أُصُولُ الْإِيمَان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه ومبلِّغ الناس شرعه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :
أيها الإخوة في الله .. أيها الإخوة الأكارم : إن نعمة الله جل وعلا على عباده كثيرة لا تحصى ، وآلاءه وأفضاله وفيرة لا تُستقصى ، ولو أن العباد حاولوا استقصاء بعض نعمه سبحانه وتعالى في بعض الأمور لما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، فالنعم كلها من الله والأفضال كلها منه سبحانه وتعالى ؛ فمنه العطاء ومنه الفضل وهو أهل الثناء والمجد سبحانه وتعالى { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }[النحل:53] ، { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا }[إبراهيم:34] فلله الحمد على ما أعطى وله الشكر سبحانه وتعالى على ما امتنَّ به على عباده من وافر النعم وعظيم المنن وجزيل العطاء . ثم إن أعظم نعَم الله جل وعلا على عباده وأفضلها وأكرمها وأولاها بالعناية والاهتمام والشكر والثناء نعمة الإيمان التي اختص الله جل وعلا بها من شاء من عباده ، اختص بهذه النعمة العظيمة من شاء من عباده فأكرمهم بها ومنَّ عليهم بها وأكرمهم بهذه النعمة { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }[الحجرات:17] ، { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ }[الحجرات:7]{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس:58] فاللهم لك الحمد على ما مننتَ به علينا من هذه النعمة العظيمة وعلى ما اصطفيتنا به من هذه المنة الكريمة .إن من يريد أن يقدُر هذه النعمة قدرها ويعرف مكانتها فليلتفت يمنةً ويسرة ولينظر في هذا العالم وفي أرجاءه يجد أن الناس متفاوتون تفاوتاً عظيما : فمنهم الملاحدة ، ومنهم الكفرة ، ومنهم العلمانيون ، ومنهم المجوس ، ومنهم اليهود والنصارى ، ومنهم من ينتمون إلى الإسلام ولكنهم أهل بدع وأهل خرافات وأهل أضاليل وغير ذلك . إذا تأملت أخي المسلم أحوال الناس ورأيتهم كيف أنهم قد انحرفوا وضلُّوا وجانبوا الصواب وابتعدوا عما جاءت به الأنبياء عرفتَ عِظم هذه النعمة وعرفت قدرها ؛ فلهذا الواجب على كل مسلم عرف هذه النعمة وعرف قدرها أن يخضع لربه وأن يستكين له وأن يلقي نفسه بين يديه سبحانه وتعالى وأن يسأله الثبات دوماً على هذا الدين وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم وقدوتنا وأسوتنا إذا خرَّ ساجداً لله عز وجل يقول ((اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) لأنه عليه الصلاة والسلام يعرف قيمة ها الدين ويعرف قدره ، كيف لا !! وهو الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم به من العمى إلى الهدى ومن الضلال إلى الهدى والفلاح ، فالواجب على المسلم أن يشكر الله جل وعلا على هذه النعمة .ثم لنعلم أيها الإخوة الأكارم أن شكر الله عز وجل على هذه النعمة لا يكون باللسان فقط - أن تقول اللهم لك الحمد أو أشكرك يا الله على ما مننتَ به عليّ من نعمة الإسلام هذا لا يكفي - بل الواجب في شكرك لله أن يكون شكرك له بقلبك ولسانك وجوارحك ، فالإيمان بالله سبحانه وتعالى ليس كلمة تقال ولا لفظةً يُتلفظ بها بل هو قول واعتقاد وعمل ، فشكرك لهذه النعمة أن تتدارس أمور الإيمان ولاسيما أصوله وأركانه وتتعلمها تعلماً سليماً كما جاء بها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وأن تتعلم أقواله وأعماله كما جاء بها الرسول عليه الصلاة والسلام . من هنا أيها الإخوة أحببتُ أن أتكلم معكم في هذا المجلس المبارك في هذا البيت من بيوت الله عز وجل في هذا الموضوع المهم وإن كنت لست أهلاً لأن أتكلم أو أتحدث أو أعلِّم فأنا مثلكم طالب علم لكن نسأل الله الكريم أن يمنَّ علينا وعليكم بالعلم النافع والعمل الصالح وأن يعيذنا وإياكم من علم لا ينفع وقلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعوة لا يستجاب لها ونعوذ بالله من هذه الأربع .أيها الإخوة إن الإيمان في اللغة : هو الإقرار لأنه مشتق من الأمن الذي هو ضد الخوف ، من الأمن الذي هو أمن القلب وقراره وسكونه وثقته ، فالأمن لغةً : الإقرار .وشرعاً عرَّفه أهل السنة والجماعة - وتعريفهم هو التعريف الذي يعوَّل عليه وما خالفهم فلا يلتفت إليه - عرَّفوه بأنه : قول واعتقاد وعمل ؛ أن تعتقد اعتقاداً جازماً بما أمرك الله عز وجل باعتقاده من إيمانٍ به وبملائكته وكتبه ورسله وغير ذلك مما أمرك أن تعتقده ، والقول هو أن تتلفظ بالشهادتين بلسانك ويكون هذا التلفظ مستنداً إلى اعتقاد القلب الجازم بما يتلفظ الإنسان به ، ثم تعمل جوارحك في طاعة الله سبحانه وتعالى . فليس الإيمان ما كان في القلب فقط ، وليس الإيمان ما كان في اللسان فقط ، وليس الإيمان ما كان في الجوارح فقط ، بل الإيمان مشتمل على هذه الأمور كلها فهو اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح ، كل هذه تعمل وتخضع وتستكين وتستسلم وتنقاد لأوامر الله جل وعلا ، هكذا يكون الإيمان . ثم إن هذا الإيمان الذي نتحدث عنه له أصول بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقاها عنه أصحابه رضي الله عنهم وتلقاها عن أصحابه تابعوهم بإحسان ، وهكذا يتلقى الخلف عن السلف ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من أصول الإيمان وأسسه وأركانه ، فمن أراد الاهتداء والفلاح والفوز والسعادة فليتعلم الإيمان تعلُّماً صحيحا وليتعلم أركانه كما جاء بها رسول الله عليه الصلاة والسلام وكما نقلها أصحابه رضي الله عنهم ، هكذا ينبغي للمسلم أن يتعلم الإيمان ومن هذا الطريق ينبغي عليه أن يتلقى الإيمان طريق النبي عليه الصلاة والسلام وطريق الصحابة وطريق سلف الأمة أهل السنة والجماعة . إن « أصول الإيمان » التي نتحدث عنها ستة بيَّنها النبي عليه الصلاة والسلام أتم بيان ، فقد جاءه جبريل وهو بين أصحابه صلى الله عليه وسلم فسأله أسئلة منها : أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ ؟ فقَالَ : (( أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ)) فهذه أصول الإيمان ، ستة أصول بيَّنها لنا نبينا عليه الصلاة والسلام فلسنا بعد ذلك بحاجة إلى من يتكلف اختراع أصولٍ من قبَل نفسه أو من هواه تناقض وتخالف أصول النبي عليه الصلاة والسلام وإنما حسبنا أن نتبع ما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم ، فأصول الإيمان ستة : (( أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ )) هذه أصول الإيمان الواجب على كل مسلم أن يؤمن بها بقلبه إيماناً جازماً لا يخالطه أدنى شك ولا ريب .وهذه الأصول الستة متلازمة مترابطة لا ينفك أحدها عن الآخر ؛ فمن آمن ببعضها دون بعض يكون كافراً بها جميعها ، فمن قال إني أؤمن بالله وبرسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وبالكتب إلا أنني لا أؤمن بالملائكة ولا أقر بوجودهم لأنني لا أراهم ولا أحسهم أو ما أشبه ذلك فهذا ليس كافراً بالملائكة فحسب ! بل هو كافر بالله وبرسله وبكتبه وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ، لأن هذه الأركان متلازمة الإيمان ببعضها يقتضي الإيمان بها جميعاً ، فلا يصح الإيمان بركن منها أو بخمسة أركان منها دون الركن الأخير لا يُقبل هذا العمل من أي أحد ، فالواجب الإيمان بهذه الأصول الستة والإيمان بها كما جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام وكما تلقاها عنه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم .ثم إن هذه الأصول الستة لأهميتها وعظم مكانتها ورفعة شأنها وعلو درجتها جاء بيانها في القرآن الكريم في مواضع عديدة وفي أماكن مختلفة من القرآن الكريم ، ولنأخذ على سبيل المثال : سورة البقرة ؛ هذه السورة اشتملت على هذه الأركان ودلت عليها في أولها وفي آخرها وفي وسطها وفي مواضع أخرى منها دلت على هذه الأركان وعلى وجوب الإيمان بها وعلى أن المؤمنين آمنوا بها والتزموها وعلى أمر الله جل وعلا عباده بالإيمان بها كل ذلك دلت عليه سورة البقرة .ففي أولها يقول الله سبحانه وتعالى في أوصاف المتقين : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }هذه هي أركان الإيمان الستة الواجب على كل مسلم أن يؤمن بها وأن يعتقدها بقلبه اعتقاداً جازما .{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } ؛ ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى عن أبي العالية وعن غيره من السلف في معنى قوله سبحانه وتعالى { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : «أي الذين يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار ولقاء الله كل ذلك من الإيمان بالغيب »هكذا قال أبو العالية وغيره من سلف الأمة وهذه صفة عظيمة من صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب امتازوا بها عن غيرهم من الناس ، فامتازوا بهذه الصفة صفة الإيمان بالغيب ، الكفرة والملاحدة لا يؤمنون بالغيب ، لا يؤمنون إلا بما يشاهدونه أو يحسونه أو يرونه أو يسمعونه لا يؤمنون إلا بشيء تحسه حواسهم الخمسة وما سوى ذلك لا يؤمنون به ، أما المؤمنون الذين امتنَّ الله عليهم بالإيمان وهداهم له ووفقهم إليه فإنهم يؤمنون بأمور كثيرة لم يشاهدوها ولم يروها ولم يلمسوها ومع ذلك يؤمنون بها إيماناً جازماً لا يخالطه أدنى شك ولا ريب ، فالمؤمنون يؤمنون بوجود الجنة والنار وأن الله أعد الجنة للمتقين والنار للعصاة والكافرين والذين منهم أولئك الذين لا يؤمنون بالغيب ، فالمؤمنون يؤمنون بالغيب وكل ما يتضمنه الإيمان بالغيب من الإيمان بالله وملائكته وغير ذلك من أمور الغيب كل ذلك يؤمنون به وإن كانوا لم يروه لأنهم يؤمنون بأن الله بعث إليهم رسولاً صادقاً في أقواله لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فما قاله ذلك الرسول صدَّقوا به ، فهم يشهدون لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة ، ومعنى شهادتهم له بالرسالة أن يصدِّقوه في أخباره أن يطيعوا أوامره وأن ينتهوا عن نواهيه ، فإذا قال لهم إن هناك ملائكة من أوصافهم كيت وكيت ومن أفعالهم كيت وكيت ومن أسماءهم كذا وكذا يؤمنون بذلك ولا يترددون في شيء منه ، كذلك إذا أخبرهم ذلك النبي بأن هناك جنة ونارا وأن هناك صراطاً وأن هناك حساب وعقاب ودواوين وميزان وعرض للأعمال وغير ذلك يؤمنون بذلك ولا يترددون في شيء منه لماذا ؟ لأن من خصائصهم ومن صفاتهم الإيمان بالغيب ، فشأن الإيمان بالغيب عظيم جدا حيث إنه اشتمل على أركان الإيمان الستة وعلى غيره من الأمور التي يجب الإيمان بها وإن لم يرها الإنسان ولم يطَّلع عليها ، ولهذا كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه ما آمن أحد بأفضل من إيمانٍ بغيب ، الذي آمن بالغيب آمن بأركان الإيمان الستة وآمن بأمور أخرى جاءت بها رسل الله لم يطَّلع عليها ولم يرها لصدق إيمانه ولرسوخ عقيدته وثبات يقينه ، هكذا شأن الإيمان بالغيب وهكذا شأن الإيمان بأركان الإيمان الستة المأمور بالإيمان بها . فالآن قوله عز وجل { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } هذه الكلمة وحدها اشتملت على أركان الإيمان الستة ومع ذلك ذُكر بعدها شيء من أركان الإيمان الستة فقال جل وعلا : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ } الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا متضمن للإيمان به عليه الصلاة والسلام ، { وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } الإيمان بالكتب السماوية السابقة وكذلك متضمن للإيمان بالرسل الذين أنزلت عليهم تلك الكتب .ثم قوله تعالى { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } متضمن للإيمان بما جاء في تلك الكتب ولاسيما في خاتمها القرآن الكريم من أركان الإيمان الستة وغيرها . ثم قال جل وعلا { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} فذكر الإيمان باليوم الآخر .فهذا في أول السورة ذِكْر أركان الإيمان الستة ثم بعدها بآيات قال الله سبحانه وتعالى : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا... } إلى قوله جل وعلا { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} فهنا يأمر الله عز وجل عباده بالإيمان يقول : {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } وليس تنفيذ هذا الأمر أن يقول الإنسان بلسانه آمنتُ بالله دون أن يعتقد ذلك في قلبه ، لأن القول المطلق يشمل قول القلب وقول اللسان ، فقول الله جل وعلا {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } أي اعتقدوا الإيمان بالله في قلوبكم وانطقوا به في ألسنتكم فيتطابق ما في القلب وما في اللسان .{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } أن يؤمن الإنسان بالله وهذا متضمن لبقية أركان الإيمان الستة وكذلك ما أنزل إلينا متضمن للإيمان بما جاء في القرن الكريم من الأركان الستة وغيرها مما أمر الله سبحانه وتعالى الإيمان به .ثم لم يختم الله سبحانه وتعالى هذه السورة – وتأملوا ذلك - إلا وقد أخبر أن المؤمنين استجابوا لهذا الأمر ؛ ففي أولها قال {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } ، ثم قبل أن تنتهي السورة قال سبحانه {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ } هكذا كان سرعة استجابة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأوامر الله عز وجل، لما قال لهم في سورة البقرة {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } قالوا مباشرة آمنا بالله { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } هكذا قالوا ؛ فامتدحهم الله عز وجل بذلك وأثنى عليهم به فلم يختم السورة إلا وقد أخبر أنهم نفَّذوا ذاك الأمر الذي أمر الله سبحانه وتعالى به {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} فهكذا شأن المؤمنين في سرعة استجابتهم لأوامر الله سبحانه وتعالى .أيها الإخوة : هذه الآية التي ختم الله جل وعلا بها سورة البقرة والتي تليها لها شأنٌ عظيم وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وما ذاك إلا لأنها اشتملت على أركان الإيمان الستة المأمور بالإيمان بها ، واشتملت على جملة طيبة مباركة من الأدعية التي يحتاجها ويفتقر إليها كل مسلم ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله جل وعلا استجاب للمؤمنين دعواتهم تلك ، ولهذا مما جاء في فضل هاتين الآيتين قول النبي عليه الصلاة والسلام ((مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ )) أي : كفتاه من كل شرٍّ وسوء . هذا الفضل الذي ترتب على هاتين الآيتين عندما يقرأهما المسلم عند نومه لأن فيهما استحضارٌ وتذكُّر لحقائق الإيمان وأصوله الباطنة وتفكُّر فيها وتدبر لها وتأملٌ لمعانيها وفهمٌ لها كل ليلة قبل أن ينام المسلم يتذكر هذه الأصول ويؤمن بها ويتأسى بمن أخبر الله جل وعلا عنهم آمنوا بها ثم يُتْبع ذلكم بدعوات مباركة طيبة أخبر الرب سبحانه وتعالى أنه استجابها ؛ فحري بكل مسلم أن لا يفوِّت على نفسه هذا الفضل العظيم وهذا الكرم العميم فيقرأ هاتين الآيتين قبل نومه في كل ليلة ويضمِّن القراءة فهم ما يقرأ من كتاب الله سبحانه وتعالى .ثم أيضا في سورة البقرة في مواضع أخرى الدلالة على هذه الأصول الستة ومن هذه المواضع قوله جل وعلا : {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ }[البقرة:177] فهذه أصول الإيمان الستة ، ليس البر الحقيقي أن تتجه إلى المشرق أو المغرب ، البر الحقيقي هو طاعة الله عز وجل وإن كان الاتجاه إلى المشرق أو المغرب طاعةً لله عز وجل من البر ومن الانقياد لأمره سبحانه وتعالى { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } انقاد وأذعن لأوامره سبحانه وتعالى ، بعض الناس وقع في نفوسهم شيء عند تحول القبلة فأنزل الله عز وجل قوله {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} البر هو أن تطيع الله ؛ إذا قال لك اتجه إلى المغرب تتجه ، وإذا قال لك اتجه إلى المشرق تتجه ، فأنت عبدٌ مأمور ليس لك إلا أن تنفذ أوامر خالقك ومدبرك سبحانه وتعالى . { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } هذه أصول الإيمان وأركانه التي أمر الله عز وجل عباده أن يؤمنوا بها .فمن خلال هذا العرض الموجز نرى كيف اعتنى القرآن الكريم بهذه الأصول وببيانها والتنبيه على أهميتها ؛ ففي سورة واحدة في أولها وآخرها ووسطها تلك الدلالات العظيمة على أصول الإيمان الستة ، فتارةً يمدح الله عز وجل المتقين بأنهم آمنوا بها ، وتارة يأمر بها ، وتارة يخبر أن ذاك هو البر ، وتارة يمدح المؤمنين بأنهم آمنوا وانقادوا بأنواع من الأدلة يبين الله عز جل أهمية هذه الأصول وعظم شأنها .وفي غير هذه السورة يقول الله سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا }[النساء:136] هذه الآية فيها التنصيص على كفر من لم يؤمن بهذه الأركان أو من لم يؤمن بشيء منها ، من لم يؤمن بهذه الأركان أو من لم يؤمن بشيء منها فهو كافر بالله العظيم بدلالة هذه السورة وهو في غاية الضلال { فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } . القرآن الكريم كما ذكرنا اشتمل في مواضع كثيرة على هذه الأصول وعلى أهميتها وعلى عظم شأنها ، هناك كلمة أعجبتني لِعَلَم من الأعلام وإمام من الأئمة في هذا الموضوع فأحببتُ أن أسوقها بنصها يقول الشوكاني في كتابه «إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات »وهذا الكتاب قصد فيه الشوكاني أن يبين أن أصول الإيمان التي هي التوحيد والمعاد والنبوات متفق عليها بين الشرائع السماوية وهذه قضية نبينها إن شاء الله بعد قليل وأخذ يستدل على ذلك بالقرآن الكريم وبالتوراة والإنجيل المحرَّفين ، فرغم تحريفهما فيوجد فيهما من النصوص الدالة على أصول الإيمان شيء كثير ذكره الشوكاني في كتابه إرشاد الثقات ، يقول في هذا الكتاب مبيناً اشتمال القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه على هذه الأصول الستة : «واعلم أن إيراد الآيات القرآنية على إثبات أصول الإيمان لا يحتاج إليه من يقرأ القرآن العظيم ، فإنه إذا أخذ المصحف الكريم وقف على ذلك في أي موضع شاء ومن أي مكان أحب وفي أيِّ محل منه أراد ووجده مشحوناً به م فاتحته إلى خاتمته » فهذا الأمر – يقول - كل من يقرأ القرآن الكريم يجده مملوء من أوله إلى آخره بأركان الإيمان وأصوله وحقائق الإيمان ما لا يحتاج إلى إيضاح ولا بيان ، فأنت عندما تقرأ القرآن وتتدبره تجد في مواضع كثيرة يأمر الله سبحانه وتعالى بالإيمان به وبأسمائه وصفاته وبأفعاله وبما خلق ورزق وأوجد وغير ذلك مما يتعلق بالإيمان بالله سبحانه وتعالى ، وتجد فيه ذكر الملائكة وأوصافهم وأسمائهم ونعوتهم وأخبارهم تجد في ذلك شيئاً كثيرا ، وتجد ما يتعلق بالرسل والإيمان بهم ودعواتهم وأسمائهم وغير ذلك الشيء الكثير وتجد كذلك ما يتعلق باليوم الآخر والجنة والنار الشيء الكثير ، وتجد أيضا الإيمان بالقدر في مواضع كثيرة منه . وبهذا يتبين أن القرآن الكريم من أوله إلى آخره كله في بيان الإيمان وإيضاح الإيمان وفي بيان أصول الإيمان وهذا أيها الإخوة فيه أعظم دلالة وأعظم تنبيه على أهمية الإيمان وأهمية أصوله وأسسه والاعتناء بها والاهتمام بها وتقديمها على أي أمر من الأمور .ومما يبين أهمية هذه الأصول وعظم شأنها ورفعة مكانتها : أن الشرائع السماوية كلها ونبوات الأنبياء جميعهم متفقة على هذه الأصول الستة لا يختلف فيها نبي عن نبي بل كلهم متفقون عليها يدعون إليها ويأمرون بها ويخبرون بفضل من آمن بها وعظم أجره وجزيل ثوابه ، فهذه الأصول جميع الأنبياء وجميع المرسلين بدءً من نوح عليه السلام وختاماً بمحمد صلى الله عليه وسلم كلهم متفقون على هذه الأصول ، وإن اختلفت شرائعهم ودعواتهم وتكاليفهم فهم متفقون في هذه الأصول ليس بينهم خلاف في شيء منها ، الخلاف بين الأنبياء في الشرائع كما قال جل وعلا {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا }[المائدة:48] ، أما الأصول فدعوتهم واحدة {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36] كل الأنبياء يدعون إلى عبادة رب واحد ويأمرون بالإيمان به سبحانه وتعالى وبما أمر بالإيمان به من أصول الإيمان الستة التي هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره .فهذا التقديم كله في بيان أهمية هذه الأصول وعظم شأنها ، ومما يبين أهميتها أيضا : أنها تسمى أصول وتسمى أركان وتسمى أسس وتسمى أعمدة ؛ وهذا يعني أنه بزوالها أو بزوال شيء منها يسقط الإيمان وينهدم كله ، لأن كما هو معلوم الأسس والأركان والأعمدة هي الجانب الأقوى الذي يُرتكز عليه ويُستند عليه ، فإذا زالت هذه الأركان أو زال شيء منها انهدم الإيمان كله وسقط بجميعه وإن وُجد الإيمان ببقية أركان الإيمان ، فمن أخل بركن واحد كفر بالله العظيم وكفر بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى بالإيمان به ، ومما يبين ذلك قول الله جل وعلا {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء:105] وأنتم تتعلمون أن قوم نوح إنما كذبوا بنوح وحده عليه السلام ومع ذلك وصفهم الله عز وجل بـأنهم كذبوا بالمرسلين جميعهم مع أنهم ما كذبوا إلا بنوح عليه السلام !! فمن كذب برسول واحد أو فرَّق بين رسل الله أو فرق بين أركان الإيمان فهو كافر بكل ما أمر الله بالإيمان به ، فهي أصول يجب الإيمان بها جميعها ويجب الاعتناء بها جميعها ، ولهذا تنوعت دلالاتها في كتاب ربنا وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم .ثم أيها الإخوة نريد أن نقف وقفة موجزة وقصيرة جداً في بيان هذه الأصول وتوضيحها ، وإن كان كل أصل منها يحتاج إلى محاضرة أو كلمة مستقلة ، فالإيمان بالله وحده أو الإيمان بالملائكة يحتاج إلى كلمات طويلة ومحاضرات عديدة حتى يبين الشيء القليل مما يتعلق بهذه الأصول ، فنشير إشارة موجزة مما ينبغي على كل مسلم أن يعتقده مما يتعلق بهذه الأصول الستة .% فالإيمان بالله : وهو أصل الأصول وأعظم الأصول وأهم هذه الأصول والذي يندرج تحته باقي الأصول هذا الأصل العظيم هو الإيمان بوحدانيته جل وعلا ؛ وحدانيته في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته وفي ألوهيته ، وهذه هي أقسام التوحيد الثلاثة التي بيَّنها أهل العلم واستدلوا عليها بالنصوص الكثيرة والدلائل الوفيرة من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام . v الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته : أن توحد الله جل وعلا في ربوبيته ، فتعتقد اعتقاداً جازماً لا يخالطه أدنى شك ولا ريب أن الله وحده هو الخالق الرازق المنعِم المتصرف المدبر لشئون خلقه كلها . v والإيمان بوحدانية الله في أسمائه وصفاته فتثبت وتقر لله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا الواردة في الكتاب والسنة ، فإذا أخبر الله عز وجل عن نفسه باسم أو صفة فتؤمن بذلك على مراد الله سبحانه وتعالى كما قال غير واحد من أهل العلم « آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم » ، وكما قال الإمام الزهري رحمه الله « من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم » فإذا أخبر الله عز وجل عن نفسه باسم أو صفة أو فعل أو غير ذلك فأنت تؤمن بذلك وتصدقه وتعتقده دون أن تشبِّه الله جل وعلا بخلقه ودون أن تعطل أو تحرِّف أو تأوِّل شيئا من أسمائه وصفاته كما يفعله أهل البدع أعاذنا الله وإياكم من أفعالهم . v ثم توحد الله عز وجل في ألوهيته ، وتوحيد الله في ألوهيته يعني إفراده وحده بجميع أنواع العبادة يعني أن لا تصرف أي نوع من أنواع العبادة لغيره سبحانه وتعالى ، فكما أنه لا خالق لك غيره فلا معبود لك سواه ، فتفرده جل وعلا بالذل والخضوع والانقياد والطاعة والتسليم وفعل الأوامر والانتهاء عن النواهي وتعبده مخلصاً له الدين فلا تسأل إلا الله ولا تستغيث إلا به ولا تعتمد إلا على الله ولا تتوكل إلا عليه ولا تذبح إلا له ولا تحلف إلا به ولا تصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا لله سبحانه وتعالى ؛ هذا كله مما يتعلق بالإيمان بالله سبحانه .% ثم الإيمان بالملائكة : أن تقر وتعتقد بكل ما جاء عنهم في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما جاء عنهم مجملاً تؤمن به على وجه الإجمال ، وما جاء عنهم مفصلاً تؤمن به على وجه التفصيل؛ فتؤمن على وجه الإجمال بأن هناك ملائكة سمَّاهم الله ملائكة وسماهم الملأ الأعلى والسفرة والكرام البررة ، تؤمن بأنهم خُلقوا من نور كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، تؤمن بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، تؤمن بكل ما جاء ذكره في القرآن الكريم أو السنة المطهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من أسمائهم وأعمالهم وأوصافهم وأعدادهم ، تؤمن بذلك كله ما جاء منه مجملاً تؤمن به على وجه الإجمال وما جاء مفصلا تؤمن به على وجه التفصيل . فالملائكة عددهم لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}[المدثر:31] فتؤمن أن الملائكة لهم عدد كثير لا يعلمه إلا الله سبحانه . ومما يبين كثرة الملائكة وعظم عددهم ما جاء في حديث الإسراء لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم قال ((رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا ؟ قَالَ هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ)) ، ومما يبين كثرتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم ((أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ)) السماء على عظمها وكبرها ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيها ملكٌ ساجد لله سبحانه وتعالى . ومما يبين كبرهم وعظم خلقهم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ)) وهو حديث صحيح مسيرة سبعمائة سنة وهو من حملة العرش ، فهذا يبين لنا عظم خلق الملائكة ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام وقد سد الأفق وله ستمائة جناح . ثم أيها الإخوة هؤلاء الملائكة على عظم خلقهم وكبر أجسامهم وقوتهم حيث إن بعضهم أعطاه الله عز وجل من القدرة أن يرفع الجبال ومنهم من رفع قرية بكاملها وأطبقها على من فيها ، وهذا مما يبن قوتهم فهؤلاء رغم عظمهم وكبرهم وقوتهم فإنهم إذا تكلم الله سبحانه وتعالى بالوحي صُعقوا وخروا صاعقين من كلام الله سبحانه وتعالى { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ }يعني زال الفزع ، الفزع يحصل لقلوبهم بمجرد ما يتكلم الله سبحانه وتعالى بالوحي ، بمجرد ما يتكلم الله سبحانه وتعالى بالوحي يخرون صعقين { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا} يقول بعضهم لبعض { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }[سبأ:23] فهذا كله يبين لنا شيء مما يتعلق بالملائكة وطاعتهم لله وانقيادهم لأمره وخضوعهم وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .% ثم ما يتعلق بالإيمان بالأنبياء : أن يؤمن الإنسان بكل نبي أرسله الله إيماناً مجملا وإيمانا مفصلاً ؛ إيمانا مجملاً فيما لم يأتِ تفصيله ، فرسل الله وأنبياؤه كثيرون ، منهم من قصَّه الله وذكر خبره في القرآن الكريم ومنهم من لم يقصصه الله { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}[غافر:78] فهذا يبين أن هناك رسلاً لله لم يقصصهم الله ولم يذكر خبرهم في القرآن ، فما موقفنا تجاه هؤلاء ؟ نؤمن بهم على وجه الإجمال ، أما من جاء خبرهم وجاء ذكرهم وجاء شيء من أعمالهم وما قاموا به وما تعرضوا له تفصيلاً نؤمن به على وجه التفصيل كنوح وموسى وعيسى ، وعدد الأنبياء والذين ذكروا في القرآن خمس وعشرون نبياً فهؤلاء نؤمن بهم على وجه التفصيل كما جاء في القرآن الكريم ، ونؤمن بأن أفضلهم أولوا العزم منهم وهم خمسة ، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيس ومحمد صلى الله عليه وسلم ، ونؤمن أيضا بأن أفضل هؤلاء كلهم هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام ، فنؤمن بهؤلاء كلهم ، ونؤمن أيضا بأن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ناسخة لشرائعهم وهي الخاتمة للشرائع السماوية ، فلذلك نخص النبي عليه الصلاة والسلام بالإيمان بكل ما جاء به وبما أنزل إليه وبسنَّته صلى الله عليه وسلم ، نؤمن بذلك وننقاد لأوامره ونخضع لشرعه وننتهي عن نواهيه ونشهد أنه رسول الله حقاً وصدقا ، نشهد شهادة بألسنتنا متضمنةً لاعتقادٍ صحيح في قلوبنا متضمنةٍ لعمل وانقياد في جوارحنا ، فالشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة تعني : طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، والانتهاء عما نهى عنه وزجر ، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع .% ثم الإيمان بالكتب : أن تؤمن بكل كتاب أنزله الله { وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ }[الشورى:15] ، نؤمن بكل كتاب أنزله الله سواء علمناه أو لم نعلمه نؤمن به إيماناً مجملا ، أما الكتب التي جاء خبرها في القرآن الكريم كالتوراة والإنجيل والزبور فهذه نؤمن بها على وجه التفصيل فنقول : إن التوراة أنزلت على موسى ، وإن الإنجيل أنزل على عيسى ، وإن الزبور أنزل على داود ، وإن القرآن أنزل على محمد ، وأنزل على إبراهيم صحف ، كل ذلك نؤمن به لأنه جاء خبره مفصلاً في القرآن الكريم ، ثم إن تلك الكتب السماوية عدا القرآن اعتراها تحريفٌ وتبديلٌ وتغيير فدخل فيها ما ليس من كلام الله وإن كان بقي فيها شيء من كلام الله ، فتلك الكتب إذا شاهدنا شيئا منها فإنا لا نكذِّب ما جاء فيها إلا إذا جاء في القرآن تكذيبه ، ولا نصدق ما فيها إلا إذا ما جاء في القرآن تصديقه لأن القرآن هو المهيمن على الكتب السابقة والشاهد على صحتها ، فما جاء في القرآن أنه حق مما جاء في تلك الكتب فهو حق ، وما جاء في القرآن أنه ليس بحق مما في تلك الكتب لأنها اعتراها التحريف فهو ليس بحق ، لأن من نظر في تلك الكتب يجد فيها أموراً لا يمكن ولا يصح أن تكون من كلام الله عز وجل بل هي من كلام الكفرة من اليهود والنصارى كوصف الله عز وجل بالتعب أو وصف بعض أنبياءه بالزنا - قاتلهم الله - أو وصف بعض الأنبياء بأنهم أبناء الله كل ذلك ليس من كلام الله فنحن نكذِّب به ولا نؤمن به ، وأما ما جاء فيها مما لم يأت في القرآن تصديقه ولا تكذيبه فإنا نتوقف فيه وحسبنا كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ فهما مرجعنا وهما معوَّلنا وهما مستندنا وهما الذين يعتمد عليهما ويُرجع إليهما { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ }[النساء:59] فالرد إلى الله : الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول : هو الرد إلى سنته صلى الله عليه وسلم ((تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ)) فالاعتصام والاعتماد إنما يكون على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .% ثم الإيمان باليوم الآخر : هو الإيمان بكل ما أخبر الله به مما يكون بعد الموت ، كل ما يكون بعد الموت مما أخبر الله به مما جاء في الكتاب والسنة كل ذلك نؤمن به من حين دخول الإنسان قبره والقبر هو أول مرحلة من مراحل الآخرة إلى افتراق الناس إلى قسمين أهل الجنة وأهل النار كل ذلك نؤمن به ، نؤمن بفتنة القبر وعذابه ونعيمه ونزول الملكين في القبر وسؤال من في القبر عن ربه ودينه ونبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم نؤمن بالنفخ في الصور ، ونؤمن بالبعث والنشور ، ونؤمن بحشر الناس ، ونؤمن بمجيء الله للقضاء ، ونؤمن بالميزان، ونؤمن بأن هناك دواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله ، نؤمن بأن الصحف تتطاير وأن الأعمال سيلقاها من عملها في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ونؤمن بالصراط الذي يُنصب على متن جهنم ، ونؤمن بجهنم وما فيها من عذاب شديد متنوع ، ونؤمن بالجنة وما فيها من نعيم مقيم ، ونؤمن بأن الجنة والنار لا تفنيان ، فمن مات مشركاً بالله عز وجل كان من أهل النار خالداً مخلدا فيها لا يقضى عليه فيموت ولا يخفف عنه من عذابها ، وكذلك أهل الجنة إذا دخلوا الجنة يكونون خالدين فيها . هناك بعض الناس وهم عصاة الموحدين قد يدخلون النار بسبب تقصيرهم وارتكابهم لبعض الذنوب إلا أنهم يخرجون منها بسبب إيمانهم بالله عز وجل وبفضل الله وجل وعلا عليهم فالله عز وجل يقول ((أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ)) ، فإذا خرج آخر أهل النار من النار وأدخل الجنة يبقى في النار أهلها الذين هم خالدون فيها ويبقى في الجنة أهلها الذين هم خالدون فيها جعلنا الله وإياكم منهم ثم ينادى أهل الجنة فيستبشرون وينادى أهل النار فيستبشرون ثم يؤتى بكبشٍ فيُذبح فيقال هذا كبش الموت يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ، وهناك بالنسبة لأهل النار تتقطع الحسرات ويأتي الندم والحسرة فلا ينفع الندم حينئذ ، وأهل الجنة يهنئون ويسعدون ويتلذذون بالنعيم المقيم وبرضا الرب الكريم في مقعد صدق عند مليك مقتدر يتنوع عليهم النعيم ويتنوع عليهم الفضل ويرون الرب الكريم سبحانه وتعالى ويتلذذون برؤيته جل وعلا وذلك أفضل وأكمل وأعلى وأجلّ نعيم وأكرم رزقنا الله وإياكم رضا الرب جل وعلا ورؤيته وأن نكون من المتقين الذين هم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر .% ثم ما يتعلق بالإيمان بالقدر : هو أن تؤمن بأن الله جل وعلا علِم بالأشياء قبل وقوعها وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ثم شاء أن يوجد ذاك الذي علمه الله وكتبه ثم تؤمن بوجوده كما شاءه الله سبحانه ؛ فهذه مراتب الإيمان بالقدر الأربعة التي لا يصح الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بها جميعاً ؛ الأول أن تؤمن بعلم الله السابق : الله عز وجل علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، الله عز وجل علم ذلك في الأزل سبحانه وتعالى ، ثم كتبه في اللوح المحفوظ متى ؟ قال صلى الله عليه وسلم ((كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)) حتى جلستنا هذه مكتوبة في اللوح المحفوظ علِمها الله في الأزل وكتبها في اللوح المحفوظ وشاءها فوُجدت كما شاء الله جل وعلا ، تؤمن بالمرتبة الأولى وهي العلم ، ثم المرتبة الثانية وهي الكتابة ، ثم المرتبة الثالثة وهي المشيئة ، ثم المرتبة الرابعة وهي الإيجاد كما شاء الله ، فلا يصح الإيمان بالقدر إلا إذا آمن الإنسان بهذه المراتب الأربعة مجتمعة ، أما من آمن ببعضها دون بعض فليس بمؤمن بالقدر وليس بمؤمن بالله سبحانه وتعالى كما سبق أن بيَّنا ذلك .هذه أيها الإخوة أصول الإيمان الذي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام والتي جاءت في كتاب ربنا والتي جاءت في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، هذه هي الأصول التي يجب على كل مسلم أن يؤمن بها وأن يتعلمها وأن يصرف أوقاته فيها . إن المشاهد أيها الإخوة في المسلمين أن كثيرا منهم ينشأ في بيئات إسلامية فينشأ على القيام بأعمال الإسلام الظاهرة فتجده يصلي ويصوم ويحج ويتصدق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنه يقوم بما يقوم به مجتمعه ولكن حقائق الإيمان الباطنة ليس كل أحد يوفق إليها ، فأكثر الناس عندهم إيمان يصحح إسلامهم ويصحح صلاتهم وصيامهم وحجهم ولكن ليس عندهم إلمام واسع وإلمام كبير بأصول الإيمان وحقائقه الباطنة ، ولهذا لما ادَّعى بعض الأعراب أنهم آمنوا قال لهم الله عز وجل لم تؤمنوا ، قال الله عز وجل { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }[الحجرات:14] متى يكون الإنسان مؤمن ؟ إذا تمكن ورسخ الإيمان في قلبه ووجدت حقائق الإيمان الباطنة في قلبه عند ذلك يكون مؤمنا ، أما إذا لم يكن كذلك فهو مسلم يقوم بشرائع الإسلام الظاهرة يصلي ويصوم ويؤمن إيمانا مجملاً ليس عنده إلمام ومعرفة بحقائق الإيمان الباطنة فهذا مسلم ولكنه لم يصل إلى درجة الإيمان ، فالإيمان درجة عالية ومرتبة رفيعة ومنزلة عالية لا يصل إليها كل أحد ، فالمسلم ينبغي عليه أن يجاهد نفسه في تعلم حقائق الإيمان الباطنة وأن يدرسها وأن يتعلم ما يتعلق بالله عز وجل وما يتعلق بأسمائه وصفاته وما يتعلق بملائكته وأنبيائه ورسله وقدَره وغير ذلك من أصول الإيمان يؤمن بذلك على ما جاء عن رسول الله حسب ما بيَّنه سلف الأمة رحمهم الله ورضي عنهم وغفر لهم .
أيها الإخوة : هذه هي أصول الإيمان التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فلسنا بعد ذلك بحاجة إلى أن يجتهد لنا مجتهد أو يتكلف لنا متكلف فيخترع لنا أصولاً تكون هي المستند وتكون هي المرجع كما هو شأن أهل البدع على اختلاف مشاربهم وتنوع آراءهم واتجاهاتهم ، فأهل البدع لم يرضوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أصول الإيمان بل تكلفوا اختراع أصول يستندون إليها ويرجعون إليها ويعوِّلون عليها ويفهمونها إضافة إلى ذلك فهماً منحرفا خاطئا يعني المحادة لله ورسوله ، وأنا أضرب على ذلك بعض الأمثلة وإن كانت الأمثلة على ذلك كثيرة :فالروافض مثلا أصول الإيمان عندهم أربعة وهي : التوحيد ، والإمامة ، والنبوة ، والعدل . هذه هي أصول الإيمان عند الروافض كما هي في كتبهم . - والتوحيد ما هو عندهم ؟ هو الوثنية عبادة القبور والتعلق بها وسؤالها وطلب المدد منها والعون والتمسح بتربتها والسجود على أعتابها هذا هو التوحيد ، شتان بين توحيد هؤلاء وبين التوحيد الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم . - والنبوة عندهم ما هي ؟ يقول أحد كبرائهم وأعيانهم : " إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر وعمر ليس ربنا وليس ذاك النبي بنبيّنا " فأبو بكر وعمر هم أفضل الناس مع الأنبياء ومع ذلكم لا وزن لهم ولا قيمة لهم عند هؤلاء بل يلعنونهم ويكفرونهم صباح مساء ويقولون " إن الرب الذي خليفة نبيه أبو بكر وعمر ليس ربنا وليس ذاك النبي بنبينا " فهل هم يؤمنون بمحمد عاليه الصلاة والسلام ؟ لا ؛ بل إنهم يعتقدون أن علياً أولى بالنبوة منه وأن جبريل خان الأمانة وأدى الرسالة إلى محمد وقد أمره الله أن يعطيها لعلي فهل هذا من الإيمان بالنبوات في شيء ؟ حاشا وكلا .- ثم قولهم الإمامة وجعلهم لها أصلاً من أصول الإيمان ما هي الإمامة ؟ من يدَّعون فيهم الإمامة يرفعونهم درجة فوق درجة الأنبياء والملائكة كما قال قائلهم ونبح نابحهم فقال إن لأئمتنا درجة لا يصل إليها ولا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فأئمتهم الذين جعلوا الإيمان بهم أصلاً من أصول الإيمان هذا شأنه عندهم يرفعونهم فوق درجة الأنبياء ويدَّعون فيهم العصمة وأنهم مطهرون مبرؤون من الإثم والخطايا ، كل هذا الذي جعلوه أصولاً من أصول الإيمان ينقض عرى الإيمان ليس من أصول الإيمان بل ينقض عرى الإيمان ويهدم أسسه وأركانه ، فهؤلاء لم يرضوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أصول حتى جاءوا فاخترعوا لأنفسهم أصولاً يعتمدون عليها ويستندون عليها وهي معوَّلهم .ثم مثال آخر : المعتزلة أصولهم خمسة لم يرضوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى اخترعوا لأنفسهم أصولاً خمسة ًكل أصل منها ينقض عرى الإسلام وهي : التوحيد ، والعدل ، وإنفاذ الوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وللفائدة : متأخري الروافض كلهم معتزلة على عقيدة المعتزلة في الأصول ، فالعدل عند الروافض هو نفس العدل الذي عند المعتزلة إلا أن الروافض فاقوا المعتزلة في الشر في سب الصحابة وتنقص القرآن وغير ذلك من الأقوال الكفرية التي جاءوا بها وابتدعوها قاتلهم الله . فأصول المعتزلة الخمسة كلها أصول يضاهئون به ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولضيق الوقت نقتصر على أصلين من أصولهم ونبيّن كيف ينقضون بها عرى الإسلام :فالتوحيد عند المعتزلة ما هو ؟ التوحيد عندهم نفي صفات الله سبحانه وتعالى ، فالمعتزلة يقولون : ليس الله بسميع ولا عليم ولا حكيم ولا رحيم وليس على العرش استوى وليس له يد ولا سمع ولا بصر ، كل ما أخبر الله عز جل به عن نفسه من أسمائه وصفاته لا يثبتونه له سبحانه وتعالى ، يثبتون أسماءً لا تدل على مسميات ، فبالله عليكم من قال إن ربه ليس بسميع ولا عليم ولا بصير ولا حكيم وليس فوق العرش ويواصلون في النفي فينفون كل ما يتعلق بصفات الله هل هناك رب يعبدونه إذا نفوا صفاته ؟ يعبدون عدم لا يعبدون الله سبحانه وتعالى ، ولهذا المعطِّل الذي ينفي عن الله صفاته الثابتة في الكتاب والسنة هو لا يعبد الله عز وجل ، كما أن المشبِّه الذي يشبِّه صفات الله بصفات خلقه هو يعبد صنم لا يعبد الله ، الذي يعبد الله هو الذي يثبت صفات الله كما جاءت ولا يشبِّه شيئا منها بصفات المخلوقين { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }[الشورى:11] ، فتوحيدهم إنكار صفات الله عز وجل وعدم الإيمان بشيء منها . والعدل عندهم - الذي يسمع هذه الكلمة التوحيد العدل يقول ما شاء الله ، ولكن كل كلمة من هذه الكلمات فيها نقض لعرى الإسلام - فالعدل عندهم إنكار مشيئة الله جل وعلا وأن الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه ولا علاقة لمشيئة الله بمشيئة الخالق ، فالله عز وجل عند غلاتهم لا يعلم ما يكون إلا بعد أن يكون ؛ فهل هذا من الإيمان بالله ومن الإيمان بالقدر ومن العدل ومن التوحيد في شيء ؟ لا والله . فهذا شيء من أصول هؤلاء التي جاءوا بها واخترعوها وألَّفوها من عند أنفسهم ليضاهئوا به ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم . فهكذا شأن أهل البدع في القديم والحديث لا يزالون يؤسسون لأنفسهم أصولاً ويخترعون لأنفسهم أصولاً يضاهئون بها ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى المبتدعة المعاصرين من أهل التحزبات والطائفيات والتجمعات يخترعون لأنفسهم أصول ويعتمدون عليها ويوالون فيها ويبغضون فيها ويحبون فيها ويعادون فيها يخترعونها لأنفسهم يؤسسها لهم رجل فيرتكزون عليها ويستندون عليها ويكون فيها حبهم وبغضهم ويكون فيها ولاءهم وبراءهم ، هكذا تلعب الأهواء بأهلها وهكذا تُبعد الأهواء من تعلق بها عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلى يومنا هذا والمبتدعة لا يزالون يخترعون لأنفسهم أصولاً يقدرونها بقدر معيَّن ويعطونها أسماء معينة قد تتوافق في أسماءها مع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنها في حقيقتها تخالف ما جاء به الرسول فهذه ليست من أصول الإسلام في شيء ، فحسبنا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا يقول بعض أهل العلم كلمة عظيمة « كيف يروم الوصول إلى الأصول بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم »
فعليكم أيها الإخوة بالتمسك بأصول الإيمان الستة وبالاعتماد عليها وبفهمها وبتعلمها ودراستها والابتعاد عن كل محدثة بدعة جاءها أهل الأهواء أيًّا كان قائلها وأيًّا كان صاحبها .
ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يمنَّ علينا وإياكم بإيمان صادق وعلم نافع وقلب خاشع ، وأن يجعلنا من الذين يتبعون النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ويحكِّمونه في كل صغيرة وكبيرة ، وأن يرزقنا إيماناً صحيحا وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد .