مجلس ماتع من مجالس التابعينللشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد حفهم الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد : فقد تميزت مجالس السلف رحمهم الله ورضي عنهم بالهدوء والوقار ولين الجانب مع قوة العلم وحسن الفهم وجمال الخُلق وصفاء القلب واستحضار الدليل ، كل ذلك بأسلوب هادئ وحوار لطيف ونقاش علمي وأدب رفيع بعيد عن الفظاظة والغلظة والقسوة والشدة والتهكم والتنفير والإثارة والاستفزاز . إنها مجالس تعَدُّ بحق مدرسةً راقيةً في جمال العلم وجمال الحوار وجمال الخُلق وجمال الحديث ، وإليك مجلس من روائع مجالسهم لترى من خلاله الطريقة المثلى والنهج الأسمى والمسلك الرشيد الذي كانوا عليه ، وليتنا نكون في مجالسنا كما كانوا لنسعد كما سعدوا ونفوز كما فازوا . روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن حصين بن عبد الرحمن قال : كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍفَقَالَ أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ ؟ قُلْتُ أَنَا ، ثُمَّ قُلْتُ : أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلَاةٍ وَلَكِنِّي لُدِغْتُ ، قَالَ فَمَاذَا صَنَعْتَ ؟ قُلْتُ اسْتَرْقَيْتُ ، قَالَ فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قُلْتُ حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ الشَّعْبِيُّ ، فَقَالَ وَمَا حَدَّثَكُمْ الشَّعْبِيُّ ؟ قُلْتُ : حَدَّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ، فَقَالَ قَدْ أَحْسَنَ مَنْ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ وَلَكِنْ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالنَّبِيَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ أُمَّتِي فَقِيلَ لِي هَذَا مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمُهُ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ لِي انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ الْآخَرِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ لِي هَذِهِ أُمَّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ )) ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَخَاضَ النَّاسُ فِي أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فَلَعَلَّهُمْ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ((مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ ؟ )) فَأَخْبَرُوهُ ، فَقَالَ : (( هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)) فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ ، فَقَالَ : (( أَنْتَ مِنْهُمْ )) ، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ : ((سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ))[1]. راوي هذا المجلس هو حصين بن عبد الرحمن أحد علماء التابعين الفضلاء وأئمة العلم النبلاء والحفاظ المتقنين . يقول " كنت عند سعيد بن جبير " أي في مجلس ، وسعيد كذلك من أجلَّة التابعين وعلية العلماء المحققين ، فاستهل سعيد هذا المجلس المبارك بقوله : " أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة " ؛ والكوكب هو الشهاب الذي ترُجم به الشياطين حين يحاولون استراق السمع من السماء ، كما قال تعالى { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:6-10] . وقوله " انقض البارحة " : أي سقط من السماء ، والبارحة هي أقرب ليلة مضت ، ومراده الليلة التي سبقت اليوم الذي عقدوا فيه هذا المجلس . ومن المعلوم أن من كان مستيقظاً في ذاك الوقت سيتنبه في الغالب لهذه الآية العظيمة الدالة على كمال قدرة الله عز وجل ، والله يقول : {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] ، والسلف رحمهم الله يستشعرون هذا المعنى ويتذاكرونه ويذكرون به عظمة الله وكمال قدرته سبحانه ، بخلاف من ليس على طريقتهم ممن يرى أنها أمور طبيعية وظواهر كونية فلا تؤثر فيهم ولا يبالون بها ولا يكترثون . قال حصين : " فقلت أنا " أي أنا رأيته . ثم استدرك حصين رحمه الله وقال :
تابع القراءة من الملف pdf