النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (7) شرح حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

    ـ عن أبي إسحاقَ سَعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ مالِكِ بنِ أُهَيْب بنِ عبدِ منافِ بنِ زُهرَةَ بنِ كلابِ بنِ مُرَّةَ بنِ كعبِ بنِ لُؤيٍّ القُرشِيِّ الزُّهريِّ - رضي الله عنه - ، أَحَدِ العَشَرَةِ المشهودِ لهم بالجنةِ - رضي الله عنهم - ، قَالَ :(( جاءنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بي ، فقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنِّي قَدْ بَلَغَ بي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى ، وَأَنَا ذُو مالٍ وَلا يَرِثُني إلا ابْنَةٌ لي ، أفأ تصدق بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ :لا ، قُلْتُ : فالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فقَالَ :لا ، قُلْتُ : فالثُّلُثُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ :الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثيرٌ - أَوْ كبيرٌ - إنَّكَ إنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أغنِيَاءَ خيرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يتكفَّفُونَ النَّاسَ ، وَإنَّكَ لَنْ تُنفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغي بِهَا وَجهَ اللهِ إلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فِيِّ امْرَأَتِكَ ، قَالَ : فَقُلتُ : يَا رسولَ اللهِ ، أُخلَّفُ بعدَ أصْحَابي ؟ قَالَ :إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعملَ عَمَلاً تَبتَغي بِهِ وَجْهَ اللهِ إلاَّ ازْدَدتَ بِهِ دَرَجةً ورِفعَةً ، وَلَعلَّكَ أنْ تُخَلَّفَ حَتّى يَنتَفِعَ بِكَ أقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخرونَ . اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابي هِجْرَتَهُمْ ولاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أعقَابهمْ ، لكنِ البَائِسُ سَعدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثي لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ ماتَ بمَكَّة .)) مُتَّفَقٌ عليهِ .
    التخريج للحديث
    إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (3/ 416):
    * صحيح.
    هو من رواية عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبى وقاص , قال: " جاء النبى صلى الله عليه وسلم يعودنى وأنا بمكة , وهو يكره أن يموت بالأرض التى هاجر منها , قال: يرحم الله ابن عفراء. قلت: يا رسول الله أوصى بمالى كله؟ قال: لا , قلت: فالشطر , قال: لا , قلت: فالثلث؟ قال: الثلث , والثلث كثير , إنك أن تدع ... فى أيديهم , إنك مهما أنفقت من نفقة , فإنها صدقة , حتى اللقمة
    ترفعها إلى فى امرأتك , وعسى الله أن يرفعك , فينتفع بك ناس , ويضر بك آخرون , ولم يكن له يومئذ إلا ابنه ".
    أخرجه البخارى والسياق له (2/185 , 3/485) ومسلم (5/71) والنسائى (2/126) وأحمد (1/172) من طريق سعد بن إبراهيم عن عامر به , وليس عند النسائى ما بعد قوله: " فى أيديهم ".
    وتابعه الزهرى عن عامر بن سعد به نحوه.
    أخرجه البخارى (1/326 و3/49 , 175 , 4/47 , 201 , 284 ـ 285) ومسلم , وأبو داود (2864) والترمذى (2/15) وابن ماجه (2708) ومالك (2/763/4) وابن الجارود (947) والطحاوى (2/419) والبيهقى (6/268) والطيالسى فى " مسنده " (195 و196) وأحمد (1/176 و179) .
    وقال الترمذى: " حديث حسن صحيح ".
    وتابعه بكير بن مسمار قال سمعت عامر بن سعد به دون قوله: " فى أيديهم ... ".
    وزاد " أوصى بمالى كله فى سبيل الله " أخرجه النسائى (2/127) بسند صحيح.
    وتابعه جرير بن زيد , عند أحمد (1/184) بسند صحيح أيضا دون الزيادة.
    وله طريق أخرى عن سعد به نحوه بلفظ قال: أوص بالعشر , فما زلت أناقصه حتى قال: أوصى بالثلث والثلث كثير ".
    أخرجه الترمذى (1/182) بسند ضعيف فيه عطاء بن السائب وكان اختلط وله شاهد من حديث عائشة مثل حديث بكير دون الزيادة.
    أخرجه النسائى (2/127) بسند جيد.
    قال الإمام أبو عمر بن عبد البر النمري القرطبي رحمه الله في الاستذكار (7/ 271):
    هكذا قال جماعة أصحاب بن شِهَابٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ( جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوداع) كما قال مالك إلا بن عُيَيْنَةَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ عَامَ الْفَتْحِ فَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ
    وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يُخْتَلَفُ فِي صحة إسناده
    وقال في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (8/ 375):
    هَذَا حَدِيثٌ قَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ إِسْنَادِهِ وَجَعَلَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَصْلًا فِي مِقْدَارِ الْوَصِيَّةِ وَإِنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ بِهَا الثُّلُثَ
    إِلَّا أَنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ اخْتِلَافًا عِنْدَ نَقَلَتِهِ
    فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ فِيهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ ( مَرِضْتُ عَامَ الْفَتْحِ ) انْفَرَدَ بِذَلِكَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِيمَا عَلِمْتُ
    وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَابْنِ أَبِي عَتِيقٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ فَكُلُّهُمْ قَالَ فِيهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
    ( عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ )
    كَمَا قَالَ مَالِكٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُطَرِّفٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَأَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَا حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَا جَمِيعًا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أبيه قَالَ ( مَرِضْتُ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ مَرَضًا أَشَفَيْتُ مِنْهُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ لِي مَنْ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَتِي أَفَأَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ قُلْتُ : أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ : لَا ، قُلْتُ : فَالشَّطْرُ ، قَالَ : لَا ، قُلْتُ:فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
    قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ قَالَ مَعْمَرٌ وَيُونُسُ وَمَالِكٌ ( حَجَّةَ الْوَدَاعِ ) ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ ( عَامَ الْفَتْحِ ) قَالَ وَالَّذِينَ قَالُوا (حَجَّةَ الْوَدَاعِ ) أَصْوَبُ
    قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَمْ أَجِدْ ذِكْرَ عَامِ الْفَتْحِ إِلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَفِي حَدِيثِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَوَاهُ عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ وُهَيْبِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عن عَمْرٍو الْقَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ
    ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَخَلَّفَ سَعْدًا مَرِيضًا حِينَ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ فَلَمَّا قَدِمَ مِنَ الْجِعِرَّانَةِ مُعْتَمِرًا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ وَجِعٌ مَغْلُوبٌ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا وَإِنِّي أُورَثُ كَلَالَةً أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ أَوْ أَتَصَدَّقُ بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ هَكَذَا فِي حَدِيثِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ ( أَفَأُوصِي ) عَلَى الشَّكِّ أَيْضًا
    وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ أَصْحَابُهُ لَا ابْنُ عيينة ولا غيره أنه قال فيه
    (أفأتصق بِمَالِي كُلِّهِ أَوْ بِثُلُثَيْ مَالِي ) وَلَمْ يَقُلْ ( أَفَأُوصِي ) فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ ........ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ هُوَ الَّذِي قَالَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ
    ( أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي أَوْ بِمَالِي ) وَأَمَّا مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ فَإِنَّمَا قَالَ ( أَفَأُوصِي ) وَلَمْ يَقُلْ (أَفَأَتَصَدَّقُ ) وَالَّذِي أَقُولُهُ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ هُوَ الَّذِي قَالَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَفَأَتَصَدَّقُ لِأَنَّ غَيْرَ ابْنِ شِهَابٍ رَوَاهُ عَنْ عَامِرٍ فَقَالَ فِيهِ ( أَفَأُوصِي ) كَمَا قَالَ مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ رَوَى شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ ( جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا قَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ سَعْدَ بْنَ عَفْرَاءَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قُلْتُ فَالشَّطْرُ قَالَ لَا قُلْتُ فَالثُّلُثُ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ قَالَا حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ
    ( عَادَنِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ قَالَ لَا قُلْتُ فَالنِّصْفُ قَالَ لَا قُلْتُ فَالثُّلُثُ قَالَ نَعَمْ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)
    وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (8/ 297):
    وَاتَّفَقَ أَصْحَاب الزُّهْرِيِّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حَجَّة الْوَدَاع ، إِلَّا اِبْن عُيَيْنَةَ فَقَالَ : " فِي فَتْح مَكَّة " أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيْره مِنْ طَرِيقه ، وَاتَّفَقَ الْحُفَّاظ عَلَى أَنَّهُ وَهَمَ فِيهِ .
    وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ فِي الْفَرَائِض مِنْ طَرِيقه فَقَالَ : " بِمَكَّة " وَلَمْ يَذْكُر الْفَتْح ، وَقَدْ وَجَدْت لِابْنِ عُيَيْنَةَ مُسْتَنَدًا فِيهِ ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ وَابْن سَعْد مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن الْقَارِي " أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ فَخَلَّفَ سَعْدًا مَرِيضًا حَيْثُ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ ، فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ الْجِعِرَّانَة مُعْتَمِرًا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَغْلُوب فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنَّ لِي مَالًا ، وَإِنِّي أُورَث كَلَالَة ، أَفَأُوصِي بِمَالِي " الْحَدِيث ، وَفِيهِ : " قُلْت : يَا رَسُول اللَّه أَمَيِّت أَنَا بِالدَّارِ الَّذِي خَرَجْت مِنْهَا مُهَاجِرًا ؟ قَالَ : لَا ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَرْفَعك اللَّه حَتَّى يَنْتَفِع بِك أَقْوَام " الْحَدِيث ، فَلَعَلَّ اِبْن عُيَيْنَةَ اِنْتَقَلَ ذِهْنه مِنْ حَدِيث إِلَى حَدِيث ، وَيُمْكِن الْجَمْع بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يَكُون ذَلِكَ وَقَعَ لَهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّة عَامَ الْفَتْح وَمَرَّة عَامَ حَجَّة الْوَدَاع ، فَفِي الْأُولَى لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِث مِنْ الْأَوْلَاد أَصْلًا ، وَفِي الثَّانِيَة كَانَتْ لَهُ اِبْنَة فَقَطْ ، فَاَللَّه أَعْلَم .)) انتهى
    فقه الحديث وفوائده
    قوله : ((جاءنِي رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بي )) سُنَّةٌ فِي عِيَادَةِ الْمَرْضَى وَهِيَ مِنْ الْقُرَبِ وهدي النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعود المرضى من أصحابه، كما أنه يزور من يزور منهم لأنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقاً وألينهم بأصحابه، وأشدهم تحبباً إليهم .
    ـ ونأخذ من فوائد هذا الحديث عيادة الإمام و الكبير أتباعه وأصحابه
    وفي عيادة المرضى فوائد للعائد وفوائد للمعود
    قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين ج 1 ص 24 ـ 25:
    (( في عيادة المرضى فوائد للعائد وفوائد للمعود .
    أما العائد فإنه يؤدي حق أخيه المسلم لأن من حق أخيك المسلم أن تعوده إذا مرض .
    ومنها: أن الإنسان إذا عاد المريض فإنه لا يزال في مخرفة الجنة يعني يجني ثمار الجنة حتى يعود .
    ومنها: أن في ذلك تذكيراً للعائد بنعمة الله عليه بالصحة، لأنه إذا رأى هذا المريض ورأى ما هو فيه من المرض ثم رجع إلى نفسه رأى ما فيها من الصحة والعافية عرف قدر نعمة الله عليه بهذه العافية لأن الشيء إنما يعرف بضده .
    ومنها: أن فيها جلباً للمحبة والمودة فإن الإنسان إذا عاد المريض صارت هذه العيادة في قلب المريض دائما على قلبه يتذكرها، وكلما ذكرها أحب الذي يعوده وهذا يظهر كثيراً فيما إذا برأ المريض وحصلت منه ملاقاة لك تجده يتشكر منك وتجد أن قلبه ينشرح بهذا الشيء .
    أما المعود: (2) فإن له فيها فائدة أيضاً، لأنه تؤنسه وتشرح صدره ويزول عنه ما فيه من الهم والغم ومن المرض وربما يكون العائد موفقاً يذكره بالخير والتوبة والوصية إذا كان يريد أن يوصي بشيء عليه من الديون وغيرها فيكون في ذلك فائدة للمعود .
    ولهذا قال العلماء: ينبغي لمن عاد المريض أن ينفس له في أجله أي يفرحه يقول: ما شاء الله أنت اليوم في خير وما أشبهه، ليس لازماً أن يقول له أنت طيب مثلاً لأنه قد يكون اليوم أشد مرضاً من أمس لكن يقول أنت اليوم في خير لأن المؤمن كل أمره خير أن أصابه ضراء فهو في خير وإن أصابه سراء فهو في خير .
    والأجل محتوم إن كان هذا المرض أجله مات وإن كان بقي له شيء من الدنيا بقي .
    وينبغي أيضاً أن يذكره التوبة لكن لا يقول له ذلك بصفة مباشرة لأنه ربما ينزعج ويقول في نفسه لو أن مرضي غير خطير ما ذكرني بالتوبة .
    لكن يبدأ بذكر الآيات والأحاديث التي فيها الثناء على التائبين ما يتذكر به المريض وينبغي كذلك أن يذكره الوصية لا يقول له أوص فإن أجلك قريب لو قال هكذا انزعج بل مثلاً يذكره بقصص واردة عليه .
    قال أهل العلم: وينبغي أيضاً إذا رأى منه تشوفاً إلى أن يقرأ عليه فليقرأ عليه، ينفث عليه بما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام .
    مثل قوله: اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً ومثل قوله: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض أنت رب الطيبين اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ أو يقرأ عليه بسورة الفاتحة لأن الفاتحة رقية يقرأ بها على المرضى وعلى الذين لدغتهم العقرب أو الحية وما أشبه ذلك .
    المهم أنه إذا رأى من المريض أنه يحب أن يقرأ عليه فليقرأ عليه، لئلا يلجئه إلى طلب القراءة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت مع أمتي سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقوله: لا يسترقون أي: لا يطلبون أحداً يقرأ عليهم .
    كذلك أيضاً إذا رأيت أن المريض يحب أن تطيل المقام عنده فأطل المقام، فأنت على خير وعلى أجر .
    أطل المقام عنده وأدخل عليه السرور، وربما يكون في دخول السرور على قلبه سبباً لشفائه لأن سرور المريض وانشراح صدره من أكبر أسباب الشفاء، فأطل الجلوس عنده حتى تعرف أنه قد مل .
    أما إذا رأيت المريض متكلف ولا يحب أنك تبقى، أو يحب أن تذهب عنه لكي يبقى مع أهله ويأنس بهم فلا تتأخر، اسأل عن حاله ثم انصرف .)) انتهى
    ـ قوله ( مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بي ، فقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنِّي قَدْ بَلَغَ بي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى) يدل على جَوَاز إِخْبَار الْمَرِيض بِشِدَّةِ مَرَضه وَقُوَّة أَلَمه إِذَا لَمْ يَقْتَرِن بِذَلِكَ شَيْء مِمَّا يُمْنَع أَوْ يُكْرَه مِنْ التَّبَرُّم وَعَدَم الرِّضَا بَلْ حَيْثُ يَكُون ذَلِكَ لِطَلَبِ دُعَاء أَوْ دَوَاء وَرُبَّمَا اُسْتُحِبَّ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي الِاتِّصَاف بِالصَّبْرِ الْمَحْمُود ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاء الْمَرَض كَانَ الْإِخْبَار بِهِ بَعْد الْبُرْء أَجْوَز ( 3)
    قال الإمام أبو عبدالله بن قيم الجوزية رحمه الله في ( عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 288):
    الباب الخامس والعشرون: فى بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه
    لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله والقلب عن التسخط والجوارح عن اللطم وشق الثياب ونحوها كان ما يضاده واقعا على هذه الجملة
    فمنه الشكوى إلى المخلوق فإذا شكى العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكى من يرحمه إلى من لا يرحمه ولا تضاده الشكوى إلى الله كما تقدم فى شكاية يعقوب إلى الله مع قوله
    ( فصبر جميل ) يوسف 18
    وأما إخبار المخلوق بالحال فإن كان للاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل إلى زوال ضرره لم يقدح ذلك في الصبر كإخبار المريض للطبيب بشكايته وإخبار المظلوم لمن ينتصر به بحاله وإخبار المبتلى ببلائه لمن كان يرجو أن يكون فرجه على يديه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على المريض يسأله عن حاله ويقول كيف نجدك وهذا استخبار منه واستعلام بحاله
    وأما الأنين فهل يقدح في الصبر فيه روايتان عن الإمام أحمد قال أبو الحسين أصحهما الكراهة لما روى عن طاووس ( أنه كان يكره الأنين في المرض )
    وقال مجاهد كل شيء يكتب على ابن آدم مما يتكلم حتى أنينه في مرضه قال هؤلاء وإن الأنين شكوى بلسان الحال ينافي الصبر
    وقال عبد الله بن الإمام أحمد قال لي أبي في مرضه الذي توفي فيه اخرج إلي كتاب عبد الله بن إدريس فأخرجت الكتاب فقال أخرج أحاديث ليث بن أبي سليم فأخرجت أحاديث ليث فقال اقرأ على أحاديث ليث قال قلت لطلحة إن طاووس كان يكره الأنين في المرض فما سمع له أنين حتى مات فما سمعت أبي أن في مرضه ذلك إلى أن توفي.
    والرواية الثانية أنه لا يكره ولا يقدح في الصبر قال بكر بن محمد عن أبيه سئل احمد عن المريض يشكو ما يجد من الوجع فقال تعرف فيه شيئا عن رسول الله قال نعم حديث عائشة (وارأساه ) وجعل يستحسنه
    وقال المروزي: دخلت على أبي عبد الله وهو مريض فسألته فتغرغرت عينيه وجعل يخبرني ما مر به في ليلته من العلة
    والتحقيق أن الأنين على قسمين أنين شكوى فيكره وأنين استراحة وتفريج فلا يكره والله أعلم
    وقد روى في أثر: أن المريض إذا بدأ بحمد الله ثم أخبر بحاله لم يكن شكوى وقال شقيق البلخي من شكى من مصيبة نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه حلاوة لطاعة الله أبدا
    فصل: والشكوى نوعان: شكوى بلسان القال وشكوى بلسان الحال ولعلها أعظمها ولهذا أمر النبي من أنعم عليه أن يظهر نعمة الله عليه وأعظم من ذلك من يشتكي ربه وهو بخير فهذا امقت الخلق عند ربه )) انتهى
    قوله (وَأَنَا ذُو مالٍ وَلا يَرِثُني إلا ابْنَةٌ لي ، أفأ تصدق بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ :لا ، قُلْتُ : فالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فقَالَ :لا ، قُلْتُ : فالثُّلُثُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ :الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثيرٌ - أَوْ كبيرٌ - )
    ـ قَوْله : ( وَأَنَا ذُو مَال ) دَلِيل عَلَى إِبَاحَة جَمْع الْمَال ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَة لَا تُسْتَعْمَل فِي الْعُرْف إِلَّا لِمَالٍ كَثِير . ( 4 )
    وقال الامام ابن حجر في فتح الباري 8/ 297
    وَفِيهِ إِبَاحَة جَمْع الْمَال بِشَرْطِهِ لِأَنَّ التَّنْوِين فِي قَوْله : " وَأَنَا ذُو مَال " لِلْكَثْرَةِ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْض طُرُقه صَرِيحًا " وَأَنَا ذُو مَال كَثِير "
    ـ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَيَّ وَاحِدٍ مِنْ أولاد سعد رضي الله عنه لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ ( وَلَا تَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي ) (5 )
    وقد ذكرهم الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (8/ 297) قال :
    أَمَّا قَوْل الْفَاكِهِيّ إِنَّهُ وُلِدَ لَهُ بَعْد ذَلِكَ أَرْبَعَة بَنِينَ وَإِنَّهُ لَا يَعْرِف أَسْمَاءَهُمْ فَفِيهِ قُصُور شَدِيد ، فَإِنَّ أَسْمَاءَهُمْ فِي رِوَايَة هَذَا الْحَدِيث بِعَيْنِهِ عِنْد مُسْلِم مِنْ طَرِيق عَامِر وَمُصْعَب وَمُحَمَّد ثَلَاثَتهمْ عَنْ سَعْد ، وَوَقَعَ ذِكْر عُمَر بْن سَعْد فِيهِ فِي مَوْضِع آخَر ، وَلَمَّا وَقَعَ ذِكْر هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيث عِنْد مُسْلِم اِقْتَصَرَ الْقُرْطُبِيّ عَلَى ذِكْر الثَّلَاثَة ، وَوَقَعَ فِي كَلَام بَعْض شُيُوخنَا تَعَقُّب عَلَيْهِ بِأَنَّ لَهُ أَرْبَعَة مِنْ الذُّكُور غَيْر الثَّلَاثَة وَهُمْ عُمَر وَإِبْرَاهِيم وَيَحْيَى وَإِسْحَاق ، وَعَزَا ذِكْرهمْ لِابْنِ الْمَدِينِيّ وَغَيْره ، وَفَاته أَنَّ اِبْن سَعْد ذَكَرَ لَهُ مِنْ الذُّكُور غَيْر السَّبْعَة أَكْثَر مِنْ عَشَرَة وَهُمْ عَبْد اللَّه وَعَبْد الرَّحْمَن وَعَمْرو وَعِمْرَان وَصَالِح وَعُثْمَان وَإِسْحَاق الْأَصْغَر وَعُمَر الْأَصْغَر وَعُمَيْر مُصَغَّرًا وَغَيْرهمْ ، وَذَكَرَ لَهُ مِنْ الْبَنَات ثِنْتَيْ عَشْرَة بِنْتًا .
    وَكَأَنَّ اِبْن الْمَدِينِيّ اِقْتَصَرَ عَلَى ذِكْر مَنْ رَوَى الْحَدِيث مِنْهُ وَاَللَّه أَعْلَم .)) انتهى
    ـ قَوْلُهُ ( أَفَأَتَصَدَّقُ ) كَانَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هِبَاتِ الْمَرِيضِ وَصَدَقَاتِهِ وَعِتْقِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِهِ لَا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ ثُمَّ تُوُفِّيَ فَأَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ مِنْهُمْ دَاوُدُ فِي هِبَةِ الْمَرِيضِ أَنَّهَا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ شُذُوذُهُمْ عَنِ السَّلَفِ وَمُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ( 6 )
    ـ ويدل على أن المريض مرض الموت المخوف لا يجوز أن يتصدق بأكثر من الثلث ،ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم سعدا رضي الله عنه بأن يتصدق بأكثر من الثلث ،و لأن ماله قد تعلق به حق الغير وهم الورثة .
    أما من كان صحيحاً ليس فيه مرض أو فيه مرض يسير لا يخشى منه الموت فله أن يتصدق بما شاء بالثلث أو بالنصف أو بالثلثين أو بماله كله لا حرج عليه .
    لكن لا ينبغي أن يتصدق بماله كله إلا إن كان عنده شيء يعرف أنه سوف يستغني به عن عباد الله .
    المهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم منعه أن يتصدق بأكثر من الثلث، وقال الثلث والثلث كثير أو كبير وفي هذا دليل على أنه إذا نقص عن الثلث فهو أحسن وأكمل
    ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير .)
    وقال أبو بكر رضي الله عنه: ( أرضى ما رضيه الله لنفسه يعني الخمس، فأوصى بالخمس رضي الله عنه .)
    وبهذا نعرف أن عمل الناس اليوم وكونهم يوصون بالثلث خلاف الأولى وإن كان هو جائزاً لكن الأفضل أن يكون أدنى من الثلث إما الربع أو الخمس .
    قال فقهاؤنا رحمهم الله والأفضل أن يوصى بالخمس لا يزيد عليه اقتداء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ( 7)
    قال ابن عبد البر رحمه الله في ( التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 8/ 381)
    فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الثُّلُثُ كَثِيرٌ ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْغَايَةُ الَّتِي إِلَيْهَا تَنْتَهِي الْوَصِيَّةُ وَإِنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْوَصِيَّةِ وَأَنَّ التَّقْصِيرَ عَنْهُ أَفْضَلُ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَقِبِ قَوْلِهِ الثُّلُثُ كَثِيرٌ ( وَلَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ) فَاسْتَحَبَّ لَهُ الْإِبْقَاءَ لِوَرَثَتِهِ وَكَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ
    ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : ( إِذَا كَانَ وَرَثَتُهُ قَلِيلًا وَمَالُهُ كَثِيرًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْلُغَ الثُّلُثَ فِي وَصِيَّتِهِ )
    وَاسْتَحَبَّ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْوَصِيَّةَ بِالرُّبُعِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : ( السُّنَّةُ فِي الْوَصِيَّةِ الرُّبُعُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ يُعْرَفُ فِي مَالِهِ شُبُهَاتٌ فَيَجُوزُ لَهُ الثُّلُثُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ )
    قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَا أَعْلَمُ لِإِسْحَاقَ حُجَّةً فِي قَوْلِهِ ( السُّنَّةُ فِي الْوَصِيَّةِ الرُّبْعُ ) وَهَذَا الَّذِي نَزَعَ بِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي تَسْمِيَةِ ذَلِكَ سُنَّةً وَقَدْ رُوِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ كَانَ يُفَضِّلُ الْوَصِيَّةَ بِالْخُمُسِ وَبِذَلِكَ أَوْصَى وَقَالَ ( رَضِيتُ لِنَفْسِي مَا رِضَى اللَّهُ لِنَفْسِهِ )كَأَنَّهُ يَعْنِي خُمُسَ الغنائم
    واستحب جماعة الوصية بالثلث وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ( جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فِي الْوَصِيَّةِ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ ) وَهُوَ حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَلْحَةُ ضَعِيفٌ رَوَى عَنْهُ هَذَا الْخَبَرَ وَكِيعٌ وَابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ
    وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لَا تَجُوزُ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ
    وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ( الثُّلُثُ وَسَطٌ لَا غَبْنَ فِيهِ وَلَا شَطَطَ) وَهَذَا لَا نَدْرِي مَا هُوَ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَيْسَتْ بِوَسَطٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ حُكْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَسَطٌ أَيْ عَدْلٌ وَالْوَسَطُ : الْعَدْلُ
    وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ( لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ فَلَيْتَهُمْ نَقَصُوا إِلَى الرُّبُعِ )
    وَقَالَ قَتَادَةُ الثُّلُثُ كَثِيرٌ وَالْقُضَاةُ يُجِيزُونَهُ وَالرُّبُعُ قَصْدٌ وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ بِالْخُمُسِ
    وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ الثُّلُثُ جَهْدٌ وَهُوَ جَائِزٌ وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ أَوْصَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالرُّبُعِ وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ بِالْخُمُسِ وَهُوَ أحب إلي ، وعن الثوري عن الأعمش عن إبرهيم قَالَ ( كَانَ الْخُمُسُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الرُّبُعِ وَالرُّبُعِ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الثُّلُثِ ) ، قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ وَأَبَا قِلَابَةَ يَقُولَانِ أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ بِالْخُمُسِ
    أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْدٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ أَوْصَانِي أَبِي أَنْ أَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ أَيُّ الْوَصِيَّةِ أَعْدَلُ فَمَا تَتَابَعُوا عَلَيْهِ فَهِيَ وَصِيَّتُهُ فَسَأَلْتُ : ( فَتَتَابَعُوا عَلَى الْخُمُسِ )
    قَالَ وَأَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : (كانُوا يَقُولُونَ صَاحِبُ الرُّبُعِ أَفْضَلُ مَنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ وَصَاحِبُ الْخُمُسِ أَفْضَلُ مَنْ صَاحِبِ الرُّبُعِ يَعْنِي فِي الْوَصِيَّةِ )
    ـ وقال أيضا (8/ 379)
    وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرِ مِنْ ثُلُثِهِ إِذَا تَرَكَ وَرَثَةً مِنْ بَنِينَ أَوْ عَصَبَةٍ وَاخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ يَتْرُكْ بَنِينَ وَلَا عَصَبَةً وَلَا وَارِثًا بِنَسَبٍ أَوْ نِكَاحٍ
    فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : (إِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ كُلِّهِ ) ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ مِثْلَهُ ، وَقَالَ بِقَوْلِهِمَا قَوْمٌ مِنْهُمْ مَسْرُوقٌ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَذَهَبَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ يَقُولُ بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الثُّلُثِ (فِي الْوَصِيَّةِ) إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَدَعَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ وَهَذَا لَا وَرَثَةَ لَهُ فَلَيْسَ مِمَّنْ عُنِيَ بِالْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَا مُوسَى ( أَجَازَ وَصِيَّةَ امْرَأَةٍ بِمَالِهَا كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ ) وَعَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ مَسْعُودٍ ( إِنَّكُمْ مِنْ أَحْرَى حَيٍّ بِالْكُوفَةِ أَنْ يَمُوتَ وَلَا يَدَعُ عصبة ولا رحما فما يمنعه إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَضَعَ مَالَهُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ )
    وَعَنْ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ ( إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَقْدٌ لِأَحَدٍ وَلَا عَصَبَةٌ يَرِثُونَهُ فَإِنَّهُ يُوصِي بِمَالِهِ كُلِّهِ حَيْثُ شَاءَ ) ، وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ مِثْلَهُ
    وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : ( لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ بوصي بِأَكْثَرِ مِنْ ثُلُثِهِ كَانَ لَهُ بَنُونَ أَوْ وُرِثَ كَلَالَةً أَوْ وَرِثَهُ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ بَيْتَ مَالِهِمْ عَصَبَةُ مَنْ لَا عَصَبَةَ لَهُ )
    وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا عَنْ طَوَائِفَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ .......
    وَأَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ جَازَتْ ( 8 ) وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ لَمْ يَجُزْ مِنْهَا إِلَّا الثُّلُثُ ، وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِنَّ الْوَصِيَّةَ بِأَكْثَرِ مِنَ الثُّلُثِ لَا تَجُوزُ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ يُجِيزُوهَا وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَيْسَانَ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمُزَنِيُّ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ حِينَ قَالَ لَهُ أُوصِي بِشَطْرِ مَالِي قَالَ لَا وَلَمْ يَقُلْ لَهُ إِنْ أَجَازَهُ وَرَثَتُكَ جَازَ وَكَذَلِكَ قَالُوا إِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ لَا تَجُوزُ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ يُجِيزُوهَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ )
    وَسَائِرُ الْفُقَهَاءِ يُجِيزُونَ ذَلِكَ إِذَا أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ وَيَجْعَلُونَهَا هِبَةً مُسْتَأْنَفَةً مِنْ قِبَلِ الْوَرَثَةِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا مِنْهُمْ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُمْ ......

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (7) شرح حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

    وقال في (384 )
    وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ إِلَّا عَلَى مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ بِغَيْرِ شَهَادَةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ فَرْضًا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَقَدْ أَشْهَدَ بِذَلِكَ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُوصِيَ بِهِ إِلَّا فِرْقَةً شَذَّتْ فَأَوْجَبَتْ ذَلِكَ وَالْآيَةُ بِإِيجَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي بَابِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يُوصِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانَتْ الوصية واجبة كَانَ أَبْدَرَ النَّاسِ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (( أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تُعْطِيَ وَأَنْتَ صحيح شحيح تأمل الغنى وَتَخْشَى الْفَقْرَ وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ النَّفْسُ الْحُلْقُومَ قُلْتَ هَذَا لِفُلَانٍ وَهَذَا لِفُلَانٍ )) وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ الزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ كَانَا يُشَدِّدَانِ عَلَى الرَّجُلِ فِي الْوَصِيَّةِ فَقَالَ ( مَا كَانَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَفْعَلَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَوْصَى وَأَوْصَى أَبُو بَكْرٍ فَإِنْ أَوْصَى فَحَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلَا بَأْسَ )
    قَالَ أَبُو عُمَرَ: لَيْسَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مَا يوصي فيه لأنه مخصوص بأن يكون كلما يَتْرُكُهُ صَدَقَةً
    قَالَ وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَوْنٍ يَقُولُ إِنَّمَا الْوَصِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَةِ فَأَحَبُّ إِلَيَّ إِذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ غَنِيًّا عَنْهَا أَنْ يَدَعَهَا
    وَأَمَّا قَوْلُ سَعْدٍ فِي الْحَدِيثِ ( وَأَنَا ذُو مَالٍ ) فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَا مَالٍ مَا أَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوَصِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ ( لَأَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ) وَقَدْ مَنَعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوِ ابْنُ عُمَرَ مَوْلًى لَهُمْ من أن يوصي وكان له سبع مائة دِرْهَمٍ وَقَالَ إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنْ تَرَكَ خَيْرًا وَلَيْسَ لَكَ كَثيرُ مَالٍ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : ( لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ وَرَثَتُهُ كَثِيرًا وَمَالُهُ قَلِيلًا أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ) قَالَ وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ : قَلِيلٌ ، وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ رَجُلٍ لَهُ أربع مائة دِرْهَمٍ وَلَهُ عِدَّةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَقَالَتْ : مَا فِي هَذَا فَضْلٌ عَنْ وَلَدِهِ .)) انتهى
    ـ وجاء في شرح النووي على مسلم (6/ 16):
    وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُرَاعَاة الْعَدْل بَيْن الْوَرَثَة وَالْوَصِيَّة ، قَالَ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ مِنْ الْعُلَمَاء : إِنْ كَانَتْ الْوَرَثَة أَغْنِيَاء اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِي بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاء اُسْتُحِبَّ أَنْ يَنْقُص مِنْ الثُّلُث . وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْأَعْصَار عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِث لَا تَنْفُذ وَصِيَّته بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُث إِلَّا بِإِجَازَتِهِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى نُفُوذهَا فِي جَمِيع الْمَال . وَأَمَّا مَنْ لَا وَارِث لَهُ فَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور أَنَّهُ لَا تَصِحّ وَصِيَّته فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُث ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَإِسْحَاق وَأَحْمَد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا .)) انتهى
    ـ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْوَصِيَّةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِمِقْدَارٍ لَا يُتَعَدَّى وَكَانَ مُرَادُهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كَلَامِهِ مَا بَيَّنَهُ عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )) يَعْنِي لِتُبَيِّنَ لَهُمْ مُرَادَ رَبِّهِمْ فِيمَا احْتَمَلَهُ التَّأْوِيلُ مِنْ كِتَابِهِمُ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِمْ ( 9 )
    ـ (( وفي الحديث أنه ينبغي للإنسان مشاورة أهل العلم لأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه استشار النبي صلى الله عليه وسلم حينما أراد أن يتصرف بشيء من ماله فقال: يا رسول الله إني ذو مال كثير ولا يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال: لا ..
    وكل إنسان بحسبه فمثلاً إذا كنت تريد أن تقدم على شيء من أمور الدين فشاور أهل العلم لأنهم أعلم بأمور الدين من غيرهم، إذا أردت أن تشتري بيتاً فشاور أصحاب المكاتب العقارية، إذا أردت أن تشتري سيارة فاستشر المهندسين في ميكانيكية السيارات وهكذا .
    ولهذا يقال: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار .
    والإنسان بلا شك لا ينبغي له أن يكمل نفسه، من ادعى الكمال لنفسه فهو الناقص بل لابد أن يراجع خصوصاً في الأمور الهامة التي تتعلق بمسائل الأمة فإن الإنسان قد يحمله الحماس والعاطفة على فعل شيء هو في نفسه حق ولا بأس به لكن التحدث عنه قد يكون غير طيب إما في الزمان أو في المكان أو في الحال .
    ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خوفاً من الفتنة فقال لعائشة رضي الله عنها: ( لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم ولجعلت لها بابين، باباً يدخل منه الناس وباباً يخرجون منه .)
    من أجل أن يتمكن الناس من دخول بيت الله عز وجل، لكن ترك ذلك خوف الفتنة مع كونه مصلحة .
    بل أعظم من ذلك أن الله نهى أن نسب آلهة المشركين مع أن آلهة المشركين جديرة بأن تسب وتعاب وينفر منها لكن لما كان سبها يؤدي إلى سب الرب العظيم المنزه عن كل عيب ونقص، قال الله عز وجل: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } فالمهم أنه ينبغي أن نعلم أن الشيء قد يكون حسناً في حد ذاته وفي موضوعه لكن لا يكون حسناً ولا يكون من الحكمة ولا من العقل ولا من النصح ولا من الأمانة أن يذكر في وقت من الأوقات أو في مكان من الأماكن أو في حال من الأحوال وإن كان هو في نفسه حقاً وصدقاً وحقيقة واقعة ومن ثم كان ينبغي للإنسان أن يستشير ذوي العلم والرأي والنصح في الأمر قبل أن يقدم عليه حتى يكون لديه برهان لأن الله قال لأشرف خلقه عليه الصلاة والسلام وأسدهم رأياًَ وأبلغهم نصحاً محمد صلى الله عليه وسلم قال: { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أسد الناس رأياً وأرجحهم عقلاً، وأبلغهم نصحاً .
    الإنسان ربما تأخذه العاطفة فيندفع ويقول هذا لله هذا أنا سأفعله، سأصدع بالحق سأقول سوف لا تأخذني في الله لومة لائم وما أشبه ذلك من الكلام ثم تكون العاقبة وخيمة، ثم إن الغالب أن الذي يحكم العاطفة ويتبع العاطفة ولا ينظر للعواقب ولا للنتائج ولا يقارن بين الأمور الغالب أنه يحصل على يديه من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله عز وجل مع أن نيته طيبة وقصده حسن لكن لم يحسن أن يتصرف لأن هناك فرقاً بين حسن النية وحسن التصرف قد يكون الإنسان حسن النية لكنه سيئ التصرف وقد يكون سيئ النية والغالب أنه سيئ النية سيئ التصرف، لكن مع ذلك قد يحسن التصرف لينال غرضه السيئ .
    فالإنسان يحمد على حسن نيته لكن قد لا يحمد على سوء فعله إلا أنه إذا علم منه أنه معروف بالنصح والإرشاد فإنه يعذر بسوء تصرفه ويلتمس له العذر ولا ينبغي أيضاً أن يتخذ من فعله هذا الرأي لم يكن موافقاً للحكمة بل لا يجوز أن يتخذ منه قدح في هذا المتصرف وأن يحمل ما لا يتحمله لكن يعذر ويبين له وينصح ويرشد ويقال يا أخي هذا كلامك أو فعلك حسن طيب وصواب في نفسه لكنه غير صواب في محله أو في زمانه أو في مكانه .
    المهم أن في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يستشير من هو أكمل منه رأياً وأكثر منه علماً .
    ـ وفيه من الفوائد: أنه ينبغي للمستشير أن يذكر الأمر على ما هو عليه حقيقة لا يلوذ يميناً وشمالاً بل يذكر الأمر حقاً على ما هو عليه حتى يتبين للمستشار حقيقة الأمر ويبني مشورته على هذه الحقيقة ولهذا قال سعد: (( إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة .))
    فقوله: إني ذو مال بيان لسبب العطية التي يريد أن يعطيها ولا يرثني إلا ابنة بيان لانتفاء المانع، يعني لا مانع من أن أوصي كثيراً لانتفاء الوارث .
    والمستشار عليه أن يتقي الله عز وجل فيما أشار فيه وأن لا تأخذه العاطفة في مراعاة المستشير لأن بعض الناس إذا استشاره الشخص ورأى أنه يميل إلى أحد الأمرين أو الرأيين ذهب يشير عليه به .
    ويقول: أنا أحب أن أوافق الذي يرى أنه يناسبه وهذا خطأ عظيم بل خيانة، الواجب إذا استشارك أن تقول له ما ترى أنه حق وأنه نافع سواء أرضاه أم لم يرضه، وأنت إذا فعلت هذا كنت ناصحاً وأديت ما عليك ثم إن أخذ به، ورأي أنه صواب فذاك وإن لم يأخذ به فقد برئت ذمتك .
    مع أنك ربما تستنتج شيئاً خطأ، قد تستنتج أنه يريد كذا وهو لا يريده فتكون خسراناً من وجهين: من جهة الفهم السيئ، ومن جهة القصد السيئ .
    ـ في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : (( لا )) دليل على أنه لا حرج أن يستعمل الإنسان كلمة (( لا )) وليس فيها شيء، فالنبي عليه الصلاة والسلام استعمل كلمة
    (( لا )) وأصحابه رضي الله عنهم استعملوا كلمة (( لا )) .
    فجابر رضي الله عنه لما أعيا جمله، ولحقه النبي عليه الصلاة والسلام، كيف لحقه وهو هزيل هل الجمل قدام الناس ؟ لا لكن من عادة الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه راعي أمته أن يمشي في الآخر لا يمشي قدامهم بل يمشي وراءهم لأجل أنه إذا احتاج أحد إلى شيء يساعده عليه الصلاة والسلام، انظر إلى التواضع وحسن الرعاية .
    لحق جابراً وكان جمله قد أعيا لا يمشي فضربه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له وقال: بعنيه بوقية قال جابراً (( لا )) قال : (( لا )) للرسول عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه الرسول عليه الصلاة والسلام .
    فلا مانع من كلمة (( لا )) فإنها ليست سوء أدب وخلق، كثير من الناس الآن يأنف أن يقول لا يقول سلامتك، هذا طيب أن تدعو له بالسلامة لكن إذا قلت لا فلا عيب عليك )) ( 10 )
    ـ قوله (( إلا ابْنَةٌ لي ))
    قال الحافظ في فتح الباري (8/ 297)
    وَهَذِهِ الْبِنْت زَعَمَ بَعْض مِنْ أَدْرَكْنَاهُ أَنَّ اِسْمهَا عَائِشَة ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَهِيَ غَيْر عَائِشَة بِنْت سَعْد الَّتِي رَوَتْ هَذَا الْحَدِيث عِنْده فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيه وَفِي الطِّبّ ، وَهِيَ تَابِعِيَّة عَمَّرَتْ حَتَّى أَدْرَكَهَا مَالِك وَرَوَى عَنْهَا وَمَاتَتْ سَنَة مَائَة وَسَبْعَة عَشْرَ ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُر أَحَد مِنْ النَّسَّابِينَ لِسَعْدٍ بِنْتًا تُسَمَّى عَائِشَة غَيْر هَذِهِ ، وَذَكَرُوا أَنَّ أَكْبَر بَنَاته أُمّ الْحَكَم الْكُبْرَى وَأُمّهَا بِنْت شِهَاب بْن عَبْد اللَّه بْن الْحَارِث بْن زُهْرَة ، وَذَكَرُوا لَهُ بَنَات أُخْرَى أُمَّهَاتهنَّ مُتَأَخِّرَات الْإِسْلَام بَعْد الْوَفَاة النَّبَوِيَّة ، فَالظَّاهِر أَنَّ الْبِنْت الْمُشَار إِلَيْهَا هِيَ أُمّ الْحَكَم الْمَذْكُورَة لِتَقَدُّمِ تَزْوِيج سَعْد بِأُمِّهَا ، وَلَمْ أَرَ مَنْ حَرَّرَ ذَلِكَ
    ـ قوله ((إنَّكَ إنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أغنِيَاءَ خيرٌ مِنْ أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يتكفَّفُونَ النَّاسَ ، وَإنَّكَ لَنْ تُنفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغي بِهَا وَجهَ اللهِ إلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فِيِّ امْرَأَتِكَ ))
    ـ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْبَنِينَ وَالزَّوْجَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَإِنْ تَرَكَ الْمَالَ لِلْوَرَثَةِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ بِهِ إِلَّا لِمَنْ كَانَ وَاسِعَ الْمَالِ وَالْأُصُولُ تُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَرْضٌ وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنَ التَّطَوُّعِ ( 11 )
    ـ وقال ابن عثيمين رحمه الله في شرحه ج 1 / ص 28
    إذا كان مال الإنسان قليلاً وكان ورثته فقراء فالأفضل أن لا يوصي بشيء لا قليل ولا كثير لقوله عليه الصلاة والسلام: ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة ) خلافاً لما يظنه بعض العوام أنه لابد من الوصية هذا خطأ، الإنسان الذي ماله قليل وورثته فقراء ليس عندهم مال لا ينبغي له أن يوصي، الأفضل أن لا يوصي .
    ويظن بعض العامة أنه إذا لم يوص فإنه لا أجر له وليس كذلك بل إذا ترك المال لورثته فهو مأجور في هذا، وإن كان الورثة يرثونه قهراً، لكن إذا كان مسترشداً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة ) فإن أجره بذلك أفضل من أن يتصدق عنه بشيء من ماله .
    (( ـ يدل الحديث على اِسْتِحْبَاب الْإِنْفَاق فِي وُجُوه الْخَيْر .
    ـ والحديث دليل على أَنَّ الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَاب عَلَى عَمَله بِنِيَّتِهِ ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْفَاق عَلَى الْعِيَال يُثَاب عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى .
    ـ والحديث يشير وينبه على أَنَّ الْمُبَاح إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى صَارَ طَاعَة ، وَيُثَاب عَلَيْهِ ، وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا بِقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَتَّى اللُّقْمَة تَجْعَلهَا فِي فِي اِمْرَأَتك ) ؛ لِأَنَّ زَوْجَة الْإِنْسَان هِيَ مِنْ أَخَصّ حُظُوظه الدُّنْيَوِيَّة وَشَهَوَاته وَمَلَاذه الْمُبَاحَة ، وَإِذَا وَضَعَ اللُّقْمَة فِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ فِي الْعَادَة عِنْد الْمُلَاعَبَة وَالْمُلَاطَفَة وَالتَّلَذُّذ بِالْمُبَاحِ ، فَهَذِهِ الْحَالَة أَبْعَد الْأَشْيَاء عَنْ الطَّاعَة وَأُمُور الْآخِرَة ، وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهَذِهِ اللُّقْمَة وَجْه اللَّه تَعَالَى ، حَصَلَ لَهُ الْأَجْر بِذَلِكَ ، فَغَيْر هَذِهِ الْحَالَة أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْر إِذَا أَرَادَ وَجْه اللَّه تَعَالَى ، وَيَتَضَمَّن ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَان إِذَا فَعَلَ شَيْئًا أَصْله عَلَى الْإِبَاحَة ، وَقَصَدَ بِهِ وَجْه اللَّه تَعَالَى يُثَاب عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَة اللَّه تَعَالَى ، وَالنَّوْم لِلِاسْتِرَاحَةِ ؛ لِيَقُومَ إِلَى الْعِبَادَة نَشِيطًا ، وَالِاسْتِمْتَاع بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَته ؛ لِيَكُفّ نَفْسه وَبَصَره وَنَحْوهمَا عَنْ الْحَرَام ؛ وَلِيَقْضِيَ حَقّهَا ؛ لِيُحَصِّل وَلَدًا صَالِحًا ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَفِي بُضْع أَحَدكُمْ صَدَقَة " وَاَللَّه أَعْلَم )) ( 12 )
    ـ قال المحدث العلامة عبدالمحسن العباد في شرح سنن أبي داود ص 2
    أن الإنسان حتى في الأمور التي للنفس فيها حظوظ إذا احتسب الأجر عند الله عز وجل فإنه يؤجر على ذلك، بل الأمور الواجبة على الإنسان من النفقات الواجبة من الناس من يحتسب الأجر ويرجو الثواب، ومنهم من يكون غافلاً عن ذلك ولا يفكر، ومن الناس من يمنع الحق الواجب عليه، ولا يخرج إلا عن طريق القاضي أو السلطان، مثل هذا لا يحصل أجراً على النفقة التي ألزم بها من جهة السلطان وهو غير منشرح الصدر لها، والإنسان الذي يؤدي ما هو واجب عليه، وما هو متعلق بحظ نفسه حتى مع أهله وزوجته فإنه يكون مأجوراً على ذلك.)) انتهى
    ـ أَنَّ سُؤَال سَعْد رضي الله عنه يُشْعِر بِأَنَّهُ رَغَّبَ فِي تَكْثِير الْأَجْر فَلَمَّا مَنَعَهُ الشَّارِع مِنْ الزِّيَادَة عَلَى الثُّلُث قَالَ لَهُ عَلَى سَبِيل التَّسْلِيَة إِنَّ جَمِيع مَا تَفْعَلهُ فِي مَالِك مِنْ صَدَقَة نَاجِزَة وَمِنْ نَفَقَة وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَة تُؤْجَر بِهَا إِذَا اِبْتَغَيْت بِذَلِكَ وَجْه اللَّه تَعَالَى ، وَلَعَلَّهُ خَصَّ الْمَرْأَة بِالذِّكْرِ لِأَنَّ نَفَقَتهَا مُسْتَمِرَّة بِخِلَافِ غَيْرهَا ( 13 )
    ـ قوله ((قَالَ : فَقُلتُ : يَا رسولَ اللهِ ، أُخلَّفُ بعدَ أصْحَابي ؟ قَالَ :إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعملَ عَمَلاً تَبتَغي بِهِ وَجْهَ اللهِ إلاَّ ازْدَدتَ بِهِ دَرَجةً ورِفعَةً ، وَلَعلَّكَ أنْ تُخَلَّفَ حَتّى يَنتَفِعَ بِكَ أقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخرونَ . ))
    ـ قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 8/ 387
    أَمَّا قَوْلُ سَعْدٍ ( أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي )
    فَمَعْنَاهُ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أُخَلَّفُ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِي الْمُهَاجِرِينَ الْمُنْصَرِفِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ
    وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ( إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ ) وَتُنْفِقُ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ أَيْقَنَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ أَوْ ظَنَّ ذَلِكَ فَاسْتَفْهَمَهُ هَلْ يَبْقَى بَعْدَ أَصْحَابِهِ فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبٍ مِنْ قَوْلِهِ ( لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ )
    وَهُوَ قَوْلُهُ ( إِنَّكَ إِنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ رِفْعَةً وَدَرَجَةً وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ )
    وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِتَصْرِيحٍ وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ كَمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَقَ فِي ذَلِكَ ظَنُّهُ وَعَاشَ سَعْدٌ حَتَّى انْتَفَعَ بِهِ أَقْوَامٌ وَاسْتَضَرَّ بِهِ آخَرُونَ
    وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ سَأَلْتُ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِيهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
    ( وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ ) فَقَالَ أُمِّرَ سَعْدٌ عَلَى الْعِرَاقِ فَقَتَلَ قَوْمًا عَلَى رِدَّةٍ فَأَضَرَّ بِهِمْ وَاسْتَتَابَ قَوْمًا سَجَعُوا سَجْعَ مُسَيْلِمَةَ فَتَابُوا فانتفعوا
    قَالَ أَبُو عُمَرَ: مِمَّا يُشْبِهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ رضي الله عنه هَذَا الْكَلَامُ قَوْلُهُ لِلرَّجُلِ الشَّعِثِ الرَّأْسِ ( مَالَهُ ضَرَبَ اللَّهُ عُنُقَهُ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقُتِلَ الرَّجُلُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ )
    وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ ( أَمِيرُكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ نَعَى إِلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ فَقُتِلُوا ثَلَاثَتُهُمْ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ)
    وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا قِصَّةُ عَامِرِ بْنِ سِنَانٍ حِينَ ارْتَجَزَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَيْرِهِ إِلَى خَيْبَرَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ يَا عَامِرُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْتَعْتَنَا بِهِ قَالَ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا اسْتَغْفَرَ لِإِنْسَانٍ قَطُّ يَخُصُّهُ بِذَلِكَ إِلَّا اسْتُشْهِدَ فَاسْتُشْهِدَ عَامِرٌ يَوْمَ خَيْبَرَ)
    وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِتَصْرِيحٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الْقَوْلِ وَلَا تَبْيِينٍ فِي الْمُرَادِ وَالْمَعْنَى وَلَكِنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ كُلُّهُ كَمَا تَرَى
    وَقَدْ خُلِّفَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَحْوَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ .
    ـ وَفِي هَذَا الْحَدِيث : فَضِيلَة طُول الْعُمْر لِلِازْدِيَادِ مِنْ الْعَمَل الصَّالِح ، وَالْحَثّ عَلَى إِرَادَة وَجْه اللَّه تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم .( 14 )
    ـ و فوائده اللطيفة الكثيرة القيمة : َأَنَّ أَعْمَال الْبِرّ وَالطَّاعَة إِذَا كَانَ مِنْهَا مَا لَا يُمْكِن اِسْتِدْرَاكه قَامَ غَيْره فِي الثَّوَاب وَالْأَجْر مَقَامه ، وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا خَافَ أَنْ يَمُوت بِالدَّارِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا فَيَفُوت عَلَيْهِ بَعْض أَجْر هِجْرَته ، فَأَخْبَرَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ إِنْ تَخَلَّفَ عَنْ دَار هِجْرَته فَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا مِنْ حَجّ أَوْ جِهَاد أَوْ غَيْر ذَلِكَ كَانَ لَهُ بِهِ أَجْر يُعَوِّض مَا فَاتَهُ مِنْ الْجِهَة الْأُخْرَى ( 15 )
    قوله ((اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابي هِجْرَتَهُمْ ولاَ تَرُدَّهُمْ عَلَى أعقَابهمْ ، لكنِ البَائِسُ سَعدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثي لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -أنْ ماتَ بمَكَّة ))
    ـ قوله: ( اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم )
    سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يمضي لأصحابه هجرتهم وذلك بثباتهم على الإيمان وبقائهم في الأوطان التي هاجروا إليها من مكة ولهذا قال: ولا تردهم على أعقابهم الرد على العقب يعني الكفر بعد الإسلام والعياذ بالله كما قال تعالى: { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }البقرة 217 ( 16 )
    ـ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْزَنُ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا لَا أَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ كَمَا ظَنَّ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسِّيَرِ وَالْخَبَرُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا نَصًّا، وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي جَرِيرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَرِضْتُ بِمَكَّةَ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمُوتُ بِأَرْضِي الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ هَذَا وَفِي آخِرِهِ ( لَكِنْ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ الْبَائِسُ قَدْ مَاتَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا ) ( 17 )


  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (7) شرح حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

    ـ قَوْله : ( يَرْثِي لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّة )
    قَالَ الْعُلَمَاء : هَذَا مِنْ كَلَام الرَّاوِي وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ اِنْتَهَى كَلَامه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : ( لَكِنْ الْبَائِس سَعْد بْن خَوْلَة )
    فَقَالَ الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِمَعْنَى هَذَا الْكَلَام : أَنَّهُ يَرْثِيه النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَجَّع لَهُ وَيَرِقّ عَلَيْهِ ؛ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّة .
    وَاخْتَلَفُوا فِي قَائِل هَذَا الْكَلَام مَنْ هُوَ ؟ فَقِيلَ : هُوَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص ، وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْض الرِّوَايَات ، قَالَ الْقَاضِي : وَأَكْثَر مَا جَاءَ أَنَّهُ مِنْ كَلَام الزُّهْرِيّ .
    قَالَ : وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَّة سَعْد بْن خَوْلَة فَقِيلَ : لَمْ يُهَاجِر مِنْ مَكَّة حَتَّى مَاتَ بِهَا .
    قَالَ عِيسَى بْن دِينَار وَغَيْره : وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ أَنَّهُ هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ اِنْصَرَفَ إِلَى مَكَّة وَمَاتَ بِهَا .
    وَقَالَ اِبْن هِشَام : إِنَّهُ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرهَا ، وَتُوُفِّيَ بِمَكَّة فِي حَجَّة الْوَدَاع ، سَنَة عَشْر ، وَقِيلَ : تُوُفِّيَ بِهَا سَنَة سَبْع فِي الْهُدْنَة ، خَرَجَ مُجْتَازًا مِنْ الْمَدِينَة ، فَعَلَى هَذَا وَعَلَى قَوْل عِيسَى بْن دِينَار سَبَب بُؤْسه سُقُوط هِجْرَته ؛ لِرُجُوعِهِ مُخْتَارًا ، وَمَوْته بِهَا ، وَعَلَى قَوْل الْآخَرِينَ سَبَب بُؤْسه مَوْته بِمَكَّة عَلَى أَيّ حَال كَانَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ لَمَا فَاتَهُ مِنْ الْأَجْر وَالثَّوَاب الْكَامِل بِالْمَوْتِ فِي دَار هِجْرَته ، وَالْغُرْبَة عَنْ وَطَنه إِلَى هِجْرَة لِلَّهِ تَعَالَى .
    قَالَ الْقَاضِي : وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مَعَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص رَجُلًا وَقَالَ لَهُ : ( إِنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّة فَلَا تَدْفِنهُ بِهَا ) ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِم فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى : ( أَنَّهُ كَانَ يَكْرَه أَنْ يَمُوت فِي الْأَرْض الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا ) ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لِمُسْلِمٍ ( قَالَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص : خَشِيت أَنْ أَمُوت بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْت مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْد بْن خَوْلَة ) ، وَسَعْد بْن خَوْلَة هَذَا : هُوَ زَوْج سُبَيْعَة الْأَسْلَمِيَّة . ( 18)
    ـ قال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله في حجة الوداع 1/ 443
    وقد وجدنا للأفاضل كلاما يأتون به تفسيرا للحديث يصلونه به ..... ووجدنا الزهري قد روى عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة زيارة النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتل ، فذكر كلام النبي صلى الله عليه وسلم : « لكن البائس سعد ابن خولة » ، ثم وصل به : يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة ، ولا شك في أن هذا اللفظ ليس من كلامه عليه الصلاة و السلام .)) انتهى
    وجاء في تحفة الأشراف (5/ 242) للحافظ المزي رحمه الله
    عن إبراهيم بن سعد، وقال في آخره: لكنَّ البائس سعد بن خولة ،
    قال الزهريُّ: يرثي له رسول الله إن مات بمكة.)) انتهى
    ـ وجاء في النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر 2/ 821 تحقيق العلامة المحدث ربيع بن هادي عمير المدخلي حفظه الله :
    ما أدرج في الحديث من كلام بعض التابعين
    وأما ما أدرج من كلام بعض التابعين أو من بعدهم في كلام الصحابة ـ رضي الله عنه - فمنه حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في قصة مرضه بمكة واستئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية، وفيه:
    لكن البائس سعد بن خولة - يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن مات بمكة فإن قوله: "يرثي له.." إلى آخره من كلام الزهري أدرج في الخبر إذ رواه عن عامر بن سعد، عن أبيه .)) انتهى
    ـ ولكن جاء في فتح الباري لابن حجر رحمه الله (8/ 297)
    وَقَوْل الزُّهْرِيِّ فِي رِوَايَته " يَرْثِي لَهُ إِلَخْ "
    قَالَ اِبْن عَبْد الْبَرّ : زَعَمَ أَهْل الْحَدِيث أَنَّ قَوْله : " يَرْثِي إِلَخْ " مِنْ كَلَام الزُّهْرِيِّ ، وَقَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ وَغَيْره : هُوَ مُدْرَج مِنْ قَوْل الزُّهْرِيِّ . قُلْت : وَكَأَنَّهُمْ اِسْتَنَدُوا إِلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن سَعْد عَنْ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّهُ فَصَّلَ ذَلِكَ ، لَكِنْ وَقَعَ عِنْد الْمُصَنِّف فِي الدَّعَوَات عَنْ مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل عَنْ إِبْرَاهِيم بْن سَعْد فِي آخِره " لَكِنَّ الْبَائِس سَعْد بْن خَوْلَة ، قَالَ سَعْد : رَثَى لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ " فَهَذَا صَرِيح فِي وَصْله فَلَا يَنْبَغِي الْجَزْم بِإِدْرَاجِهِ )) انتهى
    ـ قوله (لَكِنَّ الْبَائِسَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) الْبَائِسُ مَنْ أَصَابَهُ بُؤْسٌ أَيْ ضُرٌّ وَهُوَ يَصْلُحُ لِلذَّمِّ وَالتَّرَحُّمِ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا فَهُوَ ذَمٌّ وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ هَاجَرَ وَمَاتَ بِهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَهُوَ تَرَحُّمٌ
    (يَرْثِي لَهُ) مِنْ رَثَيْتُ الْمَيِّتَ مَرْثِيَّةً إِذَا عَدَدْتُ مَحَاسِنَهُ وَرَثَأْتُ بِالْهَمْزَةِ لُغَةٌ فِيهِ
    فَإِنْ قِيلَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المراثى كما رواه أحمد وبن مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَإِذَا نُهِيَ عَنْهُ كَيْفَ يَفْعَلُهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَرْثِيَّةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا مَا فِيهِ مَدْحُ الْمَيِّتِ وَذِكْرُ مَحَاسِنِهِ الْبَاعِثُ عَلَى تَهْيِيجِ الْحُزْنِ وَتَجْدِيدِ اللَّوْعَةِ أَوْ فِعْلِهَا مَعَ الِاجْتِمَاعِ لَهَا أَوْ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْهَا دُونَ مَا عَدَا ذَلِكَ وَالْمُرَادُ هُنَا تَوَجُّعُهُ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ وَتَحَزُّنُهُ عَلَى سَعْدٍ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنْهَا وَلَا مَدْحَ الْمَيِّتِ لِتَهْيِيجِ الْحُزْنِ كَذَا ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ ( 19 )
    ـ سئل العلامة عبدالمحسن العباد حفظه الله في شرح سنن أبي داود ص: 2
    السائل : يقول صاحب العون: ( يرثي له ) من رثيت الميت مرثية إذا عددت محاسنه، ورثأت بالهمزة لغة فيه، فإن قيل: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي) كما رواه أحمد و ابن ماجة وصححه الحاكم ، فكيف يفعله؟
    فالجواب: أن المرثية المنهي عنها ما فيه مدح الميت وذكر محاسنه الباعث على تهييج الحزن وتجديد اللوعة، أو فعلها مع الاجتماع لها، أو على الإكثار منها دون ما عدا ذلك، فما رأيكم؟
    الجواب: الظاهر أن الحديث ليس من هذا القبيل؛ لأنه قال: ( يرثي له )،
    وما قال: يرثيه، يعني: يتأسف عليه، ويحزن؛ لأنه ما حصل له الذي حصل لغيره، فهذا هو معنى ( يرثي له ) ؛ لأن يرثي له غير كونه يرثيه، فهو هنا يحزن أو يتأسف على الشيء الذي فاته من الخير، فهو بمثابة الفقير الذي فاته الغنى، فيكون هذا فاته ثواب تمام الهجرة. (والمراد هنا توجعه عليه السلام وتحزنه على سعد ؛ لكونه مات بمكة بعد الهجرة منها لا مدح الميت لتهييج الحزن، كذا ذكره القسطلاني ).انتهى
    ـ وجاء في شرح فتح الباري لابن حجر 8/ 297
    الرواية التالية ( (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا قَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ ... ))
    قَوْله : ( قَالَ يَرْحَم اللَّه اِبْن عَفْرَاء )
    كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة فِي رِوَايَة أَحْمَد وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَان " فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَم اللَّه سَعْد اِبْن عَفْرَاء ثَلَاث مَرَّات "
    قَالَ الدَّاوُدِيّ : " اِبْن عَفْرَاء " غَيْر مَحْفُوظ .
    وَقَالَ الدِّمْيَاطِيّ : هُوَ وَهْم ، وَالْمَعْرُوف " اِبْن خَوْلَة " قَالَ : وَلَعَلَّ الْوَهْم مِنْ سَعْد بْن إِبْرَاهِيم فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَحْفَظ مِنْهُ وَقَالَ فِيهِ " سَعْد بْن خَوْلَة " يُشِير إِلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَته بِلَفْظِ " لَكِنَّ الْبَائِس سَعْد بْن خَوْلَة يَرْثِي لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّة "
    قُلْت : وَقَدْ ذَكَرْت آنِفًا مَنْ وَافَقَ الزُّهْرِيَّ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَاب الْمَغَازِي وَذَكَرُوا أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَمَاتَ فِي حَجَّة الْوَدَاع ، وَقَالَ بَعْضهمْ فِي اِسْمه " خَوْلِيّ " بِكَسْرِ اللَّام وَتَشْدِيد التَّحْتَانِيَّة وَاتَّفَقُوا عَلَى سُكُون الْوَاو ، وَأَغْرَبَ اِبْن التِّين فَحَكَى عَنْ الْقَابِسِيّ فَتْحهَا ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن عُيَيْنَةَ فِي الْفَرَائِض " قَالَ سُفْيَان وَسَعْد بْن خَوْلَة رَجُل مِنْ بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ " ا هـ .
    وَذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُ كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ ثُمَّ لِأَبِي رُهْم بْن عَبْد الْعُزَّى مِنْهُمْ ، وَقِيلَ كَانَ مِنْ الْفُرْس الَّذِينَ نَزَلُوا الْيَمَن ، وَسَيَأْتِي شَيْء مِنْ خَبَره فِي غَزْوَة بَدْر مِنْ كِتَاب الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي حَدِيث سُبَيْعَة الْأَسْلَمِيَّة ، وَيَأْتِي شَرْح حَدِيث سُبَيْعَة فِي كِتَاب الْعَدَد مِنْ آخِر كِتَاب النِّكَاح .
    وَجَزَمَ اللَّيْث بْن سَعْد فِي تَارِيخه عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب بِأَنَّ سَعْد بْن خَوْلَة مَاتَ فِي حَجَّة الْوَدَاع وَهُوَ الثَّابِت فِي الصَّحِيح ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إِنَّهُ مَاتَ فِي مُدَّة الْهُدْنَة مَعَ قُرَيْش سَنَة سَبْع ، وَجَوَّزَ أَبُو عَبْد اللَّه بْن أَبِي الْخِصَال الْكَاتِب الْمَشْهُور فِي حَوَاشِيه عَلَى الْبُخَارِيّ أَنَّ الْمُرَاد بِابْنِ عَفْرَاء عَوْف بْن الْحَارِث أَخُو مُعَاذ وَمُعَوِّذ أَوْلَاد عَفْرَاء وَهِيَ أُمّهمْ ، وَالْحِكْمَة فِي ذِكْره مَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُ قَالَ يَوْم بَدْر "مَا يُضْحِك الرَّبّ مِنْ عَبْده ؟ قَالَ : أَنْ يَغْمِس يَده فِي الْعَدُوّ حَاسِرًا ، فَأَلْقَى الدِّرْع الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ "
    قَالَ : فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون لَمَّا رَأَى اِشْتِيَاق سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص لِلْمَوْتِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يَلِي الْوِلَايَات ذَكَرَ اِبْن عَفْرَاء وَحُبّه لِلْمَوْتِ وَرَغْبَته فِي الشَّهَادَة كَمَا يَذْكُر الشَّيْء بِالشَّيْءِ فَذَكَرَ سَعْد بْن خَوْلَة لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّة وَهِيَ دَار هِجْرَته وَذَكَرَ اِبْن عَفْرَاء مُسْتَحْسِنًا لِمِيتَتِهِ ا هـ مُلَخَّصًا .
    وَهُوَ مَرْدُود بِالتَّنْصِيصِ عَلَى قَوْله : " سَعْد اِبْن عَفْرَاء " فَانْتَفَى أَنْ يَكُون الْمُرَاد عَوْف وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْ طُرُق حَدِيث سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص أَنَّهُ كَانَ رَاغِبًا فِي الْمَوْت ، بَلْ فِي بَعْضهَا عَكْس ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ " بَكَى فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا يُبْكِيك ؟ فَقَالَ : خَشِيت أَنْ أَمُوت بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْت مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْد بْن خَوْلَة " وَهُوَ عِنْد النَّسَائِيِّ ، وَأَيْضًا فَمَخْرَج الْحَدِيث مُتَّحِد وَالْأَصْل عَدَم التَّعَدُّد ، فَالِاحْتِمَال بَعِيد لَوْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ عَوْف اِبْن عَفْرَاء وَاَللَّه أَعْلَم .
    وَقَالَ التَّيْمِيُّ : ( يَحْتَمِل أَنْ يَكُون لِأُمِّهِ اِسْمَانِ خَوْلَة وَعَفْرَاء) ا هـ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَحَدهمَا اِسْمًا وَالْآخَر لَقَبًا أَوْ أَحَدهمَا اِسْم أُمّه وَالْآخَر اِسْم أَبِيهِ أَوْ وَالْآخَر اِسْم جَدَّة لَهُ ، وَالْأَقْرَب أَنَّ عَفْرَاء اِسْم أُمّه وَالْآخَر اِسْم أَبِيهِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّهُ خَوْلَة أَوْ خَوْلِيّ ،.
    ـ وَفِيِ الحديث دَلِيلٌ عَلَى قَطْعِ الذَّرَائِعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ لِأَنَّ سَعْدًا وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَرُبَّمَا حَمَلَ غَيْرَهُ حُبُّ الْوَطَنِ عَلَى دَعْوَةِ الْمَرَضِ فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَلَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ ( 20 )
    ـ وَفِيهِ مَنْع نَقْل الْمَيِّت مِنْ بَلَد إِلَى بَلَد إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا لَأَمَرَ بِنَقْلِ سَعْد بْن خَوْلَة قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ
    ـ و من فوائده : َأَنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ لَا يَنْبَغِي لَهُ الرُّجُوع فِيهِ وَلَا فِي شَيْء مِنْهُ مُخْتَارًا ، وَفِيهِ التَّأَسُّف عَلَى فَوْت مَا يَحْصُل الثَّوَاب ، وَفِيهِ حَدِيث " مَنْ سَاءَتْهُ سَيِّئَة " وَأَنَّ مَنْ فَاتَهُ ذَلِكَ بَادَرَ إِلَى جَبْره بِغَيْرِ ذَلِكَ
    ـ وَفِيهِ النَّظَر فِي مَصَالِح الْوَرَثَة ، وَأَنَّ خِطَاب الشَّارِع لِلْوَاحِدِ يَعُمّ مِنْ كَانَ بِصِفَتِهِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ لِإِطْبَاقِ الْعُلَمَاء عَلَى الِاحْتِجَاج بِحَدِيثِ سَعْد هَذَا وَإِنْ كَانَ الْخِطَاب إِنَّمَا وَقَعَ لَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَاد .
    وَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَصّ بِسَعْدٍ وَمَنْ كَانَ فِي مِثْل حَاله مِمَّنْ يَخْلُف وَارِثًا ضَعِيفًا أَوْ كَانَ مَا يَخْلُفهُ قَلِيلًا لِأَنَّ الْبِنْت مِنْ شَأْنهَا أَنْ يُطْمَع فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ مَال لَمْ يُرْغَب فِيهَا. )) ( 21 )
    ـ وفي الحديث : أنه ما من إنسان يعمل عملاً يبتغي به وجه الله إلا ازداد به رفعة ودرجة حتى وإن كان في مكان لا يحل له البقاء فيه، لأن العمل شيء والبقاء شيء آخر .
    ولهذا كان القول الراجح من أقوال أهل العلم: أن الإنسان إذا صلى في أرض مغصوبة فإن صلاته صحيحة لأن النهي ليس عن الصلاة بل النهي عن الغصب .
    فالنهي منصب على شيء غير الصلاة فتكون صلاته صحيحة في هذا المكان المغصوب لكنه آثم ببقائه في هذا المكان المغصوب، نعم لو ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تصل في أرض مغصوبة، لقلنا إذا صليت في الأرض المغصوبة فصلاتك باطلة
    كما نقول إنك إن صليت في المقبرة فصلاتك باطلة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام هذا غير صلاة الجنازة لأنها تجوز حتى في المقبرة . ( 22 )
    فائدة : سئل العلامة عبدالمحسن العباد حفظه الله كما هو في شرح سنن أبي داود ص: 2
    السائل : من يطعنون في سعد رضي الله عنه هل لهم حظ من قوله صلى الله عليه وسلم: (ويضر بك آخرون) ؟
    الجواب: لا شك أن لهم نصيباً من هذا، ومعلوم أن هذا لا يختص بسعد بل كل من تكلم في الصحابة فإنه يضر نفسه ويجني عليها، كما قال الحافظ ابن حجر لما جاء عند حديث المصراة في فتح الباري، وكان بعض أتباع الأئمة الذين لا يقولون بمقتضى حديث المصراة الذي رواه أبو هريرة قالوا عنه: و أبو هريرة ليس كعبد الله بن مسعود في الفقه، وكأنه يغمز له بأنه ليس صاحب فقه كابن مسعود ، قال الحافظ ابن حجر : وقائل هذا الكلام إنما آذى نفسه، ومجرد تصوره كاف عن الحاجة إلى بيان فساده. ولا شك أن كل من يقع في أعراض آحاد المسلمين فإنه قد جنى على نفسه وضر نفسه؛ لأن الوقوع في سلف هذه الأمة وفي خير هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم الواسطة بين الناس وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين نقلوا الكتاب والسنة لا شك أنه من أعظم الجناية من الإنسان على نفسه؛ لأنه يتكلم في خيار الناس، وفي سادات هذه الأمة الذين هم خيرها وأفضلها، ولم يأت أحد بعدهم مثلهم؛ لأن الله تعالى أكرمهم في هذه الحياة الدنيا بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختار الله نبيه للرسالة، واختار له أصحاباً يجاهدون معه، ويتلقون الكتاب والسنة عنه، ويؤدونهما إلى الناس من بعدهم، فهم الواسطة بين الناس وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عرف الناس حقاً ولا هدى إلا عن طريق الصحابة، ومن لم يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق الصحابة فإنه لا صلة له بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا علاقة له بالرسول صلى الله عليه وسلم، وصلته بالرسول مبتورة مقطوعة؛ لأن الخير والحق والهدى ما وصل إلى الناس إلا عن طريق الصحابة، والله عز وجل اختاره للرسالة، واختار أصحابة لتحمل الرسالة وتلقيها عنه. ولهذا قال أبو زرعة الرازي : إذا رأيتم من ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أنه زنديق؛ وذلك أن الكتاب حق، والرسول حق، وإنما أدى إلينا الكتاب والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء -أي: الذين يتكلمون في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم- يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول، فالقاضي إذا جاء عنده شهود يشهدون فالمدعى عليه قدح في الشهود، فهذا الذي شهد به لا يعتبر؛ لأن الشاهد ردت شهادته، ولهذا يقول أبو زرعة : وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة؛ لأن القدح في الناقل قدح في المنقول، فليست القضية قضية أن من تكلم في سعد تضرر، بل من تكلم في آحاد من المسلمين فضلاً عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يضر نفسه.)) انتهى والحمد لله رب العالمين

    ( 1) المنتقى - شرح الموطأ (4/ 80):
    ( 2) وهذا مِنْ أَشْرَفِ أَنْوَاعِ الْعِلَاجِ، وَهُوَ الْإِرْشَادُ إِلَى مَا يُطَيِّبُ نَفْسَ الْعَلِيلِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي تَقْوَى بِهِ الطَّبِيعَةُ، وَتَنْتَعِشُ بِهِ الْقُوَّةُ، وَيَنْبَعِثُ بِهِ الْحَارُّ الْغَرِيزِيُّ، فَيَتَسَاعَدُ عَلَى دَفْعِ الْعِلَّةِ أَوْ تَخْفِيفِهَا الَّذِي هُوَ غَايَةُ تَأْثِيرِ الطَّبِيبِ.
    وَتَفْرِيحُ نَفْسِ الْمَرِيضِ، وَتَطْيِيبُ قَلْبِهِ، وَإِدْخَالُ مَا يَسُرُّهُ عَلَيْهِ، لَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي شِفَاءِ عِلَّتِهِ وَخِفَّتِهَا، فَإِنَّ الْأَرْوَاحَ وَالْقُوَى تَقْوَى بِذَلِكَ، فَتُسَاعِدُ الطَّبِيعَةَ عَلَى دَفْعِ الْمُؤْذِي، وَقَدْ شَاهَدَ النَّاسُ كَثِيرًا مِنَ الْمَرْضَى تَنْتَعِشُ قُوَاهُ بِعِيَادَةِ مَنْ يُحِبُّونَهُ، وَيُعَظِّمُونَهُ، وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُمْ، وَلُطْفِهِمْ بِهِمْ، وَمُكَالَمَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَهَذَا أَحَدُ فَوَائِدِ عِيَادَةِ الْمَرْضَى الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِمْ، فَإِنَّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَوَائِدِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمَرِيضِ، وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى الْعَائِدِ، وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْمَرِيضِ، وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى الْعَامَّةِ.
    وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَدْيِهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ الْمَرِيضَ عَنْ شَكْوَاهُ، وَكَيْفَ يَجِدُهُ وَيَسْأَلُهُ عَمَّا يَشْتَهِيهِ، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، وَرُبَّمَا وَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، وَيَدْعُو لَهُ، وَيَصِفُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ فِي عِلَّتِهِ، وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَى الْمَرِيضِ مِنْ وَضُوئِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ: «لَا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ اللُّطْفِ، وَحُسْنِ الْعِلَاجِ وَالتَّدْبِيرِ. ( انظر إلى الطب النبوي لابن القيم ص: 87)
    ( 3) فتح الباري لابن حجر (8/ 297)
    ( 4 ) شرح النووي على مسلم (6/ 16)
    (5 ) ، ( 6 ) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 8 / 373
    ( 7 ) شرح رياض الصالحين ابن عثيمين رحمه الله
    ( 8 ) قال العلامة ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين ص: ج 1 / 28
    ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز للمريض مرضاً مخوفاً أن يعطي أكثر من الثلث إلا إذا أجازه الورثة لأن الورثة تعلق حقهم بالمال لما مرض الرجل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( الثلث والثلث كثير)
    ( 9 ) التمهيد 8 / 381
    ( 10) شرح رياض الصالحين ابن عثيمين رحمه الله
    ( 11 ) التمهيد 8 / 387
    ( 12 ) شرح النووي على مسلم 6/ 16
    ( 13 ) فتح الباري لابن حجر 8/ 297
    ( 14 ) شرح النووي على مسلم 6/ 16
    ( 15 ) فتح الباري لابن حجر 8/ 297
    ( 16 ) شرح رياض الصالحين ابن عثيمين رحمه الله
    ( 17 ) التمهيد 8/ 392
    ( 18 ) شرح النووي على مسلم 6/ 16
    ( 19 ) عون المعبود وحاشية ابن القيم 8/ 47
    ( 20 ) التمهيد 8/ 391
    ( 21 ) فتح الباري 8/ 297
    ( 22 ) شرح رياض الصالحين ابن عثيمين رحمه الله


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 21-Mar-2011, 04:07 PM
  2. سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (2) شرح حديث ( إنما الأعمال بالنيات)
    بواسطة أبو أنس بشير بن سلة الأثري في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 18-Mar-2011, 04:10 PM
  3. مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 10-Mar-2011, 12:16 AM
  4. سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (4) شرح حديث ( لاهجرة بعد الفتح)
    بواسطة أبو أنس بشير بن سلة الأثري في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-Mar-2011, 01:49 AM
  5. سلسلة فتح القوي المتين بفوائد أحاديث رياض الصالحين (3) شرح حديث ( يغزوجيش الكعبة)
    بواسطة أبو أنس بشير بن سلة الأثري في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-Mar-2011, 01:46 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •