ـ عن أبي إسحاقَ سَعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ مالِكِ بنِ أُهَيْب بنِ عبدِ منافِ بنِ زُهرَةَ بنِ كلابِ بنِ مُرَّةَ بنِ كعبِ بنِ لُؤيٍّ القُرشِيِّ الزُّهريِّ - رضي الله عنه - ، أَحَدِ العَشَرَةِ المشهودِ لهم بالجنةِ - رضي الله عنهم - ، قَالَ :(( جاءنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بي ، فقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنِّي قَدْ بَلَغَ بي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى ، وَأَنَا ذُو مالٍ وَلا يَرِثُني إلا ابْنَةٌ لي ، أفأ تصدق بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ :لا ، قُلْتُ : فالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فقَالَ :لا ، قُلْتُ : فالثُّلُثُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ :الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثيرٌ - أَوْ كبيرٌ - إنَّكَ إنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أغنِيَاءَ خيرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يتكفَّفُونَ النَّاسَ ، وَإنَّكَ لَنْ تُنفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغي بِهَا وَجهَ اللهِ إلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فِيِّ امْرَأَتِكَ ، قَالَ : فَقُلتُ : يَا رسولَ اللهِ ، أُخلَّفُ بعدَ أصْحَابي ؟ قَالَ :إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعملَ عَمَلاً تَبتَغي بِهِ وَجْهَ اللهِ إلاَّ ازْدَدتَ بِهِ دَرَجةً ورِفعَةً ، وَلَعلَّكَ أنْ تُخَلَّفَ حَتّى يَنتَفِعَ بِكَ أقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخرونَ . اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابي هِجْرَتَهُمْ ولاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أعقَابهمْ ، لكنِ البَائِسُ سَعدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثي لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ ماتَ بمَكَّة .)) مُتَّفَقٌ عليهِ .
التخريج للحديث
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (3/ 416):
* صحيح.
هو من رواية عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبى وقاص , قال: " جاء النبى صلى الله عليه وسلم يعودنى وأنا بمكة , وهو يكره أن يموت بالأرض التى هاجر منها , قال: يرحم الله ابن عفراء. قلت: يا رسول الله أوصى بمالى كله؟ قال: لا , قلت: فالشطر , قال: لا , قلت: فالثلث؟ قال: الثلث , والثلث كثير , إنك أن تدع ... فى أيديهم , إنك مهما أنفقت من نفقة , فإنها صدقة , حتى اللقمة
ترفعها إلى فى امرأتك , وعسى الله أن يرفعك , فينتفع بك ناس , ويضر بك آخرون , ولم يكن له يومئذ إلا ابنه ".
أخرجه البخارى والسياق له (2/185 , 3/485) ومسلم (5/71) والنسائى (2/126) وأحمد (1/172) من طريق سعد بن إبراهيم عن عامر به , وليس عند النسائى ما بعد قوله: " فى أيديهم ".
وتابعه الزهرى عن عامر بن سعد به نحوه.
أخرجه البخارى (1/326 و3/49 , 175 , 4/47 , 201 , 284 ـ 285) ومسلم , وأبو داود (2864) والترمذى (2/15) وابن ماجه (2708) ومالك (2/763/4) وابن الجارود (947) والطحاوى (2/419) والبيهقى (6/268) والطيالسى فى " مسنده " (195 و196) وأحمد (1/176 و179) .
وقال الترمذى: " حديث حسن صحيح ".
وتابعه بكير بن مسمار قال سمعت عامر بن سعد به دون قوله: " فى أيديهم ... ".
وزاد " أوصى بمالى كله فى سبيل الله " أخرجه النسائى (2/127) بسند صحيح.
وتابعه جرير بن زيد , عند أحمد (1/184) بسند صحيح أيضا دون الزيادة.
وله طريق أخرى عن سعد به نحوه بلفظ قال: أوص بالعشر , فما زلت أناقصه حتى قال: أوصى بالثلث والثلث كثير ".
أخرجه الترمذى (1/182) بسند ضعيف فيه عطاء بن السائب وكان اختلط وله شاهد من حديث عائشة مثل حديث بكير دون الزيادة.
أخرجه النسائى (2/127) بسند جيد.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر النمري القرطبي رحمه الله في الاستذكار (7/ 271):
هكذا قال جماعة أصحاب بن شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ( جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوداع) كما قال مالك إلا بن عُيَيْنَةَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ عَامَ الْفَتْحِ فَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ
وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يُخْتَلَفُ فِي صحة إسناده
وقال في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (8/ 375):
هَذَا حَدِيثٌ قَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ إِسْنَادِهِ وَجَعَلَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَصْلًا فِي مِقْدَارِ الْوَصِيَّةِ وَإِنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ بِهَا الثُّلُثَ
إِلَّا أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ اخْتِلَافًا عِنْدَ نَقَلَتِهِ
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ فِيهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ ( مَرِضْتُ عَامَ الْفَتْحِ ) انْفَرَدَ بِذَلِكَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِيمَا عَلِمْتُ
وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فَكُلُّهُمْ قَالَ فِيهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
( عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ )
كَمَا قَالَ مَالِكٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَأَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَا حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَا جَمِيعًا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أبيه قَالَ ( مَرِضْتُ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ مَرَضًا أَشَفَيْتُ مِنْهُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ لِي مَنْ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَتِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ قُلْتُ : أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَالشَّطْرُ ، قَالَ : لَا ، قُلْتُ:فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ قَالَ مَعْمَرٌ وَيُونُسُ وَمَالِكٌ ( حَجَّةَ الْوَدَاعِ ) ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ ( عَامَ الْفَتْحِ ) قَالَ وَالَّذِينَ قَالُوا (حَجَّةَ الْوَدَاعِ ) أَصْوَبُ
قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ أَجِدْ ذِكْرَ عَامِ الْفَتْحِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَفِي حَدِيثِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عن عَمْرٍو الْقَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ
( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَخَلَّفَ سَعْدًا مَرِيضًا حِينَ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ فَلَمَّا قَدِمَ مِنَ الْجِعِرَّانَةِ مُعْتَمِرًا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ وَجِعٌ مَغْلُوبٌ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا وَإِنِّي أُورَثُ كَلَالَةً أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ أَوْ أَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ هَكَذَا فِي حَدِيثِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ ( أَفَأُوصِي ) عَلَى الشَّكِّ أَيْضًا
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ أَصْحَابُهُ لَا ابْنُ عيينة ولا غيره أنه قال فيه
(أفأتصق بِمَالِي كُلِّهِ أَوْ بِثُلُثَيْ مَالِي ) وَلَمْ يَقُلْ ( أَفَأُوصِي ) فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ ........ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ هُوَ الَّذِي قَالَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ
( أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي أَوْ بِمَالِي ) وَأَمَّا مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ فَإِنَّمَا قَالَ ( أَفَأُوصِي ) وَلَمْ يَقُلْ (أَفَأَتَصَدَّقُ ) وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ هُوَ الَّذِي قَالَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَفَأَتَصَدَّقُ لِأَنَّ غَيْرَ ابْنِ شِهَابٍ رَوَاهُ عَنْ عَامِرٍ فَقَالَ فِيهِ ( أَفَأُوصِي ) كَمَا قَالَ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ رَوَى شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ ( جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا قَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عَفْرَاءَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قُلْتُ فَالشَّطْرُ قَالَ لَا قُلْتُ فَالثُّلُثُ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ قَالَا حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ
( عَادَنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قُلْتُ فَالنِّصْفُ قَالَ لَا قُلْتُ فَالثُّلُثُ قَالَ نَعَمْ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (8/ 297):
وَاتَّفَقَ أَصْحَاب الزُّهْرِيِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّة الْوَدَاع ، إِلَّا اِبْن عُيَيْنَةَ فَقَالَ : " فِي فَتْح مَكَّة " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره مِنْ طَرِيقه ، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظ عَلَى أَنَّهُ وَهَمَ فِيهِ .
