بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد:
جاءني سؤال من بعض إخواننا يستشكل فيه جواب شيخنا العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين على هذا السؤال :
السائل : بعض الدعاة يتهم داعية آخر فإذا قيل له في ذلك قال حدثني :"رجل معروف بعلمه وعدله" فإذا قلت له تثبت قال :" التثبت فيما إذا كان الناقل فاسقا " فما رأيكم في هذا ؟
الجواب من الشيخ : هذا صحيح كلام صحيح ما حدث في الظاهر أنه إذا أخبرك رجل ثقة لا حاجة إلى التثبت لأن الله قال {{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا }} لكن قد يكون الإنسان ثقة ولكن له هوى فتضعف الثقة من هذه الناحية).
وجواب الشيخ واضح ، وما دام أشكل عليكم ، وقد سألتم وطلبتم بيان وكشف الإشكال فيه فقلتم كيف يكون الرجل ثقة و يكون في نفس الوقت عنده ضعف؟
وهل يعني أن خبر الثقة لا يقبل على إطلاقه؟؟
أقول : سؤالكم هذا سؤال وجيه مهم ، أبدا بالفقرة الثانية منه وهي : هل خبر الثقة يقبل على إطلاقه ؟
والجواب الأصل في خبر الثقة القبول لأن مفهوم الآية دل على ذلك في قوله تعالى : {{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ َتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}} (6).
والآية ذكر الشيخ رحمه الله في تفسيرها أن فيها خير الفاسق الذي ظهر فسقه ، فهذا يرد وخبر الثقة الذي ظهرت عدالته وثقته فهذا يقبل ، وخبر المجهول فهذا يتحرى فيه انظر تفسير الشيخ ففيه بحث جيد في تفسير الآية ..
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيرها : " وهذا أيضًا، من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال، بغير حق، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق، التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه، كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل، على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب، مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير [من] الخوارج، المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقًا".
قلت : فمنطوق الآية يأمر بالتبين في خبر الفاسق لأنه قد يصدق.. فإذا ثبت كذبه يرد ، ومفهومها إن جاء الثقة العدل أنه يقبل ولا يتبين منه ولكن هذا ليس على إطلاقه ، فإن الثقة أيضا قد يخطئ ويهم .. وخاصة إذا دلت القرائن أن هذا الثقة الذي جاء بالخبر له ميل أو هوى أو تعنت أو هو قرين لمن تكلم فيه ونحو ذلك وهذا ما أراده الشيخ فإن الثقة له جوانب .
منها- قد يكون ثقة في نفسه وليس من أهل هذا الشأن كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله -: إن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ، لقد أدركت في هذا المسجد سبعين ـ وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ممن يقول : قال فلان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما أخذت عنهم شيئاً ، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان
به أميناً ؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن(2) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " ( 1 / 67 ) وإسناده حسن . والكامل (1/92).
وفي مقدمة مسلم (15) : قال أبو الزناد : أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ، لا يؤخذ عنهم العلم ، كان يقال : ليس هم من أهله(3) .تدريب الراوي 1/69)والكامل لابن عدي (1/155) .
وقال عمرو بن محمد الناقد : سأل رجل وكيعاً ( يعني ابن الجراح ) ، قال : يا أبا سفيان ، تعرف حديث سعيد بن عبيد الطائي عن الشعبي في رجل حج عن غيره ، ثم حج عن نفسه ؟ فقال : " من يرويه ؟ " ، قلت : وهب بن إسماعيل ، قال : " ذاك رجل صالح ، وللحديث رجال "معرفة علوم الحديث ( ص : 27 ) .
ومنها قد يكون ثقة إلا أنه غير ضابط لما يرويه ، و تختلف نسبة الضبط من شخص لآخر فمنهم من يكون ضابطا ضبطا تاما ومنهم من يكون خفيف الضبط ومنهم من يكثر عنده الغلط ..
فصفة الضبط شرط في قبول خبر الراوي ، فإن ثبوت عدالته الدينية لا يكفي حتى يجمع بينهما .أي بين الضبط والعدالة أن يكون ثقة ضبط وهي وجعلها بعض العلماء أعلى مراتب القبول
قال أبو حاتم بن حبان : وقد يكون العدل الذي يشهد له جيرانه وعدول بلده به وهو غير صادق فيما يروي من الحديث ؛ لأن هذا شيء ليس يعرفه إلا من صناعته الحديث ، وليس كل معدّل يعرف صناعة الحديث حتى يعدل العدل على الحقيقة في الراوية والدين معاً. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (1/152) .
وقال عبد الله بن يوسف الجديع تحرير علوم الحديث(1/161) قلت : واعتبار الضبط الركن الأساس لتزكية الراوي ؛ من أجل كونه يباشر ذات الراوية ، لذلك كان القدح في النقلة بتخلفه أكثر ، فالوهم والغلط قليل ذلك وكثيره إنما هو في ضعف الحفظ .
وليست كذلك العدالة في الدين ، وإنما طلبت لدفع مظنة الكذب ، إذ ضعف الوازع عند رقيق الدين مما يورد الشبهة في أمانته ولا يؤمن منه معه الكذب ، فيكون قادحاً بمجرده للمظنة لا لمباشرته الرواية ، إلا أن يكون ثبوت الكذب منه في الحديث ، وكم تجد فيمن قدح في عدالته الدينية من كان يحفظ ما يحفظ الناس ؟
قلت : فالضبط أيضا على مراتب وليس هو في مرتبة واحدة ويختلف العلماء في نسبة الغلط المعتبر في إسقاط حديث الثقة كما يختلفون في نسبة خفة الضبط من تمامه .. في تصحيح حديثه وتحسينه وتضعيفه ومن هنا اختلفت مراتب الثقة .
ومنها - قد يكون ثقة وعنده بعض الميول كما يُوصف كثير من الرواة ثقة وفيه تشيع ، أو ثقة رمي بالإرجاء أو بالقدر ، وهذا كثير في الرواة ، أو هو ثقة تُكلم فيه بغير موجب للجرح ومع ذلك تُرك ، وقد ألف الذهبي كتابا في ذلك " الرواة الذين تكلم فيهم بغير موجب للجرح " فيخلف الناس في قبول خبره ورده ..
ومنها – أن يكون ثقة متعنت ، فإن الجارح الثقة المتعنت وهو المتشدد في الجرح لا يقبل منه حتى يوافقه معتدل كما بينته في رسالتي التدليل على وسطية علماء الجرح والتعديل ..وأنهم يقسمون علماء الجرح والتعديل إلى ثلاثة أقسام ، متعنتون ، ومتوسطون ، ومتساهلون كما ذكره السخاوي في فتح المغيث وغيره ..
ومنها- أن يكون ثقة قرين لمن تكلم فيه ، فكلام الأقران ينظر فيه إن وافقه عالم معتدل متوسط قبل وإلا يطوى ولا يروى كما ذكره الذهبي في كتابه الرواة الذي تكلم فيهم بغير موجب للجرح ..
ومنها – أن يكون ثقة عند قوم غير ثقة عند آخرين ، وهذا بينته في مقالي : التنقيح في بلدي الرجل أعلم به ..وإذا كان العلماء ردوا قول الشافعي حدثني الثقة فمن باب أولى أن يرد قول غيره لأنه قد يكون ثقة عنده فاسق عند غيره ، أو غير مرضي عند غيره ..
ومنها – أن يكون الذي وثقه غير معتبر توثيقه عند علماء الجرح والتعديل للاعتبارات السابقة وقد يكون أيضا متساهلا في التوثيق يعدل المجاهيل كابن حبان والحاكم والبيهقي - رحمهم الله- وهكذا ... فهذه الأمور توجب التحري في خبر الثقة ورد جرحه إذا دلت القرائن أن له ميولا أو هوى كما قال الشيخ -رحمه الله- وخاصة في زماننا الذي كثرت فيه الفتن وكثر فيه أدعياء المنهج السلفي وخاصة إذا كان الجرح مبهما أو كان مفسرا وأسبابه غاضمة كأن يقول هذا الثقة : فلان كذاب أو حدادي أو تكفيري خارجي أو من الغلاة المتشددين ، وغير ذلك .. فهذا لا شك أنه جرح مفسر كما يطلقه الشيخ ربيع والشيخ على كثير ممن تكلم فيهم وكتب فيهم بأدلته وكذلك غير من علماء الجرح في هذا الزمان والذين يثبتون أحكام الشيخ ربيع ويوافقونه عليها كالشيخ عبيد والشيخ الفوزان والشيخ محمد بن هادي المدخلي وغيرهم ... فهذا لا يحتاج أن يراجع أما غيره ممن لم يبلغ درجة الاعتبار عند الكبار فإذا روجع في ذلك وتُبين منه قال : كذبه كذا .. وكذا.. ومنهجه كذا.. وكذا .. ويبينه فهذا لا يجوز رده ، أما إذا روجع في ذلك ولم يبينه وبقي يتردد مرة كذا ومرة كذا ، أو يقول أخبرني الثقة ولا يسميه أو حاد عن الجواب وجاء بخلاف ما جرح به فهذا يرد ولا يقبل منه . والعلم عند الله . والحمد لله رب العالمين .
أملاه : أبو بكر يوسف لعويسي