قالَ الإمامُ الحافظُ يحيى بن شرف النَّوويُّ (ت: 676ه) رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)).
قالَ العُلماء:
• معناهُ: جموعٌ مجتمعةٌ، أوْ أنواعٌ مختلفةٌ، وأمَّا تعارفها فهو لأمرٍ جعلها الله عليه.
• وقيلَ: أنَّها موافقة صفاتها الَّتي جعلها الله عليها وتُناسبها في شيَّمها.
• وقيلَ: لأنَّها خُلقت مجتمعةً ثمَّ فُرّقت في أجسادها، فمَنْ وافقَ بشيمه ألَّفهُ، ومَنْ باعدهُ نافرهُ وخالفهُ.
وقالَ الخطَّابيُّ وغيره: تآلفها هُوَ ما خلقها الله عليه مِنَ السَّعادة أو الشَّقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسميْن متقابليْن: فإذا تلاقت الأجساد في الدُّنيا اِئْتلفت واخْتلفت بحسب ما خُلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار. واللهُ أعْلَمُ.اهـ.
([«شرح النَّوويِّ على "صحيح مسلم"» / (16/185)])

وقالَ الإمامُ الحافظُ ابن حجر العسقلانيُّ (ت: 852هـ) رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: في "فتح الباري": «بابُ الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ»: قَالَ اللَّيْثُ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)).
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا.
قوله: «بابُ الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ»كذا ثبتت هذه التَّرجمة في معظم الرِّوايات، وهي متعلِّقة بترجمة آدم وذُرِّيَّته، للإشارة إلى أنَّهم ركبوا مِنَ الأجسام والأرواح.
قوله: «وَقَالَ اللَّيْثُ»وصله المصنَّف في «
الأدب المفرد»
عن عبد الله بن صالح عنه.
قوله: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ إلخ». قالَ الخطَّابيُّ: يحتمل أنْ يكون إشارة إلى معنى التَّشاكل في الخير والشَّر والصَّلاح والفساد، وأنَّ الخير من النَّاس يحن إلى شكله، والشِّرير نظير ذلك يميلُ إلى نظيره فتعارف الأرواح يقعُ بحسب الطِّباع الَّتي جُبلت عليها مِنْ خير وشر، فإذا اِتَّفقت تعارفت، وإذا اِخْتلفت تناكرت.
ويحتمل: أنْ يُراد الإخبار عَنْ بدء الخلق في حال الغيب على ما جاء أنَّ الأرواح خُلقت قبل الأجسام، وكانت تلتقي فتتشاءم، فلمَّا حلَّت بالأجسام تعارفت بالأمر الأوَّل فصار تعارفها وتناكرها على ما سبق مِنَ العهد المتقدِّم.
وقالَ غيره: المراد أنَّ الأرواح أوَّل ما خُلقت خُلقت على قسميْن، ومعنى تقابلها: أنَّ الأجساد الَّتي فيها الأرواح إذا التقت في الدُّنيا اِئْتلفت أو اِخْتلفت على حسب ما خلقت عليه الأرواح في الدُّنيا إلى غير ذلك بالتَّعارف.
قلتُ: ولا يعكر عليه أنَّ بعض المتنافرين ربَّما اِئْتلفا، لأنَّهُ محمولٌ على مبدأ التَّلاقي، فإنه يتعلق بأصل الخلقة بغير سبب. وأمَّا في ثاني الحال: فيكون مكتسبا لتجدد وصف يقتضي الألفة بعد النّفرة كإيمان الكافر وإحسان المسيء.
وقوله: «جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ». أيْ: أجناسٌ مجنسةٌ، أو جموعٌ مجمعةٌ.
قالَ ابن الجوزيُّ: "ويستفاد مِنْ هذا الحديث: أنَّ الإنسان إذا وجد مِنْ نفسه نفرة ممَّن له فضيلة أو صلاح فينبغي أنْ يبحث عَنِ المقتضى لذلك ليسعى في إزالته حتَّى يتخلَّص مِنَ الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه".
وقالَ القرطبيُّ: «الأرواحُ» وإنْ اتَّفقت في كونها أرواحًا لكنَّها تتمايز بأُمور مختلفة تتنوع بها، فتتشاكل أشخاص النَّوع الواحد وتتناسب بسبب ما اِجْتمعت فيه مِنَ المعنى الخاص لذلك النَّوع للمناسبة، ولذلك نُشاهد أشْخاص كلّ نوع تألف نوعها وتنفرّ مِنْ مخالفها. ثمَّ إنَّا نجد بعض أشْخاص النَّوع الواحد يتآلف وبعضها يتنافر، وذلك بحسب الأُمور الَّتي يحصل الاِتِّفاق والاِنْفراد بسببها.اهـ.
([«فتح الباري شرح صحيح البُخاريّ» / (6/ 369، 370)])