هذا سعيد بن المسيِّب - وهو من أفاضل التابعين وعلمائهم رحمه الله- يأتي الخليفة عبد الملك بن مروان يخطب ابنته لابنه, فأبى عليه كيف ترفض خليفة؟ أأنت مغرور؟
ترفض خليفة يتربع على كرسي الخلافة, وهو يدير دولة المسلمين في مشارق الأرض, ومغاربها ؟
نعم. إنه يخاف على ابنته الرئاسة, والزعامة, هكذا يا أخي فيأبى أن يزوجها بالوليد. ويومها كان بمثابة ولي العهد لأبيه وسيأتي يوم ليكون خليفة.
يرفض سعيد بن المسيِّب أن يزوّج ابنته بهذا, صاحب الرئاسة , والملك, والزعامة , والبطش, والقوة.
ثم تستمر الأيام, (وكان عند سعيد بن المسيِّب طالبٌ اسمه كثير بن أبي وداعة, يقول : كُنت أجالس سعيدَ بن المسيِّب, ففقدني أياما. فلما جئتُه, قال: أين كنتَ؟ قلتُ: تُوُفِّيَت أهلي, فاشتغلت بها.
فقال: ألا أخبرتنا؛ فنشهدها. ثم قال: هل استحدثت امرأة؟
فقلت: يرحمك الله, ومن يزوِّجني, وما أملك إلا درهمين, أو ثلاثة؟
قال: أنا. فقلت: وتَفْعل؟ قال؟ نعم. ثم تحمَّد, وصلى على النبي عليه الصلاة والسلام , وزوَّجَني على درهمين, أو قال ثلاثة).
هكذا عالمٌ من علماء الدين يخطب ابنته خليفة , فيأبى,ثم يأتي طالب من طلابه الفقراء, لا يملك على وجه الأرض إلا درهمين, أو ثلاثة, فيعرض ابنته عليه عرضاً.
ثم قال: (فقمتُ, وما أدري ما أصنع من الفرح, فصِرت إلى منزلي, وجعلت أتَفَكَّرُ ممن أستدين, فصليت المغرب ورجعت إلى منزلي, وكنت صائمًا, فقدّمت عشائي أٌفْطِر, وكان خبزا, وزيتاً,فإذا بابي يُقرع, فقلت: مَنْ هذا؟ فقال: سعيد. فأفْكرت في كلِّ من اسمه سعيد, إلا ابن المسيِّب؛ فإنه لم يُرَ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد. فخرجتُ, فإذا سعيد , فظننت أنه قَدْ بدا له, فقلت: يا أبا محمد, ألا أرسلتَ إليَّ, فآتيك؟ قال: لا, أنتَ أحقُّ أن تؤتى. إنك كنت رجلا عزباً, فتزوَّجتَ, فكرهتُ أن تبيتَ الليلةَ وحدَك. وهذه امرأتك. فدفعها في الباب, وردَّ الباب, فسقطتِ المرأةُ مِنَ الحياء, فاستوثقْتُ منَ الباب, ثم وضعت القَصْعة في ظلِّ السّراج؛ لكي لا تراه..., فأقمت ثلاثا, ثم دخلت بها, فإذا هي من أجمل النساء, وأحفظ الناس لكتاب الله, وأعلمهم بسنَّة رسول الله عليه الصلاة والسلام , وأعْرَفِهِم بحقِّ الزَوْج)(1)
(1) رواه أبو نعيم في الحلية (2/191-192), وأوردها الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/233)