بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله والصلاة والسلام على رسول الله، أمَّا بعد:
فقد انتَشرت عندنا عادَةٌ مُحدثَةٌ، يفعلها الناس صبيحة يوم العيد، وهي التَّكبير الجماعي بصوتٍ واحد وعلى نَسَقٍ ولَحنٍ واحد.
وهذه فتوى لأحدِ أعلامِ المسلمين وأئمة المالكية بالأندلس: الإمام إبراهيم بن موسى أبو إسحاق الشاطبي الغرناطي رحمه الله، أصَّلَ فيها رحمه الله تأصيلا جَيِّدًا، وردَّ على بَعضِ شُبَه المُخالفين.
فتوى الإمام أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله في التكبير الجماعي يوم العيد
مصدرها:[فتاوى الإمام الشاطبي (200-203)]:
((سُئلَ الإمام الشاطبي رحمه الله:عن أَهلِ مَوضِعٍ نُبِّهوا على أنَّ السُّنَّة في تكبير العيدين أن يُكبِّرَ كُلُّ إنسانٍ في خاصَّةِ نفسه،
بحيثُ يُسمِعُ نَفسَه ومَن يليه في طريقِه وفي مُصلَّاه، مِن غيرِ أن يكونوا على صَوتٍ واحِد،
فَفَعَل ذلك مِنهُم الفُضَلاء المُهتَمُّون بِأمرِ دينِهم، وبَقِيَ منهم الأقل لا يُكَبِّر في الطَّريق ولا في المُصلَّى،
فجَهِل ذلك بعضُ النَّاس، وقال: هذا يؤدِّي إلى تعطيلِ شعائرِ الإسلام، لأنَّ تكبيرَهم على صوتٍ واحِدٍ فيه الأجر، لأنَّه مِن بِدَع الخير التي شَهِد الشَّرع باعتبارِ حُسنِها، واحتَجَّ على الثَّواب بما رُوِي عن السَّلف: «لن يأتِيَ آخِرُ هذه الأُمَّة ... الحديث».
وبِما رُوِي عن ابن مسعود مِن أنَّ «الاقتصاد في السُّنة خيرٌ من الاجتهاد في البدعة»
كون أن جاءت هذه الألفاظُ عن السَّلف بـ(أفعل من) التي هي في اللِّسان العربي تقتضي التفضيلَ دالَّةً على الفاضِل والمفضول.
وقد قال عليه السَّلام: «مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنةً ... الحديث»
فكما أنَّ الذي يسُنُّ السُّنن السَّيئة له الوزر فكذلك الذي يسُنُّ السُّننَ الحسَنةَ له الأجر.
فهل ما قاله صحيحٌ فيُرَدُّون إلى الحالة الأولى، أو يُترَكون على حالِهم حينَ وفَّقَهُم الله لذلك، ولا يُعتبَر منهم من لم يُذكَر؟
*******
فأجاب: الحمدُ لله. أمَّا من لم يُكَبِّر في مواضِعِ التَّكبير فقد فاتَته سُنَّةُ النَّبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء بالسلف الصالح، وكفى بذلك خُسرانًا.
وأمَّا قولُ القائل: إنَّ التكبير على صَوتٍ واحِدٍ فيه الأجر، فإن أثبَتَ ذلك نَقلا صريحًا لا احتِمالَ فيه عن السَّلف صحَّ الأجرُ، وإلا فلا أجرَ البتَّة.
وأمَّا قولُه: إنَّه مِن بِدَع الخير التي شَهِد الشَّرع بِحُسنِها فغلط،
إذ لا بِدعةَ في الدُّنيا يشهَدُ الشَّرعُ باعتِبار حُسنِها، بل الأمرُ بِضِدِّ ذلك لقوله عليه السلام: «كُلُّ بِدعةٍ ضلالة» وأشباهه.
ورُبَّما يغتَرُّ هذا القائلُ بكلام القِرافي أو من نقَل عنه، وهو غَلَطٌ بسطتُه في غيرِ هذا الموضع.
ثُمَّ استِدلالُه بما استَشهد به أغرب.
فأولًّا: من جهةِ استِنباطِه ذلك من أفعل التفضِيل لأنَّها عنده تقتضي الاشتراك فيما فيه المفاضلَةُ لُزومًا،
فيجئ على قوله أنَّ أصحابَ الجَنَّة وأصحابَ النَّارِ مُشتَرِكون في خيريَّة المُستَقَر وحُسنِ المَقيل من قوله تعالى: ﴿أصحابُ الجَنَّةِ يومئذٍ خَيرٌ مُستَقَرًّا وأحسنُ مَقيلًا﴾ إلى غير ذلك مما جاء فيه أفعل التفضيل، وليس اشتراكٌ البتَّة وهو كثير. بل أفعل التفضيل أعمُّ مما ذكر.
وثانيا: أنَّه اختار – على تسليم قوله – الأجرَ القليلَ في البِدعةِ على الأجرِ الكثير في العمَلِ بالسُّنة.
فإن كان فهمُ هذا المُعترِض مثل هذه المسائل فأحسنَ اللهُ عزاءَه في فهمِه وعملِه به.
وأمَّا احتِجاجُه بقَولِه عليه السلام: «مَن سنَّ سُنَّةً حسنةً... ومَن سنَّ سُنَّةً سيِّئَةً» فهو حُجَّةٌ عليه لا له، لأنَّ قوله: (حسنة وسيئة) وصفان للسُّنة، فكونها حسنةً مِن أين تعرِفُه؟
إن قال: عرفناهُ بالعَقل فالعقلُ لا يُحَسِّنُ ولا يُقَبِّح، وإنما هذا مذهبُ أهلِ الضَّلال.
وإن قال: عرفناهُ بالشَّرع فليس ببدعةٍ أصلًا لأنَّ الشَّرعَ هُو الذي حَسَّن، وكذلك السَّيئة هو الذي حَكَم عليها.
فالعاملُ بالبِدعة التي قبَّحَها الشَّرعُ هو العامِلُ بالسُّنَّة السيِّئة، وبالله التوفيق. قاله الشاطبي)). اهـ
كتب: أبو زياد حمزة الجزائري
الإثنين 29 رمضان 1432 من الهجرة النبوية
المصدر: سحاب