محبة الصحابة
رضي الله عنهم ومعرفة قدرهم
قال العلامة محمود شاكر – رحمه الله:


ولذلك فإن هذه الأمة مجمعة إلا من شذ منها بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كل منهم من العلم بالقرآن وبسنته صلى الله عليه وسلم وهي ما أوتيه من الوحي كما أوتي النبيون من قبله قدر لا يلحقهم فيه أحد من التابعين سواء كان الصحابي قديم الصحبة له صلى الله عليه وسلم منذ أول البعثة أو كان حديث الصحبة لم يدركه إلا في آخر حياته بأبي هو وأمي قبل أن يقبضه الله إليه ويرفع الوحي وذلك لأن كل صحابي لم يخرج من جاهليته إلى إسلامه إلا بعد أن استوعب بهذا التذوق النافذ العميق قدرًا زائدًا من علم الكتاب المنزل حين تهدم الحاجز الكثيف فانكشف له أن هذا الكتاب كلام الله المباين لكلام البشر والجهد الذي بذله كل صحابي في هذا التذوق الذي وصفت لا يستطاع تحديده أو تصوره والذي عاناه كل منهم في سبيل هذا التبين الفاصل بين القرآن وبين كلام البشر محنة شديدة على النفس الإنسانية لم تمتحن بمثلها قط ولا يبلغ النظر النفاذ إلى حقيقته ولذلك رفعهم الله درجات فوق سائر عباده وقال لهم: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
هذه صفة الأمة الماضية أما الأمة الحالية!
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوالي أصحابي لو أنفق أحدكم مثل أحدً ذهبًا لم يبلغ مد أحدهم أو نصيفه)).
ولذلك أيضًا شدد علماء الأمة النكير حتى بلغوا التكفير على من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غمس لسانه أو قلمه بسوء الأدب وقلة الحياء من الله في شيء مما وقع بينهم من خلاف أو نزاع أو قتال.
وأحب أن أختم هذا الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عانوا بخبر رواه الإمام أبو عبد الله البخاري في الأدب المفرد قال: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ:


أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ يَوْمًا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: طُوبَى لِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهِ لَوَدِدْنَا أَنَّا رَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ، وَشَهِدْنَا مَا شَهِدْتَ. فَاسْتُغْضِبَ -غضب غضبا شديد-، قال ابن نفير: فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ، مَا قَالَ إِلاَّ خَيْرًا، ثُمَّ أَقْبَلَ -المقداد- عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا يَحْمِلُ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ يَتَمَنَّى مُحْضَرًا غَيَّبَهُ اللَّهُ عَنْهُ؟ لاَ يَدْرِي لَوْ شَهِدَهُ كَيْفَ يَكُونُ فِيهِ؟ وَاللَّهِ، لَقَدْ حَضَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْوَامٌ كَبَّهُمُ اللَّهُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ، لَمْ يُجِيبُوهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ، أَوَلاَ تَحْمَدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ أَخْرَجَكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ إِلاَّ رَبَّكُمْ، فَتُصَدِّقُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم، قَدْ كُفِيتُمُ الْبَلاَءَ بِغَيْرِكُمْ -بما لقيه الصحابة-، وَاللَّهِ لَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا نَبِيٌّ قَطُّ، فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا، وَقَدْ فَتْحَ اللَّهُ قُفْلَ قَلْبِهِ بِالإِيمَانِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ، فَلاَ تَقَرُّ عَيْنُهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ، أنَّهَا لِلَّتِي قَالَ اللَّهُ: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ). اهـ.
هذا خبر يدمي القلوب ويبكي الأعين ويلقي الرعب في النفوس وهو عظيم الدلالة على مقدار التصدع والتمزق الذي لقيه العرب الذين كانوا في الجاهلية ثم اجتازوا الهول كله إلى الإسلام وصحبوا تالي القرآن عليهم صلوات الله عليه ولكن يا سوء ما صرنا إليه أن يجترأ مجترء غيبه الله عن محضر لا يدري لو شهده كيف يكون فيه؟
فيتهجم على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغمس لسانه وقلمه فيما وقع بينهم من خلاف ويقضي في أمر إسلامهم.
قضاء يوجب له أن يقول إن فلانا وفلانا وفلانا من الصحابة لم يدخل الإيمان قلوبهم قط.
اللهم اغفر لنا وتغمدنا برحمتك وقنا عذاب النار هذا أيضا مختصر جواب السؤال الثالث مع استطراد لا يلتحم به ولكنه لا ينفصل عنه.
المحاضرة السادسة والأخير ألقاها في قا عة المحاضرات في
المربع ليلة 8 ربيع الثاني 1396.
من كتابي :لاتسبوا أصحابي -بين العلامة محمود شاكر ومعاصريه وسيد قطب ومؤيديه
ط.دار سبيل المؤمنين