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ فِي الْفَرَائِض مِنْ طَرِيقه فَقَالَ : " بِمَكَّة " وَلَمْ يَذْكُر الْفَتْح ، وَقَدْ وَجَدْت لِابْنِ عُيَيْنَةَ مُسْتَنَدًا فِيهِ ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ وَابْن سَعْد مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن الْقَارِي " أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ فَخَلَّفَ سَعْدًا مَرِيضًا حَيْثُ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ ، فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ الْجِعِرَّانَة مُعْتَمِرًا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَغْلُوب فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنَّ لِي مَالًا ، وَإِنِّي أُورَث كَلَالَة ، أَفَأُوصِي بِمَالِي " الْحَدِيث ، وَفِيهِ : " قُلْت : يَا رَسُول اللَّه أَمَيِّت أَنَا بِالدَّارِ الَّذِي خَرَجْت مِنْهَا مُهَاجِرًا ؟ قَالَ : لَا ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَرْفَعك اللَّه حَتَّى يَنْتَفِع بِك أَقْوَام " الْحَدِيث ، فَلَعَلَّ اِبْن عُيَيْنَةَ اِنْتَقَلَ ذِهْنه مِنْ حَدِيث إِلَى حَدِيث ، وَيُمْكِن الْجَمْع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يَكُون ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّة عَامَ الْفَتْح وَمَرَّة عَامَ حَجَّة الْوَدَاع ، فَفِي الْأُولَى لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِث مِنْ الْأَوْلَاد أَصْلًا ، وَفِي الثَّانِيَة كَانَتْ لَهُ اِبْنَة فَقَطْ ، فَاَللَّه أَعْلَم .)) انتهى
فقه الحديث وفوائده
قوله : ((جاءنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بي )) سُنَّةٌ فِي عِيَادَةِ الْمَرْضَى وَهِيَ مِنْ الْقُرَبِ وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعود المرضى من أصحابه، كما أنه يزور من يزور منهم لأنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقاً وألينهم بأصحابه، وأشدهم تحبباً إليهم .
ـ ونأخذ من فوائد هذا الحديث عيادة الإمام و الكبير أتباعه وأصحابه
وفي عيادة المرضى فوائد للعائد وفوائد للمعود
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين ج 1 ص 24 ـ 25:
(( في عيادة المرضى فوائد للعائد وفوائد للمعود .
أما العائد فإنه يؤدي حق أخيه المسلم لأن من حق أخيك المسلم أن تعوده إذا مرض .
ومنها: أن الإنسان إذا عاد المريض فإنه لا يزال في مخرفة الجنة يعني يجني ثمار الجنة حتى يعود .
ومنها: أن في ذلك تذكيراً للعائد بنعمة الله عليه بالصحة، لأنه إذا رأى هذا المريض ورأى ما هو فيه من المرض ثم رجع إلى نفسه رأى ما فيها من الصحة والعافية عرف قدر نعمة الله عليه بهذه العافية لأن الشيء إنما يعرف بضده .
ومنها: أن فيها جلباً للمحبة والمودة فإن الإنسان إذا عاد المريض صارت هذه العيادة في قلب المريض دائما على قلبه يتذكرها، وكلما ذكرها أحب الذي يعوده وهذا يظهر كثيراً فيما إذا برأ المريض وحصلت منه ملاقاة لك تجده يتشكر منك وتجد أن قلبه ينشرح بهذا الشيء .
أما المعود: (2) فإن له فيها فائدة أيضاً، لأنه تؤنسه وتشرح صدره ويزول عنه ما فيه من الهم والغم ومن المرض وربما يكون العائد موفقاً يذكره بالخير والتوبة والوصية إذا كان يريد أن يوصي بشيء عليه من الديون وغيرها فيكون في ذلك فائدة للمعود .
ولهذا قال العلماء: ينبغي لمن عاد المريض أن ينفس له في أجله أي يفرحه يقول: ما شاء الله أنت اليوم في خير وما أشبهه، ليس لازماً أن يقول له أنت طيب مثلاً لأنه قد يكون اليوم أشد مرضاً من أمس لكن يقول أنت اليوم في خير لأن المؤمن كل أمره خير أن أصابه ضراء فهو في خير وإن أصابه سراء فهو في خير .
والأجل محتوم إن كان هذا المرض أجله مات وإن كان بقي له شيء من الدنيا بقي .
وينبغي أيضاً أن يذكره التوبة لكن لا يقول له ذلك بصفة مباشرة لأنه ربما ينزعج ويقول في نفسه لو أن مرضي غير خطير ما ذكرني بالتوبة .
لكن يبدأ بذكر الآيات والأحاديث التي فيها الثناء على التائبين ما يتذكر به المريض وينبغي كذلك أن يذكره الوصية لا يقول له أوص فإن أجلك قريب لو قال هكذا انزعج بل مثلاً يذكره بقصص واردة عليه .
قال أهل العلم: وينبغي أيضاً إذا رأى منه تشوفاً إلى أن يقرأ عليه فليقرأ عليه، ينفث عليه بما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام .
مثل قوله: اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً ومثل قوله: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض أنت رب الطيبين اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ أو يقرأ عليه بسورة الفاتحة لأن الفاتحة رقية يقرأ بها على المرضى وعلى الذين لدغتهم العقرب أو الحية وما أشبه ذلك .
المهم أنه إذا رأى من المريض أنه يحب أن يقرأ عليه فليقرأ عليه، لئلا يلجئه إلى طلب القراءة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت مع أمتي سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقوله: لا يسترقون أي: لا يطلبون أحداً يقرأ عليهم .
كذلك أيضاً إذا رأيت أن المريض يحب أن تطيل المقام عنده فأطل المقام، فأنت على خير وعلى أجر .
أطل المقام عنده وأدخل عليه السرور، وربما يكون في دخول السرور على قلبه سبباً لشفائه لأن سرور المريض وانشراح صدره من أكبر أسباب الشفاء، فأطل الجلوس عنده حتى تعرف أنه قد مل .
أما إذا رأيت المريض متكلف ولا يحب أنك تبقى، أو يحب أن تذهب عنه لكي يبقى مع أهله ويأنس بهم فلا تتأخر، اسأل عن حاله ثم انصرف .)) انتهى
ـ قوله ( مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بي ، فقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنِّي قَدْ بَلَغَ بي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى) يدل على جَوَاز إِخْبَار الْمَرِيض بِشِدَّةِ مَرَضه وَقُوَّة أَلَمه إِذَا لَمْ يَقْتَرِن بِذَلِكَ شَيْء مِمَّا يُمْنَع أَوْ يُكْرَه مِنْ التَّبَرُّم وَعَدَم الرِّضَا بَلْ حَيْثُ يَكُون ذَلِكَ لِطَلَبِ دُعَاء أَوْ دَوَاء وَرُبَّمَا اُسْتُحِبَّ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الِاتِّصَاف بِالصَّبْرِ الْمَحْمُود ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاء الْمَرَض كَانَ الْإِخْبَار بِهِ بَعْد الْبُرْء أَجْوَز ( 3)
قال الإمام أبو عبدالله بن قيم الجوزية رحمه الله في ( عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 288):
الباب الخامس والعشرون: فى بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه
لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله والقلب عن التسخط والجوارح عن اللطم وشق الثياب ونحوها كان ما يضاده واقعا على هذه الجملة
فمنه الشكوى إلى المخلوق فإذا شكى العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه ولا تضاده الشكوى إلى الله كما تقدم فى شكاية يعقوب إلى الله مع قوله
( فصبر جميل ) يوسف 18
وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل إلى زوال ضرره لم يقدح ذلك في الصبر كإخبار المريض للطبيب بشكايته وإخبار المظلوم لمن ينتصر به بحاله وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على المريض يسأله عن حاله ويقول كيف نجدك وهذا استخبار منه واستعلام بحاله
وأما الأنين فهل يقدح في الصبر فيه روايتان عن الإمام أحمد قال أبو الحسين أصحهما الكراهة لما روى عن طاووس ( أنه كان يكره الأنين في المرض )
وقال مجاهد كل شيء يكتب على ابن آدم مما يتكلم حتى أنينه في مرضه قال هؤلاء وإن الأنين شكوى بلسان الحال ينافي الصبر
وقال عبد الله بن الإمام أحمد قال لي أبي في مرضه الذي توفي فيه اخرج إلي كتاب عبد الله بن إدريس فأخرجت الكتاب فقال أخرج أحاديث ليث بن أبي سليم فأخرجت أحاديث ليث فقال اقرأ على أحاديث ليث قال قلت لطلحة إن طاووس كان يكره الأنين في المرض فما سمع له أنين حتى مات فما سمعت أبي أن في مرضه ذلك إلى أن توفي.
والرواية الثانية أنه لا يكره ولا يقدح في الصبر قال بكر بن محمد عن أبيه سئل احمد عن المريض يشكو ما يجد من الوجع فقال تعرف فيه شيئا عن رسول الله قال نعم حديث عائشة (وارأساه ) وجعل يستحسنه
وقال المروزي: دخلت على أبي عبد الله وهو مريض فسألته فتغرغرت عينيه وجعل يخبرني ما مر به في ليلته من العلة
والتحقيق أن الأنين على قسمين أنين شكوى فيكره وأنين استراحة وتفريج فلا يكره والله أعلم
وقد روى في أثر: أن المريض إذا بدأ بحمد الله ثم أخبر بحاله لم يكن شكوى وقال شقيق البلخي من شكى من مصيبة نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه حلاوة لطاعة الله أبدا
فصل: والشكوى نوعان: شكوى بلسان القال وشكوى بلسان الحال ولعلها أعظمها ولهذا أمر النبي من أنعم عليه أن يظهر نعمة الله عليه وأعظم من ذلك من يشتكي ربه وهو بخير فهذا امقت الخلق عند ربه )) انتهى
قوله (وَأَنَا ذُو مالٍ وَلا يَرِثُني إلا ابْنَةٌ لي ، أفأ تصدق بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ :لا ، قُلْتُ : فالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فقَالَ :لا ، قُلْتُ : فالثُّلُثُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ :الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثيرٌ - أَوْ كبيرٌ - )
ـ قَوْله : ( وَأَنَا ذُو مَال ) دَلِيل عَلَى إِبَاحَة جَمْع الْمَال ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَة لَا تُسْتَعْمَل فِي الْعُرْف إِلَّا لِمَالٍ كَثِير . ( 4 )
وقال الامام ابن حجر في فتح الباري 8/ 297
وَفِيهِ إِبَاحَة جَمْع الْمَال بِشَرْطِهِ لِأَنَّ التَّنْوِين فِي قَوْله : " وَأَنَا ذُو مَال " لِلْكَثْرَةِ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْض طُرُقه صَرِيحًا " وَأَنَا ذُو مَال كَثِير "
ـ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَيَّ وَاحِدٍ مِنْ أولاد سعد رضي الله عنه لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ ( وَلَا تَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي ) (5 )
وقد ذكرهم الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (8/ 297) قال :
أَمَّا قَوْل الْفَاكِهِيّ إِنَّهُ وُلِدَ لَهُ بَعْد ذَلِكَ أَرْبَعَة بَنِينَ وَإِنَّهُ لَا يَعْرِف أَسْمَاءَهُمْ فَفِيهِ قُصُور شَدِيد ، فَإِنَّ أَسْمَاءَهُمْ فِي رِوَايَة هَذَا الْحَدِيث بِعَيْنِهِ عِنْد مُسْلِم مِنْ طَرِيق عَامِر وَمُصْعَب وَمُحَمَّد ثَلَاثَتهمْ عَنْ سَعْد ، وَوَقَعَ ذِكْر عُمَر بْن سَعْد فِيهِ فِي مَوْضِع آخَر ، وَلَمَّا وَقَعَ ذِكْر هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيث عِنْد مُسْلِم اِقْتَصَرَ الْقُرْطُبِيّ عَلَى ذِكْر الثَّلَاثَة ، وَوَقَعَ فِي كَلَام بَعْض شُيُوخنَا تَعَقُّب عَلَيْهِ بِأَنَّ لَهُ أَرْبَعَة مِنْ الذُّكُور غَيْر الثَّلَاثَة وَهُمْ عُمَر وَإِبْرَاهِيم وَيَحْيَى وَإِسْحَاق ، وَعَزَا ذِكْرهمْ لِابْنِ الْمَدِينِيّ وَغَيْره ، وَفَاته أَنَّ اِبْن سَعْد ذَكَرَ لَهُ مِنْ الذُّكُور غَيْر السَّبْعَة أَكْثَر مِنْ عَشَرَة وَهُمْ عَبْد اللَّه وَعَبْد الرَّحْمَن وَعَمْرو وَعِمْرَان وَصَالِح وَعُثْمَان وَإِسْحَاق الْأَصْغَر وَعُمَر الْأَصْغَر وَعُمَيْر مُصَغَّرًا وَغَيْرهمْ ، وَذَكَرَ لَهُ مِنْ الْبَنَات ثِنْتَيْ عَشْرَة بِنْتًا .
وَكَأَنَّ اِبْن الْمَدِينِيّ اِقْتَصَرَ عَلَى ذِكْر مَنْ رَوَى الْحَدِيث مِنْهُ وَاَللَّه أَعْلَم .)) انتهى
ـ قَوْلُهُ ( أَفَأَتَصَدَّقُ ) كَانَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هِبَاتِ الْمَرِيضِ وَصَدَقَاتِهِ وَعِتْقِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِهِ لَا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ ثُمَّ تُوُفِّيَ فَأَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ مِنْهُمْ دَاوُدُ فِي هِبَةِ الْمَرِيضِ أَنَّهَا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ شُذُوذُهُمْ عَنِ السَّلَفِ وَمُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ( 6 )
ـ ويدل على أن المريض مرض الموت المخوف لا يجوز أن يتصدق بأكثر من الثلث ،ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم سعدا رضي الله عنه بأن يتصدق بأكثر من الثلث ،و لأن ماله قد تعلق به حق الغير وهم الورثة .
أما من كان صحيحاً ليس فيه مرض أو فيه مرض يسير لا يخشى منه الموت فله أن يتصدق بما شاء بالثلث أو بالنصف أو بالثلثين أو بماله كله لا حرج عليه .
لكن لا ينبغي أن يتصدق بماله كله إلا إن كان عنده شيء يعرف أنه سوف يستغني به عن عباد الله .
المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم منعه أن يتصدق بأكثر من الثلث، وقال الثلث والثلث كثير أو كبير وفي هذا دليل على أنه إذا نقص عن الثلث فهو أحسن وأكمل
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير .)
وقال أبو بكر رضي الله عنه: ( أرضى ما رضيه الله لنفسه يعني الخمس، فأوصى بالخمس رضي الله عنه .)
وبهذا نعرف أن عمل الناس اليوم وكونهم يوصون بالثلث خلاف الأولى وإن كان هو جائزاً لكن الأفضل أن يكون أدنى من الثلث إما الربع أو الخمس .
قال فقهاؤنا رحمهم الله والأفضل أن يوصى بالخمس لا يزيد عليه اقتداء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ( 7)
قال ابن عبد البر رحمه الله في ( التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 8/ 381)
فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الثُّلُثُ كَثِيرٌ ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْغَايَةُ الَّتِي إِلَيْهَا تَنْتَهِي الْوَصِيَّةُ وَإِنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْوَصِيَّةِ وَأَنَّ التَّقْصِيرَ عَنْهُ أَفْضَلُ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَقِبِ قَوْلِهِ الثُّلُثُ كَثِيرٌ ( وَلَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ) فَاسْتَحَبَّ لَهُ الْإِبْقَاءَ لِوَرَثَتِهِ وَكَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ
ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : ( إِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ قَلِيلًا وَمَالُهُ كَثِيرًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْلُغَ الثُّلُثَ فِي وَصِيَّتِهِ )
وَاسْتَحَبَّ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْوَصِيَّةَ بِالرُّبُعِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : ( السُّنَّةُ فِي الْوَصِيَّةِ الرُّبُعُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ يُعْرَفُ فِي مَالِهِ شُبُهَاتٌ فَيَجُوزُ لَهُ الثُّلُثُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ )
قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ لِإِسْحَاقَ حُجَّةً فِي قَوْلِهِ ( السُّنَّةُ فِي الْوَصِيَّةِ الرُّبْعُ ) وَهَذَا الَّذِي نَزَعَ بِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ سُنَّةً وَقَدْ رُوِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ كَانَ يُفَضِّلُ الْوَصِيَّةَ بِالْخُمُسِ وَبِذَلِكَ أَوْصَى وَقَالَ ( رَضِيتُ لِنَفْسِي مَا رِضَى اللَّهُ لِنَفْسِهِ )كَأَنَّهُ يَعْنِي خُمُسَ الغنائم
واستحب جماعة الوصية بالثلث وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ( جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فِي الْوَصِيَّةِ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ) وَهُوَ حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَلْحَةُ ضَعِيفٌ رَوَى عَنْهُ هَذَا الْخَبَرَ وَكِيعٌ وَابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لَا تَجُوزُ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ
وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ( الثُّلُثُ وَسَطٌ لَا غَبْنَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ) وَهَذَا لَا نَدْرِي مَا هُوَ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَيْسَتْ بِوَسَطٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ حُكْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَسَطٌ أَيْ عَدْلٌ وَالْوَسَطُ : الْعَدْلُ
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ( لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ فَلَيْتَهُمْ نَقَصُوا إِلَى الرُّبُعِ )
وَقَالَ قَتَادَةُ الثُّلُثُ كَثِيرٌ وَالْقُضَاةُ يُجِيزُونَهُ وَالرُّبُعُ قَصْدٌ وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ بِالْخُمُسِ
وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ الثُّلُثُ جَهْدٌ وَهُوَ جَائِزٌ وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ أَوْصَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالرُّبُعِ وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ بِالْخُمُسِ وَهُوَ أحب إلي ، وعن الثوري عن الأعمش عن إبرهيم قَالَ ( كَانَ الْخُمُسُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الرُّبُعِ وَالرُّبُعِ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الثُّلُثِ ) ، قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ وَأَبَا قِلَابَةَ يَقُولَانِ أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ بِالْخُمُسِ
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْدٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ أَوْصَانِي أَبِي أَنْ أَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ أَيُّ الْوَصِيَّةِ أَعْدَلُ فَمَا تَتَابَعُوا عَلَيْهِ فَهِيَ وَصِيَّتُهُ فَسَأَلْتُ : ( فَتَتَابَعُوا عَلَى الْخُمُسِ )
قَالَ وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : (كانُوا يَقُولُونَ صَاحِبُ الرُّبُعِ أَفْضَلُ مَنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَصَاحِبُ الْخُمُسِ أَفْضَلُ مَنْ صَاحِبِ الرُّبُعِ يَعْنِي فِي الْوَصِيَّةِ )
ـ وقال أيضا (8/ 379)
وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرِ مِنْ ثُلُثِهِ إِذَا تَرَكَ وَرَثَةً مِنْ بَنِينَ أَوْ عَصَبَةٍ وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ يَتْرُكْ بَنِينَ وَلَا عَصَبَةً وَلَا وَارِثًا بِنَسَبٍ أَوْ نِكَاحٍ
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : (إِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ كُلِّهِ ) ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِثْلَهُ ، وَقَالَ بِقَوْلِهِمَا قَوْمٌ مِنْهُمْ مَسْرُوقٌ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ يَقُولُ بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الثُّلُثِ (فِي الْوَصِيَّةِ) إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَدَعَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ وَهَذَا لَا وَرَثَةَ لَهُ فَلَيْسَ مِمَّنْ عُنِيَ بِالْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَا مُوسَى ( أَجَازَ وَصِيَّةَ امْرَأَةٍ بِمَالِهَا كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ ) وَعَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ مَسْعُودٍ ( إِنَّكُمْ مِنْ أَحْرَى حَيٍّ بِالْكُوفَةِ أَنْ يَمُوتَ وَلَا يَدَعُ عصبة ولا رحما فما يمنعه إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَضَعَ مَالَهُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ )
وَعَنْ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ ( إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدٌ لِأَحَدٍ وَلَا عَصَبَةٌ يَرِثُونَهُ فَإِنَّهُ يُوصِي بِمَالِهِ كُلِّهِ حَيْثُ شَاءَ ) ، وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ مِثْلَهُ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : ( لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ بوصي بِأَكْثَرِ مِنْ ثُلُثِهِ كَانَ لَهُ بَنُونَ أَوْ وُرِثَ كَلَالَةً أَوْ وَرِثَهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ بَيْتَ مَالِهِمْ عَصَبَةُ مَنْ لَا عَصَبَةَ لَهُ )
وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا عَنْ طَوَائِفَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ .......
وَأَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ جَازَتْ ( 8 ) وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ لَمْ يَجُزْ مِنْهَا إِلَّا الثُّلُثُ ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ لَا تَجُوزُ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ يُجِيزُوهَا وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمُزَنِيُّ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ حِينَ قَالَ لَهُ أُوصِي بِشَطْرِ مَالِي قَالَ لَا وَلَمْ يَقُلْ لَهُ إِنْ أَجَازَهُ وَرَثَتُكَ جَازَ وَكَذَلِكَ قَالُوا إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَا تَجُوزُ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ يُجِيزُوهَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ )
وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ وَيَجْعَلُونَهَا هِبَةً مُسْتَأْنَفَةً مِنْ قِبَلِ الْوَرَثَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا مِنْهُمْ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمْ ......