النتائج 1 إلى 4 من 4
  1. #1

    افتراضي تفسير قوله تعالى:﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...﴾


    تفسير قوله تعالى:﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...﴾


    قال العلامة عبد الرحمن السعدي-رحمه الله تعالى-:
    النسيء: هو ما كان أهل الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم، وكان من جملة بدعهم الباطلة، أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال في بعض أوقات الأشهر الحرم، رأوا -بآرائهم الفاسدة- أن يحافظوا على عدة الأشهر الحرم، التي حرم اللّه القتال فيها، وأن يؤخروا بعض الأشهر الحرم، أو يقدموه، ويجعلوا مكانه من أشهر الحل ما أرادوا، فإذا جعلوه مكانه أحلوا القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حراما، فهذا -كما أخبر اللّه عنهم- أنه زيادة في كفرهم وضلالهم، لما فيه من المحاذير.
    منها: أنهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع اللّه ودينه، واللّه ورسوله بريئان منه.
    ومنها: أنهم قلبوا الدين، فجعلوا الحلال حراما، والحرام حلالا.
    ومنها: أنهم مَوَّهوا على اللّه بزعمهم وعلى عباده، ولبسوا عليهم دينهم، واستعملوا الخداع والحيلة في دين اللّه.
    ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها، يزول قبحها عن النفوس، وربما ظن أنها عوائد حسنة، فحصل من الغلط والضلال ما حصل، ولهذا قال: ( يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ) أي: ليوافقوها في العدد، فيحلوا ما حرم اللّه.
    ( زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ) أي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، بسبب العقيدة المزينة في قلوبهم.
    ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم، فلو جاءتهم كل آية، لم يؤمنوا.


    قال الإمام البغوي-رحمه الله-:
    قوله تعالى: ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ) قيل: هو مصدر كالسعير والحريق. وقيل: هو مفعول كالجريح والقتيل, وهو من التأخير. ومنه النسيئة في البيع, يقال: أنسأ الله في أجله أي أخر, وهو ممدود مهموز عند أكثر القراء, وقرأ ورش عن نافع من طريق البخاري: بتشديد الياء من غير همز, وقد قيل: أصله الهمزة فخفف.
    وقيل: هو من النسيان على معنى المنسي أي: المتروك. ومعنى النسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر, وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم, وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام, وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة, فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي, وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم, فنسؤوا أي: أخَّروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر, وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر, فيحرمون صفر ويستحلون المحرم, فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع, هكذا شهرا بعد شهر, حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه, وذلك بعد دهر طويل, فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته.
    كما: أخبرنا عبد الواحد المليحي, أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي, أخبرنا محمد بن يوسف الفربري, حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري, حدثنا محمد بن سلام, حدثنا عبد الواحد حدثنا عبد الوهاب, حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين, عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خَلَقَ السموات والأرض, السنة اثنا عشر شهرا, منها أربعة حرم, ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم, ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وقال: "أيّ شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم, فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه, فقال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى, قال: أيّ بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم, فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه, فقال: أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى, قال: فأيَ يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم, فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه, قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى, قال: فإن دماءكم وأموالكم, قال محمد: أحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا, في بلدكم هذا, في شهركم هذا, وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم, ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض, ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض مَنْ يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه, ألا هل بلغت ألا هل بلغت" ؟
    قالوا: وكان قد استمر النسيء بهم, فكانوا ربما يحجون في بعض السنين في شهر ويحجون من قابل في شهر آخر.
    قال مجاهد: كانوا يحجون في كل شهر عامين, فحجوا في شهر ذي الحجة عامين, ثم حجوا في المحرم عامين, ثم حجوا في صفر عامين, وكذلك في الشهور, فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة, ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل حجة الوداع, فوافق حجُّه شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة, فوقف بعرفة يوم التاسع, وخطب اليوم العاشر بمنى, وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان, وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السموات والأرض, وأمرهم بالمحافظة عليه لئلا يتبدل في مستأنف الأيام.
    واختلفوا في أول من نسأ النسيء: فقال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد: أول من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة, وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة جناد بن عوف بن أمية الكناني. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال: له نعيم بن ثعلبة, وكان يكون أميرا على الناس بالموسم, فإذا هم الناس بالصدر, قام فخطب الناس فقال: لا مردَّ لما قضيت, أنا الذي لا أعاب ولا أجاب, فيقول له المشركون: لبيك, ثم يسألونه أن ينسأهم شهرا يغيرون فيه, فيقول: فإن صفرًا العام حرام, فإذا قال ذلك حلُّوا الأوتار, ونـزعوا الأسنة والأزجة, وإن قال حلال عقدوا الأوتار وشدُّوا الأزجة, وأغاروا. وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له: جنادة بن عوف, وهو الذي أدركه النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو رجل من بني كنانة يقال له: القلمس, قال شاعرهم: "وفينا ناسئ الشهر القلمس", وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم.
    وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف.
    أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر, أنبأنا عبد الغافر بن محمد, أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان, حدثنا مسلم بن الحجاج, حدثني زهير بن حرب, حدثنا جرير, عن سهيل, عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب, وهو يجر قُصْبَه في النار" .
    فهذا الذي ذكرنا هو النسيء الذي ذكره الله تعالى فقال: ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ) يريد زيادة كفر على كفرهم, ( يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قرأ حمزة والكسائي وحفص: ( يُضَلُّ ) بضم الياء وفتح الضاد, كقوله تعالى: "زين لهم سوء أعمالهم", وقرأ يعقوب بضم الياء وكسر الضاد, وهي قراءة الحسن ومجاهد على معنى " يضل " به الذين كفروا الناس, وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الضاد, لأنهم هم الضالون لقوله: ( يُحِلُّونَه ) يعني النسيء ( عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا ) أي: ليوافقوا, والمواطأة: الموافقة, ( عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ) يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال, ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام, لئلا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر, كما حرم الله فيكون موافقة العدد, ( فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ) قال ابن عباس: زين لهم الشيطان, ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )

    و الله تعالى أعلم .

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    الدولة
    تلمسان - الجزائر
    المشاركات
    350

    افتراضي رد: تفسير قوله تعالى:﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...﴾

    بارك الله فيك أخي ونفع بك


  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2012
    المشاركات
    137

    افتراضي رد: تفسير قوله تعالى:﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...﴾

    جزاك الله خير

  4. #4

    افتراضي رد: تفسير قوله تعالى:﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ...﴾


    و بارك الله فيكما و نفع بكما و جزاكما الله خير .



معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. تفسير قوله تعالى: ﴿ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾
    بواسطة أبو يوسف عبدالله الصبحي في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 20-Aug-2016, 06:12 PM
  2. السعدي : تفسير قوله جل وعلا: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾
    بواسطة أبو خالد الوليد خالد الصبحي في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 20-Jun-2013, 01:41 PM
  3. مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 20-Apr-2012, 11:50 AM
  4. تفسير قول الله تعالى(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَة فِي الْكُفْرِ) العلامة ابن باز
    بواسطة أبو خالد الوليد خالد الصبحي في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 13-Jun-2010, 12:42 AM
  5. تفسير قوله تعالى: ﴿ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾
    بواسطة أبو خالد الوليد خالد الصبحي في المنتدى منبر العلوم الشرعية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 20-Mar-2010, 04:37 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •