إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا وسيِّئات أعمالِنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومَن يضلل فلا هادي له ، وأشهدُ أن لا إله إلَّا الله وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله ، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أمَّا بعد : فنسأل الله عز وجل أن يكتب لنا جميعنا في لقاءنا هذا العلم النافع وأن ينفعنا بما علَّمنا وأن يزيدنا علماً ، وأن يجعل متا نتعلمه حجةً لنا لا علينا ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن يثبتنا على دينه القويم وصراطه المستقيم ، وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيما ، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنه تبارك وتعالى غفور رحيم . ثم إنَّ موضُوعَ هذا اللقاء - أيها الإخوة الكرام - موضوع عظيمُ الأهمِّية جليلُ القَدر ، وحَقيقٌ بكلِّ واحدٍ منَّا أن يُعنى به وأن يُعطيَه من اهتمامِه وعنايتِه ؛ فموضوع هذا اللقاء عن [ الاستقامة ] . قد قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[الأحقاف:13-14] ، قال الله جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ }[فصلت:30-32]. فالاستِقامة - معاشر الإخوة - يترتَّب عليها سعادةُ الدُّنيا والآخرةِ ، وفلاحُ العبدِ وصلاحُ أمرِه كلِّه ؛ فكان حقيقاً بالنَّاصح لنفسِه الرَّاغب في سعادتِها أن يُعْنَى بالاستقامة عظيمَ العنايةِ علمًا وعملًا وثباتًا على ذلك إلى الممات، مستمدًّا العونَ من الله تبارك وتعالى. وكثيرًا ما تَردُ الأسئلة من النَّاس لأهل العلم وطلَّابه والدُّعاة إلى الله عزَّ وجلَّ والمصلِحين عن الاستقامةِ ، وعن حقيقتِها ، وعن الأمور المعينة على الثَّبات على صراط الله المستقيم ، إلى غير ذلك منَ السُّؤالات الَّتي تَرد في هذا الباب ؛ وقد رأيتُ من المفيدِ لنفسِي ولإخواني جمعَ بعضِ القواعدِ المهمَّةِ الجامعةِ في هذا الباب لتكون لنا ضياءً ونبراسًا ، بعد مطالعَةٍ لكلام أهل العلمِ وأقاويلِهم رحمهم الله تعالى حول الاستقامةِ وعمَّا يتعلَّق بها، وما سأتحدث عنه في هذا اللقاء هو عشرُ قواعد عظيمةٍ في باب الاستقامة وقاعدة ، وهذه القواعد جديرٌ بكلِّ واحدٍ منَّا أن ينتبه لها . وبين يدي ذكر هذه القواعد أشير إشارة سريعة في بيان حقيقة الاستقامة بنقل بعض النقول المباركة عن الصحابة ومن اتبعهم بإحسان في بيان حقيقتها ومعناها : *- قال صدِّيقُ الأمَّة أبو بكر رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا }: «هُم الَّذين لم يُشركوا بالله شيئًا » .
*-وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما قال « على شهادة أن لا إله إلَّا الله»؛ ورُوي نحوه عن أنس ومجاهد والأسود بن هلال وزيد بن أسلم والسُّدِّي وعِكرمة وغيرِهم.
*-ورُوي عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنَّه قرأ هَذه الآيةَ على المنبر: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا}فقال: «لم يَرُوغوا رَوَغان الثَّعلب» .
*-ورُوي عن ابن عبَّاس رضي الله عنه أنَّه قال : «استقامُوا على أداءِ فرائضِه» .
*-وعن أبي العَالية قال : {ثُمَّ اسْتَقَامُوا }أي «ثمَّ أخلَصُوا له الدِّين والعَمل» .
*-وعن قَتادة قال: «استقاموا على طاعة الله» .
ذكر هذه الأقوال ابنُ رجَب رحمه الله في «جامع العلوم والحِكم» ، ثمَّ عرَّف الاستقامةَ بقوله: « والاستقامَة هيَ سلوكُ الصِّراط المستقيم ، وهو الدِّينُ القيِّم منْ غَير تَعريجٍ عنه يَمنةً ولا يَسرةً ، ويشمَل ذلك فعلَ الطَّاعات كلِّها، الظَّاهرة والباطنة، وتركَ المنهيات كلِّها كذلك » انتهى كلامه. وهذه المعاني - أيها الإخوة الكرام -كلُّها متقاربَةٌ ويفسِّرُ بعضُها بعضًا ؛ لأنَّ الاستقامةَ من الكلماتِ الجامعةِ الَّتي تَشمل الدِّينَ كلَّه ، قال ابن القيِّم رحمه الله : «فالاستقامةُ كلمة جامعةٌ آخذةٌ بمَجامِع الدِّينِ ؛ وهي القيامُ بينَ يدي الله على حقيقةِ الصِّدقِ والوَفاء بالعهدِ» . ونشرع الآن أيها الإخوة في ذكر قواعد في الاستقامة :
ªالقاعدة الأولى: الاستقامة منَّةٌ إلهيةٌ وهِبةٌ ربَّانيةٌ .
ففي آياتٍ كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى يضيف الله عزَّ وجلَّ إلى نفسه الهدايةَ إلى صراطِه المستقِيم ، وأنَّ الأمرَ كلَّه بيدِه عزَّ وجلَّ يهدي مَن يشاءُ ويُضلُّ مَن يشاءُ ، وبيده سبحانه وتعالى قلوبَ العباد ، فمَن شاءَ أقامَه تبارك وتعالى على الصِّراط ، ومن شاء أزاغَه ، قال الله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[النساء:66-68]، فالهداية إلى الصِّراط بيد الله عزَّ وجلَّ ، وقال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[النساء: 175] ، وقال الله تعالى : {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس:25] ، وقال الله تعالى : {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام: 39]، وقال الله تعالى: {وَالله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[النور:46]، وقال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }[التكوير: 27-29] . والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ . فالهدايةُ بيد الله عزَّ وجلَّ يمُنُّ بها سبحانه وتعالى على مَن يشاء من عِباده ، ولهذا كانَ من أوَّلِ قواعدِ الاستقامةِ وأُسُسِها : التَّوجُّهُ الصَّادقُ إلى الله عزَّ وجلَّ في طلبِها ؛ لأنَّها بيدِه وهو سبحانَه وتعالى الهادي إلى صراطه المستقيم، وقد كانَ أكثرُ دعاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» وهذا هو الثَّبات على الاستقامَةِ ، قالت أمُّ سَلَمة : فقُلْتُ يَا رَسُولَ الله! أَوَ إِنَّ القُلُوبَ لَتَتَقَلَّبُ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ مَا مِنْ خَلْقِ الله مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ بَشَرٍ إِلاَّ أَنَّ قَلْبَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الله، فَإِنْ شَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ» . فالاستقامةُ بيَد الله؛ فمَنْ أرادَها لنفسِه فليطْلُبها منَ الله وليُلِحَّ على الله تبارك وتعالى بالسُّؤال ، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّها سُئِلت بأيِّ شيءٍ كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يفتَتِحُ صلاتَه من اللَّيل؟ قالت : إذا قامَ من اللَّيل افتتَح صلاتَه : «اللهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتَلَفْتُ فِيهِ مَنِ الحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» ؛ هذا كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقولُه كلَّ ليلةٍ في افتتاحِه لصلاةِ اللَّيل «إنَّك تَهدِي مَنْ تَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . ولما كان هذا المطلَبُ - أعني سؤالَ الله تبارك وتعالى الهدايةَ - أعظمَ المطالبِ وأجلَّها أوجبَ الله سبحانه وتعالى على عباده أن يسألوه الهدايةَ إلى صراطِه المستقيم مرَّات متكَرِّرةٍ في اليوم واللَّيلة ، وذلك في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }، قال بعضُ أهل العلم : ينبَغي أن يُنبَّه العوامُّ إلى أنَّ هذا دعاءٌ ؛ لما تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيمَ }أنتَ تدعو اللهَ ، وهذه الدَّعوة أوجبَها الله عليكَ ، يجب عليك في اليوم والليلة أن تدعو الله بهذه الدعوة سبعة عشر مرَّة ؛ بعدد ركعاتِ الصَّلاة المكتوبة التي كتبها الله على عباده ؛ الفجر ركعتان ، والظهر أربع ، والعصر أربع ، والمغرب ثلاث ، والعشاء أربع ، مجموع ذلك سبع عشرة مرة ، وفي كل ركعة من هذه الركعات تدعو الله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيمَ } ؛ ولهذا ينبَغي على المسلم أنْ يستَشعِر أنَّ هذا دعاء ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : «تأمَّلتُ أنفعَ الدعاء ؛ فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾» ، وقال رحمه الله تعالى : « أُمِرَ العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة » ؛ فأنت مطلوبٌ منكَ أن تُداومَ على هذا الدُّعاء ؛ دعاء الله الهدايةَ للاستقامة، وهو موجودٌ في سورة الفاتحة ، وكان الحسَن البَصري رحمه الله تعالى إذا قَرأ قولَ الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: «اللَّهُمَّ أنتَ ربَّنا فارزُقْنا الاستقامَةَ» .
ªالقاعدة الثَّانية : حقيقةُ الاستقامَة لزُوم المنهجِ القويمِ والصِّراطِ المستقيمِ . وقد مر معنا من النقول في ذلك عن الصحابة وعن أهل العلم ما يدل لهذه القاعدة ويشهد لها . ªالقاعدة الثَّالثة : أصلُ الاستقامَةِ استقامةُ القلبِ .
قد جاء في الحديث عن نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه : « لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ » رواه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه . فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القَلب ، فالقلبُ إذا صَلَحَ واستقَامَ تبعَه البدنُ ، قال الحافظ ابن رجَب رحمه الله تعالى : «فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التَّوحيد، كما فسَّر أبو بكر الصِّدِّيق وغيرُه قولَه {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } بأنَّهم لم يلتفتوا إلى غيره ، فمتَى استقامَ القلبُ على معرفةِ الله، وعلى خشيتِه، وإجلاله، ومهابتِه، ومحبَّتِه، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّلِ عليه، والإعراض عمَّا سواه، استقامَت الجوارحُ كلُّها على طاعتِه، فإنَّ القلبَ هو ملِكُ الأعضاء وهي جنودهُ ؛ فإذا استقامَ الملِكُ استقامَت جنودُه ورعاياه» . وفي الصَّحيحين عن النُّعمان بن بَشير رضي الله عنهما قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «أَلَا إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ , وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» . ويقول ابنُ القيِّم : في مقدِّمة كتابه إغاثة اللَّهفان من مصائد الشَّيطان : «ولما كان القلبُ لهذه الأعضاء كالملِكِ المتصرِّف في الجنُود الَّذي تصدُرُ كلُّها عن أمرِه، ويستعمِلُها فيما شاءَ، فكلُّها تحتَ عبوديتِه وقهرِه وتكتسِبُ منه الاستقامَةَ والزَّيغ، وتَتْبَعه فيما يعقِدُه من العَزم أو يحلُّه، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً, إِذَا صَلَحَتْ, صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ»،هو مَلِكُها وهيَ المنفِّذَة لمَا يأمرُها به، القابلةُ لِمَا يأتِيها منْ هَديَّتِه، ولا يستقيمُ لها شيءٌ مِنْ أعمالها حتَّى تَصدُرَ عن قَصدِه ونيتِه ، وهو المسئُول عنها كلِّها ». ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ : {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:88-89]، وكانَ من دعاء نبيِّنا صلى الله عليه وسلم : «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْألُكَ قَلْباً سَلِيمًا». ªالقاعدة الرَّابعة : الاستقامةُ المطلُوبَة منَ العبدِ هي السَّدَاد ، فإنْ لم يقدر عليه فالمقارَبة . وقد جمعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هذيْن الأمرينِ في قوله: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا» ؛ فالمطلوب في باب الاستقامةِ السَّداد ، والسَّدادُ : أن تصيبَ السُّنَّة ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه لما طلبَ منه أنْ يعلِّمَه دعاءً يدعُو اللهَ به، قال: «قُلْ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي» قال: «وَاذْكُرْ بِالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ». فَالعبدُ مطلوبٌ منه أنْ يُجاهِدَ نفسَه على أنْ يُصيبَ السَّدادَ ، أنْ يُصيبَ هَديَ النَّبيِّ صلوات الله وسلامه عليه ونهجَه وسُلوكَه، ويُجاهدَ نفسَه على ذلكَ، فإنْ لم يتمَكَّن فَعليه بالمقارَبة . وقد قال الله تعالى: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}[فصلت:6]، وهنا لطيفة : ذِكْرُ الاستغفارِ بعدَ الأمر بالاستقامَةِ فيه إشارةٌ إلى أنَّ العبدَ لابدَّ لهُ مِن تقصيرٍ مهمَا جاهدَ نفسَه على الاستقامةِ ؛ ولهذا قال الحافظُ ابنُ رجَب رحمه الله : «وفي قوله عز وجل {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}إشارةٌ إلى أنَّه لابُدَّ من تقصيرٍ في الاستقامةِ المأمورِ بها ، فيُجبَرُ ذلكَ بالاستغفارِ المقتَضِي للتَّوبة، والرُّجوعِ إلى الاستقامَةِ » ، وقال رحمه الله : «وقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الناس لن يُطيقوا الاستقامةَ حقَّ الاستقامةِ، كما خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديثِ ثوبانَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((استَقيموا ولن تُحْصوا)).. وفي الصَّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( سَدِّدُوا وَقَارِبُوا )) ، فالسَّداد هو حقيقةُ الاستقامةِ ، وهو الإصابةُ في جميعِ الأقوالِ والأعمالِ والمقاصدِ كالَّذي يَرمي إلى غرضٍ فيصيبُه، وقد أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عليًّا أن يسألَ اللهَ عزَّ وجلَّ السَّدادَ والهُدَى وقال له: «اذكُرْ بالسَّدَادِ تَسْدِيدَكَ السَّهْمَ، وبالهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ» ، والمقارَبة أن يُصيب ما يقرُب منَ الغَرض إنْ لم يُصِب الغَرَض نفسَه ، ولكنْ بشَرط أن يكونَ مصمِّمًا على قَصدِ السَّداد وإصابةِ الغَرَض ، فتكونُ مقارَبتُه عن غير عَمْدٍ » ؛ لا يتعمد العبد أن يترك السداد بل يجاهد نفسه ، فإن لم يصب السداد فليكن في المقاربة منه ، لا أن يتعمد العبد ترك السداد ولا يبالي بتحصيله . ªالقاعدة الخامسة في هذا الباب : الاستقامة تتعلَّق بالأقوَال والأفعَال والنَّيَات . بمعنى أنَّ أقوال العبد ينبغي أن تكون ماضية على الاستقامة - يستقيم لسان العبد - ، وأن تكون أفعاله ماضية على الاستقامة - تستقيم جوارح العبد - ، وأن أيضاً يكون قلبه ماضياً على الاستقامة - بأن يستقيم قلب العبد - ؛ فالاستقامة المطلوبة من العبد : استقامةٌ في الأقوال ، واستقامةٌ في الأفعال ، واستقامةٌ في النِّيَات؛ قال ابنُ القيِّم رحمه الله في كتابه مدارجُ السَّالكين : « والاستقَامةُ تتعلَّق بالأقوالِ والأفعالِ والأحوالِ والنِّياتِ » . وفي المسند للإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه أن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: « لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ » ؛ قال ابنُ رجَب: « وأعظمُ ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح اللِّسانُ، فإنَّه تُرجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه» . ولنُلاحَظ هنا خطورةَ القلبِ واللِّسان على العبدِ في باب الاستقامة أو الجُنوح عنْها ؛ وفي هذا المعنى قال بعضُ أهل العلم : «المرءُ بأصْغَريْه : قلبِه ولسانِه» ؛ اللِّسانُ مُضغَةٌ صغيرةٌ جدًّا ، والقلبُ مُضغَةٌ صغيرةٌ جدًّا – قطعة صغيرة - لكن المرء بأصغريه ، جَوارح العبد كلَّها تبعٌ للقلب وتبعٌ للسان ؛ إذا استقامَ القلبُ استقامَت الجوارح وإذا استقامَ اللِّسانُ استقامَت الجوارح . دليلُ الأوَّل مر معنا في حديثُ النُّعمان بن بَشِير: «ألا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً , إِذَا صَلَحَتْ, صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ, أَلَا وَهِيَ القَلْبُ» ، ودليل الثَّاني ما رواه التِّرمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسانَ، فتَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا؛ فَإنَّما نَحنُ بِكَ؛ فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا» ؛ فَإذَا استقامَ القَلبُ استقامَت الجَوارح ، وإذا استقامَ اللِّسانُ استقامَت الجوارحُ ؛ ولهذا قيل «المرءُ بأصْغَريْه » المرء من حيث الاستقامة أو عدمها بأصغريه القلب واللسان ، فإذا استقام القلب واستقام اللسان استقامت الجوارح كلها . واللِّسانُ تُرجُمَان القلب وخليفتُه في ظاهر البَدن ؛ فإذا أَسنَدَ القلبُ إلى اللِّسان الأمرَ نفَّذ ، فاللِّسانُ تابعٌ للقلبِ ؛ ولهذا كان واجبًا على كلِّ مسلمٍ أن يُعنى بصلاح قَلبه ، وأن يسألَ ربَّه تبارك وتعالى أن يُصلِح قلبَه ، وأن يُذهِبَ عنه أمراضَ القُلوب وأسقامَها وأدواءَها وسخائمَها ، فإذا صلح القلب صلحت الجوارح . ªالقاعدة السَّادسة : لا تكونُ الاستقامةُ إلَّا لله وبالله وعلى أمْرِ الله . 1ـ ومعنى لله أي: خالِصة ، بمعنى أن يَستقيمَ العبدُ وأن يَلزَمَ صراطَ الله المستقيم مخلِصًا بذلك الأمرَ لله عزَّ وجلَّ ، طالبًا به ثوابه ورضَاه . 2ـ ولا تكون إلا بالله : أي مُستعينًا على تحقيقِها والقيامِ بها والثَّباتِ عليها بالله تبارك وتعالى{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}[هود:123] ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة:5] ، « احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بالله» . 3ـ وعلى أمرِ الله : أي يَسير في استقامَتِه على النَّهج القَويم والصِّراط المستَقيم الَّذي أمَرَ الله سبحانه وتعالى عبادَه به، وقد مر معنا بعض الآثار عن السَّلف رحمهم الله تعالى في تَقرير هذا المعنَى ، كقول ابن عبَّاس في قوله {ثمَّ اسْتَقَامُوا} «أي استَقاموا في أداءِ الفَرائض» ، قال الحَسن : «استقاموا على أمْر الله، فعَملُوا بطاعتِه، واجتَنبوا معصيتَه» ، وأمْر الله عزَّ وجلَّ : هو شرعُه الَّذي بَعث به نبيَّه صلواتُ الله وسلامُه عليه. ªالقاعدة السَّابعة في هذا الباب : الواجب على العبدِ ألَّا يتَّكِل على عمَلِه مهما صلح واستقام ، ولا يغتَرَّ لا بعبادة ولا بذكر ولا بغيرِ ذلك مِنَ الطَّاعات . وفي هذا يقولُ ابنُ القيِّم رحمه الله : « والمطلوبُ منَ العبد الاستقامةُ وهيَ السَّداد، فإنْ لمْ يَقدِر عليهَا فالمُقارَبَة، فإنْ نَزل عنهَا فالتَّفريطُ والإضَاعةُ، كما في الصَّحيحين من حديثِ عائشة رضي الله عنها عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ الله!؟ قَالَ: وَلَا أَنَا؛ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ الله مِنْهُ بِمَغْفِرَةٍ ورَحْمَةٍ» ؛ فجَمع في هذا الحديثِ مقاماتِ الدِّين كلِّها ، فأمَر بالاستقامةِ وهيَ السَّداد والإصابَةُ في النِّياتِ والأقوالِ والأعمالِ ، وأخبَر في حديثِ ثَوْبان - أي «استَقِيمُوا ولنْ تُحْصُوا، واعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ أعْمَالِكُم الصَّلاة» - أنَّهم لا يُطِيقونَها ، فنقَلَهم إلى المُقارَبة وهيَ أنْ يقرُبُوا منَ الاستقامَة بحَسب طاقَتِهم كالَّذي يَرمي إلى الغَرضِ ، فإنْ لم يُصِبْه يُقارِبه ؛ ومع هَذا – وهذا موضع الشاهد من كلامه - فأخبَرهُم: أنَّ الاستقَامَة والمقارَبة لا تُنْجي يومَ القِيامةِ، فلا يَرْكَن أحدٌ إلى عمَلِه ، ولا يَعْجَب به ، ولا يَرى أنَّ نَجاتَه به ؛ بَل إنَّما نجاتُه برحمةِ الله وعفوِه وفضلِه» . ªالقاعدة الثَّامنة: مَنْ هُدِي في الدُّنيا إلى صراط الله المستقيم هُدِي في الدَّار الآخِرة إلى الصِّراطِ المستقيم المنصوبِ على مَتن جهنَّم .
يوم القيامةِ يُنصب صراطٌ على مَتن جهنَّم أحَدُّ منَ السَّيف وأدقُّ منَ الشَّعر ، ويُؤمَر النَّاس بالمرور عليه ، ويتفَاوَتون في مرورهم عليه تفاوتَهم في الأعمالِ والاستقامةِ على صِراط الله المستقيم في هذهِ الحياةِ الدُّنيا ، قال ابنُ القيِّم رحمه الله : «فمَنْ هُدِي في هذه الدَّار إلى صراطِ الله المستقيمِ الَّذي أرسَل به رسُلَه وأنْزَل به كُتبَه هُدِيَ هُناك إلى الصِّراط المستقيم الموصِل إلى جنَّتِه ودار ثَوابِه ، وعلى قَدر ثُبوتِ قَدمِ العبدِ على هذا الصِّراط الَّذي نَصبَه الله لعبادِه في هذه الدَّار يكونُ ثُبوت قدمِه على الصِّراط المنصُوب على مَتنِ جهنَّم ، وعلى قَدر سَيْره على هذه الصِّراط يكونُ سَيْرُه على ذاك الصِّراط؛ فمِنهُم من يَمُرُّ كالبَرق، ومِنهُم من يَمرُّ كالطَّرف ، ومِنهُم من يَمرُّ كالرِّيح ، ومِنهُم مَن يَمرُّ كشَدِّ الرِّكابِ ، ومِنهُم مَن يَسعى سعيًا ، ومِنهُم مَن يَمشي مشيًا ، ومِنهُم مَن يحبُو حَبْوًا ، ومِنهُم المخدوشُ المسَلَّم ، ومِنهُم المكَرْدَس في النَّار ؛ فليَنْظر العبدُ سَيرَه على ذلكَ الصِّراط مِن سَيْره على هذا حَذْو القَذَّة بالقَذَّة جزاءً وِفاقًا، ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل:90] ، ولْيَنظر الشُّبُهات والشَّهواتِ الَّتي تعوقُه عنْ سَيره على هذا الصِّراط المستقيم فإنَّها الكَلاليب الَّتي بجَنْبَتَي ذاك الصِّراط تَخطَفُه وتَعُوقه عنِ المرور عليه ، فإنْ كَثُرت هُنا وقَويت فكذلكَ هيَ هناكَ ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت:46]» ؛ مَن كانَ في هذه الحياة الدُّنيا تَخطَفُه الشُّبهات عن الصِّراط المستقيم ، وتَخطَفُه الشَّهواتُ عن الصِّراط المستقيم ، فأيضاً الكلاليبُ الَّتي على جَنبَتي الصِّراط يوم القيامة تخطفه مثلَ ما خطفَته الشُّبهات والشَّهوات في هذه الحياة الدُّنيا ، وله كلامٌ آخر قريب من هذا في كتابِه «الجواب الكافي» . ªالقاعدة التاسعة: الشُّبهات والشَّهوات قواطعٌ وموانعٌ صادَّةٌ عن الاستقامَة .
والسَّائرُ على صراطِ الله المستقيم يَمرُّ في سَيْره باستمرار بشبهاتٍ وشهوات تَصرِفه وتَحرِفه عن صراطِ الله المستقيم، فكُلُّ مَن يَنحرفُ عن الاستقامةِ إمَّا أن يَنحرف عنها بشهوة أو أن يَنحرف عنها بشبهة ؛ والشَّهوةُ تُفضي بانحراف الإنسان بفساد عمله ، والشُّبهة تحرف الإنسان بفساد علمه ، قال الله عزَّ وجلَّ : ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:153] ، جاء في حديث عبدِ الله بن مَسعود رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد قال: «خَطَّ لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَطًّا ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ الله، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَإِنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾» ؛ والشَّيطان الَّذي يدعُو إلى الانحِراف عن صراط الله المستقيم دعوتُه إلى الانحِراف عن صِراط الله المستقيم إمَّا بشُبهة أو بشَهوة -كما قال بعض السلف يُشام القلب - فإذا رأى فيه التفريط حبب إليه الشَّهوات ، وإذا رأى عليه الحرص والمحافظة أدخل عليه الشبهات ، ولا يبالي عدو الله إلى أي الطريقين انحرف العبد المهم أن ينحرف عن الصراط إما بشهوة أو بشبهة . وهنا ينبغي أن نَستَحضر مثلًا بديعًا عظيمًا ثبت في المسند والتِّرمذي وغيرهما من حديث النَّوَّاس بن سَمْعَان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ » تصوَّر الآن المثَل ينفعُك الله به ؛ «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ » : جِداران تمشي في طريق مُستقيم على يمينِك جدارٌ وعلى يسارِك جدارٌ ، وفي الجدارين الذين عن يمينك وعن يسارك أبوابٌ كثيرةٌ تمرُّ بها على يمينِك وعلى يسارِك ، والأبوابُ عليها ستُور مُرخاةٌ ، وأنتَ تعلم أنَّ الباب الَّذي عليه سِتارةٌ ليس كالباب الَّذي عليه كوالين ومفاتيح ، البابُ الَّذي عليه سِتارة بكتفك تلمسه وتدخل لا يعوق الدُّخول ، فيقول «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ! ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلاَ تَتَعَرَّجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ: الإِسْلاَمُ، وَالسُّورَان: حُدُودُ الله، وَالأَبْوَابُ المُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ الله، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ الله، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ الله فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» ؛ المسلم المستقيمُ إذا أرادَتْ نفسُه أن تدخُلَ في شَهوة يجدُ أنَّ قلبَه ينقبض هذا واعظ الله في قلب كل مسلم ، يجد أنه غير مطمئن قلق ليس مرتاحاً ينقبض قلبه ؛ هذَا واعظ جعله الله سبحانه وتعالى في قلب كلِّ مسلمٍ . والشَّاهد مِن هذا : أنَّ طريق الاستقامة على جنبَتَيْ أبوابٌ تُخرج الإنسانَ عن طريق الاستقامة ، وهذه الأبوابُ تَرجعُ في الجملة إلى أمرين : إمَّا شُبُهاتٌ ، أو شهواتٌ ؛ وخروجُ العبد عن الاستقامة إمَّا بشُبْهة أو بشَهْوةٍ . قال ابنُ القيِّم رحمه الله : «وقَد نصَبَ الله سبحانه الجسرَ الَّذي يمُرُّ النَّاس منْ فوقِه إلى الجنَّة، ونصبَ بجانِبَيه كلاليبَ تَخطف النَّاسَ بأعمالهم ، فهكَذا كَلاليبُ الباطل مِن تَشْبيهات الضَّلال وشَهوات الغَيِّ تمنَع صاحبَها من الاستقامة على طريق الحقِّ وسلوكِه ، والمعصومُ من عصَمَه الله» . ªالقاعدة العاشرة : مشابهة المغضوب عليهم والضالين من أسباب انحراف العبد عن الصراط المستقيم .
وتأمَّل هذا المعنى في الآية : ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:6-7] ، وفسَاد اليهودِ من جِهة العَمل ، وفساد النَّصارى من جِهة العِلم ، اليَهود علِمُوا ولم يَعْمَلوا ، والنَّصارى عَمِلوا بلا عِلم ، ولهذا الفسادُ الَّذي يكون في هذا البابِ إمَّا بمُشابهةٍ لليهُود بأن يكون عند الإنسان عِلمٌ لا يعمَلُ به، أو بمشابهةٍ للنَّصارى بأنْ يعمَل بلا عِلمٍ ولا بصيرةٍ . وقد سمَّى شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابَه «اقتضَاءُ الصِّراط المستقيم مخالفةَ أصحابِ الجحِيم» وأشار فيه رحمه الله إلى بعض أمُور أهلِ الكتاب الَّتي ابتُلِيت بها هذه الأُمَّة، ليَجتَنِب المسلمُ الانحرافَ عن الصِّراط المستقيم إلى صراطِ المغضوبِ عليهم أو الضَّالين ، وأورد قولَ الله سبحانه: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ [البقرة:109] «فذمَّ اليهود على ما حسَدوا المؤمنين على الهدى والعلم؛ وقد يُبتَلى بعضُ المنتسِبين إلى العلم وغيرهم بنوعٍ من الحسَد لمن هداه الله بعلمٍ نافعٍ أو عملٍ صالحٍ » ، وأخذ يذكُر رحمه الله أمثلةً عديدةً من الأمُور الَّتي هيَ من أعمال اليهودِ أو أعمال النَّصارى وقد يتشبَّه بهم فيها بعضُ المسلمِين ، قد قال عليه الصلاة والسلام : «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ» . أختِم بقاعدةٍ أخيرة أو كلمةٍ جميلةٍ متينةٍ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله ؛ يقول ابن القيِّم رحمه الله : سمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: «أعظمُ الكرامَةِ لزُومُ الاستقامَة» ، وقال شيخُ الإسلام رحمه الله في كتابه الفرقان بينَ أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان : «وإنَّما غايةُ الكرامَةِ لزومُ الاستقامةِ». ولهذا يقول ابنُ القيِّم نقلًا عن بعضِ أهل العلم: «كُن صاحبَ الاستقامَةِ لا طالِبَ الكَرامة ، فإنَّ نفسَك متحرِّكَةٌ في طلَبِ الكرامةِ، وربُّك يُطالبُكَ بالاستقامةِ» ؛ بمعنى أنَّ العبدَ ينبغِي عليه أنْ يكونَ دومًا وأبدًا مجاهدًا لنفسِه في أن تَلزَم صراطَ الله المستقيم ، وأن تُحافظَ على طاعتِه تبارك وتعالى ، وأن يُجاهدَ نفسَه على ذلك . ونختم بما بدأنا به وهو قولُ ربِّنا عزَّ وجلَّ : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ }، وبقوله جلَّ وعزَّ : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . أسألُ الله الكريمَ ربَّ العرشِ العظيمِ بأسمائِه الحُسنى وصفاتِه العليا أنْ يَكتُب لنا جميعًا الثَّباتَ والهدايةَ إلى صراطِه المستقيمِ ، وأن يُعيذَنا من سَبيل المغضوب عليهم وسَبيل الضَّالين ، وأن يُصلِح لنا شأنَنا كلَّه ، وأن يُصلِح لنا دينَنا الَّذي هو عِصمَة أمرِنا ، وأن يُصلِح لنا دنيَانا الَّتي فيها معاشُنا ، وأن يُصلِح آخرتَنا الَّتي فيها مَعادُنا ، وأن يجعلَ الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ والموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ ؛ وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين .
وصلَّى الله وسلَّم وبارك وأنعم على عبدِه ورسولِه نبيِّنا محمَّد وآله وصحبِه أجمعين.

الأسئلة
كثير من مجتمعاتنا في أعمالنا تكاد لا تخلو المجالس من بذيء الكلام وفاحش القول ونُجبَر على الجلوس معهم ومجاورتهم فكيف الخلاص من ذلك ؟ المــُجالَس لاشك أن له خطورته على جليسه ، وبالمجالسة وطول المجالسة يتأثر الإنسان ، والذي أقوله في هذا المقام : إذا كان بذيء اللسان سيء القول فاحش القول لم يحترم جلساءه فأخذ يأتي بفاحش القول ورذيله وسيء الكلام دون احترامٍ لجلسائه فلماذا صاحب الحق يتقاعس ويتوانى عن بيان الحق والصدع به والنهي عن الفحش !! هذا الذي تكلم بالبذاء هو لم يحترم أصلاً المجلس ، الذي تكلم بالفحش لم يحترم أصلاً المجلس ، فحقيقةً الذي ينبغي على صاحب الحق أن يكون جريئاً ، وليس معنى أن يكون جريئاً أن يُغلظ في المعاملة وإنما ينكر برفق وبكلمة طيبة وموعظة حسنة ؛ سواء علناً في المجلس إن اقتضى المقام ذلك أو سراً ، والنصيحة في السر لها أثر بالغ ، إذا كان أحد الناس في المجلس يكثر منه الفحش يزوره في بيته ويتحدث معه بلطف ويقول يا فلان أما تعلم أن كلامك من عملك وأنه مكتوب عليك وأنك ستلقى الله عز وجل به { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق:18] ، ويناصحه لعل الله سبحانه وتعالى يهديه ، وقد قيل قديما : " إذا لم تدعُ تدعى " ، فإذا لم يكن الإنسان في مجالسه يناصح ويبين بنصح وبرفق بالكلمة الطيبة سيكون المآل أن يتأثر هو بجلسائه ، ولهذا أُمِر الإنسان بمجالسة الأخيار قال عليه الصلاة والسلام ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ)) ، فإذا اضطر الإنسان إلى مجالسة بعض من يكون في كلامهم الفحش أو البذاء أو سيء القول ونحو ذلك فلينكر بالرفق وبالكلمة الطيبة ، وليحاول أيضاً أن يستلم زمام المجلس قبل أن يستلموه ، قبل أن يفتتحوا هم المجلس ويستلموه هو يستلم المجلس بالذكر والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة ، وإذا جاء الحق في المكان والآيات والذكر ذهبت الشياطين . كيف يفرَّق بين الفرح بالعمل والغرور ؟ الفرح بالعمل يُحمد كما قال الله عز وجل { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس:58] ، أما الغرور فمهلكة للعبد ، الغرور هو العجب ، ولا ينبغي للإنسان أن يغتر بعمله أو يُعجب به ، والعجب والاغترار مهلِك
والعجب فاحذره إن العجب مجترفٌ أعمال صاحبه في سيله العرم
العجب في غاية الخطورة ، وإذا اغتر الإنسان بعمله وأصيب بالعجب يصل إلى حال يكون فيها من أسوء الناس عملاً وسلوكاً وهو يرى نفسه أنه أصلح الناس وأحسنهم ، قد قال الله سبحانه وتعالى { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى }[النجم:32] ، قال الله تعالى { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ }[المؤمنون:60] وجاء عن عبد الله بن أبي مليكة من التابعين يقول " أدركت أكثر من ثلاثين صحابياً كلهم يخاف النفاق على نفسه " ، فالمؤمن الصادق مع الصلاح والمجاهدة على بلوغ الكمال في العمل لا يزال يرى نفسه مقصراً ، بينما الآخر المسيء المقصر مع تقصيره يرى نفسه أحسن الناس عملاً ، وفي هذا المعنى قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : " إن المؤمن جمع بين إحسانٍ ومخافة ، والمنافق جمع بين إساءة وأمن " المؤمن جمع بين إحسان ومخافة يُحسن في العمل وهو خائف {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أي خائفة ، قد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى الآية قالت : أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ قَالَ : (( لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ )) . فالمسلم يجاهد نفسه ولا يغتر بعمله ، لكن يفرح أن الله منَّ عليه بالهداية منَّ عليه بالاستقامة من عليه بالعبادة بالصلاة يفرح بذلك هذا فضل الله عليه ومنَّته عليه ، يفرح أن أكرمه بالصيام ((لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ)) الصائم يفرح إذا أتم الصيام ، يفرح المسلم بإكرام الله عز وجل له بالصلاة والمحافظة عليها مع الجماعة ، يفرح بذلك ، إذا حج يفرح هذا فضل الله عليه ، لكن لا يغتر ولا يعجب بنفسه فالغرور والعجب مهلكة للعبد . ونكتفي بهذا القدر والعلم عند الله ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .