النتائج 1 إلى 2 من 2
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    شرق بلاد الجزائر الحبيبة
    المشاركات
    1,851

    نداءُ نَاصحٍ..الشيخ البخاري.

    نداءُ نَاصحٍ مُصلحٍ في القولِ بغيرِ علمٍ

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمدُ لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا مُحمَّدٍ وآله وصحبه وَسلَّم، وبعدُ:

    فَنَظراً لِمَا يَقْتضيه مقَامُ الإصْلاح و النُّصح لعامَّة المسْلِمينَ مِمَّا أَوْجَبَهُ النَّبيُّ الكَريم صلَّى الله عليه و آله وسلَّم، رَأْيتُ أنْ أُنَبِّهَ علَىَ أَمْرٍ مُهمٍّ جِدَّاً، فيهِ التَّذكيرُ لنَفسي- المقصِّرة- أوَّلاً ثُمِّ لإخْوَتِي ثَانياً، وحَاصلهُ:

    أنَّه مِنْ مُطَالَعَتِي عَلَى بَعْضِ الْمَقَالاَتِ وَالتَّعْليقات الَّتي تَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ الإِخْوَةَ- وفَّقهم الله- رَأيتُ أَمْراً مُخِيْفَاً وَمُحْزِنَاً فِي الوَقْتِ نَفْسِه!!، وَهُو نَذِيرُ شَرٍّ إنْ لَمْ يَتَداركنَا الله بِرَحْمَةٍ منْهُ وَ فَضْلٍ، أَلاَ وَهُو: الكتَابَةُ بِغَيْرِ عِلْمٍ!! وما يَتْبَعُ الكتَابَةَ مِنْ أُمُورٍ، مما يُخشى دُخُولُهُ في (القَولِ علَى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ)!

    وَلِهَذهِ الكتَابَات أَوْجُهٌ، فَمَثَلاً:
    1/ يَكْتُبُ أَحَدهمْ فِي أَمْرٍ مُقَرِّراً فيه (المنعَ ) أو (الْحَظْرَ)!! وَالصَّوابُ خِلاَفهُ نَصَّاً وَ اسْتِنْبَاطَاً؟!.

    2/ أَوْ يَكْتُبُ أَحدهمْ في أمْرٍ مُقرِّراً فيه (الإبَاحَةَ)!! والصَّوابُ خِلافهُ نَصَّاً واستنباطاً؟!

    3/ ضَرْبُ فَتَاوَى أَهْل العِلْمِ بَعْضهم بِبَعْضٍ؛ غَفْلَةً أوْ جَهْلاً أو قصداً !! وَكُلُّ ذَلكَ يُورِثُ التَّشكيكَ فِي أَهليَّتهم جَمِيْعاً !!

    ومَا عَلِمَ هَؤلاء أنَّه لَيْست كُلّ فَتْوى يَصِحُّ تَنْزِيْلُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَوْ تَصْلُحُ لكُلِّ أَحَدٍ، فالفَتَاوى لَهَا أَحْكَامُهُا وَآدَابُها؛ لذَا نَجِدُ أهلَ العِلْم مِنْهمْ مَنْ ألَّفَ فِي (أحكَام المفْتي والْمُسْتَفتي) كُتُبَاً مُسْتقلَّة، ومنْهُم مَنْ ضَمَّنها في كتابٍ كمَا هُو الْحَالُ فِي (إعلام الموقعين) للإمام ابن القيم.

    وَمِنَ الغَرِيْبِ- وَالغرائبُ جمَّةٌ، كمَا يقالُ- أنَّ بَعْضَهُم يَنْقُل فَتَوى لأحَد العُلماء كابْنِ بَازٍ أو غْيرهِ مِنْ إخْوَانِهِ العُلَماء، وبالتَّأَمُّلِ مليَّاً فِي كَلمَاتِهم تَجِدُ فيْها مَا يَنْقُضُ مَا أَرَادَ الاسْتِدلال بِهِ مِنْهَا؟!!
    وَ لَيْس الْمَقَام مَقَام بَسطٍ وكشفٍ لبعضِ تِلك المقالاَتِ! إنَّمَا الْمَقَامُ مَقَام تَذكيرٍ ونُصْحٍ وإرشَادٍ وتَنْبِيهٍ وإصْلاحٍ، وَاللبيبُ بِالإشَارَةِ يَفْهَمُ.

    وَحِرْصَاً مِنِّي عَلَى القِيَامِ بالإصلاحِ وَ وَاجبِ النُّصْحِ كَمَا أسْلَفتُ رَغِبْتُ أنْ أَكْتُبَ للإِخْوَةِ هَذه الكَلِمَات التَّذْكِيْرِيَّة عَلَّها تُنبِّهُ الغَافل وَتَرْدَعُ الْمُتَعَالِم.

    وقَبْلَ البَدْءِ أَقُولُ:
    لعَلَّ أكثرَ الإِخْوَةِ يَكْتُبُ عَنْ حُسْنِ قَصْدٍ وَحَمَاسَةٍ وَرَغْبَةٍ فِي الْخَيْرِ وَ حُبِّ الْخَيرِ لِلْغَيْرِ!!

    لكنَّ كُلُّ هَذا لاَ يَشْفَعُ لَهُ فِي أَنْ يَفْتَاتَ عَلَى الشَّريعَة، وَيَنْسِبَ لِلْمَنْهَجِ النَّبوي الشَّريف وسَلَفِ الأُمَّة الصَّالِح مَا لَيْسَ مِنْهُ!! فَكَمْ مِنْ مُرِيْدٍ لِلْخَيْرِ لَمْ يُصْبِهُ! فَتَأمَّلْ – يَا رَعَاكَ اللهُ- أنْ تزُجَّ بِنَفْسِكِ فِي الْمَهْلَكَةِ وَأَنْتَ لاَ تَشْعُرُ فَقَدْ نَصَحْتُكَ، والله الموعد!!.

    إضَاءةٌ مهمَّةٌ:

    قَالَ الإمامُ محمَّدُ بنُ إدريس الشَّافعي في(الرِّسالَة) (رقم 44،45،46 / ص19): "وَالنَّاسُ فِي العِلْمِ طَبَقَاتٌ، مَوقعُهم مِنَ العِلْمِ بِقَدرِ دَرَجَاتِهم فِي العِلْمِ بِهِ.
    فَحقٌّ عَلَى طَلَبَةِ العِلْمِ بُلُوغُ غَاية جَهْدِهم فِي الاسْتِكْثَارِ مِنْ عِلْمهِ وَالصَّبرِ عَلَى كُلِّ عَارِضٍ دُونَ طَلَبهِ، وَ إِخْلاَصِ النِّيَّةِ للهِ فِي اسْتِدْرَاكِ عِلْمهِ، نَصَّاً وَ اسْتِنْبَاطَاً، وَالرَّغْبة إلَى الله فِي العَوْنِ عَليهِ؛ فَإنَّه لاَ يُدْرَكُ خَيْرٌ إلاَّ بِعَونهِ.
    فَإنَّ مَنْ أَدْرَكَ عِلْمَ أَحْكَامِ الله فِي كتَابهِ نَصَّاً وَاسْتِدْلاَلاً، وَوَفَّقهُ الله لِلْقَولِ وَالعَمَلِ بِمَا عَلِمَ منْهُ: فَازَ بِالفَضِيْلَةِ فِي دِيْنهِ وَ دُنْيَاهُ، وَانْتَفتْ عَنْهُ الرِّيَبُ، وَنَوَّرتْ فِي قَلْبهِ الْحِكْمَةُ، وَاسْتَوجبَ فِي الدِّينِ مَوْضِعَ الإِمَامَةِ".

    ثم بعد هَذه الإضَاءَة أَقُولُ:

    إنَّ القَولَ بَغَيْرِ عِلْمٍ كَذِبٌ وَ افْتِيَاتٌ عَلَى الشَّريَعةِ، وَالقَولُ عَلَى الله كَذِبٌ عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، وهُو أَمْرٌ لَمْ يُبح الله عزَّ في عُلاهُ لأَحَدٍ أنْ يَتَقوّل عليه، حَتَّى قَال عزَّ وجلَّ عَنْ خليلهِ ورسولهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلَّم -وَ قَدْ عَصَمهُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ؟!!- قَالَ الله تَعالَى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ.لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (الحاقة:44-47).
    قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي (تفسيره) (4 / 415): "يقُولُ الله (ولو تَقوَّلَ عَليْنا) أيْ: مُحَمَّدصلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ كمَا يَزْعُمُونَ، مُفْتَرياً عَلْيَنَا فَزَادَ فِي الرِّسَالَةِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا أَوْ قَالَ شَيئاً مِنْ عِنْدِهِ فَنَسَبَهُ إليْنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لَعَاجَلْنَاهُ بِالعُقُوبَةِ، وَلِهَذا قَالَ تَعَالَى (لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِيْنِ)، قِيْلَ مَعْناهُ: لانْتَقَمْنَا منْهُ بِاليَمِينِ؛ لأنَّهَا أَشَدُّ فِي البَطْشِ، وَقيلَ: لأَخَذْنَا منْهُ بِيَمِيْنهِ، (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِيْن) قَالَ ابنُ عبَّاسٍ: هُو نِيَاطُ القَلْبِ، وَهُو العِرْقُ الَّذي القَلْبُ مُعَلَّقٌ فِيْهِ.
    وَفِي قَوله (فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عنْهُ حَاجِزين) أيْ: فمَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلى أَنْ يَحْجِزَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ إذَا أَرَدْنَا بِهِ شَيْئاً مِنْ ذَلكَ.
    والْمَعْنى فِي هَذا: بَلْ هُو صَادِقٌ بَارٌّ رَاشدٌ؛ لأنَّ الله تَعالَى مُقَررٌ لَهُ يُبَلِّغهُ عَنْهُ، وَمُؤيِّدٌ لَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ البَاهِرَاتِ وَالدَّلاَلاَت القَاطِعَاتِ".

    ومِنَ الأَدِلَّةِ فِي تَقْرِيْرِ هَذَا الْمَقَامِ:

    1/ قَالَ اللهُ تَعالَى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن افْتَرَىَ عَلَى اللهِ كَذِبَاً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إليَّ ولَمْ يُوحَ إليْهِ شَيْءٌ..) الآية من (سورة الأنعام: 93).

    قَالَ العَلاَّمةُ القُرْطِبيُّ فِي (الجامع لأحكام القرآن) (7 / 41): "قَولُه تَعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أيْ؛ لاَ أَحَدَ أَظْلَمُ، (مِمَّن افْتَرَى) أيْ؛ اخْتَلَقَ عَلَى الله كَذِباً، (أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ) فَزَعَمَ أنَّهُ نَبِيٌّ، (وَلَمْ يُوْحَ إليْهِ شَيْءٌ).
    -إلى أنْ قَالَ- وَ مِنْ هَذا النَّمَطِ مِنْ أَعْرَضَ عَنِ الفِقْهِ وَالسُّنَنِ وَمَا كَانَ عليْهِ السَّلَفُ مِنَ السُّنَن فَيَقُولُ: وَقَعَ فِي خَاطِري كَذا، أوْ أَخْبَرَنِي قَلْبي بِكَذا!!
    فَيَحْكُمونَ بِمَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهم وَيَغْلُبُ عَليهمْ مِنْ خَواطِرِهمْ، وَيَزْعُمون أنَّ ذلكَ لِصَفَائِها مِنَ الأَكْدَارِ وَخُلُوِّهَا عَنِ الأَغْيار، فَتَتَجَلَّى لَهُم العُلُوم الإلهيَّة وَالْحَقَائِق الرَّبَّانيَّة، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الكُلِّيَّاتِ ويَعْلَمُون أَحْكَام الْجُزْئيَّاتِ فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائع الكُليَّات، وَيَقُولُون: هَذهِ الأَحْكَامُ الشَّرعيَّة العَامَّة، إنَّمَا يُحْكَمُ بِها عَلى الأَغْبِيَاء وَالعَامَّة، وأمَّا الأَوْليَاءُ وَأَهْلُ الْخُصُوصِ، فَلاَ يَحْتَاجُونَ لِتِلْكَ النُّصُوص".
    وقالَ العلاَّمة السَّعدي في (تفسيره) (ص 226): "يَقُولُ الله تَعالَى: لاَ أَحَدَ أَعْظَمُ ظُلْمَاً وَلاَ أَكْبَرُ جُرْمَاً مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ بِأَنْ نَسَبَ إلَى اللهِ قَولاً أوْ حُكْمَاً وَهُو تَعَالَى بَرِئٌ مِنْهُ، وَإنَّمَا كَانَ هَذا أَظْلَم الْخَلْقِ؛ لأَنَّ فيْه مِنَ الكَذِبِ وَتَغْييرِ الأَدْيَانِ أُصُولِهَا وَ فُرُوعِهَا وَنِسْبَةِ ذَلكَ إلَى اللهِ تَعالَى مَا هُو مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسدِ".

    2/ قَالَ اللهُ تَعالَى (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النَّحل:116).

    قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي (تَفسيرهِ) (2 / 590): "نَهَى تَعالَى عَنْ سُلُوكِ سَبيلِ الْمُشْرِكين، الَّذين حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا بِمُجَرَّدِ مَا وَضَعوهُ وَاصْطَلَحُوا عليهِ مِنَ الأَسْمَاءِ بِآرَائِهم...- إلى أنْ قَال- وَيَدْخُلُ فِي هَذا كُلُّ مِنَ ابْتَدعَ بِدْعَةً لَيسَ لَهُ فِيْهَا مُسْتَندٌ شَرعيٌّ، أو حَلَّل شَيئاً مِمَّا حرَّمَ الله، أو حرَّمَ شيئاً مِمَّا أباحَ الله، بِمُجرَّد رَأيه أوْ تَشَهِّيهِ- إلى أَنْ قَالَ- ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلكَ فَقَالَ (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ، أمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَتَاعٌ قَلِيْلٌ، وأمَّا فِي الآخِرَةِ فَلَهُمْ عَذَابٌ أَليْمٌ، كَمَا قَالَ(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ)".

    قلتُ: وَ يَدْخُلُ فِي الكَذِبِ عَلَى اللهِ الكَذَب عَلَى رَسُولهِ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم؛ لأنَّ السُّنَّةَ وَحيٌّ قَالَ الله تَعَالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىَ إِنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌّ يُوحَى)، وَقَدْ تَوعَّدَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مَنْ كَذَبَ عَليهِ كَمَا جَاءَ فِي (الصَّحِيْحَينِ) فِي قَوله (إنَّ كَذِبَاً عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبوَّأْ مَقعدهُ مِنَ النَّارِ).

    3/ قالَ تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)

    (الأعراف:33). قَالَ الإمَامُ الْهُمَام ابْنُ القَيِّمِ فِي كتَابهِ العَظِيم (إعْلاَمُ الْمُوقِّعين عَنْ رَبِّ العَالَمين) (1 / 38): "وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ، بَلْ جَعَلَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا مِنْهَا ، فَقَالَ تَعَالَى (قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)

    فَرَتَّبَ الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، وَبَدَأَ بِأَسْهَلِهَا وَهُوَ الْفَوَاحِشُ ، ثُمَّ ثَنَّى بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْهُ وَهُوَ الإِثْمُ وَالظُّلْمُ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ تَحْرِيمًا مِنْهُمَا وَهُوَ الشِّرْكُ بِهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ رَبَّعَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ بِلاَ عِلْمٍ.

    وَهَذَا يَعُمُّ الْقَوْلَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِلاَ عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَفِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَقَالَ تَعَالَى (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )، فَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ بِالْوَعِيدِ عَلَى الْكَذِبِ عَلَيْهِ فِي أَحْكَامِهِ، وَقَوْلِهِمْ لِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ : هَذَا حَرَامٌ ، وَلِمَا لَمْ يُحِلَّهُ : هَذَا حَلاَلٌ ، وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ إلاَّ بِمَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَلَّهُ وَحَرَّمَهُ.

    وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقُولَ : أَحَلَّ اللَّهُ كَذَا ، وَحَرَّمَ كَذَا ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : كَذَبْتَ، لَمْ أُحِل كَذَا ، وَلَمْ أُحَرِّمْ كَذَا؛ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ وُرُودَ الْوَحْيِ الْمُبِينِ بِتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ أَحَلَّهُ اللَّهُ وَ حرَّمه اللَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ أَوْ بِالتَّأْوِيلِ
    وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَمِيرَهُ بُرَيْدَةَ أَنْ يُنزلَ عَدُوَّهُ إذَا حَاصَرَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَقَالَ: (فَإِنَّك لاَ تَدْرِي أَتُصِيب حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك)؛ فَتَأَمَّلْ كَيْف فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ الأَمِيرِ الْمُجْتَهِدِ، وَنَهَى أَنْ يُسَمَّى حُكْمُ الْمُجْتَهِدِينَ حُكْم اللَّهِ .
    وَمِنْ هَذَا لَمَّا كَتَبَ الْكَاتِبُ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حُكْمًا حَكَمَ بِهِ فَقَالَ: هَذَا مَا أَرَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، فَقَالَ: (لاَ تَقُلْ هَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ: هَذَا مَا رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ).
    وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : (لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَلاَ مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا ، وَلاَ أَدْرَكْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَقُولُ فِي شَيْءٍ : هَذَا حَلاَلٌ ، وَهَذَا حَرَامٌ ، وَمَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ : نَكْرَهُ كَذَا ، وَنَرَى هَذَا حَسَنًا ؛ فَيَنْبَغِي هَذَا ، وَلاَ نَرَى هَذَا ) وَرَوَاهُ عَنْهُ عَتِيقُ ابْنُ يَعْقُوبَ، وَزَادَ : (وَلاَ يَقُولُونَ: حَلاَلٌ وَلاَ حَرَامٌ ، أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ)، الْحَلاَلُ : مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ".

    وقال الإمامُ ابنُ القيِّم أيضاً في كتابه (مدارج السَّالكين) (1 / 372): "القولُ علَى اللهِ بغيرِ علمٍ، هُو أشدُّ هذه المحرَّماتِ تحريماً، وأعظمُها إثْمَاً، ولهذا ذُكرَ في المرتبةِ الرَّابعة من المحرَّمات الَّتي اتَّفقت عليها الشَّرائعُ والأديانُ، ولا تُباحُ بحالٍ، بلْ لا تَكونُ إلاَّ محرَّمةً، وليستْ كالميتةِ والدَّمِ ولحمِ الخنزيرِ، الذي يُباحُ في حالٍ دونَ حالٍ.

    فإنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوعَانِ:
    مُحَرَّمٌ لذاتهِ، لا يُباحُ بحالٍ.
    ومُحَرَّمٌ تحريماً عارضاً في وقتٍ دونَ وقتٍ.

    قَالَ الله تَعالَى فِي الْمُحَرَّم لذَاتهِ (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )، ثُمَّ انْتقلَ منهُ إلى مَا هُو أَعْظَمُ منْهُ فَقَالَ (وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، ثُمَّ انْتَقَلَ منْهُ إلَى مَا هُو أَعْظَمُ منْهُ فَقَالَ (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً)، ثُمَّ انْتَقَلَ منْهُ إلَى مَا هُو أَعْظَمُ مِنْهُ فَقَالَ (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ).

    فَهَذا أَعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ عنْدَ الله وَأَشَدُّها إثْمَاً، فَإنَّهُ يَتَضَمَّنُ الكَذِبَ عَلَى الله، وَنِسْبَتهِ إلَى مَا لاَ يَلِيْقُ بهِ، وَ تَغْيِيرِ دِيْنهِ وَتَبْدِيلهِ، وَنَفْي مَا أَثْبَتَهُ وَإثْبَاتِ مَا نَفَاهُ، وتَحْقِيْقَ مَا أَبْطَلَهُ وَ إبْطَالِ مَا حَقَّقَهُ، وَ عَدَاوَةَ مَنْ وَالاَهُ وَمُوالاةَ مَنْ عَادَاهُ، وَحُبَّ مَا أبْغَضَهُ وَبُعْضَ مَا أحبَّهُ، وَ وَصْفَهُ بِمَا لاَ يَليقُ بهِ فِي ذَاتهِ وَصِفَاتهِ وَأَقْوَالهِ وَأَفْعَالهِ.
    فَلَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْمُحَرَّمَاتِ أَعْظَمُ عنْدَ اللهِ منْهُ، وَلاَ أَشَدُّ إثْماً، وهُو أَصْلُ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ، وعليْهِ أُسِّسَتِ البِدَعُ وَالضَّلاَلاَتُ، فَكُلُّ بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ فِي الدِّينِ أَسَاسُهَا القَولُ عَلى الله بِلاَ عِلْمٍ.

    وَلِهَذا اشتدَّ نَكيرُ السَّلفِ وَالأئمَّةِ لَهَا، وصَاحُوا بِأَهْلِهَا مِنْ أَقْطَارِ الأَرْضِ، وَحَذَّروا فِتْنَتَهُم أَشَدَّ التَّحْذيرِ، وبَالَغُوا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَالِغُوا مِثْلَهُ فِي إنْكَارِ الفَواحشِ، وَالظُّلْمِ وَالعُدْوَانِ، إذْ مَضَرَّةُ البِدَعِ وَهَدْمُها للدِّيْنِ وَمُنَافَاتُهَا له أشدُّ.

    وَقَد أنْكرَ اللهُ تَعالَى عَلَى مَنْ نَسَبَ إلَى دِيْنهِ تَحْليلَ شَيءٍ أوْ تَحْريْمَهُ مِنْ عنْدهِ بِلاَ بُرْهَانٍ مِنَ الله، فقَالَ (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)، فكيفَ بِمَنْ نَسَبَ إلى أَوْصَافهِ سُبْحَانَه وتَعالَى مَا لَمْ يَصِف به نَفْسهُ؟ أو نَفىَ عنْهُ مِنْهَا مَا وَصَفَ بِه نَفْسَهُ؟!
    قَالَ بَعضُ السَّلفِ: لِيَحْذَرَ أَحَدُكُمْ أنْ يَقُولَ: أَحَلَّ اللهُ كَذَا، وحَرَّمَ اللهُ كَذا، فَيَقُولُ الله: كَذَبْتَ، لَمْ أُحِلَّ هَذا، ولَمْ أُحَرِّمْ هَذا.
    يعني التَّحليلَ وَالتَّحريْمَ بِالرَّأي الْمُجرَّدِ، بِلاَ بُرْهَانٍ منَ الله وَرَسولهِ.
    وأصْلُ الشِّرْكِ وَالكُفرِ هُوَ: القَولُ عَلَى الله بلاَ عِلْمٍ، فَإنَّ الْمُشْرِكَ يَزْعُمُ أَنَّ مَن اتَّخَذَهُ مَعْبُوداً مِنْ دُونِ الله يُقَرِّبُهُ إلَى الله، وَيَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ بِوَاسِطَتهِ، كمَا تَكُونُ الوَسَائِطُ عِنْدَ الْمُلُوكِ، فَكُلُّ مُشْرِكٍ قَائِلٌ عَلى الله بِلاَ عِلْمٍ، دُونَ العَكس، إذ القَولُ عَلى الله بِلاَ عِلْمٍ قَدْ يَتَضَمَّنُ التَّعْطِيْلَ وَالابْتِدَاعَ فِي دِينِ الله، فهُو أعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ، وَالشِّرْكُ فَردٌ منْ أَفْرادهِ.

    ولَهذا كانَ الكَذبُ عَلَى رَسُولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مُوجِبَاً لدُخُولِ النَّارِ، وَاتِّخَاذِ مَنْزلهِ مِنْهَا مُبَوَّأً، وهُو الْمَنْزِلُ اللازمُ الَّذي لاَ يُفَارِقُهُ صَاحبُهُ، لأنَّهُ مُتَضمِّنٌ للقَولِ عَلَى اللهِ بِلاَ عِلْمٍ، كَصَريحِ الكَذبِ عَليهِ؛ لأنَّ مَا انْضَافَ إلَى الرَّسُولِ فَهُو مُضَافٌ إلَى الْمُرْسِلِ، وَالقَولُ عَلَى الله بِلاَ عِلْمٍ صَرِيحُ افْتراءِ الكَذِبِ عَليهِ (وَمٍَنْ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَىَ عَلَىَ اللهِ كَذِباً).

    فَذُنُوبُ أهْلِ البِدَعِ كُلُّها دَاخِلةٌ تَحتَ هَذا الْجِنْسِ، فَلا تَتَحَقَّقُ التَّوبةُ منْهُ إلاَّ بالتَّوبَةِ مِنَ البِدَعِ، وَأنَّى بالتَّوبة منْهَا لِمَنْ لَمْ يَعْلَم أنَّها بدْعةٌ، أو يَظنُّها سنَّةً، فَهُو يَدْعُو إليْهَا، وَيَحُضُّ عليْها؟ فَلاَ تَنْكَشِفُ لِهَذا ذُنُوبهُ الَّتي تَجِبُ عليهِ التَّوبةُ منْهَا إلاَّ بِتَضَلُّعِهِ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَثْرَةِ اطِّلاعهِ عَليْهَا، وَدَوامِ البَحْثِ عَنْهَا وَ التَّفْتِيْشِ عَليْهَا، وَلاَ تَرىَ صَاحبَ بِدْعَةٍ كَذَلكَ أَبَدَاً".

    و أخيراً أقولُ: للشَّيخ العلاَّمة عبدالرَّحمن السَّعدي كلامٌ نفيسٌ في أهمِّيَّةِ قَولِ (الْمُعلِّمِ) لـ(الْمُتَعلِّم) جَواباً فيَمَا لاَ يَعْلَمهُ: (اللهُ أَعْلَم)، قَالَهُ فِي رِسَالَةٍ مُخْتَصَرةٍ نَافِعَةٍ فِي (آدَاب الْمُعلِّمِ والمتعَلِّم) (ص 27) مِنْ أنَّ ذلكَ: "لَيْسَ هَذَا بنَاقصٍ لأَقْدَارِهمْ، بَلْ هَذا مِمَّا يَزِيدُ قَدْرَهُمْ، وَ يُسْتَدَلُّ به عَلَى دِيْنِهمْ، وَتَحرِّيهمْ للصَّواب.

    وفِي تَوقُّفه عمَّا لاَ يَعْلَمُ فَوائد كَثِيرة:

    منْها: أنَّ هَذا هُو الوَاجِبُ علَيْهِ.

    ومنها: أنَّه إذَا تَوقَّفَ وَقالَ: لا أَعْلَمُ، فَمَا أَسْرَعَ مَا يَأْتيهِ عِلْم ذَلكَ، إمَّا مِنْ مُرَاجَعَتِهِ أوْ مُرَاجَعةِ غَيْرهِ، فإنَّ الْمُتَعلِّمَ إذَا رَأى مُعَلِّمهُ تَوقَّفَ جَدَّ واجْتَهَدَ فِي تَحْصيلِ عِلْمهَا وَإتْحَافِ الْمُعَلِّمِ بِهَا، فمَا أَحْسَنَ هَذا الأَثر.

    ومنْها: أنَّهُ إذَا تَوقَّفَ عمَّا لاَ يَعرف كانَ دَليلاً عَلَى ثِقَتهِ وَإِتْقَانهِ فِيْمَا يَجْزِمُ به منَ الْمَسَائلِ، كمَا أنَّ مَنْ عُرِفَ منْهُ الإقْدَام عَلى الكَلاَمِ فيْمَا لاَ يَعْلَمُ كَانَ ذَلكَ دَاعياً للرّيب فِي كُلِّ مَا يَتَكلَّمُ بهِ، حَتَّى فِي الأُمُورِ الوَاضِحَةِ.

    ومنْها: أنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا رَأَى منْهُ الْمُتَعلِّمُونَ تَوقُّفهُ عمَّا لاَ يَعْلَمُ، كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيْماً لَهُم وَ إرْشَاداً إلى هَذهِ الطَّريْقَة الْحَسَنَةِ، وَالاقْتِدَاءُ بالأَحْوَالِ وَالأَعْمَالِ أَبْلَغُ مِنَ الاقْتِدَاءِ بِالأَقْوَالِ..".

    قلتُ: فهذه بعض الفوائد المرتبة على قولِ (المعلِّم) (الله أعلم) أو (عدم القول بلا علم)، فلا شكَّ أنَّ قولها من (المتعلِّم) آكدُ وألزمُ.
    (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (هود: من الآية88).

    أَسْأَلُ اللهَ العَظِيم رَبَّ العَرْشِ الكَرِيْم أنْ يُوفِّقَنَا جَمِيْعاً لِمَا يُحبِّهُ وَيَرْضَاهُ، وأنْ يَجْعَلنَا هُداةً مُهْتَدين غَيرَ ضَالِّينَ وَلاَ مُضِلِّين، إنَّه سَمِيعٌ مُجِيبٌ، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم.

    منقول من م الشيخ البخاري.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    شرق بلاد الجزائر الحبيبة
    المشاركات
    1,851

    افتراضي رد: نداءُ نَاصحٍ..الشيخ البخاري.

    جواب استشكال عن لفظة (فما يُسأل عن شيء غيرها) في حديث سؤال القبر
    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمدُ لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّدٍ وآله وصحبه أجمعين، وبعدُ:

    فقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ مَقالاً في هَذه الشَّبكة- شَبَكة سحاب السَّلفية- المباركة إنْ شَاء الله، بعُنْوَان (نداءُ نَاصِحٍ مُصْلِحٍ) فِي 27/ 12/ 1429هـ، ومضمونُهُ التَّرْهِيب عَن القَولِ عَلى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ، وكانَ البَاعثُ عليه مَا رأيتُه مِنْ كتَابَاتٍ نُشِرت في مَواقع شتَّى، فيْهَا افْتِيَاتٌ علَى الشَّرع الْمُطَهَّر، يَدُلُّ على خُروجٍ بيِّنٍ عَنْ مَسَالِكِ أهْلِ العِلْمِ وطُلاَّبه، وقد أفْصَحْتُ عنْ بَعض أوجه ذلك الافْتِيَات فِي مَقالي الْمُشَارِ إليهِ بِمَا يُغْنِي عَنْ تِكْرارهِ هُنا.

    لكنْ كأنِّي بالأَمْرِ يَتَجدَّد، وَ بِصُورٍ أكْثَر- ولا حَولَ ولاَ قُوَّة إلا بالله-؛ فَمِنْ ذَلِكَ نَشْرُ بَعضهم كِتَاباتٍ وَمَقَالاتٍ حَمَلت هزَالاً عِلميَّاً، وبُعْدَاً عَنِ الرَّصَانَةِ الدَّالة عَلى أَصَالَةٍ وَقُوَّة علميَّة، ومَعَ الأسفِ تُسوَّق على أنَّها ذَات طَابعٍ عِلميٍّ أَصيلٍ رَصينٍ، تَحْمِلُ الْحُجَّة والبُرْهَان- زَعَمُوا-!

    وبالنَّظرِ فيها يظهرُ للمنْصِفِ – بِجلاءٍ- تَجَذُّر هَذا الدَّاء العُضَال، أعني الافتيات على الشَّرع، مَعَ الدَّعاوى العريضة و البهْرِج المزيَّف، يُصَاحبه عُجبٌ مُهْلِكٌ!! وَخُلُّوِهَا مِنَ الرَّصانة العلميَّة فضلاً عَن الأصالةِ! أمَّا الحجَّة والبرهان فهو مِن جنْس الدَّعاوى العريضة، تَهويلاً لا غَير، إذْ مِنَ الْمَعْلُوم أنَّ: الدَّعاوى يَسْتَطِيعُهَا كُلّ أحدٍ، لكنْ هَلْ الكُلّ يَستطيعُ أنْ يُثْبتَ صِحَّتها بِبُرْهَانٍ ثَابِتٍ، وفَهْمٍ صَحيحٍ مبني على التَّجرُّد التَّامِّ والعِلْمِ الرَّاسخ، على سَنَنِ الرَّاسخين فِي العِلْمِ!!

    قالَ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في (الرَّد على البكري) (2 / 729) :" العِلْمُ شَيئان: إمَّا نقلٌ مُصَدَّقٌ، وإمَّا بَحْثٌ مُحقَّقٌ، ومَا سِوَى ذَلِكَ فَهَذَياَنٌ مُزَوَّقٌ".

    وقال تلميذه شيخُ الإسلام ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية)(ص 45-46):"..فَليسَ العِلْمُ كَثرة النَّقْلِ وَالبَحثِ وَ الكَلامِ، ولكنْ نُورٌ يُمَيِّزُ بِه صَحِيْح الأَقْوَالِ مِنْ سَقِيْمهَا وَحَقّها مِنْ بَاطِلهَا، وَ مَا هُو مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ مِمَّا هُو مِنْ آرَاءِ الرِّجَالِ، وَ يُمَيِّزُ النَّقْدَ الَّذي عَليهِ سكَّة أهْلِ الْمَدينَةِ النَّبويَّةِ؛ الَّذي لا يَقْبَلُ الله عَزَّ وجلَّ ثَمناً لِجَنَّتهِ سِوَاهُ مِنَ النَّقدِ الَّذي عليهِ سكَّة جِنْكِسخَان وَنُوابهُ مِنَ الفَلاسِفَةِ وَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزلَةِ، وَ كُلّ مَن اتَّخذَ لِنَفْسهِ سكَّةً وَ ضَرباً وَ نَقداً يُرَوِّجهُ بَيْن العَالَمِ، فَهذه الأَثْمَانُ كُلّهَا زُيُوفٌ لاَ يَقْبَلُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعالَى فِي ثَمَنِ جَنَّتهِ شَيئاً مِنْهَا، بَل تُردُّ عَلى عَامِلهَا أَحْوَج مَا يَكُون إليْهَا، وَ تَكُونُ مِنَ الأْعَمَالِ الَّتي قَدِمَ اللهَ تَعالَى عَليْهَا فَجَعَلهَا هَباءً مَنْثُوراً.." إلى آخر كلامهِ المهمِّ، فانظرهُ غير مأمورٍ.

    وبعدَ هذا التَّمهيد، أَقُولُ:

    إنَّه قَد سَألني بعضُ طلبتي- طلبة العِلْم الشَّرعي- بالمدينة النبوية عَنْ لَفْظَةٍ وردت في حديثِ أنسِ بنِ مَالكٍ رضي الله عنه، هَلْ هِي ثَابتة أم لا؟

    فكانَ أنْ كتبتُ هذه الدِّراسة حولها، وبالله التَّوفيق:

    الكلامُ عن لفظةٍ وردت في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه

    أولاً: نصُّ الحديث:

    عن أنسٍ رضي الله عنه قالَ:إنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم دخلَ نَخْلاً لِبَنِي النَّجَّار فَسَمِعَ صَوتاً فَفَزِعَ، فَقَالَ: (مَنْ أَصْحَابُ هَذه القُبُورِ ؟).

    قَالُوا يَا رَسُولَ الله: نَاسٌ مَاتُوا فِي الْجَاهِليَّةِ. فَقَالَ: ( تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ).

    قَالُوا: وَمِمَّ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: (إنَّ الْمُؤْمنَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرهِ أتَاهُ مَلَكٌ فَيَقَولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَإنِ اللهُ هَدَاهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللهَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: هُو عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيءٍ غَيَرْهَا، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إلَى بَيْتٍ كانَ لَهُ فِي النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَيْتُكَ كَانَ لَكَ فِي النَّارِ، وَلِكنَّ اللهَ عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ فَأَبْدَلَكَ بِهِ بَيْتَا فِي الْجَنَّةِ.


    فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِرَّ أَهْلِي. فَيُقالُ لَهُ: اسْكُنْ.

    وَإنَّ الكَافِرَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَنْتَهرَهُ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي. فَيُقُالُ لَهُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ. فَيُقُالُ لَهُ: فَمَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيَضْرِبُهُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَديدٍ بَيْنَ أُذُنَيهِ، فَيَصِيْحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا الْخَلْقُ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ).

    ثانياً: لفظةُ الاستشكالِ:

    هي قوله (فما يُسألُ عن شيءٍ غيرها).

    ثالثاً: التَّخريجُ والكلامُ عليه.

    الحديثُ أخْرجَهُ أبوداود في (السُّنن)(5 / 112 / رقم 4751) وأحمدُ فِي (الْمُسْنَد) (21 / 119 / رقم 13447) وابنُه عبدالله في (السُّنَّةِ)(229 / رقم 1403- ط الرازحي) والبيهقي في (عذاب القبر ونعيمه)(29 / رقم 18 و19) كلُّهم من طريق عبدالوهَّاب بن عطَاء الخفَّاف عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنسٍ به.

    الحديثُ سكتَ عنْه أبوداود.

    وصحَّحه الألباني فِي (صحيح الجامع)(رقم 1930)، وفي (الصَّحيحة)(3 / تحت رقم 1344) وقال بأنَّه "على شرط مسلمٍ".

    وخولفَ فيهِ عبدُالوهاب الخفاف، مِنْ:

    1- يَزيدُ بْنُ زُرَيْعٍ؛ فرواهُ عَنْ سَعيد عن قَتَادة عن أنس به، ولَيْسَت فيه هَذه الْجُمْلَة.

    أخرجه البُخَاري فِي (الصحيح)(3 / رقم 1338- فتح) ومسلمٌ في (الصحيح)(4 / 71 / رقم 2870)- مختصراً- والبيهقي في (عذاب القبر) (21 / رقم 31)- مطولاً- كلاهما من طريق ابنِ زريع به.

    ولَفْظُ البخاريِّ: ( العَبْدُ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرهِ وَتَولَّى وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ، حَتَّى إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ؟ فيقولُ: أَشْهدُ أنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فيُقَالُ: انْظُرْ إلَى مَقْعَدِكَ فِي النَّارِ أَبْدَلَكَ اللهُ بهِ مَقْعَداً مِنَ الْجَنَّةِ. قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلّم: فَيَراهُمَا جَمِيْعَاً، وَأمَّا الكَافِرُ أو الْمُنَافِقُ فَيَقولُ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمْطَرَقَةٍ مِنْ حَديدٍ ضَربةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيْحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيَهُ إلاَّ الثَّقَلين(.

    قال البيهقيُّ:" هذا حديثُ الفريابي، رواه البخاري في (الصَّحيح)، فقال: وقال لي خليفة: ثنا يزيد بن زريع... فذكره، ورواه مسلمٌ عن محمد بن المنهال مختصراً".

    قُلتُ: ويزيدُ بن زُرَيْع هو البَصريُّ، يقال لَهُ: رَيْحَانَةُ البَصْرَة، ثِقَةٌ ثَبْتٌ، أخرج له الجماعة، كما في (التقريب)(رقم 7764).

    2- عبدالأعلى بن عبدالأعلى؛ فَرَواهُ عَنْ سَعيد عَنْ قَتَادة عَن أنسٍ بهِ، وليستْ فيْه هَذه الْجُمْلة.

    أخرجَهُ البُخَاريُّ في (الصَّحيح)(3 / رقم 1374- فتح) عن عيَّاش بن الوليد ثنا عبدالأعلى به، ولفظه: ( إنَّ العَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرهِ وَتَولَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وإنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي الرَّجُلِ؟ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم.

    فَأمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَداً مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيْعَاً).

    قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفسَحُ لَهُ فَي قَبْرهِ.

    ثُمَّ رَجَعَ إلَى حَديثِ أَنَسٍ قَالَ: ( وأمَّا الْمُنَافِقُ وَالكَافِرُ فَيُقُالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذا الرَّجُلِ ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، كُنْتُ أَقولُ مَا يَقولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيْدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيْحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيْهِ غَيرَ الثَّقَلينِ).

    قُلتُ: و عبدُالأعلى بن عبدالأعلى هُو السَّامي البصري،ثِقَةٌ، أخرجَ لَهُ الْجَمَاعَةُ، كما في (التقريب)(رقم 3758).

    قَالَ الْحَافظُ ابنُ عديٍّ:" أَرْوَاهُم عنْهُ عَبْدُالأعلى السَّامي، والبَعْضُ مِنْهَا عَنْ شُعَيب بن إسْحاق وَ عَبْدة بن سُليمان و عَبدالوهَّاب الْخفَّاف.

    وأثْبَتُ النَّاسِ فيْه يَزُيد بن زُريع وخَالد بن الْحَارث ويحيى بن سعيد وَنُظَرائهم قَبْل الاخْتِلاَطِ.

    وَرَوى الأصْنَافَ كُلَّها لِسَعيدِ بنِ أَبِي عَروبَة عَبْدُالوهَّاب بن عطاء الْخَفَّاف" نقلاً من حاشية (الكواكب النيرات)(ص 196)، فقد أخذه من نسخة خطية لـ(الكامل) لابن عدي، ونحوه في (الكواكب)، وهذا النصُّ غير موجود في (المطبوع) من (الكامل)!

    فظهر بهذا أنَّ يزيداً مع ثقته وتثبته، مُقَدَّمٌ في سعيد عَلى غَيره،ِ وَ عَبْدُالأعلى أرواهم عنْهُ، وكِلاَهُما لَمْ يَذْكُرا هَذه الَّلفظة، وتفرَّد بها دونهما عبدالوهَّاب؛ لذا فهَذه اللفظة مُنْكَرةٌ؛ لتفرُّد عبدالوهاب الخفَّاف بِها دُونَ سَائرِ أصْحَابِ سَعيدِ بْن أبِي عَروبة، ومِثْلُه لاَ يُحْتَمَلُ تَفرُّده.

    وَ لِمَزيدٍ بَيانٍ أقولُ:

    أ/ إنَّ عَبدَالوهَّاب مُتَكلَّمٌ في ضَبْطهِ وَحِفْظهِ، وَليس هُو فِي دَرجة الثِّقَاتِ فَضْلاً عن الْحُفَّاظ الأثباتِ اللذين يُحتملُ تفرُّدهم كيزيد بن زريع ويحي القطَّان وأضرابهما، قال المرُّوذي في (العلل ومعرفة الرجال)(59 / رقم 48 ):" قلتُ – أي لأبِي عبدالله-: عبدالوهاب ثقةٌ؟ قالَ: تدري ما تَقول؟! إنَّما الثِّقَةُ يَحيى القطَّان".

    وأخرجه مُسنداً عنْهُ الخطيب في (تاريخ بغداد)(11 / 23).

    وقالَ الإمام أحمد أيضاً:" ضعيفُ الْحَديثِ، مُضْطَربٌ" (العلل ومعرفة الرجال) للمروذي (359 / رقم 201).

    وقال يَحيى بنُ مَعينٍ:" لَيْسَ بِه بَأْسٌ" (تاريخ الدارمي)(رقم 519) و(الجرح والتعديل)(6 / رقم 372).

    ووثَّقه ابن معين مرَّة كما في (تاريخ الدوري)(2 / 379)، وقالَ مرَّةً:" يُكْتَبُ حَديثُهُ" (تاريخ بغداد)(11 / 24).

    وقال السَّاجي:" صَدوقٌ ليسَ بِالقَويِّ عِنْدَهُم، خرجَ إلَى بَغْدَاد مِنَ البَصْرَةِ فَكَتَبُوا عنْهُ، فَكَتَب إلَى أخيهِ: إنِّي قَدْ حَدَّثتُ بِبَغْداد فَصَدَّقوني، وأنَا أحمدُ الله على ذلك" (المصدر السابق).

    وقال الإمامُ البُخاري:" ليس بِالقَويِّ عِنْدَهُم، وهُو يُحتملُ" (الضعفاء الصغير)(رقم 233).

    وقال أيضاً:" يُكتبُ حَديثه، قيلَ لَه: يُحْتَجُّ به؟ قال: أرْجُو إلاَّ أنَّه كان يدلِّس عن ثورٍ وأقوام أحاديث مناكير" (تهذيب التهذيب)(6 / 452).

    وقال النَّسائي:" ليس بالقوي" (الضعفاء والمتروكين) (رقم 374)، ومرة قال:" ليس به بأس" (تهذيب التهذيب)(6 / 453).

    وقال ابنُ أبي حاتِمٍ:" سألتُ أبي عنه؟ فقال: يُكتب حَديثه، مَحَلُّهُ الصِّدْق.

    قلتُ: هو أحب إليك أو أبو زيد النَّحوي في ابن أبي عروبة؟ فقال: عبدالوهَّاب، وليس عنْدَهُم بِقويٍّ في الْحَديثِ" (الجرح والتعديل)(6 / رقم 372).

    وذكر الأسديُّ أنَّ الخفاف روى حديثاً في فضل العباس، ونقل عن الإمام يحيى بن معين قوله:" هذا موضوعٌ، وعبدالوهاب لم يقل فيه (حدثنا ثور)، ولعله دلَّس فيه، وهو ثقة" (تاريخ بغداد)(11 / 23-24).

    وقال ابن نُمَيرٍ:" ليس به بأسٌ" (الجرح والتعديل)(6 / رقم 372)، وفي موطن قال:" حدَّث عنْهُ أصْحَابنا، وكانَ أَصْحَابُ الْحَديثِ يَقُولونَ: إنَّه سَمِعَ مِن سَعيدٍ بِآخِرَةٍ، كانَ شِبْهَ الْمَتْرُوكِ" (تقدمة الجرح والتعديل)(324) و(شرح علل الترمذي) (2 / 747).

    وقالَ البزَّار:" ليس بِقَويٍّ، وقد احْتَمَل أهْلُ العِلْم حَديثه" (تهذيب التهذيب)(6 / 453).

    ووثَّقه الدارقطني – (تاريخ بغداد)(11 / 24)- والحسنُ بنُ سُفْيَان- (تهذيب التهذيب)-، وذَكَرهُ ابنُ حِبَّان فِي (الثِّقَاتِ) (7 / 133).

    وقال الذَّهبي في (الميزان)(2 / ص 681):" صَدُوقٌ "، وذكره في (المغني في الضعفاء)(1 / 585).

    وقال ابنُ حجر:" صَدوقٌ رُبَّما أَخْطَأ، أنْكَرُوا عليه حَدِيثاً فِي فَضْلِ العَبَّاسِ، يُقال: دلَّسه عَنْ ثَورٍ" (التقريب)(4290 / رقم 633).

    الخلاصةُ: أنَّ الرَّجلَ ليس بضابطٍ، ولا بالقويِّ، ومنْ كانَ هَذا حالُهُ فَلا يُحتملُ تفرُّده، وسيأتي بحوله تعالى ما يدلُّ على عَدَمِ ضَبْطهِ.

    ب/ أنَّ مِنَ الْمُتَقرِّر لدى أهلِ العِلْمِ بالْحَديثِ أنَّ الإمامَ سعيد بن أبي عروبة قَد اخْتَلَطَ سنَةَ 142هـ، وقيل: 145هـ، كما نصَّ على ذلك الأئمة كيحيى بن معين وغيره، ينظر:

    (سؤالات أبي داود لأحمد بن حنبل)(2 / 157-158) و (العلل ومعرفة الرجال) للمروذي (58 / رقم 47) و (تاريخ أبي زرعة الدمشقي) (1 / رقم 1139) و(الكامل) (3 / 1230) و(الثقات) (6 / 360) و(معرفة أنواع علم الحديث) لابن الصلاح (ص 393) و(الكواكب النيرات) لابن الكيال (ص 193).

    فهل سماع عبدالوهَّاب الْخَفَّاف منْهُ قَبْل أم بعد اختلاطه؟

    من أهل العلم من عدَّ سماعه منه قبل الاختلاط، كابن عديٍّ (الكواكب النيرات)(ص 196).

    وخالفه غيرهُ كما ذكرنا فيما مضى عن ابن نُميرٍ قوله:" وكان أصحاب الحديث يقولون: إنَّه سمع من سعيد بآخرة".

    وقال الإمام يحيى معين:" قلتُ: لعبدالوهاب: سمعتَ من سعيد في الاختلاط؟ قال: سمعتُ منه في الاختلاط وغير الاختلاط، فليس أميزُ بين هذا وهذا" (شرح علل الترمذي)(2/747)، وينظر (العلل) للمروذي (47 / رقم 58-59).

    قُلتُ: وهذا النَّصُّ منه يُظهر بجلاء عدم تمييزه لحديث سعيدٍ الذي تحمَّله عنه، وما كان كذلك فليس محلاً للجدال في عدمِ قبوله، ونَقْطَعُ جَزْمَاً أَنَّ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي (صَحيحهِ) مِن روايته عَنْهُ أنَّه مِمَّا تَبيَّن لَهُ تَمْييزهُ.

    ج/ لا يردُ علَى مَا سبقَ ما قَد يَذْكُرهُ بَعْضهمْ مِنْ أنَّ عبدالوهَّاب الْخَفَّاف قالَ فيه الإمامُ أحمد:" كان عَالِمَاً بسعيدٍ" (تاريخ بغداد)(11 / 23)، وقولهُ :" كان عبدالوهَّاب بن عطاء منْ أعلم النَّاس بحديث سعيد بن أبي عروبة" (المصدر السابق).

    لأنَّ هذهِ العِبَارات لا تدلُّ علَى ضَبْطهِ لِحَديثِ سَعيدٍ، وقَدْ تَقدَّم أنَّ الإمامَ أحمد وصفه بالضَّعف والاضطراب، والمتأملُ في كلام الحافظِ ابن عديٍّ المسطَّر أعلاه يُدركُ تَمَامَاً معنى كلمة الإمام أحمد هذه؛ فَهِيَ تَدُلُّ على أنَّ عبدالوهاب قد روى الأصناف كلَّها التي حُملت عنه بعد وقبل اختلاط سَعيدِ بنِ أَبِي عَروبة؛ لذا فهو عالم به، لكنَّه غير مميزٍ لها كما مرَّ من قوله نفسهِ!.

    د/ أنَّ الحديثَ قد رواه عبدالوهاب الخفَّاف بدون الزيادة، موافقاً يزيد بن زريع وعبدالأعلى، مما يدلُّ على أنَّ هذه الرواية عنه هي المعروفة، وما خالفها منكرة، فقد جاء عند مسلمٌ في (الصحيح)(4 / 72 / رقم 2870) ما نصُّه: (حدثني عمرو بن زرارة أخبرنا عبدالوهاب يعني ابن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: (إنَّ العبدَ إذا وضعَ في قبرهِ، وتولَّى عنه أصحابه)، فذكرَ بمثل حديث شيبان عن قتادة) انتهى.

    قلتُ: قول مسلمٍ:" فذكر بمثل حديث شيبان عن قتادة" يعني أنَّ رواية عبدالوهاب عن سعيد عن قتادة هذه بمثل رواية شيبان عن قتادة، والمثلية هنا في اللفظ قطعاً، وبالنَّظر في لفظ شيبان نجده قد ساقه رحمه الله في (صحيحه)(4 / 72 / رقم 2870) - وليست فيه هذه الجملة (فما يسأل عن شيء غيرها) - فقَال: حَدَّثَنا عَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ حَدَّثنا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا شَيْبَانُ بنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ عَنْ قَتَادَةَ حدَّثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: (إنَّ العَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرهِ وَتَولَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، قَالَ: يَأْتِيْهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ قَالَ: فَأمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَ رَسُولُهُ.

    قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَداً مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ نبيُّ اللهِ r: فَيَراهُمَا جَمِيْعَاً.

    قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لنَا أنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرهِ سَبْعُونَ ذِرَاعَاً، وَيُمْلأُ عَليهِ خَضِراً إلَى يَومِ يُبْعَثُونَ).

    إيرادٌ:قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ:

    إنَّ عبْدَالوهَّاب لَمْ يَتَفرَّد بِهَذهِ الَّلفظة، فَقَدْ أَخْرج الآجريُّ في (الشريعة)(3 / رقم 857- ط دار الوطن) فقَالَ: حدَّثنا الفريابِي قال: حدَّثنا صَفْوان بنُ صَالِحٍ قالَ: حدَّثنا الوَليدُ بنُ مُسْلمٍ قالَ: حدَّثنا خُلَيْدُ بْنُ دَعْلَجٍ عنْ قَتَادة عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعاً.

    ولَفْظُه قَريْبٌ مِنْ لَفْظِ (عَبْدِالوهَّاب) فِي حَديثِ البَابِ عِنْدنَا، وفيه قَولهُ (فَمَا يَسْأَلهُ عَنْ شَيءٍ غَيْرَهَا )، فالوليدُ بن مسلمٍ متابعٌ له متابعة قاصرة.

    فَالْجَوابُ: هَذهِ الْمُتَابَعَةُ لاَ يُفْرَحُ بِها؛ إذْ هِيَ مُنْكَرةٌ أيْضَاً، فَالرَّاوي لَهَا عَنْ قَتَادة هو: خُليد بنُ دَعْلَجٍ السَّدوسي البصريُّ، قَالَ الإمَامَان أَحْمَدُ وابنُ مَعينٍ:" ضعيفُ الحديث" (الجرح والتعديل)(3 / رقم 1759).

    وقال ابنُ مَعينٍ مرَّةً:" ليس بشيءٍ"(التاريخ) للدوري (2 / 149).

    وقال النَّسَائيُّ في (الضُّعفاء) له (رقم 175):" ليسَ بِثِقَةٍ "، وقالَ أَبو حَاتِمٍ الرَّازي في (الجرح والتعديل)(3 / رقم 1759): "صَالِحٌ لَيْسَ بِالْمَتِيْنِ فِي الْحَديثِ، حَدَّثَ عَنْ قَتَادة أحَادِيْثَ بَعْضهَا مُنْكَرة".

    وقَال أبوداود:" ضَعِيفٌ" (سؤالات أبي عبيد الآجري)(رقم 253)، وقالَ ابنُ حِبَّان فِي (الْمَجْرُوحين)(1 / 285):" كانَ كَثيرَ الْخَطأ فِيْمَا يَرْوي عَنْ قتَادَة وغيره، يَعْجبني التَّنكب عنْ حَديثه إذَا انْفَردَ"، وقَالَ الذَّهبي في (المغني)(1 / رقم 1947):" لَيْسَ بِقَويٍّ، ضعَّفه أحمد وغيره"، وقال ابنُ حَجرٍ في (التَّقريب)(رقم 1750):"ضَعِيْفٌ".


    فخُلاَصَةُ حَالهِ: أنَّه ضَعِيْفٌ غَيْرُ مَتِينٍ، وروايتُهُ عَنْ قَتادة فيْهَا كَلامٌ، فَمِثْلهُ لاَ تُحْتَمَلُ رِوايتهُ، وهِي فِي عِدَادِ الْمُنْكَرَاتِ، والْمُنْكَرُ لاَ يُقَويّ الْمُنْكَرَ، والله أعلم.

    منقول.

    وكتبه

    عبدالله بن عبدالرحيم البخاري

    المدينة النَّبويَّة

    11/ 10/ 1431هـ


معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الشيخ الألباني هل يجوز حلق اللحية للدخول في الخدمة العسكرية أو مجالس الأمة من أجل تغيير الفساد
    بواسطة أبو عبد المصور مصطفى الجزائري في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 06-Jun-2021, 07:48 PM
  2. آثار مجالس العلم - خطبة جمعة لفضيلة الشيخ عبد الظفيري وفقه الله - 1 شعبان 1435هـ
    بواسطة أم عمير السنية السلفية في المنتدى مـنــبر الأســـرة المـــســلـــمـــة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 24-Dec-2014, 03:51 PM
  3. مجلس ماتع من مجالس التابعين الشيخ عبد الرزاق العباد -حفظه الله-
    بواسطة أبو عبد المصور مصطفى الجزائري في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31-Jan-2012, 06:12 PM
  4. نداءُ نَاصحٍ مُصلحٍ في القولِ بغيرِ علمٍ الشيخ عبد الله بن عبد الرحيم البخاري -كان الله له-
    بواسطة أبو عبد المصور مصطفى الجزائري في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-Jul-2011, 11:58 PM
  5. نداءُ نَاصحٍ مُصلحٍ في القولِ بغيرِ علمٍ
    بواسطة أبو خالد الوليد خالد الصبحي في المنتدى المنبــر الإسلامي العــام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 21-Sep-2010, 09:28 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •