَعْضِهِم يَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ كَاتِبٌ قَدْ نَسَخَ كُتُبَهُ، يُقَالُ لَهُ: حَبِيْبٌ، يَقْرَأُ لِلْجَمَاعَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ أَحَدٌ فِي كِتَابِهِ وَلاَ يَسْتَفِهِمُ هَيْبَةً لِمَالِكٍ، وَإِجْلاَلاً لَهُ، وَكَانَ حَبِيْبٌ إِذَا قَرَأَ فَأَخطَأَ فَتَحَ عَلَيْهِ مَالِكٌ، وَكَانَ ذَلِكَ قَلِيْلاً.
    من درر الإمام مالك
    ـ قال ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُوْلُ: مَا أَكْثَرَ أَحَدٌ قَطُّ، فَأَفلَحَ.
    ـ حَرْملَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ لِي مَالِكٌ: العِلْمُ يَنْقُصُ وَلاَ يَزِيْدُ، وَلَمْ يَزَلِ العِلْمُ يَنْقُصُ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ وَالكُتُبِ.
    ـ حَرْملَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُوْلُ: أَعْلَمُ أَنَّهُ فَسَادٌ عَظِيْمٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ الإِنسَانُ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ.(2)
    ـ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُوْلُ: مَا تَعلَّمْتُ العِلْمَ إِلاَّ لِنَفْسِي، وَمَا تَعلَّمتُ لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إليَّ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّاسُ.
    ـ إِبْرَاهِيْمُ الحِزَامِيُّ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بنُ عَبْدِ اللهِ: قَالَ لِي مَالِكٌ: مَا يَقُوْلُ النَّاسُ فِيَّ؟ قُلْتُ: أَمَّا الصَّدِيْقُ فَيُثْنِي، وَأَمَّا العَدُوُّ فَيَقعُ. فَقَالَ: مَا زَالَ النَّاسُ كَذَلِكَ، وَلَكِن نَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ تَتَابُعِ الأَلسِنَةِ كُلِّهَا.
    ـ حَرْملَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُوْلُ: لَيْسَ هَذَا الجَدَلُ مِنَ الدِّيْنِ بِشَيْءٍ.
    ـ إِبْرَاهِيْمُ بنُ المُنْذِرِ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ، وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: لاَ يُؤْخَذُ العِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ: سَفِيْهٍ يُعلِنُ السَّفَهَ، وَإِنْ كَانَ أَرْوَى النَّاسِ، وَصَاحِبِ بِدْعَةٍ يَدعُو إِلَى هَوَاهُ، وَمَنْ يَكْذِبُ فِي حَدِيْثِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتُ لاَ أتهمه في الحَدِيْثِ، وَصَالِحٍ عَابِدٍ فَاضِلٍ، إِذَا كَانَ لاَ يَحْفَظُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ. (3)
    مكانة الإمام مالك في الرواية وتحريه فيها
    ـ أَحْمَدُ بنُ صَالِحٍ: سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ يَقُوْلُ: قَالَ مَالِكٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ مِنِ ابْنِ شِهَابٍ أَحَادِيْثَ كَثِيْرَةً، مَا حَدَّثْتُ بِهَا قَطُّ، وَلاَ أحدث بها.
    ـ َرُوِيَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ مَالِكاً وَآلَهُ مَوَالِي بَنِي تَيْمٍ، فَأَخْطَأَ، وَكَانَ ذَلِكَ أَقْوَى سَبَبٍ فِي تَكْذِيبِ الإِمَامِ مَالِكٍ لَهُ، وَطَعْنِهِ عَلَيْهِ.
    ـ قَدْ كَانَ مَالِكٌ إِمَاماً فِي نَقْدِ الرِّجَالِ، حَافِظاً، مُجَوِّداً، مُتْقِناً.
    ـ قَالَ بِشْرُ بنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ: سَأَلْتُ مَالِكاً عَنْ رَجُلٍ، فَقَالَ: هل رأيته فِي كُتُبِي؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: لَوْ كَانَ ثِقَةً، لَرَأَيْتَهُ فِي كُتُبِي.
    فَهَذَا القَوْلُ يُعْطِيْكَ بِأَنَّهُ لاَ يَرْوِي إِلاَّ عَمَّنْ هُوَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ كُلِّ الثِّقَاتِ، ثُمَّ لاَ يَلْزَمُ مِمَّا قَالَ أَنَّ كُلَّ مَنْ رَوَى عَنْهُ -وَهُوَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ- أَنْ يَكُوْنَ ثِقَةً عِنْد بَاقِي الحُفَّاظِ، فَقَدْ يَخفَى عَلَيْهِ مِنْ حَالِ شَيْخِه مَا يَظْهَرُ لِغَيْرِه، إِلاَّ أَنَّهُ بِكُلِّ حَالٍ كَثِيْرُ التَّحَرِّي فِي نَقْدِ الرِّجَالِ -رَحِمَهُ اللهُ.
    ـ ابْنُ البَرْقِيِّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بنُ كِنَانَةَ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: رُبَّمَا جَلَسَ إِلَيْنَا الشَّيْخُ، فَيُحُدِّثُ جُلَّ نَهَارِه، مَا نَأخُذُ عَنْهُ حَدِيْثاً وَاحِداً، وَمَا بِنَا أَنْ نَتَّهِمَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الحَدِيْثِ.
    ـ إِسْمَاعِيْلُ القَاضِي: حَدَّثَنَا عَتِيْقُ بن يعقوب، سمعت مالكًا يقول: حدثنا بن شِهَابٍ بِبِضْعَةٍ وَأَرْبَعِيْنَ حَدِيْثاً، ثُمَّ قَالَ: أَعِدْهَا عليَّ، فَأَعَدتُ عَلَيْهِ مِنْهَا أَرْبَعِيْنَ حَدِيْثاً.
    ـ َقَالَ نَصْرُ بنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بنُ عُرْوَةَ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا الزُّهْرِيُّ، فَأَتَيْنَاهُ وَمَعَنَا رَبِيْعَةُ، فَحَدَّثَنَا بِنَيِّفٍ وَأَرْبَعِيْنَ حَدِيْثاً، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مِنَ الغَدِ، فَقَالَ: انْظُرُوا كِتَاباً حَتَّى أُحَدِّثَكُم مِنْهُ، أَرَأَيتُم مَا حَدَّثتُكُم بِهِ أَمْسُ، أيش في أيديكم منه؟ فقال ربيعة: ههنا مَنْ يَردُّ عَلَيْكَ مَا حَدَّثتَ بِهِ أَمْسُ. قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: ابْنُ أَبِي عَامِرٍ. قَالَ: هَاتِ. فَسَرَدَ لَهُ أَرْبَعِيْنَ حَدِيْثاً مِنْهَا. فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ بَقِيَ من يحفظ هذا غيري.
    ـ قَالَ البُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بنِ عَبْدِ اللهِ: لِمَالِكٍ نَحْوٌ مِنْ أَلفِ حَدِيْثٍ.
    قُلْتُ: أَرَادَ مَا اشْتُهِرَ لَهُ فِي "المُوَطَّأِ" وَغَيْرِه، وَإِلاَّ فَعِنْدَهُ شَيْءٌ كَثِيْرٌ، مَا كَانَ يَفْعَلُ أَنْ يَرْوِيَهُ.
    ـ َرَوَى عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: رَحِمَ اللهُ مَالِكاً، مَا كَانَ أَشَدَّ انْتِقَادَهُ لِلرِّجَالِ.
    ـ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَعِيْنٍ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَا نَحْنُ عِنْدَ مَالِكٍ، إِنَّمَا كُنَّا نَتَّبِعُ آثَارَ مَالِكٍ، وَنَنظُرُ الشَّيْخَ، إِنْ كَانَ كَتَبَ عَنْهُ مَالِكٌ، كَتَبنَا عَنْهُ.
    ـ َرَوَى طَاهِرُ بنُ خَالِدٍ الأَيْلِيُّ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: كَانَ مَالِكٌ لاَ يُبَلِّغ مِنَ الحَدِيْثِ إِلاَّ صَحِيْحاً، وَلاَ يُحَدِّثُ إِلاَّ عَنْ ثِقَةٍ، مَا أَرَى المَدِيْنَةَ إِلاَّ ستَخربُ بَعْدَ مَوْتِهِ -يَعْنِي: مِنَ العِلْمِ.
    ـ الطَّحَاوِيُّ: حَدَّثَنَا يُوْنُسُ، سَمِعْتُ سُفْيَانَ -وَذَكَرَ حَدِيْثاً- فَقَالُوا: يُخَالِفُكَ فِيْهِ مَالِكٌ.
    ثُمَّ قَالَ يُوْنُسُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ القَرِيْنَانِ، وَلَوْلاَ مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، لَذَهَبَ عِلْمُ الحِجَازِ.
    ـ قال وَهْبُ بنُ جَرِيْرٍ، وَغَيْرُه، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: قَدِمْتُ المَدِيْنَةَ بَعْدَ مَوْتِ نَافِعٍ بِسَنَةٍ، وَلِمَالِكِ بنِ أَنَسٍ حَلْقة.
    ـ َقَالَ حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَيُّوْبُ، قَالَ: لَقَدْ كَانَ لِمَالِكٍ حَلْقَةٌ فِي حَيَاةِ نَافِعٍ.
    ـ قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ المُغِيْرَةَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ المَاجَشُوْنِ، فَرَفَعَ مَالِكاً، وَقَالَ: مَا اعْتَدَلاَ فِي العِلْمِ قَطُّ.
    ـ ابْنُ المَدِيْنِيِّ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ مَهْدِيٍّ يَقُوْلُ: أَخْبَرَنِي وُهَيْبٌ -وَكَانَ مِنْ أَبصَرِ النَّاسِ بِالحَدِيْثِ وَالرِّجَالِ- أَنَّهُ قَدِمَ المَدِيْنَةَ، قَالَ: فَلَمْ أَرَ أَحَداً إِلاَّ تَعْرِفُ وَتُنْكِرُ إِلاَّ مَالِكاً، وَيَحْيَى بنَ سَعِيْدٍ الأَنْصَارِيَّ.
    ـ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لاَ أُقَدِّمُ عَلَى مَالِكٍ فِي صِحَّةِ الحَدِيْثِ أَحَداً.
    ـ َقَالَ ابْنُ لَهِيْعَةَ: قُلْتُ لأَبِي الأَسْوَدِ: مَنْ لِلرَّأيِ بَعْدَ رَبِيْعَةَ بِالمَدِيْنَةِ؟ قال: الغلام الأصبحي.
    ـ الحَارِثُ بنُ مِسْكِيْنٍ: سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ يَقُوْلُ: لَوْلاَ أَنِّي أَدْرَكتُ مَالِكاً وَاللَّيْثَ، لَضَلَلْتُ.
    ـ هَارُوْنُ بنُ سَعِيْدٍ: سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ ذَكَرَ اخْتِلاَفَ الحَدِيْثِ وَالرِّوَايَاتِ، فَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّي لَقِيْتُ مَالِكاً، لضللت.
    ـ َقَالَ يَحْيَى القَطَّانُ: مَا فِي القَوْمِ أَصَحُّ حَدِيْثاً مِنْ مَالِكٍ، كَانَ إِمَاماً فِي الحَدِيْثِ. قَالَ: وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَوْقَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
    ـ قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ: أَقَمْتُ عند مالك ثلاث سنين وكسرا، وسمعت من لفظه أكثر من سبعمائة حَدِيْثٍ، فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ مَالِكٍ امْتَلأَ مَنْزِلُهُ، وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ غَيْرِه مِنَ الكُوْفِيِّيْنَ، لَمْ يَجِئْهُ إِلاَّ اليَسِيْرُ.
    ـ َقَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ العَدَني: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: مَالِكٌ مُعَلِّمي، وَعَنْهُ أَخَذْتُ العِلْمَ.
    ـ َعَنِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: كَانَ إِذَا شَكَّ فِي حَدِيْثٍ طَرَحَهُ كُلَّهُ.
    ـ أَبُو عُمَرَ بنُ عَبْدِ البَرِّ: حَدَّثَنَا قَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ نَصْرٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الحَكَمِ، سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ، يَقُوْلُ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ: صَاحِبُنَا أَعْلَمُ مِنْ صَاحِبِكُم -يُرِيْدُ أَبَا حَنِيْفَةَ وَمَالِكاً- وَمَا كَانَ لِصَاحِبِكُم أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَمَا كَانَ لِصَاحِبِنَا أَنْ يَسكُتَ. فَغَضِبْتُ، وَقُلْتُ: نَشَدْتُكَ اللهَ مَنْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ، مَالِكٌ أَوْ صَاحِبُكُم؟ فَقَالَ: مَالِكٌ، لَكِنْ صَاحِبُنَا أَقْيَسُ. فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَمَالِكٌ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوْخِه وَبِسُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَبِي حَنِيْفَةَ، وَمَنْ كَانَ أَعْلَمَ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَانَ أَوْلَى بِالكَلاَمِ.
    ـ قَالَ يُوْنُسُ بنُ عَبْدِ الأَعْلَى: قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ: ذَاكَرْتُ يَوْماً مُحَمَّدَ بنَ الحَسَنِ، وَدَارَ بَيْنَنَا كَلاَمٌ وَاخْتِلاَفٌ، حَتَّى جَعَلتُ أَنْظُرُ إِلَى أَوْدَاجِه تَدِرُّ، وَأَزْرَارِهِ تَتَقَطَّعُ، فَقُلْتُ: نَشَدْتُكَ بِاللهِ، تَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَنَا كَانَ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قُلْتُ: وَكَانَ عَالِماً باخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
    محنة مالك :
    ـ ابْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا الواقدي، قال: ما دُعِيَ مَالِكٌ، وشُووِرَ، وَسُمِعَ مِنْهُ، وَقُبِلَ قَوْلُهُ، حُسِدَ، وبَغَوه بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا وَلِيَ جَعْفَرُ بنُ سُلَيْمَانَ المَدِيْنَةَ، سَعَوْا بِهِ إِلَيْهِ، وَكَثَّرُوا عَلَيْهِ عِنْدَهُ، وَقَالُوا: لاَ يَرَى أَيْمَانَ بَيْعَتِكُم هَذِهِ بِشَيْءٍ، وَهُوَ يَأْخُذُ بِحَدِيْثٍ رَوَاهُ عَنْ ثَابِتِ بنِ الأَحْنَفِ فِي طَلاَقِ المُكْرَهِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوْزُ عِنْدَهُ. قَالَ: فَغَضِبَ جَعْفَرٌ، فَدَعَا بِمَالِكٍ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِمَا رُفِعَ إِلَيْهِ عَنْهُ، فَأَمَرَ بِتَجرِيْدِه، وَضَرْبِهِ بِالسِّيَاطِ، وجُبْذَت يَدُهُ حَتَّى انخلعت من كَتِفِهِ، وَارتُكِبَ مِنْهُ أَمْرٌ عَظِيْمٌ، فَوَاللهِ مَا زَالَ مَالِكٌ بَعْدُ فِي رِفْعَةٍ وَعُلُوٍّ.
    قُلْتُ: هَذَا ثَمَرَةُ المِحْنَةِ المَحْمُوْدَةِ، أَنَّهَا تَرفَعُ العَبْدَ عِنْدَ المُؤْمِنِيْنَ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَهِيَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيْنَا، وَيَعْفُو اللهُ عَنْ كَثِيْرٍ: "وَمَنْ يُرِدِ الله به خيرًا يصيب مِنْهُ"، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ قَضَاءِ المُؤْمِنِ خَيْرٌ لَهُ". وَقَالَ اللهُ -تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [مُحَمَّدٌ: 31] . وَأَنْزَلَ -تَعَالَى- فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ قَوْلَهُ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آلُ عِمْرَانَ: 165] . وَقَالَ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّوْرَى: 30] . فَالمُؤْمِنُ إِذَا امْتُحِنَ صَبَرَ وَاتَّعَظَ وَاسْتَغْفَرَ، وَلَمْ يَتَشَاغَلْ بِذَمِّ مِنِ انْتَقَمَ مِنْهُ، فَاللهُ حَكَمٌ مُقْسِطٌ، ثُمَّ يَحْمَدُ اللهَ عَلَى سَلاَمَةِ دِيْنِه، وَيَعْلَمُ أَنَّ عُقُوْبَةَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ وَخَيْرٌ لَهُ.
    فوائد من ترجمة الإمام رحمه الله
    (1) ـ يستفاد منها على طالب العلم أن يحذر من منزلق إفتاء وإصدار الأحكام على غير العلم والدراية وعليه أن يوطن نفسه على قول الله اعلم ولا ادري ويوجد غيري
    قال العلامة الفقيه المحقق المدقق محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتابه ( كتاب العلم ص 69 )
    الإفتاء بغير علم:
    الإفتاء منصب عظيم، به يتصدى صاحبه لبيان ما يشكل على العامة من أمور دينهم، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم؛ لذلك كان هذا المنصب العظيم لا يتصدر له إلا من كان أهلا له لذلك يجب على العباد أن يتقوا الله تعالى وأن لا يتكلموا إلا عن علم وبصيرة، وأن يعلموا أن الله وحده له الخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للخلق إلا الله ولا شريعة للخلق سوى شريعة الله، فهو الذي يوجب الشيء، وهو يحرمه، وهو الذي يندب إليه ويحلله، ولقد أنكر الله على من يحللون ويحرمون بأهوائهم فقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [يونس: 59، 60].
    وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}{مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 ، 117].
    وإن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري ما حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه حرام وهو لا يدري عن حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه واجب وهو لا يدري أن الله أوجبه، ويقول عن الشيء إنه غير واجب وهو لا يدري أن الله لم يوجبه، إن هذه جناية وسوء أدب مع الله عز وجل.
    كيف تعلم أيها العبد أن الحكم لله ثم تتقدم بين يديه فتقول في دينه وشريعته ما لا تعلم؟ لقد قرن الله القول عليه بلا علم بالشرك به ، فقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
    وإن كثيرًا من العامة يفتي بعضهم بعضًا بما لا يعلمون فتجدهم يقولون هذا حلال، أو حرام، أو واجب، أو غير واجب، وهم لا يدرون عن ذلك شيئًا ، أفلا يعلم هؤلاء أن الله تعالى سائلهم عما قالوا يوم القيامة أفلا يعلم هؤلاء أنهم إذا أضلوا شخصًا فأحلوا له ما حرم الله ، أو حرَّموا ما أحل الله له فقد باءوا بإثمه وكان عليهم مثل وزر ما عمل وذلك بسبب ما أفتوه به.
    وإن بعض العامة يجني جناية أخرى فإذا رأى شخصًا يريد أن يستفتي عالمًا يقول له هذا العامي لا حاجة أن تستفتي ، هذا أمر واضح ، هذا حرام مع أنه في الواقع حلال فيحرمه ما أحل الله له ، أو يقول له: هذا واجب فيلزمه بما لم يلزمه الله به، أو يقول هذا غير واجب في شريعة الله فيسقط عنه ما أوجب الله عليه، أو يقول هذا حلال وهو في الواقع حرام، وهذه جناية منه على شريعة الله، وخيانة لأخيه المسلم حيث أفتاه بدون علم، أرأيتم لو أن شخصًا سأل عن طريق بلد من البلدان، فقلت الطريق من هنا وأنت لا تعلم أفلا يعد الناس ذلك خيانة منك؟ فكيف تتكلم عن طريق الجنة وهو الشريعة التي أنزل الله وأنت لا تعلم عنها شيئًا؟!
    وإن بعض المتعلمين أنصاف العلماء يقعون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم والإيجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون، ويُجملون في الشريعة ويُفصلون، وهم من أجهل الناس في أحكام الله، إذا سمعت الواحد منهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي فيما يقول من جزمه وعدم تورعه، لا يمكن أن ينطق ويقول: لا أدري مع أن عدم العلم هو صفة الحق الثابت ومع ذلك يصر بناء على جهله على أنه عالم فيضر العامة؛ لأن الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به، وليت هؤلاء القوم يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقولون: الإسلام يرى كذا، وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام، ولا طريق إلى ذلك إلا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله ، أو إجماع المسلمين عليه.
    وإن بعض الناس لجرأته وعدم ورعه وعدم حيائه من الله وعدم خوفه منه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه ما أظن هذا حرام، أو عن الشيء الواجب والواضح وجوبه يقول ما أظن هذا واجبًا، إما جهلا منه، أو عنادًا ومكابرة، أو تشكيكًا لعباد الله في دين الله.
    أيها الإخوة: إن من العقل والإيمان ومن تقوى الله وتعظيمه أن يقول الرجل عما لا يعلم لا أعلم، لا أدري، اسأل غيري، إن ذلك من تمام العقل؛ لأن الناس إذا رأوا تثبته وثقوا به، ولأنه يعرف قدر نفسه حينئذ وينزلها منزلتها، وإن ذلك أيضًا من تمام الإيمان بالله وتقوى الله حيث لا يتقدم بين يدي ربه ولا يقول عليه في دينه ما لا يعلم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بدين الوحي فيجيب الله سبحانه عما سئل عنه نبيه {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83] وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187].
    ولقد كان الأجلاء من الصحابة، تعرض لهم المسألة لا يدرون حكم الله فيها فيهابونها ويتوقفون فيها.
    فها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم.
    وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه تنزل به الحادثة فيجمع لها الصحابة ويستشيرهم فيها، قال ابن سيرين: لم يكن أحد أهيب مما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر.
    وقال ابن مسعود - رضي الله عنه :- أيها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم.
    وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أحسنها، فقال له أصحابه: قد استحيينا لك، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].
    وهناك أمثلة كثيرة على الإفتاء بغير علم: منها أن المريض إذا تنجست ثيابه ولم يمكن أن يطهرها يُفتى بأنه لا يصلي حتى يُطهر ثيابه، وهذه فتوى كاذبة خاطئة باطلة ، فالمريض يصلي ولو كان عليه ثياب نجسة ، ولو كان بدنه نجسًا إذا كان لا يستطيع أن يطهر ذلك؛ لأن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
    فيصلي المريض على حسب حاله وعلى حسب ما يقدر عليه، يصلي قائمًا ، فإن لم يستطع فقاعدًا فإن لم يستطع فعلى جنبه يومئ برأسه إذا استطاع، فإن لم يستطع أومأ بعينه عند بعض أهل العلم، فإن لم يستطع الإيماء بعينه وكان معه عقله فلينو الفعل بقلبه وليقل القول بلسانه مثلا: يقول الله أكبر ثم يقرأ الفاتحة وسورة ، ثم يقول: الله أكبر وينوي أنه راكع، ثم يقول سمع الله لمن حمده وينوي أنه رفع الركوع، ثم يقول هكذا في السجود وبقية أفعال الصلاة، ينوي الفعل الذي لا يقدر عليه، ينويه بقلبه ولا يؤخر الصلاة عن وقتها.
    وبسبب هذه الفتوى الكاذبة الخاطئة يموت بعض المسلمين وهم لا يصلون من أجل هذه الفتوى الكاذبة، ولو أنهم علموا أن الإنسان المريض يصلي على أي حال لماتوا وهم يصلون.
    ومثل هذه المسألة وأشباهها كثير فيجب على العامة أن يتلقوا أحكامها من أهل العلم حتى يعرفوا بذلك حكم الله - عز وجل - وحتى لا يقولوا في دين الله ما يعلمون.
    (2) ـ من ذلك ماجاء في الآداب الشرعية (2/ 202) للعلامة الحافظ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ رحمه الله:
    قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ : الْحِفْظُ الْإِتْقَانُ ، وَلَا يَكُونُ إمَامًا فِي الْعِلْمِ مَنْ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ، وَلَا يَكُونُ إمَامًا فِي الْعِلْمِ مَنْ يُحَدِّثُ بِالشَّاذِّ مِنْ الْعِلْمِ
    (3)
    قال الحافظ العلم أبو عمر النمري القرطبي رحمه الله في (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد1/ 65):

    مَعْلُومٌ أَنَّ مَالِكًا كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَرْكًا لِشُذُوذِ الْعِلْمِ وَأَشَدِّهِمُ انْتِقَادًا لِلرِّجَالِ وَأَقَلِّهِمْ تَكَلُّفًا وَأَتْقَنِهِمْ حِفْظًا فَلِذَلِكَ صَارَ إِمَامًا
    حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ حَدَّثَنَا عَلَّانُ حَدَّثَنَا صَالِحُ بن أحمد بن حنبل حدثنا علي ابن المديني قال سمعت يحي بن سعيد القطان يقول :كَانَ مَالِكٌ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ
    قَالَ عَلِيٌّ وَسَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ مَا كَانَ أَشَدَّ انْتِقَادَ مَالِكٍ لِلرِّجَالِ وَأَعْلَمَهُ بِهِمْ
    قَالَ صَالِحٌ وحدثنا علي ابن الْمَدِينِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ وَكَانَ مِنْ أبصر الناس بالحديث وبالرجال أنه قدم المدنية قَالَ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا إِلَّا يُعْرَفُ وَيُنْكَرُ إِلَّا مَالِكًا وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ وَكَانَ عَبْدُ الرحمان بْنُ مَهْدِيٍّ يَقُولُ مَا أُقَدِّمُ عَلَى مَالِكٍ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ أَحَدًا
    حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى عبد الله ابن أَبِي مَسَرَّةَ بِمَكَّةَ قَالَ حَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ لقد تركت جماع مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا أَخَذْتُ عَنْهُمْ مِنَ العلم شيئا وانهم لممن يوخذ عَنْهُمُ الْعِلْمُ وَكَانُوا أَصْنَافًا فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ كَذَّابًا فِي غَيْرِ عِلْمِهِ تَرَكْتُهُ لِكَذِبِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِمَا عِنْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي مَوْضِعًا لِلْأَخْذِ عَنْهُ لِجَهْلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَدِينُ بِرَأْيِ سُوءٍ
    حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ خَلَفُ بْنُ الْقَاسِمِ قِرَاءَةً مِنِّي عَلَيْهِ أَنَّ أبا الطاهر محمد ابن أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الْقَاضِي بمصر حدثهم قال حدثنا جعفر بن محمد ابن الْحُسَيْنِ الْفِرْيَابِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ صَدَقَةَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا قَالَا كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَيُؤْخَذُ مِنْ سِوَى ذَلِكَ لَا يوخذ مِنْ سَفِيهٍ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَوَاهُ وَلَا مِنْ كَذَّابٍ يَكْذِبُ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَّهَمُ عَلَى أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ شَيْخٍ لَهُ فَضْلٌ وَصَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ
    قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى مَالِكٍ لَسَمِعْتُهُ يَقُولُ أَدْرَكْتُ بِهَذَا الْبَلَدِ مَشْيَخَةً أَهْلَ فَضْلٍ وَصَلَاحٍ يُحَدِّثُونَ مَا سَمِعْتُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا قَطُّ قِيلَ لَهُ لِمَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مَا يُحَدِّثُونَ
    وَحَدَّثَنَا خَلَفٌ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْعَقِيلِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَخْبَرَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى قَالَ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يقول لا يوخذ الْعِلْمُ مِنْ أَرْبَعَةٍ فَذَكَرَهُ إِلَى آخِرِهِ سَوَاءً لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مُحَمَّدَ بْنَ صَدَقَةَ
    حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أُوَيْسٍ يَقُولُ سمعت خالي مالك بن أنس يقول إن هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ لَقَدْ أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ مِمَّنْ يُحَدِّثُ قَالَ فَلَانٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ هَذِهِ الْأَسَاطِينِ وَأَشَارَ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَخَذْتُ عنهم شيئا وان أحدهم لو اؤتمن على بيت المال لَكَانَ أَمِينًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ وَقَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ شِهَابٍ فَكُنَّا نَزْدَحِمُ عَلَى بَابِهِ
    وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ وعبد الرحمان بْنُ يَحْيَى قَالَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَضَّاحٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ سَمِعْتُ أَشْهَبَ يَقُولُ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ أَدْرَكْتُ بِالْمَدِينَةِ مَشَايِخَ أَبْنَاءَ مِائَةٍ وَأَكْثَرَ فَبَعْضُهُمْ قَدْ حَدَّثْتُ بِأَحَادِيثِهِ وَبَعْضُهُمْ لَمْ أُحَدِّثْ بِأَحَادِيثِهِ كُلِّهَا وَبَعْضُهُمْ لَمْ أُحَدِّثْ مِنْ أَحَادِيثِهِ شَيْئًا وَلَمْ أَتْرُكِ الْحَدِيثَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا ثقات فِيمَا حَمَلُوا إِلَّا أَنَّهُمْ حَمَلُوا شَيْئًا لَمْ يعقلوه
    وَحَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْخَوْلَانِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الدِّمَشْقِيُّ عَنِ ابْنِ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ رُبَّمَا جَلَسَ إِلَيْنَا الشَّيْخُ فَيَتَحَدَّثُ كُلَّ نَهَارِهِ مَا نَأْخُذُ عَنْهُ حديثا واحدا وما بنا أنا نتهمه ولكنه لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ
    حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ قَالَا حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو قُلَابَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الرَّقَاشِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ قَالَ سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ رَجُلٍ فَقَالَ هَلْ رَأَيْتَهُ فِي كُتُبِي قُلْتُ لَا قَالَ لَوْ كَانَ ثِقَةً لَرَأَيْتَهُ فِي كُتُبِي
    وَمِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ عَنِ الْكَذَّابِ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مُوسَى الْجَنَدِيِّ قَالَ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهادةرجل فِي كِذْبَةٍ كَذِبَهَا
    قَالَ مَعْمَرٌ لَا أَدْرِي أَكَذِبَ عَلَى اللَّهِ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ أَوْ كَذِبَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ
    حدثنا أبو القاسم عبد الرحمان بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ الْهَمَدَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ احمد بْنِ مَالِكٍ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ اسحاق الحربي قال حدثنا أبو بكر ابن أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فَذَكَرَهُ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْعُقَيْلِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَعْنَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يَكْذِبُ لَمْ يَزَلْ مُعْرِضًا عَنْهُ حَتَّى يُحْدِثَ لِلَّهِ تَوْبَةً
    حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ السَّكَنِ حَدَّثَنَا بدر ابن الْهَيْثَمِ الْقَاضِي حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حكيم الأودى حدثنا علي ابن حَكِيمٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ سُئِلَ شَرِيكٌ فَقِيلَ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ سَمِعْتُهُ يَكْذِبُ مُتَعَمِّدًا أَأُصَلِّي خَلْفَهُ قَالَ لَا
    قَالَ أَبُو عُمَرَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ آلَةُ الْمُحَدِّثِ الصِّدْقُ
    حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا عبد الله بن محمد القاضي حدثنا يوس بن عبد الأعلي قال سمعت بشر ابن بَكْرٍ قَالَ رَأَيْتُ الْأَوْزَاعِيَّ فِي الْمَنَامِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْجَنَّةِ فَقُلْتُ وَأَيْنَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَقِيلَ رُفِعَ فَقُلْتُ بِمَ ذَا قَالَ بِصِدْقِهِ
    حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرحمان حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَكْرِ بْنِ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ الْأَزْدِيُّ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عبد الرحمان بْنِ صَالِحٍ الْأَزْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ قَالَ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ قُلْ مَا كَانَ رَجُلٌ صَادِقًا لَا يَكْذِبُ إِلَّا مُتِّعَ بِعَقْلِهِ وَلَمْ يُصِبْهُ مَا يُصِيبُ غَيْرَهُ مِنَ الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ
    أقول : هذا هو منهج الإمام مالك رحمه الله الذي اترك عليه الأئمة وعليه سار في تنقيبه وتفحصيه أحوال الرواة وعلى من يأخذ العلم ومن يترك ويعرض عنه بل ويحذر منه ويشهر به ويبين حاله وما هو عليه من الديانة والضبط والإتقان فلماذا المقلدة المذهبية المتعصبة شغبوا في هذا الأصل ولبسوا على العامة أن من ينقب ويمحص ويفحص عن احوال الرجال وما هم عليه من الديانة والعلم والإتقان بأنه مغتاب ، مفرق ، مفسد ...ألخ من الألقاب المنفرة عن منهج أهل الحق والسنة بدعوة مذهبنا مذهب المالكية
    ألا يا قومي هذا شعار كشفكم وفضحكم في ربيعة النهار والشمس بازغة ليس بها خفاء على ما كان عليه الإمام مالك رحمه الله من صفاء ونقاوة في منهج تلقيه وأتائه وما كان عليه من العقيدة السلفية البيضاء الصافية عقيدة أهل السنة والجماعة في أبواب الاعتقاد والسنة كما سنبين ما كان عليه من العقيدة
    ونقول لهم ماذنب اهل السنة والجماعة ، أهل الدين الخالص إذا إمتثلوا قول الله تعالى في علاه ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر 9وإقتفاء أثر سلفهم الصالح في أبواب الدين كلها وأن لا يثقوا بشيء من ذلك حتى يعرضوه على أهل المعرفة بالحديث ورجاله ورجوع إلى أهل العلم والتقوى والمعرفة. لكن المصيبة حق المصيبة إعراض الناس عن هذا العلم العظيم، ولم يبق إلا أفراد يلمون بشيء من ظواهره، ومع ذلك فالناس لا يرجعون إليهم، بل في الناس من يمقتهم وببغضهم ويعاديهم ويتفنن في سبهم عند كل مناسبة ويدعي لنفسه ما يدعي، ولا ميزان عنده إلا هواه لا غيره، وما يخالف هواه لا يبالي به ولو كان في الصحيحين عن جماعة من الصحابة، ويحتج بما يحلو له من الروايات في أي كتاب وجد، وفيما يحتج به الواهي والساقط والموضوع
    قال العلامة المحدث عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلمي اليماني رحمه الله في (الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة ص: 89):
    أقول: نقل عبارات في هذا المعنى، وهو واقع في الجملة، ولكن المستشرقين والمنحرفين عن السنة يطولون في هذا ويهولون ويهملون ما يقابله، ومثلهم مثل من يحاول منع الناس من طلب الحقيقي الخالص من الأقوات والسمن والعسل والعقاقير والحرير والصوف والذهب والفضة واللؤلؤ والمسك والعنبر وغير ذلك بذكر ما وقع من التزوير والتلبيس والتدليس والغش في هذه الأشياء، ويطيل في ذلك. والعاقل يعلم أن الحقيقي الخالص من هذه الأشياء لم يرفع من الأرض، وأن في أصحابها وتجارها أهل صدق وأمانة، وأن في الناس أهل خبرة ومهرة يميزون الحقيقي الخالص من غيره فلا يكاد يدخل الضرر إلا على من لا يرجع إلى أهل الخبرة من جاهل ومقصر ومن لا يبالي ما أخذ، والمؤمن يعلم أن هذه ثمرة عناية الله عز وجل بعباده في دنياهم، فما الظن بعنايته بدينهم؟ لابد أن تكون أتم وأبلغ، ومن تتبع الواقع وتدبره وأنعم النظر تبين له ذلك غاية البيان
    أما الصحابة فقد زكاهم الله في كتابه وعلى لسان رسوله، والأحاديث إنما ثبتت من رواية من زكاه الله ورسوله عينا، أو لا ريب في دخوله فيمن زكاه الله ورسوله جملة. نعم جاءت أحاديث قليلة عن بعض من قد يمكن الشك فيه، لكن أركان الدين من سلف هذه الأمة تدبروا أحاديث هذا الضرب واعتبروها، فوجدوها قد ثبتت هي أو معناها برواية غيرهم، وبعد طول البحث والتحقيق تبين لأئمة السنة أن الصحابة كلهم عدول في الرواية، وسيأتي مزيد لهذا في فصل «عدالة الصحابة»
    وأما التابعون فعامة من وثقه الأئمة منهم ممن كثرت أحاديثه هم ممن زكاه الصحابة ثم زكاه أقرانه من خيار التابعين، ثم اعتبر الأئمة أحاديثه وكيف حدث بها في الأوقات المتفاوتة، واعتبروا أحاديثه بأحاديث غيره من الثقات، فاتضح لهم بذلك كله صدقه وأمانته وضبطه. وهكذا من بعدهم وكان أهل العلم يشددون في اختيار الرواة أبلغ التشديد، جاء عن بعضهم - أظنه الحسن بن صالح بن حي- أنه قال: كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث من رجل سألنا عن حاله حتى يقال: أتريدون أن تزوجوه؟ وجاء جماعة إلى شيخ ليسمعوا منه فرأوه خارجاً وقد انفلتت بغلته وهو يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها إياها، فلاحظوا أن المخلاة فارغة، فرجعوا ولم ييسمعوا منه. قالوا هذا يكذب على البغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث. وذكروا أن شعبة كان يتمنى لقاء رجل مشهور ليسمع منه. فلما جاءه وجده يشتري شيئاً ويسترجح في الميزان. فامتنع شعبة من السماع منه. وتجد عدة نظائر لهذا ونحوه في كفاية الخطيب (ص110-114) .وكان عامة علماء القرون الأولى وهي قرون الحديث مقاطين للخلفاء والأمراء، حتى كان أكثرهم لا يقبل عطاء الخلفاء والأمراء ولا يرضى بتولي القضاء، ومنهم من كان الخلفاء يتطلبونهم ليكونوا بحضرتهم ينشرون العلم. فلا يستجيبون، بل يفرون ويستترون. وكان أئمة النقد لا يكادون يوثقون محدثاً يداخل الأمراء أو يتولى لهم شيئاً، وقد جرحوا بذلك كثيراً من الرواة ولم يوثقوا ممن داخل الأمراء إلا أفراد علم الأئمة يقيناً سلامة دينهم وأنه لا مغمز فيهم البتة. وكان محمد بن بشر الزنبري محدثاً يسمع منه الناس، فاتفق أن خرج أمير البلد لسفر فخرج الزنبري يشيعه، فنقم أهل الحديث عليه ذلك وأهانوه ومزقوا ما كان كتبوا عنه. وكثيراً ما كانوا يكذبون الرجل ويتركون حديثه لخبر واحد يتهمون فيه. وتجد من هذا كثيراً في ميزان الذهبي وغيره. وكذلك إذا سمعوه حدث بحديث ثم حدث به بعد مدة علىوجه ينافي الوجه الأول، وفي الكفاية (ص113) عن شعبة قال «سمعت من طلحة بن مصرف حديثاً واحداً وكنت كلما مررت به سألته عنه.. أردت أن أنظر إلى حفظه، فإن غير فيه شيئاً تركته» وكان أحدهم يقضي الشهر والشهرين يتنقل في البدلان يتتبع رواية حديث واحد كما وقع لشعبة في حديث عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، وكما وقع لغيره في الحديث الطويل في فضائل السور. ومن تتبع كتب التراجم / وكتب العلل بأن له من جدهم واجتهادهم ما يحير العقول
    وكان كثير من الناس يحضرون أولادهم مجالس السماع في صغرهم ليتعودوا ذلك ثم يكبر أحدهم فيأخذ في السماع في بلده. ثم يسافر إلى الأقطار ويتحمل السفر الطويل والمشاق الشديدة، وقد لايكون معه إلا جراب من خبز يابس يحمله على ظهره، يصبح فيأخذ كسرة ويبلها بالماء ويأكلها ثم يغدو للسماع، ولهم في هذا قصص كثيرة، فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنة الثلاثين أو نحوها فكون أمنيته من الحياة أ، يقبله علماء الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عرف أنهم إن اتهموه في حديث واحد أسقطوا حديثه وضاع مجهوده طول عمره وربح سوء السمعة واحتقار الناس، وتجد جماعة من ذرية أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة، وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسيين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئاً مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث، ومن تتبع أخبارهم وأحوالهم لم يعجب من غلبة الصدق على الرواة في تلك القرون بل يعجب من وجود كذابين منهم ومن تتبع تشدد الأئمة في النقد ليعجب من كثرة من جرحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشدد
    وبالجملة فهذا الباب يحتمل كتاباً مستقلاً. وأرجو أن يكون فيما ذكرته ما يدفع ما يرمي إليه المستشرقون وأتباعهم - بإفاضتهم في ذكر الوضع من تشكيك المسلمين في دينهم وإيهامهم أن الله تعالى أخل بما تكفل به من حفظ دينه، وأن سلف الأمة لم يقوموا بما عليهم أو عجزوا عنه فاختلط الحق بالباطل، ولم يبق سبيل إلى تمييزه. كلا بل حجة الله تعالى لم تزل ولن تزال قائمة، وسبيل الحق مفتوحاً لمن يريد أن يسلكه ولله الحمد. وفي تهذيب التهذيب (152:1) «قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد زنديقاً فأراد قتله، فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال له: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفاً حرفاً» . وفي فتح المغيث (ص109) : «قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة، (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
    وذكر (ص91) أحاديث فيها إنها موضوعة، ولم يذكر من حكم بوضعها من أهل العلم والحديث. وذكر فيها حديث «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على [سائر] الطعام» وقد افترى من زعم هذا موضوعاً، بل هو في غاية الصحة، أخرجه الشيخان في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري ومن حديث أنس رضي الله عنهما

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: دعوة إلى التفاعل والمدارسة لشرح كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله

    أصول منهج الإمام مالك رحمه الله في العقيدة
    اعتصامه بالكتاب والسنة وتحذيره من الابتداع والتقليد
    ـ قال المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في كتابه العظيم ( صفة الصلاة ص 43 ) بعدما قال مبينا منبها أن النجاة و الفلاح والسعادة في التمسك بالكتاب والسنة والرجوع إليهما وترك كل قول يخالفهما مهما كان القائل عظيما
    قال رحمه الله في ص 40 : ((ثم إني حين وضعت هذا المنهج لنفسي - وهو التمسك بالسنة الصحيحة - وجريت عليه في هذا الكتاب وغيره - مما سوف ينتشر بين الناس إن شاء الله - كنت على علم أنه سوف لا يرضي ذلك كل الطوائف والمذاهب بل سوف يوجه بعضهم أو كثير منهم ألسنة الطعن وأقلام اللوم إلي ولا بأس من ذلك علي فإني أعلم أيضا أن إرضاء الناس غاية لا تدرك وأن : ( من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ) ( صحيح الصحيحة 2311 ) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
    ولله در من قال :
    ولست بناج من مقالة طاعن ........ ولو كنت في غار على جبل وعر
    ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما..... ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر
    فحسبي أنني معتقد أن ذلك هو الطريق الأقوم الذي أمر الله تعالى به المؤمنين وبينه نبينا محمد سيد المرسلين وهو الذي سلكه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وفيهم الأئمة الأربعة - الذين ينتمي اليوم إلى مذاهبهم جمهور المسلمين - وكلهم متفق على وجوب التمسك بالسنة والرجوع إليها وترك كل قول يخالفها مهما كان القائل عظيما فإن شأنه صلى الله عليه وسلم أعظم وسبيله أقوم ولذلك فإني اقتديت بهداهم واقتفيت آثارهم وتبعت أوامرهم بالتمسك بالحديث وإن خالف أقوالهم ولقد كان لهذه الأوامر أكبر الأثر في نهجي هذا النهج المستقيم وإعراضي عن التقليد الأعمى ( 1) فجزاهم الله تعالى عني خيرا
    أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها
    ومن المفيد أن نسوق هنا ما وقفنا عليه منها أو بعضها لعل فيها عظة وذكرى لمن يقلدهم - بل يقلد من دونهم بدرجات تقليدا أعمى - ويتمسك بمذاهبهم وأقوالهم كما لو كانت نزلت من السماء والله عز وجل يقول : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) الأعراف 03 ))
    إلى أن ذكر أقول الإمام مالك في حثه على الإتباع
    1 - ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ) . ( ابن عبد البر في الجامع 2 / 32 )
    2 - ( ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ) . ( ابن عبد البر في الجامع 2 / 91 )
    3 - قال ابن وهب : سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال : ليس ذلك على الناس . قال : فتركته حتى خف الناس فقلت له : عندنا في ذلك سنة فقال : وما هي قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه . فقال : إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع .
    ( مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ص 31 - 32 ) انتهى
    ـ ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله في الاعتصام ص 77 : َعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيِّ: " قَدْ سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ السُّنَّةِ؟ قَالَ: هِيَ مَا لَا اسْمَ لَهُ غَيْرُ السُّنَّةِ، وَتَلَا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] .
    ـ قال أبو عمر ابن عبد البر النمري القرطبي في ( الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ص: 35):
    أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد المؤمن قَالَ أَخْبَرَنِي الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَالِكِيُّ قَالَ نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ نَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَرَوِيُّ قَالَ نَا شَيْخٌ لَنَا قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى مَالِكٍ فَقَالَ يَا أَبَا عبد الله أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ أَجْعَلُكَ حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ مَالِكٌ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ سَلْ قَالَ مَنْ أَهْلُ السُّنَّةِ قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذين لَيْسَ لَهُم لقب يعْرفُونَ بِهِ لاجهمى وَلا قَدَرِيٌّ وَلا رَافِضِيٌّ
    ـ قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الاعتصام ص 173
    قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: " وَسَمِعْتُ مَالِكًا إِذْ جَاءَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يَقُولُ: أَمَّا أَنَا; فَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَاكٌّ، فَاذْهَبْ إِلَى شَاكٍّ مِثْلِكَ فَخَاصِمْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]
    فَهَذَا شَأْنُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ تَمْكِينِ زَائِغِ الْقَلْبِ أَنْ يُسْمِعَ كَلَامَهُ.
    وَمَثَلُ رَدِّهِ بِالْعِلْمِ: جَوَابُهُ لِمَنْ سَأَلَهُ فِي قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ لَهُ: " الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَأَرَاكَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ "، ثُمَّ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ السَّائِلِ.
    وَمَثَلُ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى رَدِّهِ: مَا حَكَى الْبَاجِيُّ ; قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: " كَانَ يُقَالُ: لَا تُمَكِّنْ زَائِغَ الْقَلْبِ مِنْ أُذُنِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا يَعْلَقُكَ مِنْ ذَلِكَ ".
    وَلَقَدْ سَمِعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ شَيْئًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْقَدَرِ، فَعَلِقَ قَلْبُهُ، فَكَانَ يَأْتِي إِخْوَانَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْصِحُهُمْ، فَإِذَا نَهَوْهُ; قَالَ: " فَكَيْفَ بِمَا عَلِقَ قَلْبِي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى أَنْ أُلْقِيَ نَفْسِي مِنْ فَوْقِ هَذِهِ الْمَنَارَةِ; فَعَلْتُ ".
    ثُمَّ حُكِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُجَالِسِ الْقَدَرِيَّ وَلَا تُكَلِّمْهُ ، إِلَّا أَنْ تَجْلِسَ إِلَيْهِ، فَتُغْلِظَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] ، فَلَا تُوَادُّوهُمْ ".
    وَأَمَّا أَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ:
    فَلِمَا حَكَى عِيَاضٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: أَنَّهُ قَالَ: " سَأَلْتُ مَالِكًا عَمَّنْ أَحْرَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ؟ فَقَالَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، أَخْشَى عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابَ الْأَلِيمَ فِي الْآخِرَةِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ؟ ! وَقَدْ «أَمْرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَلَّ مِنَ الْمَوَاقِيتِ» ".
    وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، قَالَ: " سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، قَالَ: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ، قَالَ: لَا تَفْعَلْ; فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ، فَقَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ هَذِهِ؟ ! إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا، قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّكَ سَبَقْتَ إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .
    وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ هِيَ شَأْنُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَاعِدَتُهُمُ الَّتِي يُؤَسِّسُونَ عَلَيْهَا بُنْيَانَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَنَّهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ.
    وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ: " لَقَدْ هُدِيتُمْ لِمَا لَمْ يَهْتَدِ لَهُ نَبِيُّكُمْ! وَإِنَّكُمْ لَتُمْسِكُونَ بِذَنَبِ ضَلَالَةٍ " ; إِذْ مَرَّ بِقَوْمٍ كَانَ رَجُلٌ يَجْمَعُهُمْ، يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَيَقُولُ الْقَوْمُ. وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَيَقُولُ الْقَوْمُ.
    ثُمَّ إِنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّفَاقَ مِنْ أَصْلِهِ بِدْعَةٌ، لِأَنَّهُ وَضَعَ بِدْعَةً فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ; قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] ، فَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمُخَالِفِينَ عَنْ أَمْرِهِ يَدْخُلُونَ أَيْضًا مِنْ بَابِ أَحْرَى.
    فَهَذِهِ جُمْلَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا بَقِيَ، إِذْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِيهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، وَبَسْطُ مَعَانِيهَا طَوِيلٌ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
    ـ جامع بيان العلم وفضله (2/ 1176) لابن عبد البر القرطبي رحمه الله :
    أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ ثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُعَلِّمُ، قَالَا: نا مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا، أَخَذْنَا بِهَا تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتِكْمَالًا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّةً عَلَى دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، مَنْ عَمِلَ بِهَا مَهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَصَلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا»
    ـ وقال في (1/ 757):
    حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بِشْرٍ، نا ابْنُ أَبِي دُلَيْمٍ، وَوَهْبُ بْنُ مَسَرَّةَ قَالَا: نا ابْنُ وَضَّاحٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ لِي مَالِكٌ، «الْحُكْمُ الَّذِي يُحْكَمُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ حُكْمَانِ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ، فَذَلِكَ الْحَكَمُ الْوَاجِبُ وَذَلِكَ الصَّوَابُ، وَالْحُكْمُ الَّذِي يَجْتَهِدُ فِيهِ الْعَالِمُ رَأْيَهُ فَلَعَلَّهُ يُوَفَّقُ، وَثَالِثٌ مُتَكَلِّفٌ فَمَا أَحْرَاهُ أَلَّا يُوَفَّقَ»
    ـ قال الحافظ الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء ط الحديث (7/ 184):
    قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ مَعْنٌ: انْصَرَفَ مَالِكٌ يَوْماً، فَلَحِقَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الجُوَيْرِيَةِ، مُتَّهَمٌ بِالإِرْجَاءِ، فَقَالَ: اسْمَعْ مِنِّي. قَالَ: احْذَرْ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْكَ. قَالَ: وَاللهِ مَا أُرِيْدُ إِلاَّ الحَقَّ، فَإِنْ كَانَ صَوَاباً، فَقُلْ بِهِ، أَوْ فَتَكَلَّمْ قَالَ: فَإِنْ غَلَبْتَنِي؟ قَالَ: اتَّبِعْنِي. قَالَ: فَإِنْ غَلَبْتُكَ؟ قَالَ: اتَّبَعْتُكَ. قَالَ: فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ، فَكَلَّمَنَا، فَغَلَبَنَا? قَالَ: اتَّبَعْنَاهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَا هَذَا، إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِدِيْنٍ وَاحِدٍ، وَأَرَاكَ تَتَنَقَّل.
    وَعَنْ مَالِكٍ، قَالَ: الجِدَالُ فِي الدِّيْنِ يُنشِئُ المِرَاءَ، وَيُذْهِبُ بِنُورِ العِلْمِ مِنَ القَلْبِ وَيُقَسِّي، وَيُورِثُ الضِّغن.
    قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ أَبُو طَالِبٍ المَكِّيُّ: كَانَ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- أَبعَدَ النَّاسِ مِنْ مَذَاهِبِ المُتَكَلِّمِيْنَ، وَأَشَدَّ نَقضاً لِلْعِرَاقِيِّينَ. ثُمَّ قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ: سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكاً، فَقَالَ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . كَيْفَ اسْتَوَى? فَسَكَتَ مَالِكٌ حَتَّى عَلاَهُ الرُّحَضَاءُ، ثُمَّ قَالَ: الاسْتِوَاءُ مِنْهُ مَعْلُوْمٌ، وَالكَيْفُ مِنْهُ غَيْرُ مَعْقُوْلٍ، والسؤال عن هذا بِدْعَةٌ، وَالإِيْمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَإِنِّيْ لأَظُنُّكَ ضَالاًّ، أَخْرِجُوْهُ. فَنَادَاهُ الرَّجُلُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، وَاللهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا أَهْلَ البَصْرَةِ وَالكُوْفَةِ وَالعِرَاقِ، فَلَمْ أَجِدْ أَحَداً وُفِّقَ لِمَا وُفِّقْتَ لَهُ.
    ـ جامع بيان العلم وفضله (2/ 936):
    قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ: " قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَكُونُ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ أَيُجَادِلُ عَنْهَا؟ قَالَ: «لَا وَلَكِنْ يُخْبِرُ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ قُبِلَتْ مِنْهُ وَإِلَّا سَكَتَ»
    ـ جاء في عقيدة الإمام مالك جمع سعود بن عبد العزيز ص 39
    قال أشهب بن عبد العزيز قال (سمعت مالكاً يقول: إيّاكم والبدع , قيل يا أبا عبد الله , وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعِلْمه وقدرته ولا يسكتون عمّا سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان)
    ـ جاء في شرح السنة لأبي محمد الحسين البغوي الشافعي رحمه
    الله
    رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ: لَوْ كَانَ الْكَلامُ عِلْمًا، لَتَكَلَّمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، كَمَا تَكَلَّمُوا فِي الأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَلَكِنَّهُ بَاطِلٌ يَدُلُّ عَلَى بَاطِلٍ.
    ـ قال الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله في الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ص 434 ) :
    أخبرني أبو القاسم الأزهري ، نا عبيد الله بن محمد بن حمدان العكبري ، حدثنا علي بن يعقوب أبو القاسم ، نا أبو زرعة الدمشقي ، نا ابن أبي أويس ، قال : سمعت مالك بن أنس ، يقول : « ما قلت الآثار في قوم إلا كثرت فيهم الأهواء ، وإذا قلت العلماء ظهر في الناس الجفاء »
    يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في ( درء تعارض العقل والنقل 271):
    (( والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانو يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، لما فيه من لبس الحق بالباطل ن ممع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت له الألفة، وما كان معروفا حصلت به المعرفة، كما يرى عن مالك رحمه الله أنه قال: إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء.
    فإذا لم يكن اللفظ منقولاً ولا معناه معقولاً ظهر الجفاء والأهواء، ولهذا تجد قوماً كثيرين يحبون قوماً ويبغضون قوماً لأجل أهواء لا يعرفون معناها ولا دليلها، بل يوالون على إطلاقها أو يعادون، من غير أن تكون منقولة نقلا صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة، ومن غير أن يكونوا هم يعقلون معناها، ولا يعرفون لازمها ومقتضاها.
    وسبب هذا إطلاق أقوال ليست منصوصة، وجعلها مذاهب يدعى إليها، ويوالي ويعادى عليها. )) انتهى
    ـ المدونة (1/ 462):
    قَالَ مَالِكٌ : فِي الْقَدَرِيَّةِ وَالْإِبَاضِيَّةِ لَا يُصَلَّى عَلَى مَوْتَاهُمْ وَلَا يُتْبَعُ جَنَائِزُهُمْ وَلَا تُعَادُ مَرَضَاهُمْ ، فَإِذَا قُتِلُوا فَذَلِكَ أَحْرَى عِنْدِي أَنْ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ .
    عقيدته في الإيمان
    ـ قال الحافظ البيهقي رحمه الله في ( الأسماء والصفات للبيهقي 2/ 75) :
    أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، قال : سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري ، يقول : سمعت عمران بن موسى الجرجاني ، بنيسابور يقول : سمعت سويد بن سعيد ، يقول : سمعت مالك بن أنس ، وحماد بن زيد ، وسفيان بن عيينة ، والفضيل بن عياض ، وشريك بن عبد الله ، ويحيى بن سليم ، ومسلم بن خالد ، وهشام بن سليمان المخزومي ، وجرير بن عبد الحميد ، وعلي بن مسهر ، وعبدة ، وعبد الله بن إدريس ، وحفص بن غياث ، ووكيعا ، ومحمد بن فضيل ، وعبد الرحيم بن سليمان ، وعبد العزيز بن أبي حازم ، والدراوردي ، وإسماعيل بن جعفر ، وحاتم بن إسماعيل ، وعبد الله بن يزيد المقرئ ، وجميع من حملت عنهم العلم ، يقولون : الإيمان قول وعمل ، ويزيد وينقص ، والقرآن كلام الله تعالى ، وصفة ذاته غير مخلوق ، من قال : إنه مخلوق ، فهو كافر بالله العظيم ، وأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . قال عمران : وبذلك أقول ، وبه أدين الله عز وجل ، وما رأيت محمديا قط إلا وهو يقوله
    ـ صريح السنة للطبري رحمه الله (ص: 16) :
    حدثنا علي بن سهل الرملي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت الأوزاعي ، ومالك بن أنس ، وسعيد بن عبد العزيز ، رحمهم الله ، ينكرون قول من يقول : إن الإيمان إقرار بلا عمل ، ويقولون : « لا إيمان إلا بعمل ، ولا عمل إلا بإيمان »
    - قال أبو القاسم اللالكائى رحمه الله في ( شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة )
    أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، قَالَ: نا أَحْمَدُ بْنُ خَلَفٍ، قَالَ: أنا أَبُو إِسْمَاعِيلَ يَعْنِي التِّرْمِذِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ: " كُنْتُ عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَسَمِعْتُ حَمَّادَ بْنَ أَبِي حَنِيفَةَ، يَقُولُ لِمَالِكٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ لَنَا رَأْيًا نَعْرِضُهُ عَلَيْكَ، فَإِنْ رَأَيْتَهُ حَسَنًا مَضَيْنَا عَلَيْهِ، وَإِنْ رَأَيْتَهُ غَيْرَ ذَلِكَ كَفَفْنَا عَنْهُ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ، النَّاسُ كُلُّهُمْ مُسْلِمُونَ عِنْدَنَا، قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا، مَا بِهَذَا بَأْسٌ، فَقَامَ إِلَيْهِ دَاوُدُ بْنُ أَبِي زَنْبَرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ حَبِيبٍ، وَأَصْحَابٌ لَهُ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ، قَالَ: دِينِي مِثْلُ دِينِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينِ، وَدِينِي مِثْلُ دِينِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ: الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فَطُمَأْنِينَةُ قَلْبِهِ زِيَادَةٌ فِي إِيمَانِهِ "
    ـ جاء في الإبانة الكبرى لابن بطة (3/ 134) :
    حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار ، قال : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : سمعت معمرا ، وسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وابن جريج ، وسفيان بن عيينة يقولون : الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص
    ـ الإبانة الكبرى لابن بطة (3/ 215) :
    حدثنا إسحاق بن أحمد الكاذي ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال : قرأت على أبي : حدثكم مهدي بن جعفر ، قال : حدثنا الوليد ، قال : سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي ، ومالك بن أنس ، وسعيد بن عبد العزيز ، لا ينكرون أن يقولوا : أنا مؤمن ويأذنون في الاستثناء ، أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله
    ـ قال أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي في (البيان والتحصيل 18/ 585):
    أن الإيمان قول وعمل قال فقلنا لمالك: فالإيمان قول وعمل أو قول بلا عمل؟ قال مالك: بل قول وعمل. قال ابن القاسم وحدثني عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن ابن ذكوان عن الأوزاعي قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فرقتان من أمتي في النار مكذب بقدر الله ومفرق بين إيمان وعمل» . قلت فهل كان مالك يقول لا تكفروا أهل التوحيد بذنب، ولا تشركوهم؟ قال: نعم.
    ـ الاعتصام للشاطبي (ص: 171):
    حَكَى عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ عَنْهُ قَالَ: " لَوْ أَنَّ الْعَبْدَ ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا، دُونَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ شَيْئًا، ثُمَّ نَجَا مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ، لَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْلَى جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ، لِأَنَّ كُلَّ كَبِيرَةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ هُوَ مِنْهَا عَلَى رَجَاءٍ، وَكُلَّ هَوًى لَيْسَ هُوَ مِنْهُ عَلَى رَجَاءٍ; إِنَّمَا يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ".
    ـ عقيدته في الأسماء والصفات
    ـ قال الحافظ البيهقي رحمه الله في ( الأسماء والصفات للبيهقي 2/ 75) :
    أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، قال : سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري ، يقول : سمعت عمران بن موسى الجرجاني ، بنيسابور يقول : سمعت سويد بن سعيد ، يقول : سمعت مالك بن أنس ، وحماد بن زيد ، وسفيان بن عيينة ، والفضيل بن عياض ، وشريك بن عبد الله ، ويحيى بن سليم ، ومسلم بن خالد ، وهشام بن سليمان المخزومي ، وجرير بن عبد الحميد ، وعلي بن مسهر ، وعبدة ، وعبد الله بن إدريس ، وحفص بن غياث ، ووكيعا ، ومحمد بن فضيل ، وعبد الرحيم بن سليمان ، وعبد العزيز بن أبي حازم ، والدراوردي ، وإسماعيل بن جعفر ، وحاتم بن إسماعيل ، وعبد الله بن يزيد المقرئ ، وجميع من حملت عنهم العلم ، يقولون : الإيمان قول وعمل ، ويزيد وينقص ، والقرآن كلام الله تعالى ، وصفة ذاته غير مخلوق ، من قال : إنه مخلوق ، فهو كافر بالله العظيم ،
    ـ مختصر العلو للعلي الغفار للحافظ الذهبي رحمه الله/ اختصره وحققه وعلق عليه وخرج أحاديثه : العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله (ص: 75):
    قال ميمون بن يحيى البكري : قال مالك : من قال القرآن مخلوق يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ( إسناده لا بأس به )
    ـ نفس المصدر :
    ساق البيهقي بإسناد صحيح عن أبي الربيع الرشديني عن ابن وهب قال كنت عند مالك فدخل رجل فقال : يا أبا عبد الله ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع وأنت صاحب بدعة أخرجوه ( سنده قوي )
    وروى يحيى بن يحيى التميمي وجعفر بن عبد الله وطائفة قالوا جاء رجل إلى مالك فقال : يا أبا عبد الله ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ قال : فما رأيت مالكا وجد من شيء كموجدته من مقالته وعلاه الرحضاء يعني العرق وأطرق القوم فسري عن مالك وقال : الكيف غير معقول والإستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وإني أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج ( صحيح )
    يقول العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في ( شرح العقيدة الواسطية ص 54):
    سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال: "الاستواء غير مجهول"، أي: من حيث المعنى معلوم، لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها {اسْتَوَى} معداة بـ(على) معناها العلو فقال: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول" لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية، وجب الكف عنها، "والإيمان به واجب"، لأن الله أخبر به عنه نفسه، فوجب تصديقه، "والسؤال عن بدعة": السؤال عن الكيفية بدعة، لأن من أهم أحرص منا على العلم ما سألوا عنها وهم الصحابة لما قال الله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنك لن تدرك ذلك فنحن إذا سئلنا، فنقول: هذا السؤال بدعة.
    وكلام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عن بدعة والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل يتنقل؟! فنقول: السؤال هذا بدعة كيف تسأل عن شيء ما سأل عنه الصحابة وهم أحرص منك على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو لم يعلمهم. فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظن بك، لقلنا ما يليق بك بأنك رجل مبتدع.
    والإمام مالك رحمه الله قال: "ما أراك إلا مبتدعاً" ثم أمر به فأخرج، لأن السلف يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضاتهم وتقديراتهم ومجادلاتهم.
    فأنت يا أخي عليك هذا الباب بالتسليم، فمن تمام
    الإسلام لله عز وجل ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذركم دائماً من البحث فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته على سبيل التعنت والتنطع والشيء الذي ما سأل الصحابة عنه، لأننا إذا فتحنا على أنفسنا هذه الأبواب، انفتحت علينا الأبواب، وتهدمت الأسوار، وعجزنا عن ضبط أنفسنا، فلذلك قل: سمعنا وأطعنا وآمنا وصدقنا، آمنا وصدقنا بالخبر وأطعنا الطلب وسمعنا القول، حتى تسلم!
    وأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عن شيء ما سأل عنه الصحابة، فقل كما قال الإمام مالك، فإن لك سلفاً: السؤال عن هذا بدعة. وإذا قلت ذلك، لن يلح عليك، وإذا ألح، فقل: يا مبتدع! السؤال عنه بدعة، اسأل عن الأحكام التي أنت مكلف بها، أما أن تسأل عن شيء يتعلق بالرب عز وجل وبأسمائه وصفاته، ولم يسأل عنه الصحابة، فهذا لا نقبله منك أبداً!
    وهناك كلام للسلف يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره، نقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: "أمروها كما جاءت بلا كيف"1، وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنى من وجهين:
    أولاً: أنهم قالوا: "أمروها كما جاءت" ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثاً، فإذا أمررناها كما جاءت، لزم من ذلك أن نثبت لها معنى.
    ثانياً: قوله: "بلا كيف" لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى، لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغو وعبث.
    إذاً، فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى.)) انتهى
    ـ وايضا جاء في مختصر العلو (ص: 75):
    روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية حدثني أبي حدثنا شريح بن النعمان عن عبد الله بن نافع قال : قال مالك بن أنس : الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء ( صحيح )
    ـ مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 468) اختصره: محمد ابن الموصلي رحمه الله
    :
    قَالَ مَالِكٌ: وَلِهَذَا أَمْضِ الْحَدِيثَ كَمَا وَرَدَ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَحْدِيدٍ إِلَّا بِمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] يَنْزِلُ كَيْفَ شَاءَ بِقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَعَظَمَتِهِ، أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ.
    ـ سير أعلام النبلاء ط الحديث (7/ 182):
    قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ فِي سِيْرَةِ مَالِكٍ: قَالَ ابْنُ نَافِعٍ، وَأَشْهَبُ -وَأَحَدُهُمَا يَزِيْدُ عَلَى الآخَرِ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القِيَامَةُ: 22، 23] ، يَنْظُرُوْنَ إِلَى اللهِ? قَالَ: نَعَمْ، بِأَعْيُنِهُم هَاتَيْنِ. قُلْتُ: فَإِنَّ قَوْماً يَقُوْلُوْنَ: نَاظرَةٌ: بِمَعْنَى مُنْتَظِرَةٌ إِلَى الثَّوَابِ. قَالَ: بَلْ تَنظُرُ إِلَى اللهِ، أَمَّا سَمِعْتَ قَوْلَ مُوْسَى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأَعْرَافُ: 143] ، أَتُرَاهُ سَأَلَ مُحَالاً? قَالَ اللهُ: {لَنْ تَرَانِي} فِي الدُّنْيَا، لأَنَّهَا دَارُ فَنَاءٍ، فَإِذَا صَارُوا إِلَى دَارِ البَقَاءِ، نَظَرُوا بِمَا يَبْقَى إِلَى مَا يَبْقَى. قَالَ -تَعَالَى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المُطَفِّفِيْنَ: 15] .
    ـ قول الإمام مالك في حكم الساحر
    ـ جاء في موطأ مالك (5/ 319):
    قَالَ مَالِك السَّاحِرُ الَّذِي يَعْمَلُ السِّحْرَ وَلَمْ يَعْمَلْ ذَلِكَ لَهُ غَيْرُهُ هُوَ مَثَلُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ }
    فَأَرَى أَنْ يُقْتَلَ ذَلِكَ إِذَا عَمِلَ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُهُ
    ـ قال أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي رحمه الله في البيان والتحصيل (16/ 443):
    قال محمد بن رشد: السحر كفر، فهو بمنزلة الزندقة، قال ابن المواز: من قول مالك وأصحابه أن الساحر كافر بالله، فإذا سحر هو بنفسه، فإنه يقتل ولا يستتاب، والسحر كفر قال تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] ، وقال مالك: هو كالزنديق إذا عمل السحر هو بنفسه؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102] ، وقد أمرت حفصة بجارية لها سحرتها أن تقتل فقتلت
    ـ قوله في من سب النبي صلى الله عله وسلم أو احد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
    قال الإمام أبو العباس الحراني رحمه الله في (الصارم المسلول 3/ 571):
    اما مذهب مالك رضي الله عنه
    فقال مالك في رواية ابن القاسم ومطرف : ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب
    قال ابن القاسم من سبه او شتمه او عابه او تنقصه فانه يقتل كالزنديق
    وقال ابو مصعب وابن ابي اويس سمعنا مالكا يقول : من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم او شتمه او عابه او تنقصه قتل مسلما كان او كافرا ولا يستتاب
    وكذلك قال محمد بن عبد الحكم اخبرنا اصحاب مالك انه قال من سب النبي صلى الله عليه وسلم او غيره من النبيين من مسلم او كافر قتل ولم يستتب
    قال وروي لنا عن مالك إلا أن يسلم الكافر
    وقال أشهب عنه من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب فهذه نصوصه نحوا من نصوص الإمام احمد والمشهور من مذهبه انه لا تقبل توبة المسلم إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه حكم الزنديق عندهم ويقتل عندهم حدا لا كفرا إذا اظهر التوبة من السب
    وروى الوليد بن مسلم عن مالك انه جعل سب النبي صلى الله عليه وسلم ردة
    قال أصحابه فعلى هذا يستتاب فان تاب نكل وإن أبى قتل ويحكم له بحكم المرتد وأما الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم اسلم فهل يدرأ عنه الإسلام القتل على الروايتين ذكرهما القاضي عبد الوهاب وغيره أحداهما يسقط عنه
    قال مالك في رواية جماعة من أصحابه منهم ابن القاسم من شتم نبينا من أهل الذمة أو أحدا من الأنبياء قتل إلا أن يسلم وفي رواية لا يقال له اسلم ولا لا تسلم ولكن إن اسلم فذلك له توبة وفي رواية مطرف عنه من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين أو أحدا من الأنبياء أو انتقصه قتل وكذلك من فعل ذلك من اليهود والنصارى قتل و لايستتاب إلا أن يسلم قبيل القتل
    قال ابن حبيب وسمعت ابن الماجشون يقوله وقاله لي ابن عبد الحكم وقاله لي اصبغ عن ابن القاسم فعلى هذه الرواية قال ابن القاسم قال مالك أن شتم النصراني النبي صلى الله عليه وسلم شتما يعرف فانه يقتل إلا أن يسلم قاله مالك غير مرة ولم يقل يستتاب
    قال ابن القاسم ومحمل قوله عندي إن اسلم طائعا وعلى هذا فإذا اسلم بعد أن يؤخذ وثبت عليه السب ويعلم أنهم يريدون قتله إن لم يسلم لم يسقط عنه القتل لأنه مكره في هذه الحال والرواية الثانية لا يدرأ عنه إسلامه القتل
    قال محمد بن سحنون وحد القذف وشبهه من حقوق العباد لا يسقطه عن الذمي إسلامه وإنما تسقط عنه بإسلامه حدود الله فإما حد القذف فحد للعباد كان ذلك من نبي أو غيره ))
    عقيدته في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
    قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره (7/ 362):
    وقال مالك، رحمه الله: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: "والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا". وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة ؛ ولهذا قال هاهنا: { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } ، ثُمَّ قَالَ: { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } : { أَخْرَجَ شَطْأَهُ ] } أي: فراخه، { فَآزَرَهُ } أي: شده { فَاسْتَغْلَظَ } أي: شب وطال، { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي: فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع، { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } .
    ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك -رحمه الله، في رواية عنه-بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة ، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم.
    ـ قال الحافظ البيهقي رحمه الله في ( الأسماء والصفات للبيهقي 2/ 75) :
    أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، قال : سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري ، يقول : سمعت عمران بن موسى الجرجاني ، بنيسابور يقول : سمعت سويد بن سعيد ، يقول : سمعت مالك بن أنس ، وحماد بن زيد ، وسفيان بن عيينة ، والفضيل بن عياض ، وشريك بن عبد الله ، ويحيى بن سليم ، ومسلم بن خالد ، وهشام بن سليمان المخزومي ، وجرير بن عبد الحميد ، وعلي بن مسهر ، وعبدة ، وعبد الله بن إدريس ، وحفص بن غياث ، ووكيعا ، ومحمد بن فضيل ، وعبد الرحيم بن سليمان ، وعبد العزيز بن أبي حازم ، والدراوردي ، وإسماعيل بن جعفر ، وحاتم بن إسماعيل ، وعبد الله بن يزيد المقرئ ، وجميع من حملت عنهم العلم ، يقولون : الإيمان قول وعمل ، ويزيد وينقص ، والقرآن كلام الله تعالى ، وصفة ذاته غير مخلوق ، من قال : إنه مخلوق ، فهو كافر بالله العظيم ، وأفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . قال عمران : وبذلك أقول ، وبه أدين الله عز وجل ، وما رأيت محمديا قط إلا وهو يقوله
    ـ قال القاضي عياض رحمه الله في (الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/ 308):
    قال مالك رحمه الله من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل ومن شتم أصحابه أدب
    وقال أيضا من شتم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال كانوا على ضلال وكفر قتل وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالا شديدا
    ـ ومما جاء عنه في ذم الصوفية وطرائقهم المنحرفة ماقاله القاضي عياض رحمه الله في ( ترتيب المدارك وتقريب المسالك 1/ 55) :
    قال عبد الله بن يوسف :كنا عند مالك وأصحابه حوله فقال رجل من أهل نصيبين يا أبا عبد الله عندنا قوم يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون.
    فقال مالك: الصبيان هم؟ قال لا.
    قال أمجانين؟ قال لا، قوم مشائخ وغير ذلك عقلاً.
    قال مالك ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا.
    قال الرجل يل يأكلون ثم يقومون فيرقصون نوائب ويلطم بعضهم رأسه وبعضهم وجهه فضحك مالك ثم قام فدخل منزله.
    فقال أصحاب مالك للرجل لقد كنت يا هذا مشؤوماً على صاحبنا، لقد جالسناه نيفاً وثلاثين سنة فما رأيناه ضحك إلا في هذا اليوم.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: دعوة إلى التفاعل والمدارسة لشرح كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله

    (1) يجدر بي في مقامي هذا أن انقل كلاما نفيسا قيما عظيما ااعلامة الأصولي شيخ الشيوخ المفسر الأمين الشنقيطي رحمه الله وقدس روحه بين فيه نزهة وفضل الاتباع وماكان يتحلى به الأئمة من العلم والاتباع والأخذ بالدليل ويوضح فيه شناعة وجرم التقليد الأعمى وفضاعة وقبح اهله وما هم عليه من العصب والجهل باحكام وأصول الدين قال رحمه الله فيأضواء البيان (7/ 413):
    اعلم أن المقلدين ، اغتروا بقضتين ظنوهما صادقتين ، وهما بعيدتان من الصدق ، وظن صدقهما يدخل أولياً في عموم قوله تعالى { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } [ يونس : 36 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : « أياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث »
    أما الأولى منهما
    فهي ظنهم ، أن الإمام الذي قلدوه لا بد أن يكون قد اطلع على جميع معاني كتاب الله ، ولم يفته منها شيء وعلى جميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفته منها شيء .

    ولذلك فإن كل آية وكل حديث قد خالفا قوله فلا شك عندهم أن ذلك الإمام اطلع على تلك الآية وعلم معناها ، وعلى ذلك الحديث وعلم معناه .

    وأنه ما ترك العمل بهما إلا لأنه اطلع على ما هو أقوى منهما وأرجح .
    ولذلك يجب تقديم ذلك الأرجح الذي تخيلوه شيء من الوحي الموجود بين أيديهم .
    وهذا الظن كذب باطل بلا شك .
    والأئمة كلهم معترفون بأنهم ما أحاطوا بجميع نصوص الوحي ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .
    ومن أًصرح ذلك أن الإمام مالكاً رحمه الله ، إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلالته ، لما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمعه في موطئه لم يقبل ذلك من أبي جعفر ورده عليه .
    وأخره أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في أقطار الدنيا ، كلهم عنده علم ليس عند الآخرة .
    ولم يجمع لاحديث جمعاً تاماً بحيث أمكن جمع جميع السنة إلا بعد الأئمة الأربعة .
    لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تفرقوا في أقطار الدنيا روي عنهم كثير من الأحاديث لم يكن عند غيرهم ، ولم يتيسر الاطلاع عليه إلا بعد أزمان .
    فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عجز عن أن يفهم معنى الكلالة حتى مات رضي الله عنه .
    وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً فبينها له ولم يفهم .
    فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال : ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بإصبعه في صدري ، وقال لي « يكفيك آية الصيف في آخر سورة النساء »
    فهذا من أوضح البيان ، لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بآية الصيف { إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَد } [ النساء : 176 ] والآية تبين معنى الكلالة بياناً شافياً ، لأنها أوضحت أنها : ما دون الولد والوالد .
    فبينت نفي الولد بدلالة المطابقة في قوله تعالى : { وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك } [ النساء : 176 ] ، لأن ميراث الأخت يستلزم نفي الولد .
    ومع هذا البيان النبوي الواضح لهذه الآية الكريمة ، فإن عمر رضي الله عنه لم يفهم .
    وقد صح عنه أن الكلالة لم تزل مشكلة عليه .
    وقد خفي معنى هذا أيضاً على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال في الكلالة : أقول فيها برأيي . فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، هو ما دون الولد والوالد .
    فوافق رأيه معنى الآية .
    والظاهر أنه لو كان فاهماً للآية لكفته عن الرأي .
    كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بأن في الآية كفاية عن كل ما سواها في الحكم المسؤول عنه .
    ومما يوضح ذلك أن عمر طلب من النبي صلى الله عليه وسلم بيان الآية .
    وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم .
    فما أحال عمر على الآية إلا لأن فيها من البيان ما يشفي ويكفي .
    وقد خفي على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم « أعطى الجدة السدس حتى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس » فرجع إلى قولهما .
    ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم : قضى في دية الجنين بغرة عبد أو وليدة حتى أخبره المذكوران قبل .
    ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن المرأة ترث من دية زوجها . حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه : أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها .
    ولم يعلم أيضاً بآخذ الجزية من المجوسي حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف . بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر .
    ولم يعلم بحكم الاستئذان ثلاثاً حتى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه .
    ولم يعلم عثمان رضي الله عنه بوجوب السكنى للمتوفى عنه حتى أخبرته قريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمها بالسكنى في المحل الذي مات عنها زوجها فيه حتى تنقضي عدتها .
    وأمثال هذا أكثر من أن تحصر .
    فهؤلاء الخلفاء الراشدون وهم من خفي عليهم كثير من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاديثه مع ملازمتهم له ، وشدة حرصهم على الأخذ منه .
    فتعلموه ممن هو دونهم في الفضل والعلم .
    فما ظنك بغيرهم من الأئمة الذي نشأوا وتعلموا بعد تفرق الصحابة في أقطار الدنيا؟
    وروي عنه الأحاديث عدول من الأقطار التي ذهبوا إليها؟
    والحاصل أن ظن إحاطة الإمام بجميع نصوص الشرع ومعانيها ظن لا يغني من الحق شيئاً ، وليس بصحيح قطعاً .
    لأنه لا شك أنه يفوته بعض الأحاديث فلم يطلع عليها ويرويه بعض العدول عن الصحابة فيثبت عند غيره . وهو معذور في ترك العمل به ، بعدم اطلاعه عليه مع أنه بذل المجهود في البحث ولذا كان له أجر الاجتهاد والعذر في الخطأ .
    وقد يكون الإمام اطلع على الحديث ، ولكن السند الذي بلغه به ضعيف فيتركه لضعيف السند .
    ويكون غيره اطلع على رواية أخرى صحيحة يثبت بها الحديث فهو معذور في تركه ، لأنه لم يطلع إلا على السند الضعيف ولم تبلغه الطريق الصحيحة الأخرى وقد يترك الحديث لشيء يظنه أرجح منه ، ويكون الواقع أن الحديث أرجح من ذلك الشيء الذي ظنه لقيام أدلة أخرى على ذلك لم يطلع عليها ، إلى أسباب أخر كثيرة ، كترك الأئمة للعمل ببعض النصوص .
    وبهذا كله تعلم أن ظن اطلاع الإمام على كل شيء من أحكام الشرع وإصابته في معانيها كلها ظن باطل .
    وكل واحد من الأئمة يصرح ببطلان هذا الظن كما سترى إيضاحه إن شاء الله فاللازم هو ما قاله الأئمة أنفسهم رحمهم الله من أنهم قد يخطئون ونهوا عن إتباعهم في كل شيء يخالف نصاً من كتاب أو سنة .
    فالمتبع لهم حقيقة ، هو من لا يقدم على كتاب الله وسنة رسوله شيئاً .

    أما الذي يقدم أقوال الرجال على الكتاب وصحيح السنة ، فهو مخالف لهم لا متبع لهم .

    ودعواه اتباعهم كذب محض .

    وأما القضية الثانية :

    فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ .
    وإيضاحه : أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بعض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ يكون لهم من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لذلك الإمام الذي قلدوه ،لأنهم متبعون له فيجري عليهم ما جرى عليه .
    وهذا ظن كاذب باطل بلا شك . لأن الإمام الذي قلدوه بذلك جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وتفاويهم .
    فقد شمر وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به وطاعة الله على ضوء الوحي المنزل .
    ومن كان هذا شأنه فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده .
    وأما مقلدوه فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله وأعرضوا عن تعلمهما إعراضاً كلياً مع يسره وسهولته ونزلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون منزلة الوحي المنزل من الله .
    فأين هؤلاء من الأئمة الذي قلدوهم؟
    وهذا الفرق العظيم بينهم ، وبينهم ، يدل دلالة واضحة ، على أنهم ليسوا مأجورين في الخطأ في تقليد أعمى إذ لا اقتداء ولا أسوة في غير الحق .
    وليسوا معذورين لأنهم تركوا ما يلزمهم تعلمه من أمر الله ونهيه على ضوء وحيه المنزل .
    الذي يجب عليهم من تعلم ذلك ، هو ما تدعوهم الحاجة للعمل به ، كأحكام عباداتهم ومعاملاتهم .
    وأغلب ذلك تدل عليه نصوص واضحة ، سهلة التناول من الكتاب والسنة .
    والحاصل أن المعرض عن كتاب الله ، وسنة رسوله المفرط في تعلم دينه ، مما أنزل الله ، وما سنه رسوله ، المقدم كلام الناس على كتاب الله ، وسنة رسوله ، لا يكون له ألبتة ما للإمام الذي لم يعرض عن كتاب الله وسنة رسوله ، ولم يقدم عليهما شيئاً ولم يفرط في تعلم الأمر والنهي من الكتاب والسنة .
    فأين هذا من هذا؟
    سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
    التنبيه الثاني

    اعلم أن الأئمة الأربعة رحمهم الله ، متفقون على منع تقليدهم ، التقليد الأعمى الذي يتعصب له من يدعون أنهم أتباعهم .
    ولو كانوا أتباعهم حقاً لما خالفوهم في تقليدهم الذي منعوا منه ونهوا عنه .
    قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه :
    أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي ، قال حدثنا موسى بن إسحاق ، قال حدثنا إبراهيم بن المنذر ، قال حدثنا معن بن عيسى ، قال سمعت مالك بن أنس يقول : إنما أنا بشر أخطىء وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه . اه . محل الغرض منه بلفظه .
    فمالك رحمه الله مع علمه وجلالته وفضله يعترف بالخطأ وينهى عن القول بما خالف الوحي من رأيه .
    فمن كان مالكياً فليمتثل قول مالك ولا يخالفه بلا مستند .
    وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه أيضاً :
    أخبرني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي حدثني أبي حدثنا محمد بن عمر بن لبابة قال : حدثنا مالك بن علي القرشي ، قال أنبأنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال :
    دخلت على مالك فوجدته باكياً فسلمت عيله فرد علي ثم سكت عني يبكي ، فقلت له :
    يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال لي يا ابن قعنب إنا لله على ما فرط مني ، ليتني جلدت بكل كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسوط ، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي ، وهذه المسأئل قد كانت لي سعة فيما سبقت إليه . اه . محل الغرض منه بلفظه .
    ومن العلوم بالضرورة أن مالكاً رحمه الله لا يسره ولا يرضيه تقديم رأيه هذا الذي يسترجع ويبكي ندماً عليه ، ويتمنى لو ضرب بالسياط ولم يكن صدر منه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
    فليتق الله وليستحي من الله من يقدم مثل هذا الرأي على الكتاب والسنة زاعماً أنه متبع مالكاً في ذلك ،وهو مخالف فيه لمالك ، ومخالف فيه لله ولرسوله ، ولأصحابه ولكل من يعتد به من أهل العلم .
    وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين :
    وقد نهى الأئمة الأبعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة .
    فقال الشافعي : مثل الذي يطلب العلم بلا حجة ، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري ، ذكره البيهقي .
    قال إسماعيل بن عيسى المزني في أول مختصره : اختصرت هذا من علم الشافعي ، ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ، ويحتاط فيه لنفسه إلى أن قال :
    وقال أحمد بن حنبل : لا تقلدني ، ولا تقلد مالكاً ، ولا الثوري ولا الأوزاعي ، وخذ من حيث أخذوا .
    وقال : من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال .
    وقال بشر بن الوليد : قال أبو يوسف : لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا
    وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب ، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله اه محله الغرض منه .
    ومما لا شك فيه أن الأئمة الأربعة رحمهم الله نهوا عن تقليدهم في كل ما خالف كتاباً أو سنة كما نقله عنهم أصحابهم .
    كما هو مقرر في كتب الحنفية عن أبي حنيفة .
    وكتب الشافعية عن الشافعي القائل : إذا صح الحديث فهو مذهبي .
    وكتب المالكية ، والحنابلة عن مالك وأحمد رحمهم الله جميعاً .

    وكذلك كان غيرهم من أفاضل العلماء يمنعون من تقليدهم فيما لم يوافق الكتاب والسنة وقد يتحفظون منه ولا يرضون .
    قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه :

    وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عن سحنون ، قال كان مالك بن أنس وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز ، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما .
    وإذا سأله محمد بن إبراهيم بن دينار وذووه لم يجبهما .

    فقال له :

    يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما ، وأسألك أنا وذوي فلا تجيبا؟
    فقال :أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟
    قال : نعم : فقال له :

    إني قد كبرت سني ورقَّ عظمي ، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ،ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان ، إذا سمعا مني حقاً قبلاه ، وإذا سمعا خطأ تركاه ،وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه .
    قال محمد بن حارث : هذا والله هو الدين الكامل ، والعقل الراجح .
    لا كمن يأتي بالهذيان ، ويريد أن ينزل من القلوب منزلة القرآن . اه منه .
    التنبيه الثالث

    اعلم أن المقلدين للأئمة هذا التقليد الأعمى قد دل كتاب الله ، وسنة رسوله ، وإجماع من يعتد به من أهل العلم ، أنه لا يجوز لأحد منهم أن قول : هذا حلال وهذا حرام .

    لأن الحلال ما أحله الله ، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه أو سنة رسوله ، والحرام ما حرمه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه ، أو سنة رسوله .
    ولا يجوز ألبتة للمقلد أن يزيد على قوله : هذا الحكم قاله الإمام الذي قلدته أو أفتى به .
    أما دلالة القرآن على منع ذلك فقد قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] وقال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ } [ النحل : 116 ] . وقال تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا } [ الأنعام : 150 ] الآية .
    ومعلوم أن العبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب كما بيناه مراراً ، وأوضحنا أدلته من السنة الصحيحة .
    ومما يوضح هذا أن المقلد الذي يقول : هذا حلال وهذا حرام من غير علم بأن الله حرمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يقول على الله بغير علم قطعاً فهو داخل بلا شك في عموم قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] .
    فدخوله في قوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 169 ] كما ترى .
    وهو داخل ايضاً في عموم قوله تعالى : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 169 ] .
    وأم السنة ، فقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
    حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان .
    ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان قال : أملاه علينا إملاء .
    ح وحدثني عبد الله بن هاشم واللفظ له حدثني عبد الرحمن يعني ابن مهدي حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال :كان رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال :« اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله » الحديث .
    وفيه « وإذا حاصرت أهل حسن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري ، أتصيب حكم الله فيهم أم لا »
    هذا لفظ مسلم في صحيحه .
    وفيه النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن نسبة حكم إلى الله ، حتى يعلم بأن هذا حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
    ولأجل هذا كان أهل العلم لا يتجرؤون على القول بالتحريم والتحليل إلا بنص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
    قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه :
    حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حديثنا يوسف بن عدي قال حدثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب قال : قال الربيع بن خيثم : إياكم أن يقول الرجل في شيء إن الله حرم هذا أو نهى عنه فيقول الله : كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه .
    قال أو يقول : إن الله أحل هذا وأمر به ، فيقول : كذبت لم أحله ولم آمر به .
    وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب أنهما سمعا مالك بن أنس يقول : لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً اقتدى به يقول في شيء : هذا حلال وهذا حرام
    ما كانوا يجترئون على ذلك .
    وإنما كانوا يقولون : نكره هذا .
    ونرى هذا حسناً .
    ونتقي هذا ، ولا نرى هذا .
    وزاد عتيق بن يعقوب ، ولا يقولون حلال ولا حرام .
    أما سمعت قول الله عز وجل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] .
    الحال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله :
    قال أبو عمر : معنى قول مالك هذا إن ما أخذ من العلم رأياً واستحساناً لم نقل فيه حلال ولا حرام والله اعلم . اه . محل الغرض منه .
    وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسيره ، في الكلام على قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] الآية ، ما نصه :
    أسند الدرامي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش قال : ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلال ولا حرام ولكن كان يقول : كانوا يكرهون كانوا يستحبون .
    وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام .
    ولكن يقولون : إياكم وكذا وكذا . ولم أكن لأصنع هذا .
    ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل ليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون البارئ تعالى بذلك عنه .
    وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول : إني أكره كذا .
    وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى اه . محل الغرض منه
    وإذا كان مالك وإبراهيم النخعي وغيرهما من أكابر أهل العلم لا يتجرؤون أن يقولوا في شيء من مسائل الاجتهاد والرأي : هذا حلال أو حرام .
    فما ظنك بغيرهم من المقلدين الذين لم يستضيئوا بشيء من نور الوحي؟
    فتجرؤهم على التحريم والتحليل بلا مستند من الكتاب إنما نشأ لهم من الجهل بكتاب الله وسنة رسوله ، وآثار السلف الصالح .
    وآية يونس المتقدمة صريحة فيما ذكرنا صراحة تغني عن كل ما سواها .
    لأنه تعالى لما قال : { فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } [ يونس : 59 ] أتبع ذلك بقوله { قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] .
    ولم يجعل واسطة بين إذنه في ذلك وبين الافتراء عليه .
    فمن كان عنده إذن من الله بتحريم هذا أو تحليله فليعتمد على إذن الله في ذلك
    ومن لم يكن عنده إذن من الله في ذلك فليحذر من الافتراء على الله .
    إذ لا واسطة بين الأمرين .
    ومعلوم أن العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سببها .
    فالذين يقولون من الجهلة المقلدين : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا حكم الله ، ظناً منهم أن أقوال الإمام الذي قلدوه تقوم مقام الكتاب والسنة وتغني عنهما .
    وأنّ ترك الكتاب والسنة والاكتفاء بأقوال من قلدوه أسلم لدينه أعمتهم ظلمات الجهل المتراكمة عن الحقائق حتى صاروا يقولون هذا .
    فهم كما ترى ، مع أن الإمام الذي قلدوه ، ما كان يتجرأ على مثل الذي تجرؤوا عليه ، لأن علمه يمنعه من ذلك .
    والله جل وعلا يقول : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب } [ الزمر : 9 ] .
    التنبيه الرابع

    اعلم أن مما لا بد منه معرفة ، الفرق بين الإتباع والتقليد ، وأن محل الإتباع لا يجوز التقليد فيه بحال .
    وإيضاح ذلك ، أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع المسلمين ، لا يجوز فيه التقليد بحال .
    لأن كل اجتهاد يخالف النص ، فهو اجتهاد باطل ، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد .
    لأن نصوص الكتاب والسنة ، حاكمة على كل المجتهدين ، فليس لأحد منهم مخالفتها كائناً من كان .
    ولا يجوز التقليد فيما خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً إذ لا أسوة في غير الحق .
    فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الإتباع فقط .
    ولا اجتهاد، ولا تقليد فيما دل عليه نص ، من كتاب أو سنة ، سالم من المعارض .
    والفرق بين التقليد والإتباع أمر معروف عند أهل العلم ، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم ، وقد قدمنا كلام ابن هويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه .
    وهو قوله : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع منه في الشريعة والإتباع ما ثبت عليه حجة .
    وقال في موضع آخر من كتابه :
    كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح .
    وكل من أوجب عليك الدليل إتباع قوله أنت متبعه والإتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع . اه .
    وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين :
    وقد فرق الإمام أحمد رحمه الله بين التقليد والإتباع .
    فقال أبو داود : سمعته يقول : الإتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، ثم هو من بعد في التابعين مخير . انتهى محل الغرض منه .
    قال مقيده عفا الله عنه ، وغفر له : أما كون العمل بالوحي إتباعا لا تقليداً فهو أمر قطعي .
    والآيات الدالة على تسميته إتباعا كثيرة جداً :
    كقوله تعالى : { اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] .
    وقوله تعالى : { واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم } [ الزمر : 55 ] الآية .
    وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 203 ] .
    وقوله تعالى : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ يونس : 15 ] .
    وقوله تعالى : { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأنعام : 155 ] .
    وقوله تعالى : { اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } [ الأنعام : 106 ] .
    وقوله تعالى : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ الأحقاف : 9 ] .
    والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة . فالعمل بالوحي ، هو الإتباع كما دلت عليه الآيات .
    ومن المعلوم الذي لا شك فيه ، أن إتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه من الوجوه ، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه .
    فاتضح من هذا الفرق بين الإتباع والتقليد ، وأن مواضع الإتباع ليست محلاً أصلاً للاجتهاد ولا للتقليد .
    فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها ألبتة .
    لأن إتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائناً من كان كما لا يخفى .
    وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد
    وموضع الإتباع ليس محل اجتهاد .
    فجعل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والإتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط ، كما ترى .
    والتحقيق أن إتباع الوحي لا يشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه .
    وأنه يصح علم حديث والعمل به ، وعلم آية والعمل بها .
    ولا يتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد .
    فيلزم المكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة ، ويعمل بكل ما علم من ذلك ، كما كان عليه أول هذه الأمة ، من القرون المشهود لها بالخير .
    التنبيه الخامس .

    اعلم أنه لا يخفى علينا أن المقلدين التقليد الأعمى المذكور ، يقولون :
    هذا الذي تدعوننا إليه وتأمروننا به من العمل بالكتاب والسنة والتقديمهما على آراء الرجال من التكليف بما لا يطاق .
    لأنا لا قدرة لنا على معرفة الكتاب والسنة حتى نعمل بهما .
    ولا يمكننا معرفة شيء من الشرع إلا عن طريق الإمام الذي نقلده .
    لأنا لم نتعلم نحن ولا آباؤنا شيئاً غير ذلك .
    فإذا لم نقلد إمامنا بقينا في حيرة لا نعلم شيئاً من أحكام عباداتنا ولا معاملاتنا ، وتعطلت بيننا الأحكام إذ لا نعرف قضاء ولا فتوى ولا غير ذلك من الأحكام إلا عن طريق مذهب إمامنا .
    لأن أحكام مدونة عندنا وهي التي نتعلمها ونتدارسها دون غيرها من الكتاب أو السنة وأقوال الصحابة ومذاهب الأئمة الآخرين .
    ونحن نقول :
    والله لقد ضيقتم واسعاً . وادعيتم العجز ، وعدم القدرة في أمر سهل .
    ولا شك أن الأحوال الراهنة للمقلدين التقليد الأعمى ، للمذاهب المدونة تقتضي صعوبة شديدة جداً في طريق التحول من التقليد الأعمى إلى الاستضاءة بنور الوحي .
    وذلك إنما نشأ من شدة التفريط في تعلم الكتاب والسنة والإعراض عنهما إعراضاً كلياً يتوارثه الأبناء عن الآباء والآباء عن الأجداد .
    فالداء المستحكم من مئات السنين لا بد لعلاجه من زمن طويل .
    ونحن لا نقول : إن الجاهل بالكتاب والسنة يعمل بهما باجتهاده .
    بل نعوذ بالله من أن نقول ذلك .
    ولكنا نقول : إن الكتاب والسنة يجب تعلمهما ، ولا يجوز الإعراض عنهما وأن كل ما علمه المكلف منهما علماً صحيحاً ناشئاً عن تعلم صحيح وجب عليه العمل به .
    فالبلية العظمى إنما نشأت من توارث الإعراض عنهما إعراضاً كلياً اكتفاء عنهما بغيرهما .
    وهذا من أعظم المنكر وأشنع الباطل .
    فالذي ندعو إليه هو المبادرة بالرجوع إليهما بتعلمهما أولاً ثم العمل بهما والتوبة إلى الله من الإعراض عنهما .
    ودعوى أن تعلمهما غير مقدور عليه ، لا يشك في بطلانها عاقل ، ونعيذ أنفسنا وإخواننا بالله أن يدعوا على أنفسهم أن على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا يمنعهم من فهم كتاب الله
    لأن ذلك قول الكفار لا قول المسلمين قال الله تعالى { حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : 1 - 5 ] .
    فاحذر يا أخي وارحم نفسك أن تقول مثل قول هؤلاء الكفرة وأنت تسمع ربك يقول : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 17 - 22 - 23 - 40 ] ، ويقول : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ الدخان : 58 ] .
    ويقول { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب } [ ص : 29 ] .
    فلا تخرج نفسك من عموم أولي الألباب الذين هم أصحاب العقول ، لأنك إن فعلت ذلك اعترفت على نفسك أنك لست من جملة العقلاء .
    وعلى كل حال فلا يخلو المقلدون ، التقليد الأعمى ، من أحد أمرين :
    احدهما: ألا يلتفتوا إلى نصح ناصح .
    بل يستمرون على تقليدهم الأعمى ، والإعراض عن نور الوحي عمداً .
    وتقديم رأي الرجال عليه .
    وهذا القسم منهم لا نعلم له عذراً في كتاب الله ولا سنة رسوله .
    ولا في قول أحد من الصحابة ، ولا أحد من القرون المشهود لهم بالخير .
    لأن حقيقة ما هم عليه ، هو الإعراض عما أنزل الله عمداً مع سهولة تعلم القدر المحتاج إليه منه ، والاستغناء عنه بأقوال الأئمة .
    ومن كان هذا شأنه وهو تام العقل والفهم قادر على التعلم فعدم عذره كما ترى .
    الأمر الثاني : هو أن يندم المقلدون على ما كانوا عليه من التفريط في تعلم الوحي ، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
    ويبادروا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ويشرعوا في ذلك بجد . تائبين مما كانوا عليه من التفريط قبل ذلك ، وهذا القسم على هدى من الله .
    التنبيه السادس

    لا خلاف بين أهل العلم ، في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاماً غير أحكام الاختيار .
    فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاءً صحيحاً حقيقاً ، فهو في سعة من أمره فيه .
    وقد استثنى الله جل وعلا ، حالة الاضطرار في خمس آيات من كتابه ، ذكر فيها المحرمات الأربع التي هي من أغلظ المحرمات ، تحريماً وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به
    فإن الله تعالى كلما ذكر تحريمها استثنى منها حالة الضرورة ، فأخرجها من حكم التحريم .
    قال تعالى في سورة الأنعام .
    { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأعراف : 145 ] .
    وقال في الأنعام أيضاً :
    { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين } [ الأنعام : 119 ]
    وقال تعالى في النحل :
    { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 115 ] .
    وقال تعالى في البقرة :
    { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 173 ] .
    وقال تعالى في المائدة :
    { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } إلى قوله : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[ المائدة : 3
    وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقياً ، بحيث يكون لا قدرة له ألبتة ، على غيره مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلاً على الفهم .
    أو له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم .
    أو هو في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجاً لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد .
    أو لم يجد كفئاً يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة .
    لأنه لا مندوحة له عنه .
    أما القادر على التعلم المفرط فيه ،والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي .
    فهذا الذي ليس بمعذور .
    التنبيه السابع

    اعلم أن موقفنا من الأئمة رحمهم الله من الأربعة وغيرهم .
    هو موقف سائر المسلمين المنصفين مننهم .
    وهو موالاتهم ، ومحبتهم ، وتعظيمهم ، وإجلالهم ، والثناء عليهم ، بما هم عليه من العلم والتقوى ، وإتباعهم في العمل بالكتاب والسنة وتقديمهما على رأيهم وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق ، وترك ما خالف الكتاب والسنة منها .
    وأما المسائل التي لا نص فيها فالصواب النظر في اجتهادهم فيها .
    وقد يكون إتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا .
    لأنهم أكثر علماً وتقوى منا .
    ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضى الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه .
    كما قال صلى الله عليه وسلم : « دع ما يريبك إلى ما ليريبك »
    وقال : « فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه »
    وحقيقة القول الفصل في الأئمة رحمهم الله أنهم من خيار علماء المسلمين وأنهم ليسوا معصومين من الخطأ ، فكل ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ، وما أخطأوا فيه فهم مأجورون فيه باجتهادهم معذورون في خطئهم فهم مأجورون على كل حال ، لا يلحقهم ذم ولا عيب ولا نقص في ذلك .
    ولكن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفى
    فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
    فلا تكن ممن يذمهم وينتقصهم ولا ممن يعقد أقوالهم مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله أو مقدمة عليهما .
    التنبيه الثامن

    اعلم أن كلاً من الأئمة أخذت عليه مسائل . قال بعض العلماء : إنه خالف فيها السنة .
    وسنذكر طرفاً من ذلك هنا إن شاء الله .
    أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فهو أكثر الأئمة في ذلك ، لأنه أكثرهم رأياً .
    ولكثرة المسائل اتي حصل فيها القيل والقال من ذلك لا نحتاج إلى بسط تفصيلها .
    وبعض المسائل اتي قيل فيها ذلك يظهر أنه لم تبلغه السنة فيها ، وبعضها قد بلغته السنة فيها ، ولكنه تركها لشيء آخر ظنه أرجح منها .
    كتركه العمل لحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال .
    وحديث « تغريب الزاني البكر » لأنه ترك العمل بذلك ونحوه احتراماً للنصوص القرآنية في ظنه .
    لأنه يعتقد أن الزيادة على النص نسخ وأن القضاء بالشاهد واليمين نسخ . لقوله تعالى : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } [ البقرة : 282 ] .
    فاحترم النص القرآني المتواتر ، فلم يرض نسخه بخر آحاد سنده دون سنده .
    لأن نسخ المتواتر بالآحاد عنده ، رفع للأقوى بالأضعف ، وذلك لا يصح .
    وكذلك حديث تغريب الزاني البكر فهو عنده زيادة ناسخة لقوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [ النور : 2 ] والمتواتر لا ينسخ بالآحاد .
    فتركه العمل بهذا النوع من الأحاديث بناه على مقدمتين :
    أحداهما : أن الزيادة على النص نسخ .
    والثانية : أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد .
    وخالفه في المقدمة الأولى جمهور العلماء .
    ووافقوه في الثانية .
    والذي يظهر لنا ونعتقده اعتقاداً جازماً أن كلتا المقدمتين ليست بصحيحة .
    أما الزيادة فيجب فيها التفصيل .
    فإن كانت أثبتت حكماً نفاه النص أو نفت حكماً أثبته النص فهي نسخ .
    وإن كانت لم تتعرض للنص بنفي ولا إثبات بل زادت شيئاً سكت عنه النص فلا يمكن أن تكون نسخاً لأنها إنما رفعت الإباحة العقلية التي هي البراءة الأصلية .
    ورفعها ليس نسخاً إجماعاً .
    وأما نسخ المتواتر بالآحاد .
    فالتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا مانع منه ولا محذور فيه ، ولا وجه لمنعه ألبتة ، وإن خالف في ذلك جمهور أهل الأصول .
    لأن أخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عن المتواتر لا وجه لردها ، ولا تعارض ألبتة بينها وبين المتواتر إذ لا تناقض بين خبرين اختلف زمنهما ، لجواز صدق كل منهما في وقته
    فلو أخبرك مثلاً عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب ، بأن أخاك الغائب لم يزل غائباً ولم يأت منزله .
    لأنهم كانوا بمنزله وليس بموجود ، ثم أخبرك بعد ذلك رجل واحد بأن أخاك موجود في منزله الآن .
    فهل يسوغ لك أن تقول له كذبت ، لأني أخبرني عدد كثير قبلك أنه لم يأت؟
    ولو قلت له ذلك لقال لك هم في وقت إخبارهم لك صادقون ، ولكن أخاك جاء بعد ذلك
    فالمتواتر في وقت نزوله صادق .
    وخبر الآحاد الوارد بعده صادق أيضاً .
    لأنه أفاد تجدد شيء لم يكن .
    فحصر المحرمات مثلاً في الأربع المذكورة في قوله تعالى :
    { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة } [ الأنعام : 145 ] الآية . صادق في ذلك الوقت .
    لا يوجد محرم على طاعم بطعمه إلا تلك المحرمات الأربع .
    فلا تحرم في ذلك الوقت الحمر الأهلية ولا ذو الناب من السباع ولا الخمر ولا غير ذلك .
    فإذا جاء بعد خبر آحاد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم : حرم لحوم الحمر الأهلية بخيبر ، فهل يسوغ لقائل أن يقول :
    هذا الخبر الصحيح مردود لأنه يعارض حصر المحرمات في الأربع المذكورة في آية : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } [ الأنعام : 145 ] الآية؟
    هذا الخبر الصحيح لا تناقضه الآية ، لأنه إنما أفاد حكماً جديداً طارئاً لم يكن مشروعاً من قبل .
    وأحكام الشريعة تتجدد شيئاً فشيئاً .
    والآية لم تدل على استمرار الحصر المذكور فيها .
    فتبين أن زيادة حكم طارئ لا تناقض بينها وبين ما كان قبلها .
    وإيضاح هذا أن نسخ المتواتر بالآحاد إنما رفع استمرار حكم المتواتر ودلالة المتواتر على استمرار حكمه ليست قطعية حتى يمنع نسخها بأخبار الآحاد الصحيحة .
    وقد قدمنا إيضاح هذا في سورة الأنعام .
    وقصدنا مطلق المثال لما يقال : إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله خالف فيه السنه برأيه .
    وغرضنا أن نبين أنه رحمه الله لم يخالف شيئاً من ذلك ، إلا لشيء اعتقده مسوغاً لذلك .
    وأنه لا يترك السنة إلا لشيء يراه مستوجباً لذلك شرعاً .
    ومما يبين ذلك أنه كان يقدم ضعيف الحديث على الرأي .
    قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ما نصه :
    وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي .
    وعلى ذلك بني مذهبه كما قدم حديث القهقة مع ضعفه على القياس والرأي .
    وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس .
    ومنع قطع يد السارق لسرقة أقل من عشرة دراهم ، والحديث فيه ضعيف .
    وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف .
    وشرط في إقامة الجمعة المصر ، والحديث فيه كذلك .
    وترك القياس في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة .
    فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة قوله ، وقول الإمام أحمد :
    وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعف في اصطلاح المتأخرين .
    بل ما يسميه المتأخرون حسناً قد يسميه المتقدمون ضعيفا اه . محل الغرض منه .
    ومن أمثلة ما ذكر أن أبا حنيفة رحمه الله خالف فيها السنة لزوم الطمأنينة في الصلاة وتعين تكبيرة الإحرام في الدخول فيها والسلام للخروج منها .
    وقراءة الفاتحة فيها والنية في الوضوء والغسل إلى غير ذلك من مسائل كثيرة .

    ولا يتسع المقام هنا لذكر ما استدل به أبو حنيفة لذلك ومناقشة الأدلة .

    بل المقصود بيان أن الأئمة لا يخلو أحد منهم من أن يؤخذ عليه شيء خالف فيه سنة وأنهم لم يخالفوها إلا لشيء سوغ لهم ذلك .

    وعند المناقشة الدقيقة قد يظهر أن الحق قد يكون معهم وقد يكون الأمر بخلاف ذلك .
    وعلى كل حال فهم مأجورون ومعذورون كما تقدم إيضاحه .
    وقد أخذ بعض العلماء على مالك رحمه الله أشياء قال :
    إنه خالف فيها السنة قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه :
    وقد ذكر يحيى بن سلام قال : سمعت عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدث عن الليث بن سعد أنه قال أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم مما قال مالك فيها برأيه ، قال : ولقد كتبت إليه في ذلك . انتهى محل الغرض منه .
    ومعلوم أن مثل كلام الليث هذا عن مالك لا أثر له ، لأنه لم يعين المسائل المذكورة ولا أدلتها .
    فيجوز أن يكون الصواب فيها مع مالك لأدلة خفيت على الليث ، فليس خفاؤها على مالك بأولى من خفائها على الليث .
    ولا شك أن مذهب مالك المدون فيه فروع تخالف بعض نصوص الوحي .
    والظاهر أن بعضها لم يبلغه رحمه الله ولو بلغه لعمل به .
    وأن بعضها بلغه وترك العمل به لشيء آخر يعتقده دليلاً أقوى منه .
    ومن أمثلة ما لم يبلغه النص فيه صيام ست من شوال بعد صوم رمضان .
    قال رحمه الله في الموطأ ما نصه : إني لم أر أحداً من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف .
    وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته .
    وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء ، ولو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ، ورأوهم يعملون ذلك . اه منه بلفظه .
    وفيه تصريح مالك رحمه الله بأنه لم يبلغه صيام ستة من شوال عن أحد من السلف ، وهو صريح في أنه لم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
    ولا شك أنه لو بلغه الترغيب فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان يصومها ويأمر بصومها ، فضلاً عن أن يقول بكراهتها .
    وهو لا يشك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرأف وأرحم بالأمة منه .
    لأن الله وصفه صلى الله عليه وسلم في القرآن بأنه رؤوف رحيم .
    فلو كان صوم السنة يلزمه المحذور الذي كرهها مالك من أجله لما رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولراعى المحذور الذي راعاه مالك .
    ولكنه صلى الله عليه وسلم ، ألغى المحذور المذكور وأهدره ، لعلمه بأن شهر رمضان أشهر من أن يلتبس بشيء من شوال .
    كما أن النوافل المرغب فيها قبل الصلوات المكتوبة وبعدها لم يكرهها أحد من أهل العلم خشية أن يلحقها الجهلة بالمكتوبات لشهرة المكتوبات الخمس وعدم التباسها بغيرها .
    وعلى كل حال ، فإنه ليس لإمام من الأئمة أن يقول هذا الأمر الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه لخشية أن يظنه الجهال من جنس الواجب .
    وصيام الستة المذكورة ، وترغيب النبي صلى الله عليه سولم فيه ثابت عنه .
    قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر جميعاً عن إسماعيل ، قال ابن أيوب حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر » انتهى منه بلفظه .
    وفيه التصريح من النبي بالترغيب في صوم الستة المذكورة فالقول بكراهتها من غير مستند من أدلة الوحي خشية إلحاق الجهال لها برمضان ، لا يليق بجلالة مالك وعلمه وورعه ، لكن الحديث لم يبلغه كما هو صريح كلامه نفسه رحمه الله في قوله : لم يبلغني ذلك عن أحد من السلف ، ولو بلغه الحديث لعمل به .
    لأنه رحمه الله من أكثر الناس اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحرصهم على العمل بسنته .
    والحديث المذكور رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي ، وصوم السنة المذكور رواه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه منهم ثوبان وبجابر وابن عباس وأبو هريرة والبراء بن عازب كما بينه صاحب نيل الأوطار
    وعلى كل حال فالحديث صحيح ويكفي في ذلك إسناد مسلم المذكور .
    ولا عبرة بكلام من تكلم في سعد بن سعيد لتوثيق بعض أهل العلم له واعتماد مسلم عليه في صحيحه .
    ومن أمثلة ما لم تبلغ مالكاً رحمه الله فيه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إفراد صوم يوم الجمعة ، فقد قال رحمه الله في الموطأ ما نصه :
    لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ، ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن ،وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه ، وأراه كان يتحراه . انتهى منه بلفظه .
    وفيه تصريحه رحمه الله بأنه لم يسمع أحداً من أهل العلم ينهى عن صوم الجمعة .
    وأن ذلك حسن عنده ، وأنه رأى بعض أهل العلم يتحرى يوم الجمعة ليصومه .
    وهذا تصريح منه رحمه الله بأنه لم يبلغه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة واحده ، وأمره من صامه أن يصوم معه يوماً غيره وإلا أفطر إن ابتدأ صيامه ناوياً إفراده .
    ولو بلغته السنة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمل بها وترك العمل بغيرها .
    لأن النهي عن صوم يوم الجمعة وحجه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن محمد بن عباد ، قال سألت جابراً رضي الله عنه . أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الجمعة؟ قال : نعم . زاد غير أبي عاصم يعني أن ينفرد بصومه .
    حدثنا عمر بن حفص بن غياث حديثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده »
    حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة ح وحدثني محمد حدثنا غندر حيثنا شعبة عن قتادة عن أبي أيوب عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلم ، دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال : » أصمت أمس « ؟ قالت : لا ، » قال : تريدين أن تصومي غداً « ؟ قالت : لا . » قال : فأفطري «
    وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبو أيوب أن جويرية حدثته فأمرها ، فأفطرت ، انتهى من صحيح البخاري بلفظه .
    وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه :حدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الحميد بن جبير عن محمد بن عباد بن جعفر « سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة؟ فقال : نعم ، ورب هذا البيت » .
    وقال مسلم أيضاً : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص وأبو معاوية عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له أخبرنا أو بمعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله او يصوم بعده »
    وفي لفظ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم » هذا لفظ مسلم في صحيحه .
    ولا شك أن هذا الأحاديث لو بلغت مالكاً ما خالفها ، فهو معذور في كونها لم تبلغه .
    وقال النووي في شرح مسلم : وأما قول مالك في الموطأ : لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن .
    وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه .
    فهذا الذي قاله هو الذي رآه .
    وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو .
    والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره .
    وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة ، فيتعين القول به .
    ومالك معذور ، فإنه لم يبلغه .
    قال الداودي من أصحاب مالك : لم يبلغ مالكاً هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه . انتهى منه
    وهذا هو الحق الذي لا شك فيه .
    لأن مالكاً من أورع العلماء وأكثر الناس اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدعها وهو عالم بها .
    وقوله في هذا الحديث : « إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم » أي كأن ينذر أحد صوم اليوم الذي يشفي الله فيه مرضه ، فوافق ذلك يوم الجمعة .
    لأن صومه له لأجل النذر ، الذي لم يقصد بأصله تعيين يوم الجمعة .
    وإنما النهي فيمن قصد بصومه نفس يوم الجمعة دون غيره .
    والغرض عندنا إنما هو المثال لبعض الأحكام التي لم تبلغ مالكاً فيها السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بلغته لعمل بها .
    ومعلوم أن هنالك بعضاً من النصوص ترك مالك العمل به مع أنه بلغه ، لأنه يعقتد أن ما ترك النص من أجله أرجح من النص .
    وهذا يحتاج فيه إلى مناقشات دقيقة بين الأدلة ، فقد يكون الحق في ذلك مع هذا الإمام تارة ومع غيره أخرى .
    فقد ترك مالك العمل بحديث خيار المجلس مع أنه حديث متفق عليه ، وقد بلغ مالكاً .
    وقد حلف عبد الحميد الصائغ من المالكية بالمشي إلى مكة على أنه لا يتفي بثلاث . قالها مالك .
    ومراده بالثلاث المذكورة عدم القول بخيار المجلس هذا مع صحة الحديث فيه .
    وجنسية القمح والشعير مع صحة الأحاديث الدالة على أنهما جنسان .
    والتدمية البيضاء ، ولا شك أن مالكاً بلغه حديث خيار المجلس هذا .
    فقد روي في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
    « المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار »
    قال مالك : وليس لهذا عندنا حد معروف ، ولا أمر معمول به فيه . انتهى منه بلفظه .
    مع أن مالكاً لم يعمل بهذا الحديث الصحيح :
    وأشار في الموطأ إلى بعض الأسباب التي منعته من العمل به في قوله :
    وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه ، لأن خيار المجلس لم يحدد بحد معروف
    فصار القول به مانعاً من انعقاد البيع إلى حد غير معروف .
    وقد يكون المتعاقدان في سفينة في البحر لا يمكنهم التفرق بالأبدان .
    وقد يكونان مسجونين في محل لا يمكنهما التفرق فيه .
    وقد حمل مالك التفرق المذكور في الحديث على التفرق في الكلام .
    وصيغة العقد قال :
    وقد أطلع التفرق على التفرق في الكلام دون الأبدان في قوله تعالى : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] فالتفرق في الآية إنما هو بالتكلم بصيغة الطلاق لا بالأبدان .
    وقوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة } [ البينة : 4 ] فالتفرق في الآية تفرق بالكلام والاعتقاد .
    فلا يشترط أن يكون بالأبدان :
    وحجج من احتج لمالك في عدم أخذه بحديث خيار المجلس ، هذا كثيرة معروفة
    منها ما هو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] ، وقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] ، وقوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ النساء : 29 ] .
    ومنها ما هو بغير ذلك .
    وليس غرضنا هنا بسط الحجج ومناقشتها ، وإنما غرضنا المثال .
    لأن الإمام قد يترك نصاً بلغه لاعتقاد أن ما ترك من أجله النص أرجح من نفس النص ، وأنه يجب على المسلم مراعاة المخرج والنجاة لنفسه فينظر في الأدلة ، ويعمل بأقواها وأقربها إلى رضى الله .
    كما حلف عبد الحميد الصائغ بالمشي إلى مكة ، لا يفتي بقول مالك في هذا .
    مع أنه عالم مالكين ، لأنه رأى الأدلة واضحة وضوحاً لا لبس فيه ، في أن المراد بالتفرق التفرق بالأبدان .
    وقد صرح بذلك جماعة من الصحابة منهم ابن عمر راوي الحديث ، ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة .
    ولا شك أن المنصف إذا تأمل تأملاً صادقاً خالياً من التعصب عرف أن الحق هو ثبوت خيار المجلس .
    وإن المراد بالتفرق التفرق في الأبدان لا بالكلام .
    لأن معنى التفرق بالكلام هو حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري .
    وكل عاقل يعلم أن الخيار حاصل لكل من البائع والمشتري ضرورة قبل حصول الإيجاب والقبول .
    فحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على هذا ، حمل له على تحصيل حاصل ، وهو كما ترى .
    مع أن حمل الكلام على هذا المعنى يستلزم أن المراد بالمتبايعين في الحديث المتساومان ، لأنه لا يصدق عليهما اسم المتبايعين حقيقة إلا بعد حصول الإيجاب والقبول .
    وحمل المتبايعين في كلام النبي صلى الله عليه وسلم على المتساومين اللذين لم ينقعد بينهما بيع خلاف الظاهر أيضاً كما ترى .
    وأما كون القمح والشعير جنساً واحداً ، فقد استدل له مالك ببعض الآثار التي لي فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
    قال في الموطأ : إنه بلغه أن سليمان بن يسار قال : في علف حمار سعد بن أبي وقاص فقال لغلامه : خذ من حنطة أهلك فاتبع بها شعيراً ، ولا تأخذ إلا مثله . اه منه بلفظه .
    وفي الموطأ أيضاً عن نافع عن سليمان بن يسار أنه اخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فني علف دابته ، فقال لغلامة : خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيراً ولا تأخذ إلا مثله . اه منه بلفظه .
    وفي الموطأ أيضاً : أن مالكاً بلغه عن القاسم بن محمد عن ابن معيقيب الدوسي مثل ذلك . قال مالك : وهو الأمر عندنا اه . منه بلفظه .
    فهذه الآثار هي عمدة مالك رحمه الله في كون القمح والشعير جنساً واحداً .
    وعضد ذلك بتقارب منفعتهما ، والتحقيق الذي لا شك فيه أن القمح والشعير جنسان ، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم
    ولا تصح معارضتها ألبتة بمثل هذه الآثار المروية عمن ذكر .
    وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت أوانه » انتهى منه بلفظه .
    وهو صريح بأن القمح والشعير جنسان مختلفان ، كاختلافهما مع التمر والملح
    وأن التفاضل جائز مع اختلاف الجنس إن كان يداً بيد ، وروى مسلم في صحيحه والإمام أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد » اه منه بلفظه .
    وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه ، وفي آخره : وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يداً بيد كيف شئنا .
    قال المجد في المنتقى : لما ساق هذا الحديث ما نصه : وهو صريح في كون البر والشعير جنسين ، وما قاله صحيح كما ترى .
    والأحاديث بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا طرفاً منها في سورة البراءة والمقصود هنا بيان صراحة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن القمح والشعير جنسان لا جنس واحد ، وأنها لا يجوز ترك العمل بها مع صحتها ووضوحها ، ولا أن يقدم عليها اثر موقوف على سعد بن ابي وقاص ولا أثر موقوف على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، ولا أثر موقوف على ابن معيقيب .
    واعلم أنه لا يصح الاستدلال لكون القمح والشعير جنساً واحداً بحديث معمر بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم وغيره ، كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « الطعام بالطعام مثلاً بمثل » الحديث .
    وذلك لأمرين : أحدهما أن معمر المذكور قال في آخر الحديث ، وكان طعامهم يومئذ الشعير .
    فقد عين أن عرفهم المقارن للخطاب يخصص الطعام المذكور بالشعير .
    والمقرر في أصول مالك : أن العرف المقارن للخطاب من المخصصات المنفصلة التي يخصص بها العام قال في مراقي السعود في ذلك :
    والعرف حيث قارن الخطابا ... ودع ضمير البعض والأسبابا
    الأمر الثاني : إن الاستدلال بالحديث المذكور على فرض اعتبار عمومه ، وعدم تخصيصه بالعرف المذكور ، يقتضي أن الطعام كله جنس واحد فيدخل التمر والملح لصدق الطعام عليهما .
    وهذا لا قائل به كما ترى .
    فالظاهر أن الإمام مالكاً رحمه الله ومن وافقه من أهل العلم ، لم تبلغهم هذه الأحاديث الصحيحة المصرحة ، بأن القمح والشعير والتمر والملح أجناس .
    وان القمح يباع بالشعير كيف شاء المتبايعان إن كان يداً بيد .
    وأما التدمية البيضاء فقول مالك فيها يظهر لنا قوته واتجاهه ، وإن خالف في ذلك بعض أصحابه وأكثر أهل العلم .
    وقد بين وجه قول مالك فيها ابن عبد البر وابن العربي وغيرهما .
    والمسائل التي قال بعض أهل العلم إن مالكاً خالف فيها السنة المعروفة منها ما ذكرنا .
    ومنها مسألة سجود الشكر وسجدات التلاوة في المفصل .
    وعدم الجهر بآمين ، وعدم رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ، وعدم قول الإمام : ربنا ولك الحمد .
    وعدم ضفر رأس المرأة الميتة ثلاث ضفائر .
    وترك السجدة الثانية في الحج وغير ذلك من المسائل .
    وقد قدمنا أن بعض ما ترك مالك من النصوص قد بلغته فيه السنة ولكنه رأى غيرها أرجع منها ، وأن بعضها لم يبلغه ، وأن الحق قد يكون معه في بعض المسائل التي أخذت عليه .
    وقد يكون مع غيره ، كما قال مالك نفسه رحمه الله :
    كل كلام فيه مقبول ومردود ، إلا كلام صاحب هذا القبر .
    لأن القرآن أقوى سنداً وإن كانت السنة أظهر دلالة ، ولأجل هذا لم يبح ميتة الجراد بدون ذكاة لأنه يقدم . عموم { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] الآية . على حديث « أحلت لنا ميتتان ودمان » الحديث ، وقدم عموم قوله تعالى { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } [ الأعراف : 55 ] الآية . على الأحاديث الواردة بالجهر بآمين لأن التأمين دعاء ، والدعاء مأمور بإخفائه في الآية المذكورة .
    فالآية أقوى سنداً وأحاديث الجهر بالتأمين أظهر دلالة في محل النزاع . ومن المعلوم أن أكثر أهل العلم يقدمون السنة في نحو هذا .
    وقد قدم مالك رحمه الله دليل القرآن فيما ذكرنا كما قدمه أيضاً في الثانية من سجدتي الحج لان نص الآية الكريمة فيها كالتصريح في أن المراد سجود الصلاة ، لأن الله يقول فيها . { ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } [ الحج : 77 ] .
    فذكر الركوع مع السجود يدل على أن المراد سجود الصلاة .
    والأمر بالصلاة في القرآن لا يستلزم سجود التلاوة كقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر } [ الكوثر : 2 ] .
    ولذلك لا يسجد عند قوله تعالى في آخر الحجر { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين } [ الحجر : 98 ] .
    قالوا لأن معنى قوله : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي صل لربك متلبساً بحمده ، وكن من الساجدين في صلاتك
    ولا شك أن قوله تعالى في ثانية الحج { ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا } الآية . أصرح في إرادة سجود الصلاة من قوله تعالى { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين }
    ثم بعد هذا كله فإننا نكرر أن الأئمة رحمهم الله لا يلحقهم نقص ولا عيب فيما أخذ عليهم ، لأنهم رحمهم الله بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم ، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته ، والمخطىء منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطئه ، ولا يسعنا هنا مناقشة الأدلة فيما أخذ عليهم رحمهم الله ، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب تقديمهما على أقوالهم ، لأنهم غير معصومين من الخطأ ، وأن مذاهبهم المدونة لا يصح ولا يجوز الاستغناء بها عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن على كل مسلم قادر على التعليم أن يتعلم الكتاب والسنة ، ومعرفة مذاهب الأئمة تعينه على ذلك ، والنظر فيما استدل به كل منهم يعينه على معرفة أرجح الأقوال وأقربها إلى رضى الله .
    وكذلك الشافعي وأحمد رحمهما الله ، فإن كل واحد منهما لا يخلو من شيء قد أخذ عليه ، ومرادنا هنا لتمثيل لذلك ، وأن الوحي مقدم على أقوالهم جميعاً ، وليس قصدنا الإكثار من ذلك .
    وهذه أمثلة بالمطلوب وكان الشيخ رحمه الله أرجحاً إياها فنذكرها على ما هو ظاهر من المذهبين ونرجوا أن تكون موافقة لما أراد وبالله التوفيق .
    فمما هو في مذهب أحمد رحمه الله صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان حينما يشك فيه هل هو تمام شعبان أو أول رمضان . وذلك حينما تكون السماء مغيمة خشية أن يظهر الهلال خلف الغيم أو القتر .
    ولا يكون يوم شك إذا كانت السماء صحواً لأنه إذا رؤي الهلال فهو رمضان وإلا فهو من شعبان .
    فمذهب أحمد هو صوم هذا اليوم المشكوك فيه احتياطاً لرمضان ، وهو نص المعنى إلا أنه ذكر عن أحمد روايات أخر . ولكن صومه هو المقدم في المذهب . ولكنه مخالف لصريح النص في قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك : « من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم » صلى الله عليه وسلم .
    قال في بلوغ المرام : ذكره البخاري تعليقاً ووصله ، قال في سبل السلام : واعلم أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلة بغيم ساتر ، أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان .
    والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه . اه . يعني بما في معناه قوله صلى الله عليه وسلم « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين » متفق عليه ، ولمسلم « فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين » وللبخاري « فأكملوا العدة ثلاثين »
    وشبهة أحمد في قوله صلى الله عليه وسلم « فاقدروا له » بمعنى فضيقوا عليكم كما في قوله تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله } [ الطلاق : 7 ] ولكن هذا معارض للنص الصريح في معنى « فاقدروا له ثلاثين » وقوله « فأكملوا العدة ثلاثين » أي سواء في شعبان أو في تمام رمضان عند الفطر .
    ولم يقل بصومه من الأئمة إلا أحمد رحمه الله .
    ومما هو عند الشافعي قوله بنقض الوضوء من لمس المرأة الأجنبية بدون حائل مع ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث عائشة رضي الله عنها « كنت أنام معترضة في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فإذا سجد غمزني في رجلي فأقبضها فإذا قام مددتها » .
    وقد أجابوا عن ذلك باحتمال سترها بحائل فجاء قولها « افتقدت رسول الله ذات ليلة فقمت أطلبه أو لحجرات ليس فيه إذاك السرج حتى وقعت كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول : » سبوح قدوس رب الملائكة والروح « فقلت : والله إنك لفي واد وأنا في واد » .
    فلما قام للركعة الثانية ظنته ذهب عند بعض نسائه اغتسل ثم جاء يصلي عندها فقامت وأدخلت يدها في شعر رأسه تتحس هل اغتسل أم لا . . إلخ .
    ولهم أجوبة على كل ذلك ولكنها لا تنهض مع هذه النصوص الصريحة .
    وشبهة الشافعي في ذلك في معنى لامستم النساء من قوله تعالى : { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } [ النساء : 43 ] . الآية ولم يقل بنقض الوضوء به من الأئمة إلا الشافعي رحمه الله .
    ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أنه لا يتأتى من أحد أئمة المسلمين أن يخالف نصاً صريحاً من كتاب أو سنة ، بدون أن تكون لديه شبهة معارضة بنص آخر ، أو عدم بلوغ النص إليه ، أو عدم صحته عنده أو غير ذلك مما هو معروف في هذا المقام .
    وإنما أوردنا هذين المثالين تتمة للبحث ولمجرد المثال .
    التنيبه التاسع .

    اعلم أن كل من يرى أنه لا بد له من تقليد الإمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة ، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا أحد غير ذلك الإمام .
    يجب عليه أن يتنبه تنبهاً تاماً للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقاً ، وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه ، وما زاده المتأخرون وقتاً بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
    ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه ، لتبرأ منها ، وانكر على ملحقها ، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح .
    ويزيده بطلاناً نسبته إلى الله ورسوله ، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله ، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم .
    ومن أمثلته في مذهب مالك قول خليل المالكي في مختصره الذي قال فيه مبيناً لما به الفتوى : كأقل الطهر يعني ان أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً .
    والذين يعتنقون مذهب مالك يعتقدون أن مالكاً يقول : بأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً .
    وهذا لم يقله مالك أبداً ولم يفت به ولم يروه عنه أحد من أصحابه .
    والذي كان يقوله مالك : إن أقل الطهر ثمانية أيام أو عشرة أيام .
    وهو الذي نقله عنه أجلاء أهل مذهبه كأبي محمد بن أبي زيد في رسالته رحمه الله
    والقول بأن أقل الطهر خمسة عشر هو قول ابن مسلمة واعتمده صاحب التلقين ، وجعله ابن شاش المشهور أي مشهور مذهب مالك .
    مع أن مالكاً لم يقله ولم يعلم به ، وأمثال هذا كثيرة جداً في مذهب مالك وغيره
    ومثال استحسان المتأخرين لما لم يقله الإمام مما لا يشك أنه لو بلغ الإمام لم يقبله قول الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره في الصوم : وعاشوراء وتاسوعاء . ما نصه : قال الشيخ زروق في شرح القرطبية : صيام المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صلح علمه وورعه .
    قال إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه ، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيراً ويستحسنه .انتهى .
    قلت : لعله يعني ابن عباد . فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه : وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب ، أمر مباح لا ينكر على أحد قياساً على غيره من أوقات الفرح .
    والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود ، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعية لأهل الإيمان ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة .
    ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر ، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج بن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاماً مختلفاً ليأكلوه هنالك .
    فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل ، وكنت إذ ذاك صائماً فقلت لهم : إني صائم .
    فنظر إلى سيدي الحاج نظرة منكرة ، وقال لي ما معناه : إن هذا اليوم يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد .
    فتأملت كلامه فوجدته حقاً ، وكأنني كنت نائماً فأيقظني . انتهى بلفظه .
    فهذا الكلام الذي يقتضي قبح صوم يوم المولد وجعله كيوم العيد من غير استناد إلى كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا قول أحد من اصحابه ولا من تابعيه .
    ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا من فقهاء الأمصار المعروفين الذي أدخله بعض المتأخرين في مذهب مالكين ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس ، ولم يجر على أصول مذهبه ، لأن علة تحريم صوم يوم العيد والفطر عنده أن الله تعالى يكلف عباده في كل سنة عبادتين عظيمتين والأمر بهما عام لكل من يستطيعهما ، وإحداهما تجب في العمر مرة واحدة وهي الحج ، والثانية تجب كل سنة في شهر رمضان منها ، وهي الصوم ، فإذا انتهت عبادة الصوم ألزم الله الناس كلهم أن يكونوا في ضيافته يوم النحر ويوم عيد الفطر .
    فمن صام في أحد اليومين أعرض عن ضيافة الله ، والإعراض عن ضيافته تعالى لا يجوز
    فإلحاق يوم المولد بيوم العيد إلحاق لا أساس له ، لأنه إلحاق ليس بجامع بينهما ولا نفي فارق ولا إلحاق ألبتة إلا بجامع أو نفي فارق .
    وكل من لمس يطمس الله بصيرته يعلم أن الحق الذي لا شك فيه هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
    ومعلوم أن جعل يوم المولد كيوم العيد في منع الصوم لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا أحد من الأئمة الأربعة .
    فهو تشريع لاستقباح قربة الصوم ومنعها في يوم المولد من غير استناد إلى وحي ولا قياس صحيح ولا قول أحد ممن يقتدى به .
    ومما لا نزاع فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله الله رحمه للعالمين كما قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ورسالته صلى الله عليه وسلم هي أعظم نعمة عل الخلق كما بينه علماء التفسير في الكلام على قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } [ إبراهيم : 28 ] الآية ، والخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه ، والشر كل الشر في تشريع ما لم يشرعه والتقول عليه بما لم يقله .
    فالمقلدون لمالك مثل هذا التقليد الأعمى يعتقدون أن هذا الكلام الذي ذكره الحطاب عن زروق وابن عباد وابن عاشر ، أنه هو مذهب مالك وأنه من شرع الله ودينه ، وأنه ما دام من مذهب مالك ، فاللازم تقديمه على الكتاب والسنة لأنهما لا يجوز العمل إلا للمجتهد المطلق .
    وهذا مثال من بلايا التقليد الأعمى وعظائمه .
    ولا يخفى أن ادعاء أن وجود نعم الله كمولد النبي صلى الله عليه وسلم يدل على استقباح طاعة الله بالصوم في أوقات وجود تلك النعم ظاهر الفساد ، لأن المناسب لنعم الله هو طاعته بأنواع الطاعات كالصوم .
    ولذا تجد الناس ينذرون لله صوم اليوم الذي ينعم الله عليهم فيه بشفاء المريض إتيان الغائب ، وهذا أمر معروف وهو المعقول لا عكسه .
    ومما يوضح هذا أن إنزال القرآن العظيم هو أعظم نعمة على البشر .
    ولأجل ذلك علمهم الله حمده تعالى على هذه النعمة العظمى في أول سورة الكهف في قوله تعالى { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } [ الكهف : 1 ] الآية .
    وقد بين تعالى أنه أنزل هذه النعمة في شهر رمضان ، فكان نزول هذه النعمة في شهر رمضان مقتضياً لصومه لا لجعل أيامه أعياداً يستقبح صومها ، لأن الله تعالى قال { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان }[ البقرة : 185 ]
    وهذا هو أعظم النعم ، وقد رتب على هذا بالفاء قوله بعده ، { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] . الآية فافهم .
    والمقصود بهذا المثال النصيحة للذين لم يقدروا على غير هذا التقليد الأعمى ليبحثوا في كتب المذهب وأمهاته عن أقوال الإمام وكبار أصحابه ليفرقوا بينهما وبين أنواع الاستحسان التي لا مستند لها ، التي يدخلها المتأخرون وقتاً بعد وقت وهي ظاهرة الفساد عند من رزقه الله علماً بكتاب الله وسنة رسوله .
    ومما لا شك فيه أن أقوال مالك وكبراء أصحابه مثلاً ، أحرى بالصواب في الجملة من استحسان ابن عباس وابن عاشر وأمثالهما .
    التنبيه العاشر .

    اعلم أن الدعوى التي اتفق عليها متأخرون الأصوليين التي تتضمن حكمهم على خالق السماوات والأرض جل وعلا لا يجوز لمسلم يريد الحق والإنصاف أن يعقتدها ، ولا أن يصدقهم فيها لظهور عدم صحتها ومخالفتها للنص ، والحكم فيها على الله بلا مستند ، وهو جل وعلا الذي يحكم لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب .
    وهذه الدعوى المذكورة هي المتركبة مما يأتي ، وهو أن الاجتهاد قد انقرض في الدنيا واسند بابه .
    وأن الله تعالى محكوم عليه بأن لا يخلق مجتهداً ولا يعلم أحداً من خلقه علماً يمكن أن يكون به مجتهداً إلى ظهور المهدي المنتظر .
    وأنه لا يجوز لأحد أن يعمل بكتاب ولا سنة ولا أن يقلد أحداً كائناً من كان غير الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة ، كما نص على هذه الدعوى حاكياً إجماعهم عليها صاحب مراقي السعود في قوله :
    والمجمع اليوم عليه الأربعه ... وقفو غيرها الجميع منعه
    حتى يجيء الفاطم المجدد ... دين الهدى لأنه مجتهد
    ومراده بالفاطمي المهدي المنتظر لأنه شريف .
    وقوله : حتى يجيء . حرف غاية ، والمغيابه ، منع تقليد أحد غير الأربعة المذكور في قوله : وقفوا غيرها الجميع منعه .
    وهذا صريح في أنهم حاكمون على الله القدير العليم ، بأنه لا يخلق مجتهداً قبل وجود المهدي المنتظر ، وهذا الذي قاله صاحب مراقي السعود هو المقرر في كتب المتأخرين من الأصوليين من أهل المذاهب المدونة .
    وهذا الحكم على الله الذي كل يوم هو في شأن بأنه لا يخلق مجتهداً قبل المهدي من مدة انقراض الاجتهاد المزعوم هو يا أخي كما ترى .
    ولا شك أنك إن لم يعمك التعصب المذهبي تقطع أنه لا مستند له ، وهذا الذي ذكره صاحب مراقي السعود قد صرح بما يناقضه في قوله قبله :
    والأرض لا عن قائم مجتهد ... تخلو إلى تزلزل القواعد
    وهذا النقيض الأخير هو الصحيح الموافق للحق .
    لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله » الحديث . وهو حديث مشهور متفق عليه لا نزاع في صحته .
    ولا شك في أن هذه الطائفة التي صرح النبي صلى الله عليه وسلم : بأنها لا تزال ظاهره على الحق حتى يأتي أمر الله أنها طائفة على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وليست ألبتة من المقلدين التقليد الأعمى .
    لأن الحق هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب ولاسنة كما قال تعالى في سورة النساء : { ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ } [ النساء : 170 ] وقال في الأنعام : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق } [ الأنعام : 66 ] . وقال في النمل { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } [ النمل : 79 ] وقال في يونس : { ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ } [ يونس : 108 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
    فدعوى أن الأرض لم يبق فيها مجتهد ألبتة ، وأن ذلك مستمر إلى ظهور المهدي المنتظر مناقضة لهذا الحديث الثابت ثبوتاً لا مطعن فيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
    ومما لا نزاع فيه أن كل ما يناقض الحق هو ضلال ، لأن الله جل وعلا يقول : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال فأنى تُصْرَفُونَ } [ يونس : 32 ] . والعلم عند الله تعالى .
    التنبيه الحادي عشر

    اعلم يا أخي أن هذا الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واعتقاد الاستغناء عنهما بالمذاهب المدونة الذي عم جل من في المعمورة في المسلمين من أعظم المآسي والمصائب ، والدواهي اتي دهت المسلمين من مدة قرون عديدة .
    ولا شك أن النتائج الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن الكتاب والسنة من جملتها ما عليه المسلمون في واقعهم الآن من تحكيم القوانين الوضعية المنافي لأصل الإسلام .
    لأن الكفار إنما احتاجوهم بفصلهم عن دينهم بالغزو الفكري عن طرق الثقافة وإدخال الشبه والشكوك في دين الإسلام .
    ولو كان المسلمون يتعلمون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويعملون بما فيهما لكان ذلك حصناً منيعاً لهم من تأثير الغزو الفكر في عقائدهم ودينهم .
    ولكن لما تركوا الوحي ونبذوه وراء ظهورهم واستبدلوا به أقوال الرجال لم تقم لهم أقوال الرجال ومذاهب الأئمة رحمهم الله مقام كلام الله والاعتصام بالقرآن ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والتحصين بسنته .
    ولذلك وجد الغزو الفكري طريقاً إلى قلوب الناشئة من المسلمين :
    ولو كان سلاحهم المضاد ... القرآن والسنة لم يجد إليهم سبيلا
    ولا شك أن كل منصف يعلم أن كلام الناس ، ولو بلغوا ما بلغوا من العلم والفضل ، لا يمكن أن يقوم مقام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .
    وبالجملة فمما لا شك فيه أن هذا الغزو الفكري الذي قضى على كيان المسلمين ، ووحدتهم وفصلهم عن دينهم ، لو صادفهم وهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله لرجع مدحوراً في غاية الفشل لوضوح أدلة الكتاب والسنة ، وكون الغزو الفكري المذكور لم يستند إلا على الباطل والتمويه كما هو معلوم )) انتهى

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: دعوة إلى التفاعل والمدارسة لشرح كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله

    (1) يجدر بي في مقامي هذا أن انقل كلاما نفيسا قيما عظيما للعلامة الأصولي شيخ الشيوخ المفسر الأمين الشنقيطي رحمه الله وقدس روحه بين فيه نزهة وفضل الاتباع وماكان يتحلى به الأئمة من العلم والاتباع والأخذ بالدليل ويوضح فيه شناعة وجرم التقليد الأعمى وفضاعة وقبح أهله وما هم عليه من التعصب والجهل باحكام وأصول الدين قال رحمه الله فيأضواء البيان (7/ 413):
    اعلم أن المقلدين ، اغتروا بقضتين ظنوهما صادقتين ، وهما بعيدتان من الصدق ، وظن صدقهما يدخل أولياً في عموم قوله تعالى { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } [ يونس : 36 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : « أياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث »
    أما الأولى منهما
    فهي ظنهم ، أن الإمام الذي قلدوه لا بد أن يكون قد اطلع على جميع معاني كتاب الله ، ولم يفته منها شيء وعلى جميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفته منها شيء .
    ولذلك فإن كل آية وكل حديث قد خالفا قوله فلا شك عندهم أن ذلك الإمام اطلع على تلك الآية وعلم معناها ، وعلى ذلك الحديث وعلم معناه .

    وأنه ما ترك العمل بهما إلا لأنه اطلع على ما هو أقوى منهما وأرجح .
    ولذلك يجب تقديم ذلك الأرجح الذي تخيلوه شيء من الوحي الموجود بين أيديهم .
    وهذا الظن كذب باطل بلا شك .
    والأئمة كلهم معترفون بأنهم ما أحاطوا بجميع نصوص الوحي ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .
    ومن أًصرح ذلك أن الإمام مالكاً رحمه الله ، إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلالته ، لما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمعه في موطئه لم يقبل ذلك من أبي جعفر ورده عليه .
    وأخره أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في أقطار الدنيا ، كلهم عنده علم ليس عند الآخرة .
    ولم يجمع لاحديث جمعاً تاماً بحيث أمكن جمع جميع السنة إلا بعد الأئمة الأربعة .
    لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تفرقوا في أقطار الدنيا روي عنهم كثير من الأحاديث لم يكن عند غيرهم ، ولم يتيسر الاطلاع عليه إلا بعد أزمان .
    فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عجز عن أن يفهم معنى الكلالة حتى مات رضي الله عنه .
    وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً فبينها له ولم يفهم .
    فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال : ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بإصبعه في صدري ، وقال لي « يكفيك آية الصيف في آخر سورة النساء »
    فهذا من أوضح البيان ، لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بآية الصيف { إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَد } [ النساء : 176 ] والآية تبين معنى الكلالة بياناً شافياً ، لأنها أوضحت أنها : ما دون الولد والوالد .
    فبينت نفي الولد بدلالة المطابقة في قوله تعالى : { وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك } [ النساء : 176 ] ، لأن ميراث الأخت يستلزم نفي الولد .
    ومع هذا البيان النبوي الواضح لهذه الآية الكريمة ، فإن عمر رضي الله عنه لم يفهم .
    وقد صح عنه أن الكلالة لم تزل مشكلة عليه .
    وقد خفي معنى هذا أيضاً على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال في الكلالة : أقول فيها برأيي . فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، هو ما دون الولد والوالد .
    فوافق رأيه معنى الآية .
    والظاهر أنه لو كان فاهماً للآية لكفته عن الرأي .
    كما قال النبي صلى الله عليه وسلم بأن في الآية كفاية عن كل ما سواها في الحكم المسؤول عنه .
    ومما يوضح ذلك أن عمر طلب من النبي صلى الله عليه وسلم بيان الآية .
    وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم .
    فما أحال عمر على الآية إلا لأن فيها من البيان ما يشفي ويكفي .
    وقد خفي على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم « أعطى الجدة السدس حتى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس » فرجع إلى قولهما .
    ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم : قضى في دية الجنين بغرة عبد أو وليدة حتى أخبره المذكوران قبل .
    ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن المرأة ترث من دية زوجها . حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه : أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها .
    ولم يعلم أيضاً بآخذ الجزية من المجوسي حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف . بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر .
    ولم يعلم بحكم الاستئذان ثلاثاً حتى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه .
    ولم يعلم عثمان رضي الله عنه بوجوب السكنى للمتوفى عنه حتى أخبرته قريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمها بالسكنى في المحل الذي مات عنها زوجها فيه حتى تنقضي عدتها .
    وأمثال هذا أكثر من أن تحصر .
    فهؤلاء الخلفاء الراشدون وهم من خفي عليهم كثير من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاديثه مع ملازمتهم له ، وشدة حرصهم على الأخذ منه .
    فتعلموه ممن هو دونهم في الفضل والعلم .
    فما ظنك بغيرهم من الأئمة الذي نشأوا وتعلموا بعد تفرق الصحابة في أقطار الدنيا؟
    وروي عنه الأحاديث عدول من الأقطار التي ذهبوا إليها؟
    والحاصل أن ظن إحاطة الإمام بجميع نصوص الشرع ومعانيها ظن لا يغني من الحق شيئاً ، وليس بصحيح قطعاً .
    لأنه لا شك أنه يفوته بعض الأحاديث فلم يطلع عليها ويرويه بعض العدول عن الصحابة فيثبت عند غيره . وهو معذور في ترك العمل به ، بعدم اطلاعه عليه مع أنه بذل المجهود في البحث ولذا كان له أجر الاجتهاد والعذر في الخطأ .
    وقد يكون الإمام اطلع على الحديث ، ولكن السند الذي بلغه به ضعيف فيتركه لضعيف السند .
    ويكون غيره اطلع على رواية أخرى صحيحة يثبت بها الحديث فهو معذور في تركه ، لأنه لم يطلع إلا على السند الضعيف ولم تبلغه الطريق الصحيحة الأخرى وقد يترك الحديث لشيء يظنه أرجح منه ، ويكون الواقع أن الحديث أرجح من ذلك الشيء الذي ظنه لقيام أدلة أخرى على ذلك لم يطلع عليها ، إلى أسباب أخر كثيرة ، كترك الأئمة للعمل ببعض النصوص .
    وبهذا كله تعلم أن ظن اطلاع الإمام على كل شيء من أحكام الشرع وإصابته في معانيها كلها ظن باطل .
    وكل واحد من الأئمة يصرح ببطلان هذا الظن كما سترى إيضاحه إن شاء الله فاللازم هو ما قاله الأئمة أنفسهم رحمهم الله من أنهم قد يخطئون ونهوا عن إتباعهم في كل شيء يخالف نصاً من كتاب أو سنة .
    فالمتبع لهم حقيقة ، هو من لا يقدم على كتاب الله وسنة رسوله شيئاً .

    أما الذي يقدم أقوال الرجال على الكتاب وصحيح السنة ، فهو مخالف لهم لا متبع لهم .

    ودعواه اتباعهم كذب محض .

    وأما القضية الثانية :

    فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ .
    وإيضاحه : أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بعض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ يكون لهم من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لذلك الإمام الذي قلدوه ،لأنهم متبعون له فيجري عليهم ما جرى عليه .
    وهذا ظن كاذب باطل بلا شك . لأن الإمام الذي قلدوه بذلك جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وتفاويهم .
    فقد شمر وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به وطاعة الله على ضوء الوحي المنزل .
    ومن كان هذا شأنه فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده .
    وأما مقلدوه فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله وأعرضوا عن تعلمهما إعراضاً كلياً مع يسره وسهولته ونزلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون منزلة الوحي المنزل من الله .
    فأين هؤلاء من الأئمة الذي قلدوهم؟
    وهذا الفرق العظيم بينهم ، وبينهم ، يدل دلالة واضحة ، على أنهم ليسوا مأجورين في الخطأ في تقليد أعمى إذ لا اقتداء ولا أسوة في غير الحق .
    وليسوا معذورين لأنهم تركوا ما يلزمهم تعلمه من أمر الله ونهيه على ضوء وحيه المنزل .
    الذي يجب عليهم من تعلم ذلك ، هو ما تدعوهم الحاجة للعمل به ، كأحكام عباداتهم ومعاملاتهم .
    وأغلب ذلك تدل عليه نصوص واضحة ، سهلة التناول من الكتاب والسنة .
    والحاصل أن المعرض عن كتاب الله ، وسنة رسوله المفرط في تعلم دينه ، مما أنزل الله ، وما سنه رسوله ، المقدم كلام الناس على كتاب الله ، وسنة رسوله ، لا يكون له ألبتة ما للإمام الذي لم يعرض عن كتاب الله وسنة رسوله ، ولم يقدم عليهما شيئاً ولم يفرط في تعلم الأمر والنهي من الكتاب والسنة .
    فأين هذا من هذا؟
    سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
    التنبيه الثاني

    اعلم أن الأئمة الأربعة رحمهم الله ، متفقون على منع تقليدهم ، التقليد الأعمى الذي يتعصب له من يدعون أنهم أتباعهم .
    ولو كانوا أتباعهم حقاً لما خالفوهم في تقليدهم الذي منعوا منه ونهوا عنه .
    قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه :
    أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي ، قال حدثنا موسى بن إسحاق ، قال حدثنا إبراهيم بن المنذر ، قال حدثنا معن بن عيسى ، قال سمعت مالك بن أنس يقول : إنما أنا بشر أخطىء وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه . اه . محل الغرض منه بلفظه .
    فمالك رحمه الله مع علمه وجلالته وفضله يعترف بالخطأ وينهى عن القول بما خالف الوحي من رأيه .
    فمن كان مالكياً فليمتثل قول مالك ولا يخالفه بلا مستند .
    وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه أيضاً :
    أخبرني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي حدثني أبي حدثنا محمد بن عمر بن لبابة قال : حدثنا مالك بن علي القرشي ، قال أنبأنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال :
    دخلت على مالك فوجدته باكياً فسلمت عيله فرد علي ثم سكت عني يبكي ، فقلت له :
    يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال لي يا ابن قعنب إنا لله على ما فرط مني ، ليتني جلدت بكل كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسوط ، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي ، وهذه المسأئل قد كانت لي سعة فيما سبقت إليه . اه . محل الغرض منه بلفظه .
    ومن العلوم بالضرورة أن مالكاً رحمه الله لا يسره ولا يرضيه تقديم رأيه هذا الذي يسترجع ويبكي ندماً عليه ، ويتمنى لو ضرب بالسياط ولم يكن صدر منه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
    فليتق الله وليستحي من الله من يقدم مثل هذا الرأي على الكتاب والسنة زاعماً أنه متبع مالكاً في ذلك ،وهو مخالف فيه لمالك ، ومخالف فيه لله ولرسوله ، ولأصحابه ولكل من يعتد به من أهل العلم .
    وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين :
    وقد نهى الأئمة الأبعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة .
    فقال الشافعي : مثل الذي يطلب العلم بلا حجة ، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري ، ذكره البيهقي .
    قال إسماعيل بن عيسى المزني في أول مختصره : اختصرت هذا من علم الشافعي ، ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ، ويحتاط فيه لنفسه إلى أن قال :
    وقال أحمد بن حنبل : لا تقلدني ، ولا تقلد مالكاً ، ولا الثوري ولا الأوزاعي ، وخذ من حيث أخذوا .
    وقال : من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال .
    وقال بشر بن الوليد : قال أبو يوسف : لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا
    وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب ، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله اه محله الغرض منه .
    ومما لا شك فيه أن الأئمة الأربعة رحمهم الله نهوا عن تقليدهم في كل ما خالف كتاباً أو سنة كما نقله عنهم أصحابهم .
    كما هو مقرر في كتب الحنفية عن أبي حنيفة .
    وكتب الشافعية عن الشافعي القائل : إذا صح الحديث فهو مذهبي .
    وكتب المالكية ، والحنابلة عن مالك وأحمد رحمهم الله جميعاً .

    وكذلك كان غيرهم من أفاضل العلماء يمنعون من تقليدهم فيما لم يوافق الكتاب والسنة وقد يتحفظون منه ولا يرضون .
    قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه :

    وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عن سحنون ، قال كان مالك بن أنس وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز ، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما .
    وإذا سأله محمد بن إبراهيم بن دينار وذووه لم يجبهما .

    فقال له :

    يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما ، وأسألك أنا وذوي فلا تجيبا؟
    فقال :أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟
    قال : نعم : فقال له :

    إني قد كبرت سني ورقَّ عظمي ، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ،ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان ، إذا سمعا مني حقاً قبلاه ، وإذا سمعا خطأ تركاه ،وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه .
    قال محمد بن حارث : هذا والله هو الدين الكامل ، والعقل الراجح .
    لا كمن يأتي بالهذيان ، ويريد أن ينزل من القلوب منزلة القرآن . اه منه .
    التنبيه الثالث

    اعلم أن المقلدين للأئمة هذا التقليد الأعمى قد دل كتاب الله ، وسنة رسوله ، وإجماع من يعتد به من أهل العلم ، أنه لا يجوز لأحد منهم أن قول : هذا حلال وهذا حرام .

    لأن الحلال ما أحله الله ، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه أو سنة رسوله ، والحرام ما حرمه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه ، أو سنة رسوله .
    ولا يجوز ألبتة للمقلد أن يزيد على قوله : هذا الحكم قاله الإمام الذي قلدته أو أفتى به .
    أما دلالة القرآن على منع ذلك فقد قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] وقال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ } [ النحل : 116 ] . وقال تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا } [ الأنعام : 150 ] الآية .
    ومعلوم أن العبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب كما بيناه مراراً ، وأوضحنا أدلته من السنة الصحيحة .
    ومما يوضح هذا أن المقلد الذي يقول : هذا حلال وهذا حرام من غير علم بأن الله حرمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يقول على الله بغير علم قطعاً فهو داخل بلا شك في عموم قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] .
    فدخوله في قوله : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 169 ] كما ترى .
    وهو داخل ايضاً في عموم قوله تعالى : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 169 ] .
    وأم السنة ، فقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
    حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان .
    ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا سفيان قال : أملاه علينا إملاء .
    ح وحدثني عبد الله بن هاشم واللفظ له حدثني عبد الرحمن يعني ابن مهدي حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال :كان رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال :« اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله » الحديث .
    وفيه « وإذا حاصرت أهل حسن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري ، أتصيب حكم الله فيهم أم لا »
    هذا لفظ مسلم في صحيحه .
    وفيه النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن نسبة حكم إلى الله ، حتى يعلم بأن هذا حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
    ولأجل هذا كان أهل العلم لا يتجرؤون على القول بالتحريم والتحليل إلا بنص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
    قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه :
    حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن وضاح قال حديثنا يوسف بن عدي قال حدثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب قال : قال الربيع بن خيثم : إياكم أن يقول الرجل في شيء إن الله حرم هذا أو نهى عنه فيقول الله : كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه .
    قال أو يقول : إن الله أحل هذا وأمر به ، فيقول : كذبت لم أحله ولم آمر به .
    وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب أنهما سمعا مالك بن أنس يقول : لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً اقتدى به يقول في شيء : هذا حلال وهذا حرام
    ما كانوا يجترئون على ذلك .
    وإنما كانوا يقولون : نكره هذا .
    ونرى هذا حسناً .
    ونتقي هذا ، ولا نرى هذا .
    وزاد عتيق بن يعقوب ، ولا يقولون حلال ولا حرام .
    أما سمعت قول الله عز وجل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] .
    الحال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله :
    قال أبو عمر : معنى قول مالك هذا إن ما أخذ من العلم رأياً واستحساناً لم نقل فيه حلال ولا حرام والله اعلم . اه . محل الغرض منه .
    وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسيره ، في الكلام على قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] الآية ، ما نصه :
    أسند الدرامي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش قال : ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلال ولا حرام ولكن كان يقول : كانوا يكرهون كانوا يستحبون .
    وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام .
    ولكن يقولون : إياكم وكذا وكذا . ولم أكن لأصنع هذا .
    ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل ليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون البارئ تعالى بذلك عنه .
    وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول : إني أكره كذا .
    وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى اه . محل الغرض منه
    وإذا كان مالك وإبراهيم النخعي وغيرهما من أكابر أهل العلم لا يتجرؤون أن يقولوا في شيء من مسائل الاجتهاد والرأي : هذا حلال أو حرام .
    فما ظنك بغيرهم من المقلدين الذين لم يستضيئوا بشيء من نور الوحي؟
    فتجرؤهم على التحريم والتحليل بلا مستند من الكتاب إنما نشأ لهم من الجهل بكتاب الله وسنة رسوله ، وآثار السلف الصالح .
    وآية يونس المتقدمة صريحة فيما ذكرنا صراحة تغني عن كل ما سواها .
    لأنه تعالى لما قال : { فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } [ يونس : 59 ] أتبع ذلك بقوله { قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] .
    ولم يجعل واسطة بين إذنه في ذلك وبين الافتراء عليه .
    فمن كان عنده إذن من الله بتحريم هذا أو تحليله فليعتمد على إذن الله في ذلك
    ومن لم يكن عنده إذن من الله في ذلك فليحذر من الافتراء على الله .
    إذ لا واسطة بين الأمرين .
    ومعلوم أن العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سببها .
    فالذين يقولون من الجهلة المقلدين : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا حكم الله ، ظناً منهم أن أقوال الإمام الذي قلدوه تقوم مقام الكتاب والسنة وتغني عنهما .
    وأنّ ترك الكتاب والسنة والاكتفاء بأقوال من قلدوه أسلم لدينه أعمتهم ظلمات الجهل المتراكمة عن الحقائق حتى صاروا يقولون هذا .
    فهم كما ترى ، مع أن الإمام الذي قلدوه ، ما كان يتجرأ على مثل الذي تجرؤوا عليه ، لأن علمه يمنعه من ذلك .
    والله جل وعلا يقول : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب } [ الزمر : 9 ] .
    التنبيه الرابع

    اعلم أن مما لا بد منه معرفة ، الفرق بين الإتباع والتقليد ، وأن محل الإتباع لا يجوز التقليد فيه بحال .
    وإيضاح ذلك ، أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع المسلمين ، لا يجوز فيه التقليد بحال .
    لأن كل اجتهاد يخالف النص ، فهو اجتهاد باطل ، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد .
    لأن نصوص الكتاب والسنة ، حاكمة على كل المجتهدين ، فليس لأحد منهم مخالفتها كائناً من كان .
    ولا يجوز التقليد فيما خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً إذ لا أسوة في غير الحق .
    فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الإتباع فقط .
    ولا اجتهاد، ولا تقليد فيما دل عليه نص ، من كتاب أو سنة ، سالم من المعارض .
    والفرق بين التقليد والإتباع أمر معروف عند أهل العلم ، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم ، وقد قدمنا كلام ابن هويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه .
    وهو قوله : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع منه في الشريعة والإتباع ما ثبت عليه حجة .
    وقال في موضع آخر من كتابه :
    كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح .
    وكل من أوجب عليك الدليل إتباع قوله أنت متبعه والإتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع . اه .
    وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين :
    وقد فرق الإمام أحمد رحمه الله بين التقليد والإتباع .
    فقال أبو داود : سمعته يقول : الإتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، ثم هو من بعد في التابعين مخير . انتهى محل الغرض منه .
    قال مقيده عفا الله عنه ، وغفر له : أما كون العمل بالوحي إتباعا لا تقليداً فهو أمر قطعي .
    والآيات الدالة على تسميته إتباعا كثيرة جداً :
    كقوله تعالى : { اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] .
    وقوله تعالى : { واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم } [ الزمر : 55 ] الآية .
    وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 203 ] .
    وقوله تعالى : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ يونس : 15 ] .
    وقوله تعالى : { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأنعام : 155 ] .
    وقوله تعالى : { اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } [ الأنعام : 106 ] .
    وقوله تعالى : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ الأحقاف : 9 ] .
    والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة . فالعمل بالوحي ، هو الإتباع كما دلت عليه الآيات .
    ومن المعلوم الذي لا شك فيه ، أن إتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه من الوجوه ، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه .
    فاتضح من هذا الفرق بين الإتباع والتقليد ، وأن مواضع الإتباع ليست محلاً أصلاً للاجتهاد ولا للتقليد .
    فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها ألبتة .
    لأن إتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائناً من كان كما لا يخفى .
    وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد
    وموضع الإتباع ليس محل اجتهاد .
    فجعل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والإتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط ، كما ترى .
    والتحقيق أن إتباع الوحي لا يشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه .
    وأنه يصح علم حديث والعمل به ، وعلم آية والعمل بها .
    ولا يتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد .
    فيلزم المكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة ، ويعمل بكل ما علم من ذلك ، كما كان عليه أول هذه الأمة ، من القرون المشهود لها بالخير .
    التنبيه الخامس .

    اعلم أنه لا يخفى علينا أن المقلدين التقليد الأعمى المذكور ، يقولون :
    هذا الذي تدعوننا إليه وتأمروننا به من العمل بالكتاب والسنة والتقديمهما على آراء الرجال من التكليف بما لا يطاق .
    لأنا لا قدرة لنا على معرفة الكتاب والسنة حتى نعمل بهما .
    ولا يمكننا معرفة شيء من الشرع إلا عن طريق الإمام الذي نقلده .
    لأنا لم نتعلم نحن ولا آباؤنا شيئاً غير ذلك .
    فإذا لم نقلد إمامنا بقينا في حيرة لا نعلم شيئاً من أحكام عباداتنا ولا معاملاتنا ، وتعطلت بيننا الأحكام إذ لا نعرف قضاء ولا فتوى ولا غير ذلك من الأحكام إلا عن طريق مذهب إمامنا .
    لأن أحكام مدونة عندنا وهي التي نتعلمها ونتدارسها دون غيرها من الكتاب أو السنة وأقوال الصحابة ومذاهب الأئمة الآخرين .
    ونحن نقول :
    والله لقد ضيقتم واسعاً . وادعيتم العجز ، وعدم القدرة في أمر سهل .
    ولا شك أن الأحوال الراهنة للمقلدين التقليد الأعمى ، للمذاهب المدونة تقتضي صعوبة شديدة جداً في طريق التحول من التقليد الأعمى إلى الاستضاءة بنور الوحي .
    وذلك إنما نشأ من شدة التفريط في تعلم الكتاب والسنة والإعراض عنهما إعراضاً كلياً يتوارثه الأبناء عن الآباء والآباء عن الأجداد .
    فالداء المستحكم من مئات السنين لا بد لعلاجه من زمن طويل .
    ونحن لا نقول : إن الجاهل بالكتاب والسنة يعمل بهما باجتهاده .
    بل نعوذ بالله من أن نقول ذلك .
    ولكنا نقول : إن الكتاب والسنة يجب تعلمهما ، ولا يجوز الإعراض عنهما وأن كل ما علمه المكلف منهما علماً صحيحاً ناشئاً عن تعلم صحيح وجب عليه العمل به .
    فالبلية العظمى إنما نشأت من توارث الإعراض عنهما إعراضاً كلياً اكتفاء عنهما بغيرهما .
    وهذا من أعظم المنكر وأشنع الباطل .
    فالذي ندعو إليه هو المبادرة بالرجوع إليهما بتعلمهما أولاً ثم العمل بهما والتوبة إلى الله من الإعراض عنهما .
    ودعوى أن تعلمهما غير مقدور عليه ، لا يشك في بطلانها عاقل ، ونعيذ أنفسنا وإخواننا بالله أن يدعوا على أنفسهم أن على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا يمنعهم من فهم كتاب الله
    لأن ذلك قول الكفار لا قول المسلمين قال الله تعالى { حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : 1 - 5 ] .
    فاحذر يا أخي وارحم نفسك أن تقول مثل قول هؤلاء الكفرة وأنت تسمع ربك يقول : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 17 - 22 - 23 - 40 ] ، ويقول : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ الدخان : 58 ] .
    ويقول { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب } [ ص : 29 ] .
    فلا تخرج نفسك من عموم أولي الألباب الذين هم أصحاب العقول ، لأنك إن فعلت ذلك اعترفت على نفسك أنك لست من جملة العقلاء .
    وعلى كل حال فلا يخلو المقلدون ، التقليد الأعمى ، من أحد أمرين :
    احدهما: ألا يلتفتوا إلى نصح ناصح .
    بل يستمرون على تقليدهم الأعمى ، والإعراض عن نور الوحي عمداً .
    وتقديم رأي الرجال عليه .
    وهذا القسم منهم لا نعلم له عذراً في كتاب الله ولا سنة رسوله .
    ولا في قول أحد من الصحابة ، ولا أحد من القرون المشهود لهم بالخير .
    لأن حقيقة ما هم عليه ، هو الإعراض عما أنزل الله عمداً مع سهولة تعلم القدر المحتاج إليه منه ، والاستغناء عنه بأقوال الأئمة .
    ومن كان هذا شأنه وهو تام العقل والفهم قادر على التعلم فعدم عذره كما ترى .
    الأمر الثاني : هو أن يندم المقلدون على ما كانوا عليه من التفريط في تعلم الوحي ، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
    ويبادروا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ويشرعوا في ذلك بجد . تائبين مما كانوا عليه من التفريط قبل ذلك ، وهذا القسم على هدى من الله .
    التنبيه السادس

    لا خلاف بين أهل العلم ، في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاماً غير أحكام الاختيار .
    فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاءً صحيحاً حقيقاً ، فهو في سعة من أمره فيه .
    وقد استثنى الله جل وعلا ، حالة الاضطرار في خمس آيات من كتابه ، ذكر فيها المحرمات الأربع التي هي من أغلظ المحرمات ، تحريماً وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به
    فإن الله تعالى كلما ذكر تحريمها استثنى منها حالة الضرورة ، فأخرجها من حكم التحريم .
    قال تعالى في سورة الأنعام .
    { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأعراف : 145 ] .
    وقال في الأنعام أيضاً :
    { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين } [ الأنعام : 119 ]
    وقال تعالى في النحل :
    { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 115 ] .
    وقال تعالى في البقرة :
    { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 173 ] .
    وقال تعالى في المائدة :
    { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } إلى قوله : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[ المائدة : 3
    وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقياً ، بحيث يكون لا قدرة له ألبتة ، على غيره مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلاً على الفهم .
    أو له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم .
    أو هو في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجاً لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد .
    أو لم يجد كفئاً يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة .
    لأنه لا مندوحة له عنه .
    أما القادر على التعلم المفرط فيه ،والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي .
    فهذا الذي ليس بمعذور .
    التنبيه السابع

    اعلم أن موقفنا من الأئمة رحمهم الله من الأربعة وغيرهم .
    هو موقف سائر المسلمين المنصفين مننهم .
    وهو موالاتهم ، ومحبتهم ، وتعظيمهم ، وإجلالهم ، والثناء عليهم ، بما هم عليه من العلم والتقوى ، وإتباعهم في العمل بالكتاب والسنة وتقديمهما على رأيهم وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق ، وترك ما خالف الكتاب والسنة منها .
    وأما المسائل التي لا نص فيها فالصواب النظر في اجتهادهم فيها .
    وقد يكون إتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا .
    لأنهم أكثر علماً وتقوى منا .
    ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضى الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه .
    كما قال صلى الله عليه وسلم : « دع ما يريبك إلى ما ليريبك »
    وقال : « فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه »
    وحقيقة القول الفصل في الأئمة رحمهم الله أنهم من خيار علماء المسلمين وأنهم ليسوا معصومين من الخطأ ، فكل ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ، وما أخطأوا فيه فهم مأجورون فيه باجتهادهم معذورون في خطئهم فهم مأجورون على كل حال ، لا يلحقهم ذم ولا عيب ولا نقص في ذلك .
    ولكن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفى
    فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
    فلا تكن ممن يذمهم وينتقصهم ولا ممن يعقد أقوالهم مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله أو مقدمة عليهما .
    التنبيه الثامن

    اعلم أن كلاً من الأئمة أخذت عليه مسائل . قال بعض العلماء : إنه خالف فيها السنة .
    وسنذكر طرفاً من ذلك هنا إن شاء الله .
    أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فهو أكثر الأئمة في ذلك ، لأنه أكثرهم رأياً .
    ولكثرة المسائل اتي حصل فيها القيل والقال من ذلك لا نحتاج إلى بسط تفصيلها .
    وبعض المسائل اتي قيل فيها ذلك يظهر أنه لم تبلغه السنة فيها ، وبعضها قد بلغته السنة فيها ، ولكنه تركها لشيء آخر ظنه أرجح منها .
    كتركه العمل لحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال .
    وحديث « تغريب الزاني البكر » لأنه ترك العمل بذلك ونحوه احتراماً للنصوص القرآنية في ظنه .
    لأنه يعتقد أن الزيادة على النص نسخ وأن القضاء بالشاهد واليمين نسخ . لقوله تعالى : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } [ البقرة : 282 ] .
    فاحترم النص القرآني المتواتر ، فلم يرض نسخه بخر آحاد سنده دون سنده .
    لأن نسخ المتواتر بالآحاد عنده ، رفع للأقوى بالأضعف ، وذلك لا يصح .
    وكذلك حديث تغريب الزاني البكر فهو عنده زيادة ناسخة لقوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } [ النور : 2 ] والمتواتر لا ينسخ بالآحاد .
    فتركه العمل بهذا النوع من الأحاديث بناه على مقدمتين :
    أحداهما : أن الزيادة على النص نسخ .
    والثانية : أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد .
    وخالفه في المقدمة الأولى جمهور العلماء .
    ووافقوه في الثانية .
    والذي يظهر لنا ونعتقده اعتقاداً جازماً أن كلتا المقدمتين ليست بصحيحة .
    أما الزيادة فيجب فيها التفصيل .
    فإن كانت أثبتت حكماً نفاه النص أو نفت حكماً أثبته النص فهي نسخ .
    وإن كانت لم تتعرض للنص بنفي ولا إثبات بل زادت شيئاً سكت عنه النص فلا يمكن أن تكون نسخاً لأنها إنما رفعت الإباحة العقلية التي هي البراءة الأصلية .
    ورفعها ليس نسخاً إجماعاً .
    وأما نسخ المتواتر بالآحاد .
    فالتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا مانع منه ولا محذور فيه ، ولا وجه لمنعه ألبتة ، وإن خالف في ذلك جمهور أهل الأصول .
    لأن أخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عن المتواتر لا وجه لردها ، ولا تعارض ألبتة بينها وبين المتواتر إذ لا تناقض بين خبرين اختلف زمنهما ، لجواز صدق كل منهما في وقته
    فلو أخبرك مثلاً عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب ، بأن أخاك الغائب لم يزل غائباً ولم يأت منزله .
    لأنهم كانوا بمنزله وليس بموجود ، ثم أخبرك بعد ذلك رجل واحد بأن أخاك موجود في منزله الآن .
    فهل يسوغ لك أن تقول له كذبت ، لأني أخبرني عدد كثير قبلك أنه لم يأت؟
    ولو قلت له ذلك لقال لك هم في وقت إخبارهم لك صادقون ، ولكن أخاك جاء بعد ذلك
    فالمتواتر في وقت نزوله صادق .
    وخبر الآحاد الوارد بعده صادق أيضاً .
    لأنه أفاد تجدد شيء لم يكن .
    فحصر المحرمات مثلاً في الأربع المذكورة في قوله تعالى :
    { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة } [ الأنعام : 145 ] الآية . صادق في ذلك الوقت .
    لا يوجد محرم على طاعم بطعمه إلا تلك المحرمات الأربع .
    فلا تحرم في ذلك الوقت الحمر الأهلية ولا ذو الناب من السباع ولا الخمر ولا غير ذلك .
    فإذا جاء بعد خبر آحاد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم : حرم لحوم الحمر الأهلية بخيبر ، فهل يسوغ لقائل أن يقول :
    هذا الخبر الصحيح مردود لأنه يعارض حصر المحرمات في الأربع المذكورة في آية : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } [ الأنعام : 145 ] الآية؟
    هذا الخبر الصحيح لا تناقضه الآية ، لأنه إنما أفاد حكماً جديداً طارئاً لم يكن مشروعاً من قبل .
    وأحكام الشريعة تتجدد شيئاً فشيئاً .
    والآية لم تدل على استمرار الحصر المذكور فيها .
    فتبين أن زيادة حكم طارئ لا تناقض بينها وبين ما كان قبلها .
    وإيضاح هذا أن نسخ المتواتر بالآحاد إنما رفع استمرار حكم المتواتر ودلالة المتواتر على استمرار حكمه ليست قطعية حتى يمنع نسخها بأخبار الآحاد الصحيحة .
    وقد قدمنا إيضاح هذا في سورة الأنعام .
    وقصدنا مطلق المثال لما يقال : إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله خالف فيه السنه برأيه .
    وغرضنا أن نبين أنه رحمه الله لم يخالف شيئاً من ذلك ، إلا لشيء اعتقده مسوغاً لذلك .
    وأنه لا يترك السنة إلا لشيء يراه مستوجباً لذلك شرعاً .
    ومما يبين ذلك أنه كان يقدم ضعيف الحديث على الرأي .
    قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ما نصه :
    وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي .
    وعلى ذلك بني مذهبه كما قدم حديث القهقة مع ضعفه على القياس والرأي .
    وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس .
    ومنع قطع يد السارق لسرقة أقل من عشرة دراهم ، والحديث فيه ضعيف .
    وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف .
    وشرط في إقامة الجمعة المصر ، والحديث فيه كذلك .
    وترك القياس في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة .
    فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة قوله ، وقول الإمام أحمد :
    وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعف في اصطلاح المتأخرين .
    بل ما يسميه المتأخرون حسناً قد يسميه المتقدمون ضعيفا اه . محل الغرض منه .
    ومن أمثلة ما ذكر أن أبا حنيفة رحمه الله خالف فيها السنة لزوم الطمأنينة في الصلاة وتعين تكبيرة الإحرام في الدخول فيها والسلام للخروج منها .
    وقراءة الفاتحة فيها والنية في الوضوء والغسل إلى غير ذلك من مسائل كثيرة .

    ولا يتسع المقام هنا لذكر ما استدل به أبو حنيفة لذلك ومناقشة الأدلة .

    بل المقصود بيان أن الأئمة لا يخلو أحد منهم من أن يؤخذ عليه شيء خالف فيه سنة وأنهم لم يخالفوها إلا لشيء سوغ لهم ذلك .

    وعند المناقشة الدقيقة قد يظهر أن الحق قد يكون معهم وقد يكون الأمر بخلاف ذلك .
    وعلى كل حال فهم مأجورون ومعذورون كما تقدم إيضاحه .
    وقد أخذ بعض العلماء على مالك رحمه الله أشياء قال :
    إنه خالف فيها السنة قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه :
    وقد ذكر يحيى بن سلام قال : سمعت عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدث عن الليث بن سعد أنه قال أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم مما قال مالك فيها برأيه ، قال : ولقد كتبت إليه في ذلك . انتهى محل الغرض منه .
    ومعلوم أن مثل كلام الليث هذا عن مالك لا أثر له ، لأنه لم يعين المسائل المذكورة ولا أدلتها .
    فيجوز أن يكون الصواب فيها مع مالك لأدلة خفيت على الليث ، فليس خفاؤها على مالك بأولى من خفائها على الليث .
    ولا شك أن مذهب مالك المدون فيه فروع تخالف بعض نصوص الوحي .
    والظاهر أن بعضها لم يبلغه رحمه الله ولو بلغه لعمل به .
    وأن بعضها بلغه وترك العمل به لشيء آخر يعتقده دليلاً أقوى منه .
    ومن أمثلة ما لم يبلغه النص فيه صيام ست من شوال بعد صوم رمضان .
    قال رحمه الله في الموطأ ما نصه : إني لم أر أحداً من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف .
    وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته .
    وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء ، ولو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ، ورأوهم يعملون ذلك . اه منه بلفظه .
    وفيه تصريح مالك رحمه الله بأنه لم يبلغه صيام ستة من شوال عن أحد من السلف ، وهو صريح في أنه لم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
    ولا شك أنه لو بلغه الترغيب فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان يصومها ويأمر بصومها ، فضلاً عن أن يقول بكراهتها .
    وهو لا يشك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرأف وأرحم بالأمة منه .
    لأن الله وصفه صلى الله عليه وسلم في القرآن بأنه رؤوف رحيم .
    فلو كان صوم السنة يلزمه المحذور الذي كرهها مالك من أجله لما رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولراعى المحذور الذي راعاه مالك .
    ولكنه صلى الله عليه وسلم ، ألغى المحذور المذكور وأهدره ، لعلمه بأن شهر رمضان أشهر من أن يلتبس بشيء من شوال .
    كما أن النوافل المرغب فيها قبل الصلوات المكتوبة وبعدها لم يكرهها أحد من أهل العلم خشية أن يلحقها الجهلة بالمكتوبات لشهرة المكتوبات الخمس وعدم التباسها بغيرها .
    وعلى كل حال ، فإنه ليس لإمام من الأئمة أن يقول هذا الأمر الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه لخشية أن يظنه الجهال من جنس الواجب .
    وصيام الستة المذكورة ، وترغيب النبي صلى الله عليه سولم فيه ثابت عنه .
    قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر جميعاً عن إسماعيل ، قال ابن أيوب حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر » انتهى منه بلفظه .
    وفيه التصريح من النبي بالترغيب في صوم الستة المذكورة فالقول بكراهتها من غير مستند من أدلة الوحي خشية إلحاق الجهال لها برمضان ، لا يليق بجلالة مالك وعلمه وورعه ، لكن الحديث لم يبلغه كما هو صريح كلامه نفسه رحمه الله في قوله : لم يبلغني ذلك عن أحد من السلف ، ولو بلغه الحديث لعمل به .
    لأنه رحمه الله من أكثر الناس اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحرصهم على العمل بسنته .
    والحديث المذكور رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي ، وصوم السنة المذكور رواه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه منهم ثوبان وبجابر وابن عباس وأبو هريرة والبراء بن عازب كما بينه صاحب نيل الأوطار
    وعلى كل حال فالحديث صحيح ويكفي في ذلك إسناد مسلم المذكور .
    ولا عبرة بكلام من تكلم في سعد بن سعيد لتوثيق بعض أهل العلم له واعتماد مسلم عليه في صحيحه .
    ومن أمثلة ما لم تبلغ مالكاً رحمه الله فيه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إفراد صوم يوم الجمعة ، فقد قال رحمه الله في الموطأ ما نصه :
    لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ، ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن ،وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه ، وأراه كان يتحراه . انتهى منه بلفظه .
    وفيه تصريحه رحمه الله بأنه لم يسمع أحداً من أهل العلم ينهى عن صوم الجمعة .
    وأن ذلك حسن عنده ، وأنه رأى بعض أهل العلم يتحرى يوم الجمعة ليصومه .
    وهذا تصريح منه رحمه الله بأنه لم يبلغه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة واحده ، وأمره من صامه أن يصوم معه يوماً غيره وإلا أفطر إن ابتدأ صيامه ناوياً إفراده .
    ولو بلغته السنة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمل بها وترك العمل بغيرها .
    لأن النهي عن صوم يوم الجمعة وحجه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن محمد بن عباد ، قال سألت جابراً رضي الله عنه . أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الجمعة؟ قال : نعم . زاد غير أبي عاصم يعني أن ينفرد بصومه .
    حدثنا عمر بن حفص بن غياث حديثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده »
    حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن شعبة ح وحدثني محمد حدثنا غندر حيثنا شعبة عن قتادة عن أبي أيوب عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلم ، دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال : » أصمت أمس « ؟ قالت : لا ، » قال : تريدين أن تصومي غداً « ؟ قالت : لا . » قال : فأفطري «
    وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبو أيوب أن جويرية حدثته فأمرها ، فأفطرت ، انتهى من صحيح البخاري بلفظه .
    وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه :حدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الحميد بن جبير عن محمد بن عباد بن جعفر « سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة؟ فقال : نعم ، ورب هذا البيت » .
    وقال مسلم أيضاً : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص وأبو معاوية عن الأعمش ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له أخبرنا أو بمعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله او يصوم بعده »
    وفي لفظ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم » هذا لفظ مسلم في صحيحه .
    ولا شك أن هذا الأحاديث لو بلغت مالكاً ما خالفها ، فهو معذور في كونها لم تبلغه .
    وقال النووي في شرح مسلم : وأما قول مالك في الموطأ : لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن .
    وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه .
    فهذا الذي قاله هو الذي رآه .
    وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو .
    والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره .
    وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة ، فيتعين القول به .
    ومالك معذور ، فإنه لم يبلغه .
    قال الداودي من أصحاب مالك : لم يبلغ مالكاً هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه . انتهى منه
    وهذا هو الحق الذي لا شك فيه .
    لأن مالكاً من أورع العلماء وأكثر الناس اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدعها وهو عالم بها .
    وقوله في هذا الحديث : « إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم » أي كأن ينذر أحد صوم اليوم الذي يشفي الله فيه مرضه ، فوافق ذلك يوم الجمعة .
    لأن صومه له لأجل النذر ، الذي لم يقصد بأصله تعيين يوم الجمعة .
    وإنما النهي فيمن قصد بصومه نفس يوم الجمعة دون غيره .
    والغرض عندنا إنما هو المثال لبعض الأحكام التي لم تبلغ مالكاً فيها السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بلغته لعمل بها .
    ومعلوم أن هنالك بعضاً من النصوص ترك مالك العمل به مع أنه بلغه ، لأنه يعقتد أن ما ترك النص من أجله أرجح من النص .
    وهذا يحتاج فيه إلى مناقشات دقيقة بين الأدلة ، فقد يكون الحق في ذلك مع هذا الإمام تارة ومع غيره أخرى .
    فقد ترك مالك العمل بحديث خيار المجلس مع أنه حديث متفق عليه ، وقد بلغ مالكاً .
    وقد حلف عبد الحميد الصائغ من المالكية بالمشي إلى مكة على أنه لا يتفي بثلاث . قالها مالك .
    ومراده بالثلاث المذكورة عدم القول بخيار المجلس هذا مع صحة الحديث فيه .
    وجنسية القمح والشعير مع صحة الأحاديث الدالة على أنهما جنسان .
    والتدمية البيضاء ، ولا شك أن مالكاً بلغه حديث خيار المجلس هذا .
    فقد روي في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
    « المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار »
    قال مالك : وليس لهذا عندنا حد معروف ، ولا أمر معمول به فيه . انتهى منه بلفظه .
    مع أن مالكاً لم يعمل بهذا الحديث الصحيح :
    وأشار في الموطأ إلى بعض الأسباب التي منعته من العمل به في قوله :
    وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه ، لأن خيار المجلس لم يحدد بحد معروف
    فصار القول به مانعاً من انعقاد البيع إلى حد غير معروف .
    وقد يكون المتعاقدان في سفينة في البحر لا يمكنهم التفرق بالأبدان .
    وقد يكونان مسجونين في محل لا يمكنهما التفرق فيه .
    وقد حمل مالك التفرق المذكور في الحديث على التفرق في الكلام .
    وصيغة العقد قال :
    وقد أطلع التفرق على التفرق في الكلام دون الأبدان في قوله تعالى : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } [ النساء : 130 ] فالتفرق في الآية إنما هو بالتكلم بصيغة الطلاق لا بالأبدان .
    وقوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة } [ البينة : 4 ] فالتفرق في الآية تفرق بالكلام والاعتقاد .
    فلا يشترط أن يكون بالأبدان :
    وحجج من احتج لمالك في عدم أخذه بحديث خيار المجلس ، هذا كثيرة معروفة
    منها ما هو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] ، وقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] ، وقوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ النساء : 29 ] .
    ومنها ما هو بغير ذلك .
    وليس غرضنا هنا بسط الحجج ومناقشتها ، وإنما غرضنا المثال .
    لأن الإمام قد يترك نصاً بلغه لاعتقاد أن ما ترك من أجله النص أرجح من نفس النص ، وأنه يجب على المسلم مراعاة المخرج والنجاة لنفسه فينظر في الأدلة ، ويعمل بأقواها وأقربها إلى رضى الله .
    كما حلف عبد الحميد الصائغ بالمشي إلى مكة ، لا يفتي بقول مالك في هذا .
    مع أنه عالم مالكين ، لأنه رأى الأدلة واضحة وضوحاً لا لبس فيه ، في أن المراد بالتفرق التفرق بالأبدان .
    وقد صرح بذلك جماعة من الصحابة منهم ابن عمر راوي الحديث ، ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة .
    ولا شك أن المنصف إذا تأمل تأملاً صادقاً خالياً من التعصب عرف أن الحق هو ثبوت خيار المجلس .
    وإن المراد بالتفرق التفرق في الأبدان لا بالكلام .
    لأن معنى التفرق بالكلام هو حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري .
    وكل عاقل يعلم أن الخيار حاصل لكل من البائع والمشتري ضرورة قبل حصول الإيجاب والقبول .
    فحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على هذا ، حمل له على تحصيل حاصل ، وهو كما ترى .
    مع أن حمل الكلام على هذا المعنى يستلزم أن المراد بالمتبايعين في الحديث المتساومان ، لأنه لا يصدق عليهما اسم المتبايعين حقيقة إلا بعد حصول الإيجاب والقبول .
    وحمل المتبايعين في كلام النبي صلى الله عليه وسلم على المتساومين اللذين لم ينقعد بينهما بيع خلاف الظاهر أيضاً كما ترى .
    وأما كون القمح والشعير جنساً واحداً ، فقد استدل له مالك ببعض الآثار التي لي فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
    قال في الموطأ : إنه بلغه أن سليمان بن يسار قال : في علف حمار سعد بن أبي وقاص فقال لغلامه : خذ من حنطة أهلك فاتبع بها شعيراً ، ولا تأخذ إلا مثله . اه منه بلفظه .
    وفي الموطأ أيضاً عن نافع عن سليمان بن يسار أنه اخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فني علف دابته ، فقال لغلامة : خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيراً ولا تأخذ إلا مثله . اه منه بلفظه .
    وفي الموطأ أيضاً : أن مالكاً بلغه عن القاسم بن محمد عن ابن معيقيب الدوسي مثل ذلك . قال مالك : وهو الأمر عندنا اه . منه بلفظه .
    فهذه الآثار هي عمدة مالك رحمه الله في كون القمح والشعير جنساً واحداً .
    وعضد ذلك بتقارب منفعتهما ، والتحقيق الذي لا شك فيه أن القمح والشعير جنسان ، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم
    ولا تصح معارضتها ألبتة بمثل هذه الآثار المروية عمن ذكر .
    وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت أوانه » انتهى منه بلفظه .
    وهو صريح بأن القمح والشعير جنسان مختلفان ، كاختلافهما مع التمر والملح
    وأن التفاضل جائز مع اختلاف الجنس إن كان يداً بيد ، وروى مسلم في صحيحه والإمام أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد » اه منه بلفظه .
    وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه ، وفي آخره : وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يداً بيد كيف شئنا .
    قال المجد في المنتقى : لما ساق هذا الحديث ما نصه : وهو صريح في كون البر والشعير جنسين ، وما قاله صحيح كما ترى .
    والأحاديث بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا طرفاً منها في سورة البراءة والمقصود هنا بيان صراحة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن القمح والشعير جنسان لا جنس واحد ، وأنها لا يجوز ترك العمل بها مع صحتها ووضوحها ، ولا أن يقدم عليها اثر موقوف على سعد بن ابي وقاص ولا أثر موقوف على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، ولا أثر موقوف على ابن معيقيب .
    واعلم أنه لا يصح الاستدلال لكون القمح والشعير جنساً واحداً بحديث معمر بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم وغيره ، كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « الطعام بالطعام مثلاً بمثل » الحديث .
    وذلك لأمرين : أحدهما أن معمر المذكور قال في آخر الحديث ، وكان طعامهم يومئذ الشعير .
    فقد عين أن عرفهم المقارن للخطاب يخصص الطعام المذكور بالشعير .
    والمقرر في أصول مالك : أن العرف المقارن للخطاب من المخصصات المنفصلة التي يخصص بها العام قال في مراقي السعود في ذلك :
    والعرف حيث قارن الخطابا ... ودع ضمير البعض والأسبابا
    الأمر الثاني : إن الاستدلال بالحديث المذكور على فرض اعتبار عمومه ، وعدم تخصيصه بالعرف المذكور ، يقتضي أن الطعام كله جنس واحد فيدخل التمر والملح لصدق الطعام عليهما .
    وهذا لا قائل به كما ترى .
    فالظاهر أن الإمام مالكاً رحمه الله ومن وافقه من أهل العلم ، لم تبلغهم هذه الأحاديث الصحيحة المصرحة ، بأن القمح والشعير والتمر والملح أجناس .
    وان القمح يباع بالشعير كيف شاء المتبايعان إن كان يداً بيد .
    وأما التدمية البيضاء فقول مالك فيها يظهر لنا قوته واتجاهه ، وإن خالف في ذلك بعض أصحابه وأكثر أهل العلم .
    وقد بين وجه قول مالك فيها ابن عبد البر وابن العربي وغيرهما .
    والمسائل التي قال بعض أهل العلم إن مالكاً خالف فيها السنة المعروفة منها ما ذكرنا .
    ومنها مسألة سجود الشكر وسجدات التلاوة في المفصل .
    وعدم الجهر بآمين ، وعدم رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ، وعدم قول الإمام : ربنا ولك الحمد .
    وعدم ضفر رأس المرأة الميتة ثلاث ضفائر .
    وترك السجدة الثانية في الحج وغير ذلك من المسائل .
    وقد قدمنا أن بعض ما ترك مالك من النصوص قد بلغته فيه السنة ولكنه رأى غيرها أرجع منها ، وأن بعضها لم يبلغه ، وأن الحق قد يكون معه في بعض المسائل التي أخذت عليه .
    وقد يكون مع غيره ، كما قال مالك نفسه رحمه الله :
    كل كلام فيه مقبول ومردود ، إلا كلام صاحب هذا القبر .
    لأن القرآن أقوى سنداً وإن كانت السنة أظهر دلالة ، ولأجل هذا لم يبح ميتة الجراد بدون ذكاة لأنه يقدم . عموم { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] الآية . على حديث « أحلت لنا ميتتان ودمان » الحديث ، وقدم عموم قوله تعالى { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } [ الأعراف : 55 ] الآية . على الأحاديث الواردة بالجهر بآمين لأن التأمين دعاء ، والدعاء مأمور بإخفائه في الآية المذكورة .
    فالآية أقوى سنداً وأحاديث الجهر بالتأمين أظهر دلالة في محل النزاع . ومن المعلوم أن أكثر أهل العلم يقدمون السنة في نحو هذا .
    وقد قدم مالك رحمه الله دليل القرآن فيما ذكرنا كما قدمه أيضاً في الثانية من سجدتي الحج لان نص الآية الكريمة فيها كالتصريح في أن المراد سجود الصلاة ، لأن الله يقول فيها . { ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } [ الحج : 77 ] .
    فذكر الركوع مع السجود يدل على أن المراد سجود الصلاة .
    والأمر بالصلاة في القرآن لا يستلزم سجود التلاوة كقوله : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر } [ الكوثر : 2 ] .
    ولذلك لا يسجد عند قوله تعالى في آخر الحجر { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين } [ الحجر : 98 ] .
    قالوا لأن معنى قوله : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي صل لربك متلبساً بحمده ، وكن من الساجدين في صلاتك
    ولا شك أن قوله تعالى في ثانية الحج { ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا } الآية . أصرح في إرادة سجود الصلاة من قوله تعالى { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين }
    ثم بعد هذا كله فإننا نكرر أن الأئمة رحمهم الله لا يلحقهم نقص ولا عيب فيما أخذ عليهم ، لأنهم رحمهم الله بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم ، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته ، والمخطىء منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطئه ، ولا يسعنا هنا مناقشة الأدلة فيما أخذ عليهم رحمهم الله ، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب تقديمهما على أقوالهم ، لأنهم غير معصومين من الخطأ ، وأن مذاهبهم المدونة لا يصح ولا يجوز الاستغناء بها عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن على كل مسلم قادر على التعليم أن يتعلم الكتاب والسنة ، ومعرفة مذاهب الأئمة تعينه على ذلك ، والنظر فيما استدل به كل منهم يعينه على معرفة أرجح الأقوال وأقربها إلى رضى الله .
    وكذلك الشافعي وأحمد رحمهما الله ، فإن كل واحد منهما لا يخلو من شيء قد أخذ عليه ، ومرادنا هنا لتمثيل لذلك ، وأن الوحي مقدم على أقوالهم جميعاً ، وليس قصدنا الإكثار من ذلك .
    وهذه أمثلة بالمطلوب وكان الشيخ رحمه الله أرجحاً إياها فنذكرها على ما هو ظاهر من المذهبين ونرجوا أن تكون موافقة لما أراد وبالله التوفيق .
    فمما هو في مذهب أحمد رحمه الله صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان حينما يشك فيه هل هو تمام شعبان أو أول رمضان . وذلك حينما تكون السماء مغيمة خشية أن يظهر الهلال خلف الغيم أو القتر .
    ولا يكون يوم شك إذا كانت السماء صحواً لأنه إذا رؤي الهلال فهو رمضان وإلا فهو من شعبان .
    فمذهب أحمد هو صوم هذا اليوم المشكوك فيه احتياطاً لرمضان ، وهو نص المعنى إلا أنه ذكر عن أحمد روايات أخر . ولكن صومه هو المقدم في المذهب . ولكنه مخالف لصريح النص في قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك : « من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم » صلى الله عليه وسلم .
    قال في بلوغ المرام : ذكره البخاري تعليقاً ووصله ، قال في سبل السلام : واعلم أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلة بغيم ساتر ، أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان .
    والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه . اه . يعني بما في معناه قوله صلى الله عليه وسلم « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين » متفق عليه ، ولمسلم « فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين » وللبخاري « فأكملوا العدة ثلاثين »
    وشبهة أحمد في قوله صلى الله عليه وسلم « فاقدروا له » بمعنى فضيقوا عليكم كما في قوله تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله } [ الطلاق : 7 ] ولكن هذا معارض للنص الصريح في معنى « فاقدروا له ثلاثين » وقوله « فأكملوا العدة ثلاثين » أي سواء في شعبان أو في تمام رمضان عند الفطر .
    ولم يقل بصومه من الأئمة إلا أحمد رحمه الله .
    ومما هو عند الشافعي قوله بنقض الوضوء من لمس المرأة الأجنبية بدون حائل مع ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث عائشة رضي الله عنها « كنت أنام معترضة في القبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فإذا سجد غمزني في رجلي فأقبضها فإذا قام مددتها » .
    وقد أجابوا عن ذلك باحتمال سترها بحائل فجاء قولها « افتقدت رسول الله ذات ليلة فقمت أطلبه أو لحجرات ليس فيه إذاك السرج حتى وقعت كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول : » سبوح قدوس رب الملائكة والروح « فقلت : والله إنك لفي واد وأنا في واد » .
    فلما قام للركعة الثانية ظنته ذهب عند بعض نسائه اغتسل ثم جاء يصلي عندها فقامت وأدخلت يدها في شعر رأسه تتحس هل اغتسل أم لا . . إلخ .
    ولهم أجوبة على كل ذلك ولكنها لا تنهض مع هذه النصوص الصريحة .
    وشبهة الشافعي في ذلك في معنى لامستم النساء من قوله تعالى : { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } [ النساء : 43 ] . الآية ولم يقل بنقض الوضوء به من الأئمة إلا الشافعي رحمه الله .
    ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أنه لا يتأتى من أحد أئمة المسلمين أن يخالف نصاً صريحاً من كتاب أو سنة ، بدون أن تكون لديه شبهة معارضة بنص آخر ، أو عدم بلوغ النص إليه ، أو عدم صحته عنده أو غير ذلك مما هو معروف في هذا المقام .
    وإنما أوردنا هذين المثالين تتمة للبحث ولمجرد المثال .
    التنيبه التاسع .

    اعلم أن كل من يرى أنه لا بد له من تقليد الإمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة ، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا أحد غير ذلك الإمام .
    يجب عليه أن يتنبه تنبهاً تاماً للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقاً ، وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه ، وما زاده المتأخرون وقتاً بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
    ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه ، لتبرأ منها ، وانكر على ملحقها ، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح .
    ويزيده بطلاناً نسبته إلى الله ورسوله ، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله ، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم .
    ومن أمثلته في مذهب مالك قول خليل المالكي في مختصره الذي قال فيه مبيناً لما به الفتوى : كأقل الطهر يعني ان أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً .
    والذين يعتنقون مذهب مالك يعتقدون أن مالكاً يقول : بأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً .
    وهذا لم يقله مالك أبداً ولم يفت به ولم يروه عنه أحد من أصحابه .
    والذي كان يقوله مالك : إن أقل الطهر ثمانية أيام أو عشرة أيام .
    وهو الذي نقله عنه أجلاء أهل مذهبه كأبي محمد بن أبي زيد في رسالته رحمه الله
    والقول بأن أقل الطهر خمسة عشر هو قول ابن مسلمة واعتمده صاحب التلقين ، وجعله ابن شاش المشهور أي مشهور مذهب مالك .
    مع أن مالكاً لم يقله ولم يعلم به ، وأمثال هذا كثيرة جداً في مذهب مالك وغيره
    ومثال استحسان المتأخرين لما لم يقله الإمام مما لا يشك أنه لو بلغ الإمام لم يقبله قول الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره في الصوم : وعاشوراء وتاسوعاء . ما نصه : قال الشيخ زروق في شرح القرطبية : صيام المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صلح علمه وورعه .
    قال إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه ، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيراً ويستحسنه .انتهى .
    قلت : لعله يعني ابن عباد . فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه : وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب ، أمر مباح لا ينكر على أحد قياساً على غيره من أوقات الفرح .
    والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود ، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعية لأهل الإيمان ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة .
    ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر ، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج بن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاماً مختلفاً ليأكلوه هنالك .
    فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل ، وكنت إذ ذاك صائماً فقلت لهم : إني صائم .
    فنظر إلى سيدي الحاج نظرة منكرة ، وقال لي ما معناه : إن هذا اليوم يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد .
    فتأملت كلامه فوجدته حقاً ، وكأنني كنت نائماً فأيقظني . انتهى بلفظه .
    فهذا الكلام الذي يقتضي قبح صوم يوم المولد وجعله كيوم العيد من غير استناد إلى كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا قول أحد من اصحابه ولا من تابعيه .
    ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا من فقهاء الأمصار المعروفين الذي أدخله بعض المتأخرين في مذهب مالكين ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس ، ولم يجر على أصول مذهبه ، لأن علة تحريم صوم يوم العيد والفطر عنده أن الله تعالى يكلف عباده في كل سنة عبادتين عظيمتين والأمر بهما عام لكل من يستطيعهما ، وإحداهما تجب في العمر مرة واحدة وهي الحج ، والثانية تجب كل سنة في شهر رمضان منها ، وهي الصوم ، فإذا انتهت عبادة الصوم ألزم الله الناس كلهم أن يكونوا في ضيافته يوم النحر ويوم عيد الفطر .
    فمن صام في أحد اليومين أعرض عن ضيافة الله ، والإعراض عن ضيافته تعالى لا يجوز
    فإلحاق يوم المولد بيوم العيد إلحاق لا أساس له ، لأنه إلحاق ليس بجامع بينهما ولا نفي فارق ولا إلحاق ألبتة إلا بجامع أو نفي فارق .
    وكل من لمس يطمس الله بصيرته يعلم أن الحق الذي لا شك فيه هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
    ومعلوم أن جعل يوم المولد كيوم العيد في منع الصوم لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا أحد من الأئمة الأربعة .
    فهو تشريع لاستقباح قربة الصوم ومنعها في يوم المولد من غير استناد إلى وحي ولا قياس صحيح ولا قول أحد ممن يقتدى به .
    ومما لا نزاع فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله الله رحمه للعالمين كما قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ورسالته صلى الله عليه وسلم هي أعظم نعمة عل الخلق كما بينه علماء التفسير في الكلام على قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } [ إبراهيم : 28 ] الآية ، والخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه ، والشر كل الشر في تشريع ما لم يشرعه والتقول عليه بما لم يقله .
    فالمقلدون لمالك مثل هذا التقليد الأعمى يعتقدون أن هذا الكلام الذي ذكره الحطاب عن زروق وابن عباد وابن عاشر ، أنه هو مذهب مالك وأنه من شرع الله ودينه ، وأنه ما دام من مذهب مالك ، فاللازم تقديمه على الكتاب والسنة لأنهما لا يجوز العمل إلا للمجتهد المطلق .
    وهذا مثال من بلايا التقليد الأعمى وعظائمه .
    ولا يخفى أن ادعاء أن وجود نعم الله كمولد النبي صلى الله عليه وسلم يدل على استقباح طاعة الله بالصوم في أوقات وجود تلك النعم ظاهر الفساد ، لأن المناسب لنعم الله هو طاعته بأنواع الطاعات كالصوم .
    ولذا تجد الناس ينذرون لله صوم اليوم الذي ينعم الله عليهم فيه بشفاء المريض إتيان الغائب ، وهذا أمر معروف وهو المعقول لا عكسه .
    ومما يوضح هذا أن إنزال القرآن العظيم هو أعظم نعمة على البشر .
    ولأجل ذلك علمهم الله حمده تعالى على هذه النعمة العظمى في أول سورة الكهف في قوله تعالى { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } [ الكهف : 1 ] الآية .
    وقد بين تعالى أنه أنزل هذه النعمة في شهر رمضان ، فكان نزول هذه النعمة في شهر رمضان مقتضياً لصومه لا لجعل أيامه أعياداً يستقبح صومها ، لأن الله تعالى قال { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان }[ البقرة : 185 ]
    وهذا هو أعظم النعم ، وقد رتب على هذا بالفاء قوله بعده ، { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] . الآية فافهم .
    والمقصود بهذا المثال النصيحة للذين لم يقدروا على غير هذا التقليد الأعمى ليبحثوا في كتب المذهب وأمهاته عن أقوال الإمام وكبار أصحابه ليفرقوا بينهما وبين أنواع الاستحسان التي لا مستند لها ، التي يدخلها المتأخرون وقتاً بعد وقت وهي ظاهرة الفساد عند من رزقه الله علماً بكتاب الله وسنة رسوله .
    ومما لا شك فيه أن أقوال مالك وكبراء أصحابه مثلاً ، أحرى بالصواب في الجملة من استحسان ابن عباس وابن عاشر وأمثالهما .
    التنبيه العاشر .

    اعلم أن الدعوى التي اتفق عليها متأخرون الأصوليين التي تتضمن حكمهم على خالق السماوات والأرض جل وعلا لا يجوز لمسلم يريد الحق والإنصاف أن يعقتدها ، ولا أن يصدقهم فيها لظهور عدم صحتها ومخالفتها للنص ، والحكم فيها على الله بلا مستند ، وهو جل وعلا الذي يحكم لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب .
    وهذه الدعوى المذكورة هي المتركبة مما يأتي ، وهو أن الاجتهاد قد انقرض في الدنيا واسند بابه .
    وأن الله تعالى محكوم عليه بأن لا يخلق مجتهداً ولا يعلم أحداً من خلقه علماً يمكن أن يكون به مجتهداً إلى ظهور المهدي المنتظر .
    وأنه لا يجوز لأحد أن يعمل بكتاب ولا سنة ولا أن يقلد أحداً كائناً من كان غير الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة ، كما نص على هذه الدعوى حاكياً إجماعهم عليها صاحب مراقي السعود في قوله :
    والمجمع اليوم عليه الأربعه ... وقفو غيرها الجميع منعه
    حتى يجيء الفاطم المجدد ... دين الهدى لأنه مجتهد
    ومراده بالفاطمي المهدي المنتظر لأنه شريف .
    وقوله : حتى يجيء . حرف غاية ، والمغيابه ، منع تقليد أحد غير الأربعة المذكور في قوله : وقفوا غيرها الجميع منعه .
    وهذا صريح في أنهم حاكمون على الله القدير العليم ، بأنه لا يخلق مجتهداً قبل وجود المهدي المنتظر ، وهذا الذي قاله صاحب مراقي السعود هو المقرر في كتب المتأخرين من الأصوليين من أهل المذاهب المدونة .
    وهذا الحكم على الله الذي كل يوم هو في شأن بأنه لا يخلق مجتهداً قبل المهدي من مدة انقراض الاجتهاد المزعوم هو يا أخي كما ترى .
    ولا شك أنك إن لم يعمك التعصب المذهبي تقطع أنه لا مستند له ، وهذا الذي ذكره صاحب مراقي السعود قد صرح بما يناقضه في قوله قبله :
    والأرض لا عن قائم مجتهد ... تخلو إلى تزلزل القواعد
    وهذا النقيض الأخير هو الصحيح الموافق للحق .
    لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله » الحديث . وهو حديث مشهور متفق عليه لا نزاع في صحته .
    ولا شك في أن هذه الطائفة التي صرح النبي صلى الله عليه وسلم : بأنها لا تزال ظاهره على الحق حتى يأتي أمر الله أنها طائفة على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وليست ألبتة من المقلدين التقليد الأعمى .
    لأن الحق هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب ولاسنة كما قال تعالى في سورة النساء : { ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ } [ النساء : 170 ] وقال في الأنعام : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق } [ الأنعام : 66 ] . وقال في النمل { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } [ النمل : 79 ] وقال في يونس : { ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ } [ يونس : 108 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
    فدعوى أن الأرض لم يبق فيها مجتهد ألبتة ، وأن ذلك مستمر إلى ظهور المهدي المنتظر مناقضة لهذا الحديث الثابت ثبوتاً لا مطعن فيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
    ومما لا نزاع فيه أن كل ما يناقض الحق هو ضلال ، لأن الله جل وعلا يقول : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال فأنى تُصْرَفُونَ } [ يونس : 32 ] . والعلم عند الله تعالى .
    التنبيه الحادي عشر

    اعلم يا أخي أن هذا الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واعتقاد الاستغناء عنهما بالمذاهب المدونة الذي عم جل من في المعمورة في المسلمين من أعظم المآسي والمصائب ، والدواهي اتي دهت المسلمين من مدة قرون عديدة .
    ولا شك أن النتائج الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن الكتاب والسنة من جملتها ما عليه المسلمون في واقعهم الآن من تحكيم القوانين الوضعية المنافي لأصل الإسلام .
    لأن الكفار إنما احتاجوهم بفصلهم عن دينهم بالغزو الفكري عن طرق الثقافة وإدخال الشبه والشكوك في دين الإسلام .
    ولو كان المسلمون يتعلمون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويعملون بما فيهما لكان ذلك حصناً منيعاً لهم من تأثير الغزو الفكر في عقائدهم ودينهم .
    ولكن لما تركوا الوحي ونبذوه وراء ظهورهم واستبدلوا به أقوال الرجال لم تقم لهم أقوال الرجال ومذاهب الأئمة رحمهم الله مقام كلام الله والاعتصام بالقرآن ، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والتحصين بسنته .
    ولذلك وجد الغزو الفكري طريقاً إلى قلوب الناشئة من المسلمين :
    ولو كان سلاحهم المضاد ... القرآن والسنة لم يجد إليهم سبيلا
    ولا شك أن كل منصف يعلم أن كلام الناس ، ولو بلغوا ما بلغوا من العلم والفضل ، لا يمكن أن يقوم مقام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .
    وبالجملة فمما لا شك فيه أن هذا الغزو الفكري الذي قضى على كيان المسلمين ، ووحدتهم وفصلهم عن دينهم ، لو صادفهم وهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله لرجع مدحوراً في غاية الفشل لوضوح أدلة الكتاب والسنة ، وكون الغزو الفكري المذكور لم يستند إلا على الباطل والتمويه كما هو معلوم )) انتهى

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: دعوة إلى التفاعل والمدارسة لشرح كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله

    يقول الإمام الهمام ابن القيم الجوزية رحمه الله في مقدمة مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 27) مبينا فضل فهم القران والسنة وإتباعهما وخيبة وخسارة من أعرض عنهما وأتبع أراء الرجال
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
    وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
    الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ، وَقَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ، الْفَارِقُ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ، وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ، أَنْزَلَهُ لِنَقْرَأَهُ تَدَبُّرًا، وَنَتَأَمَّلَهُ تَبَصُّرًا، وَنَسْعَدَ بِهِ تَذَكُّرًا، وَنَحْمِلَهُ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهِ وَمَعَانِيهِ، وَنُصَدِّقَ بِهِ وَنَجْتَهِدَ عَلَى إِقَامَةِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَنَجْتَنِي ثِمَارَ عُلُومِهِ النَّافِعَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ أَشْجَارِهِ، وَرَيَاحِينَ الْحِكَمِ مِنْ بَيْنِ رِيَاضِهِ وَأَزْهَارِهِ، فَهُوَ كِتَابُهُ الدَّالُّ عَلَيْهِ لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَتَهُ، وَطَرِيقُهُ الْمُوَصِّلَةُ لِسَالِكِهَا إِلَيْهِ، وَنُورُهُ الْمُبِينُ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَرَحْمَتُهُ الْمُهْدَاةُ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالسَّبَبُ الْوَاصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ إِذَا انْقَطَعَتِ الْأَسْبَابُ، وَبَابُهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مِنْهُ الدُّخُولُ، فَلَا يُغْلَقُ إِذَا غُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا تَمِيلُ بِهِ الْآرَاءُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَالنُّزُلُ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلَا تُقْلِعُ سَحَائِبُهُ، وَلَا تَنْقَضِي آيَاتُهُ، وَلَا تَخْتَلِفُ دِلَالَاتُهُ، كُلَّمَا ازْدَادَتِ الْبَصَائِرُ فِيهِ تَأَمُّلًا وَتَفْكِيرًا، زَادَهَا هِدَايَةً وَتَبْصِيرًا، وَكُلَّمَا بَجَسَتْ مَعِينُهُ فَجَّرَ لَهَا يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ تَفْجِيرًا، فَهُوَ نُورُ الْبَصَائِرِ مِنْ عَمَاهَا، وَشِفَاءُ الصُّدُورِ مِنْ أَدْوَائِهَا وَجَوَاهَا، وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَلَذَّةُ النُّفُوسِ، وَرِيَاضُ الْقُلُوبِ، وَحَادِي الْأَرْوَاحِ إِلَى بِلَادِ الْأَفْرَاحِ، وَالْمُنَادِي بِالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ: يَا أَهْلَ الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، نَادَى مُنَادِي الْإِيمَانِ عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31] .
    أَسْمَعَ وَاللَّهِ لَوْ صَادَفَ آذَانًا وَاعِيَةً، وَبَصَّرَ لَوْ صَادَفَ قُلُوبًا مِنَ الْفَسَادِ خَالِيَةً، لَكِنْ عَصَفَتْ عَلَى الْقُلُوبِ هَذِهِ الْأَهْوَاءُ فَأَطْفَأَتْ مَصَابِيحَهَا، وَتَمَكَّنَتْ مِنْهَا آرَاءُ الرِّجَالِ فَأَغْلَقَتْ أَبْوَابَهَا وَأَضَاعَتْ مَفَاتِيحَهَا، وَرَانَ عَلَيْهَا كَسْبُهَا فَلَمْ تَجِدْ حَقَائِقُ الْقُرْآنِ إِلَيْهَا مَنْفَذًا، وَتَحَكَّمَتْ فِيهَا أَسْقَامُ الْجَهْلِ فَلَمْ تَنْتَفِعْ مَعَهَا بِصَالِحِ الْعَمَلِ.
    وَا عَجَبًا لَهَا! كَيْفَ جَعَلَتْ غِذَاءَهَا مِنْ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّتِي لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَلَمْ تَقْبَلِ الِاغْتِذَاءَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَنُصُوصِ حَدِيثِ نَبِيِّهِ الْمَرْفُوعِ، أَمْ كَيْفَ اهْتَدَتْ فِي ظُلَمِ الْآرَاءِ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ، وَخَفِيَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ؟ .
    وَاعَجَبًا! كَيْفَ مَيَّزَتْ بَيْنَ صَحِيحِ الْآرَاءِ وَسَقِيمِهَا، وَمَقْبُولِهَا وَمَرْدُودِهَا، وَرَاجِحِهَا وَمَرْجُوحِهَا، وَأَقَرَّتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بِالْعَجْزِ عَنْ تَلَقِّي الْهُدَى وَالْعِلْمِ مِنْ كَلَامِ مَنْ كَلَامُهُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ الْكَفِيلُ بِإِيضَاحِ الْحَقِّ مَعَ غَايَةِ الْبَيَانِ وَكَلَامِ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاسْتَوْلَى كَلَامُهُ عَلَى الْأَقْصَى مِنَ الْبَيَانِ؟ .
    كَلَّا، بَلْ هِيَ وَاللَّهِ فِتْنَةٌ أَعْمَتِ الْقُلُوبَ عَنْ مَوَاقِعِ رُشْدِهَا، وَحَيَّرَتِ الْعُقُولَ عَنْ طَرَائِقِ قَصْدِهَا، يُرَبَّى فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ.
    وَظَنَّتْ خَفَافِيشُ الْبَصَائِرِ أَنَّهَا الْغَايَةُ الَّتِي يَتَسَابَقُ إِلَيْهَا الْمُتَسَابِقُونَ، وَالنِّهَايَةُ الَّتِي تَنَافَسَ فِيهَا الْمُنَافِسُونَ، وَتَزَاحَمُوا عَلَيْهَا، وَهَيْهَاتَ، أَيْنَ السُّهَى مِنْ شَمْسِ الضُّحَى؟ وَأَيْنَ الثَّرَى مِنْ كَوَاكِبِ الْجَوْزَاءِ؟ وَأَيْنَ الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ تُضْمَنْ لَنَا عِصْمَةُ قَائِلِهِ بِدَلِيلٍ مَعْلُومٍ، مِنَ النَّقْلِ الْمُصَدَّقِ عَنِ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ؟ وَأَيْنَ الْأَقْوَالُ الَّتِي أَعَلَا دَرَجَاتِهَا أَنْ تَكُونَ سَائِغَةَ الِاتِّبَاعِ، مِنَ النُّصُوصِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَقْدِيمُهَا وَتَحْكِيمُهَا وَالتَّحَاكُمُ إِلَيْهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ؟ وَأَيْنَ الْآرَاءُ الَّتِي نَهَى قَائِلُهَا عَنْ تَقْلِيدِهِ فِيهَا وَحَذَّرَ، مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي فَرَضَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَا وَيَتَبَصَّرَ؟ وَأَيْنَ الْمَذَاهِبُ الَّتِي إِذَا مَاتَ أَرْبَابُهَا فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ، مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي لَا تَزُولُ إِذَا زَالَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ؟

    سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا حُرِمَ الْمُعْرِضُونَ عَنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ، وَاقْتِبَاسِ الْعِلْمِ مِنْ مِشْكَاتِهِ مِنْ كُنُوزِ الذَّخَائِرِ؟ ! وَمَاذَا فَاتَهُمْ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَاسْتِنَارَةِ الْبَصَائِرِ؟ قَنَعُوا بِأَقْوَالٍ اسْتَنْبَطَتْهَا مَعَاوِلُ الْآرَاءِ فِكْرًا، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا زُبُرًا، وَأَوْحَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، فَاتَّخَذُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقُرْآنَ مَهْجُورًا.
    دَرَسَتْ مَعَالِمُ الْقُرْآنِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَهَا، وَدُثِرَتْ مَعَاهِدُهُ عِنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يَعْمُرُونَهَا، وَوَقَعَتْ أَلْوِيَتُهُ وَأَعْلَامُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَلَيْسُوا يَرْفَعُونَهَا، وَأَفَلَتْ كَوَاكِبُهُ النَّيِّرَةُ مِنْ آفَاقِ نُفُوسِهِمْ فَلِذَلِكَ لَا يُحِبُّونَهَا، وَكَسَفَتْ شَمْسُهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ ظُلَمِ آرَائِهِمْ وَعَقْدِهَا فَلَيْسُوا يُبْصِرُونَهَا.
    خَلَعُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ عَنْ سُلْطَانِ الْحَقِيقَةِ، وَعَزَلُوهَا عَنْ وِلَايَةِ الْيَقِينِ، وَشَنُّوا عَلَيْهَا غَارَاتِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَلَا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْهَا مِنْ جُيُوشِهِمْ كَمِينٌ بَعْدَ كَمِينٍ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الضَّيْفِ عَلَى أَقْوَامٍ لِئَامٍ، فَعَامَلُوهَا بِغَيْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَتَلَقَّوْهَا مِنْ بَعِيدٍ، وَلَكِنْ بِالدَّفْعِ فِي صُدُورِهَا وَالْأَعْجَازِ، وَقَالُوا: مَا لَكِ عِنْدَنَا مِنْ عُبُورٍ، وَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ، فَعَلَى سَبِيلِ الِاجْتِيَازِ، أَنْزَلُوا النُّصُوصَ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَهُ السَّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ وَمَا لَهُ حُكْمٌ نَافِذٌ وَلَا سُلْطَانٌ، الْمُتَمَسِّكُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ صَاحِبُ ظَوَاهِرَ، مَبْخُوسٌ حَظُّهُ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَالْمُقَلِّدُ لِلْآرَاءِ الْمُتَنَاقِضَةِ الْمُتَعَارِضَةِ وَالْأَفْكَارِ الْمُتَهَافِتَةِ لَدَيْهِمْ هُوَ الْفَاضِلُ الْمَقْبُولُ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، الْمُقَدِّمُونَ لِنُصُوصِهَا عَلَى غَيْرِهَا جُهَّالٌ لَدَيْهِمْ مَنْقُوصُونَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] .
    حُرِمُوا وَاللَّهِ الْوُصُولَ، بِعُدُولِهِمْ عَنْ مَنْهَجِ الْوَحْيِ، وَتَضْيِيعِهِمُ الْأُصُولَ، وَتَمسَّكُوا بِأَعْجَازٍ لَا صُدُورَ لَهَا، فَخَانَتْهُمْ أَحْرَصَ مَا كَانُوا عَلَيْهَا، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ أَسْبَابُهَا أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا، حَتَّى إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، وَتَمَيَّزَ لِكُلِّ قَوْمٍ حَاصِلُهُمُ الَّذِي حَصَّلُوهُ، وَانْكَشَفَتْ لَهُمْ حَقِيقَةُ مَا اعْتَقَدُوهُ، وَقَدِمُوا عَلَى مَا قَدَّمُوهُ {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] وَسَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ عِنْدَ الْحَصَادِ لَمَّا عَايَنُوا غَلَّةَ مَا بَذَرُوهُ.
    فَيَا شِدَّةَ الْحَسْرَةِ عِنْدَمَا يُعَايِنُ الْمُبْطِلُ سَعْيَهُ وَكَدَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَيَا عُظْمَ الْمُصِيبَةِ عِنْدَمَا يَتَبَيَّنُ بَوَارِقَ أَمَانِيهِ خُلَّبًا، وَآمَالَهُ كَاذِبَةً غُرُورًا، فَمَا ظَنُّ مَنِ انْطَوَتْ سَرِيرَتُهُ عَلَى الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ لِلْآرَاءِ بِرَبِّهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ؟ وَعُذْرُ مَنْ نَبَذَ الْوَحْيَيْنِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فِي يَوْمٍ لَا تَنْفَعُ الظَّالِمِينَ فِيهِ الْمَعَاذِرُ؟
    أَفَيَظُنُّ الْمُعْرِضُ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ رَبِّهِ بِآرَاءِ الرِّجَالِ؟ أَوْ يَتَخَلَّصَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ بِكَثْرَةِ الْبُحُوثِ وَالْجِدَالِ، وَضُرُوبِ الْأَقْيِسَةِ وَتَنَوُّعِ الْأَشْكَالِ؟ أَوْ بِالْإِشَارَاتِ وَالشَّطَحَاتِ، وَأَنْوَاعِ الْخَيَالِ؟
    هَيْهَاتَ وَاللَّهِ، لَقَدْ ظَنَّ أَكْذَبَ الظَّنِّ، وَمَنَّتْهُ نَفْسُهُ أَبْيَنَ الْمُحَالِ، وَإِنَّمَا ضُمِنَتِ النَّجَاةُ لِمَنْ حَكَّمَ هُدَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَتَزَوَّدَ التَّقْوَى وَائْتَمَّ بِالدَّلِيلِ، وَسَلَكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْوَحْيِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

    وَبَعْدُ، فَلَمَّا كَانَ كَمَالُ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُمَا الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ، وَبِتَكْمِيلِهِ لِغَيْرِهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ خَاسِرٌ إِلَّا مَنْ كَمَّلَ قُوَّتَهُ الْعِلْمِيَّةَ بِالْإِيمَانِ، وَقُوَّتَهُ الْعَمَلِيَّةَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَمَّلَ غَيْرَهُ بِالتَّوْصِيَةِ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ، فَالْحَقُّ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ، وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِمَا، وَالتَّوَاصِي بِهِمَا كَانَ حَقِيقًا بِالْإِنْسَانِ أَنْ يُنْفِقَ سَاعَاتِ عُمْرِهِ بَلْ أَنْفَاسَهُ فِيمَا يَنَالُ بِهِ الْمَطَالِبَ الْعَالِيَةَ، وَيَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهِ وَإِثَارَةِ دَفَائِنِهِ، وَصَرْفِ الْعِنَايَةِ إِلَيْهِ، وَالْعُكُوفِ بِالْهِمَّةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ الْكَفِيلُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَالْمُوَصِّلُ لَهُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، فَالْحَقِيقَةُ وَالطَّرِيقَةُ، وَالْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ الصَّحِيحَةُ، كُلُّهَا لَا تُقْتَبَسُ إِلَّا مِنْ مِشْكَاتِهِ، وَلَا تُسْتَثْمَرُ إِلَّا مِنْ شَجَرَاتِهِ.
    وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ نُنَبِّهُ عَلَى هَذَا بِالْكَلَامِ عَلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأُمِّ الْقُرْآنِ، وَعَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَطَالِبِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ وَسَائِلِهَا وَغَايَاتِهَا، وَمَوَاهِبِهَا وَكَسْبِيَّاتِهَا، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُ هَذِهِ السُّورَةِ مَقَامَهُا، وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا.
    وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ الْتُكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: دعوة إلى التفاعل والمدارسة لشرح كتاب الموطأ للإمام مالك رحمه الله

    ـ قال العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في ( شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 140) عند ذكره للأثر الذي سئل فيه الإمام مالك عن ( الرحمن على العرش استوى ) كيف استوى ؟ قال : فما رأيت مالكا وجد من شيء كموجدته من مقالته وعلاه الرحضاء يعني العرق وأطرق القوم فسري عن مالك وقال : الكيف غير معقول والإستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وإني أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج
    قال الشيخ حفظه الله : كان مالك قويا في سد الذرائع الموصلة إلى الفتن والفساد ونهجه قوي في هذا الباب والعلماء كذلك ، لكن مالكا كان متشددا أكثر من غيره ومنها هذه القضية


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. شرح الموطأ للإمام مالك للشيخ عبد الخالق ماضي حفظه الله (أسطوانة قابلة للإضافة)
    بواسطة محمد بن أحمد أبو حذيفة في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 24-Aug-2017, 04:36 PM
  2. كتاب جديد جد مهم، من مجلدين بعنوان: مخالفة المالكية للإمام مالك.
    بواسطة أبو العصماء عمر المغربي في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 10-Jul-2014, 07:17 PM
  3. شرح ماتع لشرح الصدور بتحريم رفع القبور للإمام الشوكاني رحمه الله (شرح الشيخ عبد المحسن العباد البدر)
    بواسطة أبو عبد المصور مصطفى الجزائري في المنتدى مكتبة الأمين العلمية الــشـاملة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 19-May-2012, 05:07 PM
  4. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 19-May-2011, 12:16 AM
  5. شرح ماتع لشرح الصدور بتحريم رفع القبور للإمام الشوكاني رحمه الله
    بواسطة أبو عبد المحسن زهير التلمساني في المنتدى مكتبة الأمين العلمية الــشـاملة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 02-Jan-2011, 04:14 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •