النتائج 1 إلى 6 من 6
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    المشاركات
    14

    افتراضي أنواع المحبة وتعلقها بالتوحيد والعبادة :


    ذكر أنواع المحبة:

    قال الشيخ العثيمين في القول المفيد:
    أصل الأعمال كلها هو المحبة، فالإنسان لا يعمل إلا لما يحب، إما لجلب منفعة، أو لدفع مضرة، فإذا عمل شيئاً، فلأنه يحبه إما لذاته كالطعام : أو لغيره كالدواء.
    وعبادة الله مبنية على المحبة، بل هي حقيقة العبادة، إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشراً لا روح فيها، فإذا كان الإنسان في قلبه محبة لله والوصول إلى جنته، فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك.
    ولهذا لما أحب المشركون آلهتهم توصلت بهم هذه المحبة إلى أن عبدوها من دون الله أو مع الله.
    والمحبة تنقسم إلى قسمين :
    القسم الأول : محبة عبادة، وهي التي توجب التذلل والتعظيم، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه ما يقتضي أن يمتثل أمره ويجتنب نهيه، وهذه خاصة بالله، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة، فهو مشرك شركاً أكبر، ويعبر العلماء عنها بالمحبة الخاصة .
    القسم الثاني: محبة ليست بعبادة في ذاتها، وهذه أنواع:
    النوع الأول: المحبة لله وفي الله، وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله، أي: كون الشيء محبوباً لله تعالى من أشخاص: كالأنبياء، والرسل، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
    أو أعمال: كالصلاة، والزكاة، وأعمال الخير، أو غير ذلك.
    وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله .
    النوع الثاني: محبة إشفاق ورحمة، وذلك كمحبة الولد، والصغار، والضعفاء، والمرضى.
    النوع الثالث: محبة إجلال وتعظيم لا عبادة، كمحبة الإنسان لوالده، ولمعلمه، ولكبير من أهل الخير.
    النوع الرابع: محبة طبيعية ، كمحبة الطعام ، والشراب ، والملبس ، والمركب ، والمسكن .
    وأشرف هذه الأنواع النوع الأول، والبقية من قسم المباح، إلا إذا اقترن بها ما يقتضى التعبد صارت عبادة، فالإنسان يحب والده محبة إجلال وتعظيم، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب من أجل أن يقوم ببر والده صارت عبادة، وكذلك يحب ولده محبة شفقة، وإذا اقترن بها ما يقتضي أن يقوم بأمر الله بإصلاح هذا الولد صارت عبادة .
    وكذلك المحبة الطبيعية، كالأكل والشرب والملبس والمسكن إذا قصد بها الاستعانة على عبادة صارت عبادة، ولهذا " حبب للنبي ( النساء والطيب " من هذة الدنيا، فحبب إليه النساء، لأن ذلك مقتضى الطبيعة ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، وحبب إليه الطيب، لأنه ينشط النفس ويريحها ويشرح الصدر، ولأن الطيبات للطيبين، والله طيب لا يقبل إلا طيباً.
    فهذه الأشياء إذا اتخذها الإنسان بقصد العبادة صارت عبادة، قال النبي ( : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " .
    وقال العلماء : إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، قالوا : الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذا أمر متفق عليه ." اهـ

    قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في القول السديد شرح كتاب التوحيد:
    أصل التوحيد وروحه إخلاص المحبة لله وحده وهي أصل التأله والتعبد له بل هي حقيقة العبادة ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه، وتسبق محبته جميع المحاب وتغلبها ويكون لها الحكم عليها بحيث تكون سائر محاب العبد تبعا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه .
    ومن تفريعها وتكميلها الحب في الله والبغض في الله فيحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص ويبغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال، ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه، وبذلك يكمل إيمان العبد وتوحيده .
    أما اتخاذ أنداد من الخلق يحبهم كحب الله ويقدم طاعتهم على طاعة الله ويلهج بذكرهم ودعائهم فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وصاحب هذا الشرك قد انقطع قلبه من ولاية العزيز الحميد، وتعلق بغيره ممن لا يملك له شيئا، وهذا السبب الواهي الذي تعلق به المشركون سينقطع يوم القيامة أحوج ما يكون العبد لعمله وستنقلب هذه المودة والموالاة بغضا وعداوة .
    واعلم أن أنواع المحبة ثلاثة أقسام :
    الأول : محبة الله التي هي أصل الإيمان والتوحيد .
    الثاني : المحبة في الله وهي محبة أنبياء الله ورسله وأتباعهم ومحبة ما يحبه الله من الأعمال والأزمنة والأمكنة وغيرها وهذه تابعة لمحبة الله ومكملة لها .
    الثالث : محبة مع الله وهي محبة المشركين لآلهتهم وأندادهم من شجر وحجر وبشر وملك وغيرها وهي أصل الشرك وأساسه .
    وهنا قسم رابع وهو المحبة الطبيعية التي تتبع ما يلائم العبد ويوافقه من طعام وشراب ونكاح ولباس وعشرة وغيرها، وهذه إذا كانت مباحة إن أعانت على محبة الله وطاعته دخلت في باب العبادات، وإن صدت عن ذلك وتوصل بها إلى ما لا يحبه الله دخلت في المنهيات، وإلا بقيت من أقسام المباحات، والله أعلم ." اهـ
    المحبة من شروط لاإله إلا الله:

    قال الشيخ حافظ الحكمي في معارج القبول:
    و السابع:-أي: من الشروط- المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها وبغض ما ناقض ذلك قال الله عز و جل: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله" البقرة 561 ، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم" المائدة 45 فأخبرنا الله عز وجل أن عباده المؤمنين أشد حبا له، وذلك لأنهم لم يشركوا معه في محبته أحدا، كما فعل مدعو محبته من المشركين الذين اتخذوا من دونه أندادا يحبونه كحبه، وعلامة حب العبد ربه تقديم محابه وإن خالفت هواه، وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله ورسوله، ومعاداة من عاداه واتباع رسوله صلى الله عليه و سلم، واقتفاء أثره، وقبول هداه وكل هذه العلامات شروط في المحبة، لا يتصور وجود المحبة مع عدم شرط منها، قال الله تبارك وتعالى: أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا" الفرقان 34 الآيات، وقال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله" الجاثية 32، فكل من عبد مع الله غيره فهو في الحقيقة عبد لهواه، بل كل ما عصى الله به من الذنوب فسببه تقديم العبد هواه على أوامر الله عز و جل ونواهيه، وقال تعالى في شأن الموالاة والمعاداة فيه "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم أنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده" الممتحنه 4 الآية، وقال تعالى " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أوإخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان" الجاثية 22 الآية، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياءه بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم" المائدة 15 الآيات، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون" التوبة 32 42 الآيتين، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" الممتحنه 1 آلى آخر السورة، وغير ذلك من الآيات، وقال تعالى في اشتراط اتباع رسوله صلى الله عليه و سلم: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين" آل عمران 13 وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" أخرجاه من حديث أنس رضي الله عنه، وفيهما عنه وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفي كتاب الحجة بسند صحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" – الحديث فيه مقال- وذلك الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الخبر عن الله والأمر بما يحبه الله ويرضاه والنهي عما يكره ويأباه فإذا امتثل العبد ما أمره به واجتنب ما نهى الله عنه وإن كان ذلك مخالفا لهواه كان مؤمنا حقا، فكيف إذا كان لا يهوى سوى ذلك، وفي الحديث "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض فيه" وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، وقد أصبح غالب مؤاخاة الناس اليوم على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا" وقال الحسن البصري وغيره من السلف: ادعى قوم محبة الله عز وجل فابتلاهم الله بهذه الآية "قل إن كنتم تحبون الله فآتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسوله فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين" وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" قال حدثنا محمد بن عبادة أخبرنا يزيد حدثنا سليم وأثنى عليه حدثنا سعيد بن ميناء حدثنا أو سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا فقال بعضهم إنهم نائمون وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا إن مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا أولوها له يفقهها فقال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان فقالوا فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه و سلم فمن أطاع محمدا صلى الله عليه و سلم فقد أطاع الله ومن عصى محمدا صلى الله عليه و سلم فقد عصى الله ومحمد صلى الله عليه و سلم فرق بين الناس" ومن هنا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم، فإذا علم أنه لا تتم محبة الله عز و جل إلا بمحبة ما يحبة وكراهة ما يكرهه فلا طريق إلى معرفة ما يحبه تعالى ويرضاه وما يكرهه ويأباه إلا باتباع ما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم واجتناب ما نهى عنه، فصارت محبته مستلزمة لمحبة رسول الله وتصديقه ومتابعته ولهذا قرن محبته بمحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم في مواضع كثيرة من القرآن كقوله عز و جل" قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجها في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" التوبه 42 وغير ذلك من الآيات ."اهـ
    وقال: ومن تتبع القرآن والسنة وتدبر نصوصهما تبين له أنها لا تخرج عن الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وما يتعلق بذلك ولم يخلق الله الخلق إلا لذلك، التعريف بالشرك وهو أي: الشرك الذي تقدم ذكره في المتن وذكر النصوص فيه في الشرح اتخاذ العبد غير الله من نبي أو ولي أو ملك أو قبر أو جني أو شجر أو حجر أو حيوان أو نار أو شمس أو قمر آو كوكب أو غير ذلك ندا من دون الله مساويا به الله يحبه كحب الله ويخافه ويخشاه كخشية الله ويتبعه على غير مرضاة الله ويطيعه في معصية الله ويشركه في عبادة الله مضاهي به الله، قال الله تعالى "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله " البقرة 165 وحكى عنهم في اختصامهم في النار" قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين" الشعراء 96 98، وقد أخبرنا الله عز و جل أنهم لم يسووهم به في خلق ولا رزق ولا إحياء ولا إماتة ولا في شيء من تدبير الملكوت، بل أخبرنا أنهم مقرون لله تعالى بالربوبية "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" الزخرف 9 ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تقدمت ولكنهم سووهم بالله تعالى في حبهم إياهم كحب الله ولم يجعلوا المحبة لله وحده، في خوفهم منهم وخشيتهم كخشية الله ولم يجعلوا الخشية لله والخوف من الله وحده، وأشركوهم في عبادة الله ولم يفردوا الله بالعبادة دون من سواه مع أنهم لم يعبدوهم استقلالا، بل زعموهم شفعاء لهم عند الله ليقربوهم إلى الله زلفى، ولكن اعتقدوا تلك الشفاعة والتقريب ملكا للمخلوق ويطلبونه منه، وأن له أن يشفع بدون إذن الله، والله تعالى يقول "ما من شفيع إلا من بعد إذنه" يونس ،3 ولهذا سمى الله تعالى استشفاعهم ذلك شركا، كما قال تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون" يونس " اهـ

    تفسير آية: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله:

    قال الشيخ العثيمين رحمه الله في القول المفيد:
    قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله...( الآية.
    قوله: من الناس: من للتبعيض، وعلامتها أن يصح أن يحل محلها بعض، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، و(من يتخذ) مبتدأ مؤخر، أي من يجعل لله أنداداً، ومفعولها الأول "أنداداً" مؤخراً، ومفعولها الثاني "من دون الله" مقدماً.
    وقوله: (يتخذ): جاءت بالإفراد مراعاة للفظ "من".
    وقوله: (يحبونهم): بالجمع مراعاة للمعنى.
    وقوله: (أنداداً): جمع ند، وهو الشبيه والنظير، ولهذا قال النبي ( لمن قال له ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده".
    وقوله: (يحبونهم كحب الله): هذا وجه المشابهة، أي: الندية في المحبة يحبونهم كحب الله.
    واختلف المفسرون في قوله: (كحب الله):
    فقيل: يجعلون محبة الأصنام مساوية لمحبة الله، فيكون في قلوبهم محبة لله ومحبة للأصنام، ويجعلون محبة الأصنام كمحبة الله، فيكون المصدر مضافاً إلى مفعوله، أي يحبون الأصنام كحبهم لله.
    وقيل: يحبون هذه الأصنام محبة شديدة كمحبة المؤمنين لله.
    وسياق هذه الآية يؤيد القول الأول.
    وقوله: (والذين آمنوا أشد حباً لله).
    على الرأي الأول يكون معناها: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لله، لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة هؤلاء فيها شرك بين الله وبين أصنامهم.
    وعلى الرأي الثاني معناها: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لأصنامهم، لأن محبة المؤمنين ثابتة في السراء والضراء على برهان صحيح، بخلاف المشركين، فإن محبتهم لأصنامهم تتضاءل إذا مسهم الضر.
    فما بالك برجل يحب غير الله أكثر من محبته لله؟! وما بالك برجل يحب غير الله ولا يحب الله؟! فهذا أقبح وأعظم، وهذا موجود في كثير من المنتسبين للإسلام اليوم، فإنهم يحبون أولياءهم أكثر مما يحبون الله، ولهذا لو قيل له: أحلف بالله، حلف صادقاً أو كاذباً، أما الولي، فلا يحلف به إلا صادقاً.
    وتجد كثيراً منهم يأتون إلى مكة والمدينة ويرون أن زيارة قبر الرسول أعظم من زيارة البيت، لأنهم يجدون في نفوسهم حباً لرسول الله كحب الله أو أعظم، وهذا شرك، لأن الله يعلم أننا ما أحببنا رسول الله إلا لحب الله، ولأنه رسول الله، ما أحببناه لأنه محمد بن عبدالله، لكننا أحببناه، لأنه رسول الله، فنحن نحبه بمحبة الله، لكن هؤلاء يجعلون محبة الله تابعة لمحبة الرسول.
    فهذه الآية فيها محنة عظيمة لكثير من قلوب المسلمين اليوم الذين يجعلون غير الله مثل الله في المحبة، وفيه أناس أيضاً أشركوا بالله في محبة غيره، لا على وجه العبادة الشرعية، لكن على وجه العبادة المذكورة في الحديث، وهي محبة الدرهم والدينار والخميصة والخميلة، يوجد أناس لو فتشت عن قلوبهم، لوجدت قلوبهم ملأى من محبة متاع الدنيا، وحتى هذا الذي جاء يصلي هو في المسجد لكن قلبه مشغول بما يحبه من أمور الدنيا.
    فهذا نوع من أنواع العبادة في الحقيقة، لو حاسب الإنسان نفسه لماذا خلق؟ لعلم أنه خلق لعبادة الله، وأيضاً خلق لدار أخرى ليست هذه الدار، فهذه الدار مجاز يجوز الإنسان منها إلى الدار الأخرى، الدار التي خلق لها والتي يجب أن يعنى بالعلم لها، يا ليت شعري متى يوماً من الأيام فكر الإنسان ماذا عملت؟ وكم بقي لي في هذه الدنيا؟ وماذا كسبت؟ الأيام تمضي ولا أدري هل ازددت قرباً من الله أو بعداً من الله؟ هل نحاسب أنفسنا عن هذا الأمر؟
    فلا بد لكل إنسان عاقل من غاية، فما هي غايته؟
    نحن الآن نطلب العلم للتقرب إلى الله بطلبه، وإعلام أنفسنا، وإعلام غيرنا، فهل نحن كلما علمنا مسألة من المسائل طبقناها؟ نحن على كل حال نجد في أنفسنا قصوراً كثيراً وتقصيراً، وهل نحن إذا علمنا مسألة ندعو عباد الله إليها؟ هذا أمر يحتاج إلى محاسبة، ولذلك، فإن على طالب العلم مسؤولية ليست هينة، عليه أكثر من زكاة المال، فيجب أن يعمل ويتحرك ويبث العلم والوعي في الأمة الإسلامية، وإلا انحرفت عن شرع الله.
    قال ابن القيم رحمه الله: كل الأمور تسير بالمحبة، فأنت مثلاً لا تتحرك لشيء إلا وأنت تحبه، حتى اللقمة من الطعام لا تأكلها إلا لمحبتك لها.
    ولهذا قيل: إن جميع الحركات مبناها على المحبة، فالمحبة أساس العمل، فالإشراك في المحبة إشراك بالله.
    والمحبة أنواع:
    الأول: المحبة لله، وهذه لا تنافي التوحيد، بل هي من كماله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله.
    والمحبة لله هي أن تحب هذا الشيء، لأن الله يحبه، سواء كان شخصاً أو عملاً، وهذا من تمام التوحيد.
    قال مجنون ليلي:
    أمر على الديار ديار ليلى...... أقبل ذا الجدار وذا الجدار
    وما حب الديار شغفن قلبي...ولكن حب من سكن الديارا
    الثاني: المحبة الطبيعية التي لا يؤثرها المرء على محبة الله، فهذه لا تنافي محبة الله، كمحبة الزوجة، والولد، والمال، ولهذا لما سئل النبي (: من أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة". قيل: فمن الرجال؟ قال: "أبوها".
    ومن ذلك: محبة الطعام والشراب واللباس.
    الثالث: المحبة مع الله التي تنافي محبة الله، وهي أن تكون محبة غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله، وذلك إذا جعل هذه المحبة نداً لمحبة الله يقدمها على محبة الله أو يساويها بها.
    الشاهد من هذه الآية: أن الله جعل هؤلاء الذين ساووا محبة الله بمحبة غيره مشركين جاعلين لله أنداداً." اهـ

    قال الشيخ صالح الفوزان في إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد:
    {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} تتمة الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}.
    "{وَمِنَ النَّاسِ}" بعض الناس يعني: المشركين.
    "{مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}" يعني: غير الله.
    "{أَنْدَاداً}" جمع نِدْ، والنِّد معناه: الشبيه والنظير والمثيل، يقال: فلان نِدُّ فلان، بمعنى: أنه يشبهه، وأنه نظيره، وأنه يساويه.
    فاتخاذ الأنداد من دون الله معناه اتخاذ الشركاء، سُمُّوا أنداداً لأن المشركين سوّوهم بالله عزّ وجلّ، وشبّهوهم بالله عزّ وجلّ وأحبوهم محبة عبادة وتذلل.
    "{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}" الحب عمل قلبي ضد البُغض.
    فالمشركون اتخذوا من الأحجار والأشجار والأصنام شركاء لله سوّوهم بالله في المحبة، يحبونهم كما يحبون الله عزّ وجلّ، فالمراد هنا محبة العبادة، فالمشركون يحبون أصنامهم كما يحبون الله عزّ وجلّ محبة عبادة وتذلل.
    "{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}" من المشركين لله، فالمشركون يحبون الله، والمؤمنون يحبون الله، ولكن المشركين يحبون الله ويحبون معه غيره، أما المؤمنون فيحبون الله وحده، ولا يشركون معه غيره في المحبة، فلذلك صار المؤمنون أشد حبًّا لله، لأن محبتهم خالصة، ومحبة المشركين مشتركة، فدلّت الآية على أن المشركين يحبون الله، ولكنهم لمّا أحبوا معه غيره صاروا مشركين، وأن التّوحيد لا يصح إلاَّ بإخلاص المحبة لله عزّ وجلّ.
    فدلّت الآية الكريمة على: أن من تفسير لا إله إلاَّ الله وتفسير التّوحيد إفراد الله بالمحبّة، وأن لا يُحَبَّ معه غيره محبة عبادة بل يُفرد الله جل وعلا بالمحبّة، ولا يُحَبَّ معه غيره، محبة العبادة." اهـ

    قال الشيخ صالح آل الشيخ في كفاية المستزيد شرح كتاب التوحيد:
    وجه الاستدلال بالآية ومناسبتها للباب ظاهرة في أن التشريك في المحبة منافٍ لكلمة التوحيد، مناف للتوحيد من أصله؛ بل حَكَم الله عليهم بأنهم اتخذوا أندادا من دون الله، ووصفهم بأنهم اتخذوا الأنداد في المحبة، والمحبة محركة وهي تبعث على التصرفات.
    فإذن هنا فيه ذكر للمحبة. والمحبة نوع من أنواع العبادة ولما لم يفردوا الله بهذه العبادة صاروا متخذين أندادا من دون الله، وهذا معنى التوحيد ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله."اهـ

    المحبة التي هي من العبادة:

    قال الشيخ صالح آل الشيخ في كفاية المستزيد شرح كتاب التوحيد:
    العبد يجب أن يكون الله جل وعلا أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه، وهذه المحبة المراد منها محبة العبادة، وهي المحبة التي فيها تعلُّقٌ بالمحبوب بما يكون معه امتثال للأمر رغبة واختيارا، ورغب إلى المحبوب، واجتناب النهي رغبة واختيارا، فمحبة العبادة هي المحبة التي تكون في القلب، يكون معها الرغب والرهب، يكون معها الطاعة، يكون معها السعي في مراضي المحبوب والبعد عما لا يحب المحبوب، والموحد ما أتى للتوحيد إلا بشيء وقر في قلبه من محبة الله جل وعلا لأنه دلته ربوبية الله جل وعلا وأنه الخالق وحده وأنه ذو الملكوت وحده وأنه ذو الفضل والنعمة على عباده وحده من أنه محبوب، وأنه يجب أن يُحب، وإذا أحب العبد ربه فإنه يجب عليه أن يوحده بأفعال العبد، أن يوحد الله بأفعاله -يعني أفعال العبد- حتى يكون محبا له على الحقيقة.
    لذلك نقول: المحبة التي هي من العبادة هي المحبة التي يكون فيها إتباع للأمر والنهي ورغب ورهب.
    ولهذا قال طائفة من أهل العلم المحبة المتعلقة بالله ثلاثة أنواع:
    ( محبة الله على النحو الذي وصفنا، هذا نوع من العبادات الجليلة، ويجب إفراد الله جل وعلا بها.
    ( والنوع الثاني: محبة في الله وهو أن يحب الرسل في الله عليهم الصلاة والسلام، وأن يحب الصالحين في الله, يحب في الله وأن يبغض في الله.
    ( والنوع الثالث محبة مع الله وهذه محبة المشركين لآلهتهم؛ فإنهم يحبونها مع الله جل وعلا، فيتقربون إلى الله رغبا ورهبا نتيجة محبة الله، ويتقربون إلى الآلهة رغبا ورهبا نتيجة لمحبتهم لتلك الآلهة.
    ويتضح المقام بتأمل حال المشركين وعبدة الأوثان وعبدة القبور في مثل هذه الأزمنة، فإنك تجد المتوجه لقبر الولي في قلبه من محبة ذلك الولي وتعظيمه ومحبة سدنة ذلك القبر ما يجعله في رغب ورهب وفي خوف وفي طمع وفي إجلال حين يعبد ذلك الولي أو يتوجه إليه بأنواع العبادة؛ لأجل تحصيل مطلوبه، فهذه هي محبة العبادة التي صرفها لغير الله جل وعلا شرك أكبر به؛ بل هي عماد الدين؛ بل هي عماد صلاح القلب، فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون محبا لله جل وعلا، وأن تكون محبته لله جل وعلا أعظم من كل شيء.
    فالمحبة؛ محبة الله وحده هذه -يعني محبة العبادة- هذه من أعظم أنواع العبادات، وإفراد الله بها واجب.
    والمحبة مع الله محبة العبادة هذه شركية، من أحب غير الله جل وعلا معه محبة العبادة فإنه مشرك الشرك الأكبر بالله جل وعلا.
    هذه الأنواع الثلاثة هي المحبة المتعلقة بالله.
    أما النوع الثاني من أنواع المحبة، وهي المحبة المتعلقة بغير الله من جهة المحبة الطبيعية، وهذا أذن فيه الشرع وجائز؛ لأن المحبة فيها ليست محبة العبادة والرغب والرهب الذي هو من العبادة، وإنما هي محبة للدنيا، وذلك كمحبة الوالد لولده والولد لوالده والرجل لزوجته والأقارب لأقربائهم والتلميذ لشيخه والمعلم لأبنائه ونحو ذلك من الأحوال، هذه محبة طبيعية لا بأس بها؛ بل الله جل وعلا جعلها غريزة." اهـ

    وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى:
    والمحبة- كما ذكر العلماء- تنقسم إلى قسمين:
    القسم الأول: محبة العبودية، وهذه يجب أن تكون خالصةً لله عزّ وجلّ، ومحبة العبودية هي التي يكون معها ذل للمحبوب. وهذه لا يجوز صرفها لغير الله، كما لا يجوز السجود لغير الله والذبح لغير الله والنذر لغير الله، فإنه لا تجوز محبة غير الله محبة عبودية يصحبها ذلٌّ وخضوع وطاعةٌ للمحبوب، وإنما هذه حقٌّ لله سبحانه وتعالى.
    ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في "النونية":
    وعبادة الرحمن غاية حبه ........ مع ذلُّ عابده هما قطبان
    وعليك فَلَك العبادة دائر .... وما دار حتى قامت القطبان
    ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان
    ويقول العلماء في تعريف العبادة هي: غاية الذل مع غاية الحب.
    فالعبادة تترّكز على ثلاثة أشياء: على المحبة، وعلى الخوف، وعلى الرجاء.
    فالمحبة والخوف والرجاء هي ركائز العبادة وأساسها، فإذا اجتمعتْ تحقّقت العبادة ونفعت كالصلاة والحج وسائر العبادات، أما إذا اختلّتْ هذه الثلاثة فإن الإنسان وإن صام وإن صلى وإن حج فإنها لا تكون عبادته صحيحة.
    ويقول العلماء: "من عبد الله بالمحبة فقط فهو صوفي"، لأن الصوفية يزعمون أنهم يعبدون الله لأنهم يحبونه فقط، ويقولون: لا نعبده نخاف من ناره ولا نرجو جنته، وإنما نعبده لأننا نحبه. وهذا ضلال.
    "ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئ" لأن المرجئة يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان.
    "ومن عبد الله بالخوف فقط فهو خارجي" لأن الخوارج يكفرون المؤمنين بالمعاصي.
    فالمرجئة أخذوا جانب الرجاء فقط، والصوفية أخذوا جانب المحبة فقط، والخوارج أخذوا جانب الخوف فقط.
    وأهل السنّة والجماعة جمعوا بين الأمور الثلاثة -ولله الحمد-: المحبة مع الخوف والرجاء والذل والانقياد والطاعة، وبنوا على ذلك سائر أنواع التعبُّد والتقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى.
    النوع الثاني: محبة ليستْ محبة عبودية وهي أربعة أقسام:
    القسم الأول: محبة طبيعية كمحبة الإنسان للطعام والشراب والمشتهيات المباحة، كالزوجة والملذات.
    القسم الثاني: محبة إجلال، كمحبة الولد لوالده غير المشرك والكافر، فالولد يحب والده محبة إجلال وتكريم واحترام لأنه والده المحسن إليه والمربِّي له. وهذه محمودة ومأمور بها.
    القسم الثالث: محبة إشفاق، كمحبة الوالد لولده، فالوالد يحب ولده محبة إشفاق.
    القسم الرابع: محبة مصاحبة، كأن تحب شخصاً من أجل مصاحبتك له، إما لكونه زميلاً لك في العمل، أو شريكاً في تجارة، أو صاحباً لك في سفر، فأحببته من أجل المشاركة في شيء من الأشياء.
    هذه الأقسام ليستْ من أنواع العبادة، لأنها ليس معها ذلّ، وليس معها خضوع." اهـ

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2011
    المشاركات
    14

    افتراضي رد: أنواع المحبة وتعلقها بالتوحيد والعبادة :

    آثار محبة الله ونتائجها في الدنيا والآخرة ومغبة محبة غيره سبحانه وتعالى والتعلق بذلك:
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي:
    وقد استقرت حكمة الله به عدلا وفضلا أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وقد ضمن الله سبحانه لمن تاب من الشرك وقتل النفس والزنا أنه يبدل سيئاته حسنات، وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب، وقد قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم" فلا يخرج من هذا العموم ذنب واحد ولكن هذا في حق التائبين خاصة وأما مفعول به كان في كبره شرا مما كان في صغره لم يوفق لتوبة نصوح ولا لعمل صالح ولا استدرك ما فات ولا أحيى ما مات ولا بدل السيئات بالحسنات، فهذا بعيد أن يوفق عند الممات لخاتمة يدخل الجنة، عقوبة له على عمله، فإن الله سبحانه وتعالى يعاقب على السيئة بسيئة أخرى وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى فتضاعف الحسنات، وإذا نظرت إلى حال كثير من المحتضرين وجدتهم يحال بينهم وبين حسن الخاتمة عقوبة لهم على الأعمال السيئة، قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي رحمه الله: واعلم أن لسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسبابا، ولها طرق وأبواب أعظمها الإنكباب على الدنيا وطلبها والحرص عليها والإعراض عن الأخرى والإقدام والجرأة على معاصي الله عز و جل وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض ونصيب من الجرأة والإقدام، فملك قلبه وسبي عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه فلم تنفع فيه تذكرة ولا نجعت فيه موعظة فربما جاءه الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد فلم يتبين له المراد ولا علم ما أراد وإن كرر عليه الداعي وأعاد، قال: ويروى أن بعض رجال الناصر نزل به الموت، فجعل ابنه يقول له: قل لا إله إلا الله فقال: الناصر مولاي فأعاد عليه القول فقال مثل ذلك أصابته غشية، فلما أفاق قال: الناصر مولاي، وكان هذا دأبه كلما له قيل لا إله إلا الله، قال الناصر مولاي ثم قال لابنه: يا فلان الناصر إنما يعرفك بسيفك والقتل القتل ثم مات على ذلك.
    قال عبد الحق رحمه الله: وقيل لآخر ممن أعرفه قل لا إله إلا الله فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والبستان الفلاني افعلوا فيه كذا وقال: وفيما أذن أبو طاهر السلعي أن أحدث به عنه أن رجلا نزل به الموت فقيل له قل لا إله إلا الله فجعل يقول بالفارسية ده يازده، تفسيره عشر بإحدى عشر، وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فجعل يقول: أين الطريق إلى حمام منجاب، قال: وهذا الكلام له قصة، وذلك أن رجلا كان واقفا بإزاء داره، وكان بابها يشبه باب هذا الحمام، فمرت به جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب، فقال: هذا حمام منجاب، فدخلت الدار ودخل وراءها، فلما رأت نفسها فى داره، وعلمت أنه قد خدعها أظهرت له البشر والفرح بإحتماعها معه، وقالت خدعة منها له وتحيلا لتتخلص مما أوقعها فيه وخوفا من فعل الفاحشة: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها، فأخذ ما يصلح، ورجع فوجدها قد خرجت وذهبت ولم تخنه في شيء، فهام الرجل وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول:
    يارب قائلة يوما وقد تعبت ... أين الطريق إلى حمام منجاب.
    فبينا يقول ذلك وإذا بجاريته أجابته من طاق قرنان:
    هل لا جعلت سريعا إذ ظفرت بها ... حرزا على الدار أو قفلا على الباب.
    فازداد هيمانه واشتد هيجانه، ولم يزل كذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا.
    قال: ويرى أن رجلا عشق شخصا فاشتد كلفه به وتمكن حبه من قلبه حتى وقع ألما به ولزم الفراش بسببه وتمنع ذلك الشخص عليه واشتد نفاره عنه، فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده أن يعوده، فأخبر بذلك البائس، ففرح واشتد سروره وانجلى غمه وجعل ينتظر للميعاد الذي ضربه له، فبينا هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما، فقال أنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع فرغبت إليه وكلمته فقال: إنه ذكرني وبرح بي ولا أدخل مداخل الريب ولا أعرض نفسي لمواقع التهم، فعاودته فأبى وانصرف، فلما سمع البائس ذلك أسقط في يده وعاد إلى أشد مما كان به وبدت عليه علائم الموت فجعل يقول فى تلك الحال :
    أسلم ياراحة العليل ... ويا شفاء المدنف النحيل
    رضاك أشهى إلى فؤادى ... من رحمة الخالق الجليل
    فقلت له: يافلان اتق الله، قال: قد كان، فقمت عنه، فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت، فعياذا بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة .
    ولقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح، فلما أصبح، قيل له: أكل هذا خوفا من الذنوب؟، فأخذ تبنة من الأرض، وقال الذنوب أهون من هذه، وإنما أبكى خوفا من الخاتمة.
    وهذا من أعظم الفقه أن يخاف الرجل أن تخدعه ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى، وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه لما احتضر جعل يغمى عليه ثم يفيق ويقرأ "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون"
    فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن تكون حجابا بينهم وبين الخاتمة الحسنى.
    قال: واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد وإنما تكون لمن فيه فساد فى العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى نزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية، ويصطلم قبل الإنابة فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة ويختطفه عند تلك الدهشة، والعياذ بالله.
    قال: ويروى أنه كان بمصر رجل يلزم المسجد للأذان والصلاة فيه، وعليه بهاء الطاعة ونور العبادة، فرقى يوماً المنارة على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دار لنصراني، فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار فافتتن بها، فترك الأذان ونزل إليها ودخل الدار عليها! فقالت له: ما شأنك وما تريد؟ قال: أريدك!! قالت: لماذا؟ قال: قد سلبت لبي وأخذت بمجامع قلبي! قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبداً. قال: أتزوجك، قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك! قال: أتنصر!! قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر الرجل ليتزوجها وأقام معهم في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات فلم يظفر بها وفاته دينه..!"اهـ
    هذا نتيجة التعلق بغير الله، واتباع أهواء النفس المردية التي تؤدي إلى الهلاك والعطب.
    ثم قال رحمه الله: اشتغال القلب بما يصده عن ذلك ويحول بينه وبين الوقوع فيه وهو إما خوف مقلق أو حب مزعج، فمتى خلا القلب من خوف ما فواته أضر عليه من حصول هذا المحبوب أو خوف ما حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب أو محبته ما هو أنفع له وخير له من هذا المحبوب لم يجد بدا من عشق الصور، وشرح هذا أن النفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب أعلى منه، أو خشية مكروه حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب، وهذا يحتاج صاحبه إلى أمرين إن فقدا أو واحدا منهما لم ينتفع بنفسه، أحدهما: بصيرة صحيحة يفرق بها بين درجات المحبوب والمكروه، فيؤثر أعلى المحبوبين على أدناهما، ويحتمل أدنى المكروهين للتخلص من أعلاهما، وهذا خاصة العقل، ولا يعد عاقلا من كان بضد ذلك، بل قد تكون البهائم أحسن حالا منه.
    الثاني: قوة عزم وصبر يتمكن بهما من هذا الفعل والترك، فكثير ما يعرف الرجل قدر التفاوت، ولكن يأتي له ضعف نفسه وهمته وعزيمته على إيثار الأنفع من خسته وحرصه ووضاعة نفسه وخسة همته، ومثل هذا لا ينتفع بنفسه ولا ينتفع به غيره، وقد منع الله سبحانه إمامة الدين إلا من أهل الصبر واليقين، فقال تعالى وبقوله يهتدي المهتدون "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون" وهذا هو الذي ينتفع بعلمه وينتفع به غيره من الناس، وضد ذلك لا ينتفع بعلمه ولا ينتفع به غيره، ومن الناس من ينتفع بعلمه في نفسه ولا ينتفع به غيره، فالأول يمشي في نوره ويمشي الناس في نوره، والثاني قد طفأ نوره فهو يمشي في الظلمات ومن تبعه، والثالث يمشي في نوره وحده. من كانت قوة حبه كلها للمحبوب الأعلى الذي محبة ما سواه باطلة وعذاب على صاحبها صرفه ذلك عن محبة ما سواه وإن أحبه لن يحبه إلا لأجله، أو لكونه وسيلة له إلى محبته، أو قاطعا له عما يضاد محبته وينقصها.
    والمحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب وأن لا يشرك بينه وبين غيره في محبته، وإذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن يشرك في محبته غيره ويمقته لذلك ويبعده ولا يحظيه بقربه ويعده كاذبا في دعوى محبته مع أنه ليس أهلا لصرف قوة المحبة إليه، فكيف بالحبيب الأعلى الذي لا تنبغي المحبة إلا له وحده، وكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبالا، ولهذا لا يغفر سبحانه أن يشرك به في هذه المحبة ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فمحبة الصور تفوت محبة ما هو أنفع للعبد منها، بل يفوت محبة ما ليس له صلاح ولا نعيم ولا حياة نافعة إلا بمحبته وحده فليختر إحدى المحبتين، فإنهما لا يجتمعان في القلب ولا يرتفعان منه، بل من أعرض عن محبة الله وذكره والشوق إلى لقائه ابتلاه بمحبة غيره فيعذب به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، إما بمحبة الأوثان أو محبته الصلبان أو بمحبة النيران أو بمحبة المردان أو بمحبة النسوان أو بمحبة الأثمان أو بمحبة العشراء والخلان أو بمحبة ما هو دون ذلك مما هو في غاية الحقارة والهوان، فالانسان عبد محبوبه كائنا من كان، كما قيل:
    أنت القتيل بكل من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
    فمن لم يكن إلهه مالكه ومولاه، كان إلهه هواه، قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إله هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون."
    فصل:
    وخاصية التعبد الحب مع الخضوع والذل للمحبوب فمن أحب شيئا وخضع له فقد تعبد قلبه له بل التعبد آخر مراتب الحب ويقال له التتيم أيضا، فإن أول مراتبه العلاقة، وسميت علاقة لتعلق الحب بالمحبوب، قال الشاعر:
    وعلقت ليلى وهي ذات تمائم ... ولم يبد للأتراب من ثديها ضخم
    وقال الآخر:
    أعلاقة أم الوليد بعد ما ... أفنان رأسك كالبغام الأبيض.
    ثم بعدها الصبابة، وسميت بذلك لانصباب القلب إلى المحبوب، قال الشاعر
    يشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
    فكانت لقلبي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي.
    ثم الغرام وهو لزوم الحب للقلب لزوما لا ينفك عنه، ومنه سمى الغريم غريما، لملازمته صاحبه، ومنه قوله تعالى: إن عذابها كان غراما" وقد أولع المتأخرون باستعمال هذا اللفظ في الحب وقل أن تجده في أشعار العرب، ثم العشق وهو سفر إفراط المحبة، ولهذا لا يوصف به الرب تبارك وتعالى ولا يطلق في حقه، ثم الشوق وهو سفر القلب إلى المحبوب ، وقد جاء إطلاقها في حق الرب تعالى، كما في مسند الإمام أحمد من حديث عمار بن ياسر أنه صلى صلاة، فأوجز فيها، فقيل له في ذلك، فقال: أما إني دعوت فيها بدعوات كان النبي يدعو بهن: اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضاء والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفذ، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين" وفي أثر آخر: طال شوق الأبرار إلى وجهك وأنا إلى لقائهم أشد شوقا، وهذا هو المعنى الذي عبر عنه بقوله: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وقال بعض أهل البصائر في قوله تعالى" من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله لآت" لما علم سبحانه شدة شوق أوليائه إلى لقائه وأن قلوبهم لا تهدي دون لقائه ضرب لهم أجلا موعدا للقائه تسكن نفوسهم به، وأطيب العيش واللذة على الإطلاق عيش المشتاقين المستأنسين، فحياتهم هي الحياة الطيبة في الحقيقة، ولا حياة للعبد أطيب ولا أنعم ولا أهنأ منها، فهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى "من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة" وليس المراد منها الحياة المشتركة بين المؤمنين والكفار والإبرار والفجار من طيب المأكل والمشرب والملبس والمنكح، بل ربما زاد أعداء الله على أوليائه في ذلك أضعافا مضاعفة، وقد ضمن الله سبحانه لكل من عمل صالحا أن يحييه حياة طيبة، فهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده، وأي حياة أطيب من حياة اجتمعت همومه كلها وصارت هي واحدة في مرضات الله ولم يستشعب قلبه، بل أقبل على الله واجتمعت إرادته وإنكاره التي كانت منقسمة، بكل واد منها شعبة على الله، فصار ذكر محبوبه الأعلى وحبه والشوق إلى لقائه والأنس بقربه وهو المتولي عليه وعليه تدور همومه وإرادته وتصوره، بل خطرات قلبه، فإن سكت سكت بالله، وإن نطق نطق بالله وإن سمع فبه يسمع وإن أبصر فبه يبصر وبه يبطش وبه يمشى وبه يتحرك وبه يسكن وبه يحيى وبه يموت وبه يبعث، كما في صحيح البخاري عنه فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها فبي يسمع وبي يبصروبي يبطش وبي يمشى، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت فى شيء أنا فاعله ترددي عن قبضي روح عبدي المؤمن من يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه" فتضمن هذا الحديث الشريف الإلهي الذي حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه، والمراد به حصر أسباب محبته في أمرين: أداء فرائضه والتقرب إليه بالنوافل، وأخبر سبحانه أن أداء فرائضه أحب مما تقرب إليه المتقربون، ثم بعدها النوافل، وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوبا لله فإذا صار محبوبا لله أوجبت محبة الله له محبة منه أخرى فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روحه ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه البتة، فصار ذكر محبوبه وحبه مثله الأعلى مالكا لزمام قلبه مستوليا على روحه استيلاء المحبوب على محبه الصادق في محبته التي قد اجتمعت قوى حبه كلها له، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه، وإن أبصر أبصر به، وإن بطش بطش به، وإن مشى مشى به، فهو في قلبه ومعه ومؤنسه وصاحبه، فالباء ههنا باء المصاحبة، وهى مصاحبة لا نظير لها ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها، فالمسألة خيالية لا علمية محضة، وإذا كان المخلوق يجد هذا في محبة المخلوق التي لم يخلق لها ولم يفطر عليها كما قال بعض المحبين:
    خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب
    وقال الآخر
    وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
    ومن عجب أني أحن إليهم ....... فأسأل عنهم من لقيت وهم معي
    وقال الآخر
    يراد من القلب نسيانكم ..... وتأبى الطباع على الناقل.
    وخص في الحديث السمع والبصر واليد والرجل بالذكر، لأن هذه الآلات آلات الإدراك وآلات الفعل، والسمع والبصر يوردان على القلب الإرادة والكراهة ويجلبان إليه الحب والبغض، فتستعمل اليد والرجل،فإذا كان سمع العبد بالله وبصره به، كان محفوظا في آلات إدراكه فكان محفوظا في حبه وبغضه فحفظ في بطشه ومشيه، وتأمل كيف اكتفى بذكر السمع والبصر واليد والرجل عن اللسان فإنه إذا كان إدراك السمع الذي يحصل باختياره تارة وبغير اختياره تارة وكذلك البصر قد يقع بغير الاختيار فجأة، وكذلك حركة اليد والرجل التي لا بد للعبد منها، فكيف بحركة اللسان التي لا يقع إلا بقصد واختيار، وقد يستغنى العبد عنها إلا حيث أمر بها، وأيضا فانفعال اللسان عن القلب أتم من انفعال سائر الجوارح فانه ترجمانه ورسوله، وتأمل كيف حقق تعالى كون العبد به عند سمعه وبصره الذي يبصر به وبطشه ومشيه بقوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها تحقيقا لكونه مع عبده، وكون عبده في إدراكاته بسمعه وبصره وحركته بيديه ورجله، وتأمل كيف قال بي يسمع وبي يبصر وبي يبطش، ولم يقل فلي يسمع ولي يبصر ولي يبطش، وربما يظن الظان أن اللام أولى بهذا الموضع إذ هي أدل على الغاية ووقوع هذه الأمور لله، وذلك أخص من وقوعها به، وهذا من الوهم والغلط، إذ ليست الباء ههنا بمجرد الاستعانة فإن حركات الأبرار والفجار وإدراكاتهم إنما هي بمعونة الله لهم، وأن الباء ههنا للمصاحبة، إنما يسمع ويبصر ويبطش ويمشى وأنا صاحبه ومعه، كقوله في الحديث الآخر: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه" وهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في قوله تعالى :إن الله معنا" وقول الرسول النبي عليه الصلاة والسلام: ما ظنك باثنين الله ثالثهما" وقوله تعالى :وإن الله لمع المحسنين" وقوله:إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" وقوله :واصبروا إن الله مع الصابرين" وقوله: كلا إن معي ربي سيهدين" وقوله تعالى لموسى وهارون :إنني معكما أسمع وأرى" فهذه الباء مفيدة بمعني هذا المعية دون اللام،ولا يتأتى للعبد الإخلاص والصبر والتوكل ونزوله في منازل العبودية إلا بهذه الباء وهذه المعية، فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاق وانقلبت المخاوف في حقه أمانا، فبالله يهون كل صعب، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد، وبالله تزول الأحزان والهموم والغموم، فلا هم مع الله، ولا غم مع الله، ولا حزن مع الله، وحيث يفوت العبد معنى هذه الباء، فيصير قلبه حينئذ كالحوت إذا فارق الماء يثب وينقلب حتى يعود إليه،ولما حصلت هذه الموافقة مع العبد لربه تعالى في محابه حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه، فقال ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، أي: كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتقرب إلى بمحابي، فانا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعل به، ويستعيذني أن يناله مكروه، وحقق هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه في إماتة عبده، ولأته يكره الموت والرب تعالى يكره ما يكره عبده ويكره مساءته، فمن هذه الجهة اقتضى أنه لا يميته، ولكن مصلحته في إماتته فإنه ماأماته إلا ليحييه، وما أمرضه إلا ليصحه، وما أفقره إلا ليغنيه، وما منعه الا ليعطيه، ولم يخرج من الجنة في صلب أبيه إلا ليعيده إليها على أحسن الأحوال، ولم يقل لأبيه أخرج منها إلا ليعيده إليها، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه، بل لو كان في كل منبت شعر لعبد محبة تامة لله لكان بعض ما يستحقه على عبده .
    نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
    كم منزل في الأرض يألفه الفتى ........ وحنينه أبدا لأول منزل.
    فصل
    ثم التتيمم، وهو آخر مراتب الحب، وهو تعبد المحب لمحبوبه، يقال تيمه الحب إذا عبده، ومنه تيم الله أي عبد الله، وحقيقة التعبد الذل والخضوع للمحبوب، ومنه قولهم طريق معبد، أي: مذلل قد ذللته الأقدام، فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، ولهذا كانت أشرف أحوال العبد ومقاماته في العبودية فلا منزل له أشرف منها وقد ذكر الله سبحانه أكرم الخلق عليه وأحبهم إليه، وهو رسوله محمد بالعبودية في أشرف مقاماته، وهي مقام الدعوة إليه ومقام التحدي بالنبوة ومقام الإسراء.
    والله سبحانه خلق الخلق لعباديته وحده لا شريك له التي هي أكمل أنواع المحبة مع أكمل أنواع الخضوع والذل، وهذا هو حقيقة الإسلام وملة إبراهيم التي من رغب عنها فقد سفه نفسه، قال تعالى :ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه" الآية، ولهذا كان أعظم الذنوب عند الله الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وأصل الشرك بالله الإشراك مع الله في المحبة، كما قال تعالى :ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله" وأخبر سبحانه أن من الناس من يشرك به من دونه فيتخذ الأنداد من دونه يحبهم كحب الله، وأخبر أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم، وقيل بل المعنى: أنهم أشد حبا لله من أصحاب الأنداد، فإنهم وإن أحبوا الله، لكن لما أشركوا بينه وبين أندادهم في المحبة ضعفت محبتهم لله، والموحدون لله لما خلصت محبتهم له كانت أشد من محبة أولئك، والعدل برب العالمين والتسوية بينه وبين الأنداد هو في هذه المحبة، ولما كان مراد الله من خلقه هو خلوص هذه المحبة له أنكر على من اتخذ من دونه وليا أو شفيعا غاية الإنكار، وجمع ذلك تارة، وأقر واحدهما عن الآخر تارة بالإنكار.
    والمقصود أن حقيقة العبودية وموجباتها لا تخلص مع الإشراك بالله في المحبة بخلاف المحبة لله فإنها من لوازم العبودية وموجباتها، فإن محبة رسول الله، بل تقديمه في الحب على الأنفس وعلى الآباء والأبناء لايتم الإيمان إلا بها، إذ محبته من محبة الله، وكذلك كل حب في الله ولله، كما في الصحيحين عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وفي لفظ في الصحيح: لا يجد عبد طعم الإيمان إلا من كان في قلبه ثلاث خصال أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرأ لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" وفي الحديث الذي في السنن: من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان" وفي حديث آخر :ما تحاب رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه " فإن هذه المحبة من لوازم محبة الله وموجباتها وكل ما كانت أقوى كان أصلها كذلك." اهـ
    .......................تتمة الموضوع لاحقا إن شاء الله.

  3. #3

    افتراضي رد: أنواع المحبة وتعلقها بالتوحيد والعبادة :

    جزاك الله خيرا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2012
    المشاركات
    99

    افتراضي رد: أنواع المحبة وتعلقها بالتوحيد والعبادة :

    أحسنت على هذه المقالة الماتعة والنافعة التي اشملت على مسألة مهمة جداً وهي المحبة وأنواعها التي ضلت فيها أفهام وزلت فيها أقدام، فحري بكل مسلم أن يتأمل فيها ويفهمها جيدا ويعطيها قدرها من الاهتمام.
    جزاك الله خيراً أيها الأخ الكريم وبارك فيك وزادك علماً وتوفيقاً ونفع بك.

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2012
    المشاركات
    99

    افتراضي رد: أنواع المحبة وتعلقها بالتوحيد والعبادة :

    ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- رسالة نافعة قيمة في هذا الباب سمَّاها قاعدة في المحبة.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    الدولة
    جده
    المشاركات
    146

    افتراضي رد: أنواع المحبة وتعلقها بالتوحيد والعبادة :

    جزاك الله خيرا


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الكلام على البدعة والعبادة ،والكلام عن رفع اليدين في الدعاء.
    بواسطة أبو عبد المصور مصطفى الجزائري في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 24-Sep-2022, 02:10 PM
  2. الكلام على البدعة والعبادة ،والكلام عن رفع اليدين في الدعاء.
    بواسطة أبو عبد المصور مصطفى الجزائري في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 23-Sep-2022, 09:47 AM
  3. حكم تطييب المرأة الميتة بعد غسلها
    بواسطة أبو بكر يوسف لعويسي في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 21-Mar-2021, 11:24 PM
  4. {حقيقة تقال بين الأحبة والأخوان}
    بواسطة أبو هنيدة ياسين الطارفي في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-Aug-2012, 04:48 PM
  5. ما هي قصة الأقرع والأبرص والأعمى وهل لها علاقة بالتوحيد؟
    بواسطة حفيدة السلف في المنتدى مـنــبر الأســـرة المـــســلـــمـــة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 30-Jan-2012, 03:53 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •