المقارنة بين الكلام والصمت أيهما أفضل وأسلم وأحكم .
=====
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم .
وبعد :
فإن للسان آفتان آفة سكوت وآفة كلام فإن تكلم بغير ما أذن له فيه مما لا يرضي الله فهي آفة وجريمة ، وإن سكت عما أذن له فيه مما يجب ويستحب فهي آفة وجريمة ، والحق أن يتكلم حيث يجب ويستحب ، ويسكت حيث يجب ويستحب ، فهما صفتان يحمد بهما اللسان ..
ولا ينبغي أن يكثر العبد من الكلام المباح فإن فضول الكلام يوقع في الزلل ، ومن كثر لغطه كثر خطأه ، وصدق من قال : إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب ، وأنا أقول والعكس صحيح إن كان السكوت من فضة فالكلام الحق في حينه من ذهب ، فالكلمة الطيبة بلسم الروح والجروح والصمت مع الاحتساب والحلم وبغية السلم جواب الأحمق يصيب المبطل في مقتله..
ومن هنا يقال في المقارنة بين الكلام والصمت أن الأفضل والأحكم والأسلم هو الصمت وهو الذهب إذا كان الكلام مضرا أو لغوا أو لا نفع ولا فائدة من ورائه مما لم يؤذن له به ..
لقوله عليه الصلاة والسلام لما قال له أحد الصحابة :
- قلتُ يا رسولَ اللهِ ما النَّجاةُ قال أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتِكَ. صحيح الترمذي (2406) وقال صحيح .
وهذه وصية جامعة عظيمة نافعة لمن فقه مغزى الكلام والقصد من الصمت وفقه السير إلى الله على جناحي الخوف والرجاء .. طالبا النجاة .
وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه : ( ...ثمَّ قال: ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِعلَى وجوهِهِم، أوعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم. صحيح الترمذي (2616) .
ففي هذا بيان خطر اللسان وشؤمه على الإنسان، وسوء عاقبة من يطلقه دون قيد ولا حسبان ولا إحسان .
ولهذا ثبت أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عنه كان يَضَعُ حَصاةً في فيه، يمنَعُ بها نفسَه عن الكلامِ، وكان يشيرُ إلى لسانِه ويقولُ: هذا الذي أوردني الموارِدَ). صحَّحه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2873).
وعن أسلَمَ: (أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ دخَل على أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ وهو يَجبِذُ لسانَه، فقال له عُمَرُ: مَهْ غَفَر اللَّهُ لك! فقال أبو بكرٍ: إنَّ هذا أوردني الموارِدَ)أخرجه مالك (2/988) واللفظ له، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/33)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (4990).
- وقد رُئيَ ابنُ عبَّاسٍ آخِذًا بلسانِه، وهو يقولُ: (وَيْحَك! قُلْ خيرًا تغنَمْ، أو اسكُتْ عن سوءٍ تَسلَمْ، وإلَّا فاعلَمْ أنَّك ستندَمُ، قال: فقيلَ له: يا ابنَ عبَّاسٍ، لمَ تقولُ هذا؟ قال: إنَّه بلغني أنَّ الإنسانَ -أُراه قال- ليس على شيءٍ من جَسَدِه أشَدَّ حَنَقًا أو غيظًا يومَ القيامةِ منه على لسانِه إلَّا ما قال به خيرًا، أو أملى به خيرًا) .
وصحَّحه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2873).
وعن زيدِ بنِ أسلَمَ: (أنَّه دخل على أبي دُجانةَ وهو مريضٌ، وكان وجهُه يتهَلَّلُ، فقال له: ما لك يتهَلَّلُ وجهُك؟ قال: ما من عَمَلِ شَيءٍ أوثَقُ عندي من اثنينِ: أمَّا أحَدُهما فكنتُ لا أتكَلَّمُ بما لا يَعنيني، وأمَّا الأُخرى فكان قلبي للمُسلِمين سليمًا) .- و(كان شَدَّادُ بنُ أوسٍ في سَفَرٍ، فنَزَل مَنزِلًا، فقال لغلامِه: ائتِنا بالسُّفرةِ نعبَثْ بها، فأنكَرْتُ عليه، فقال: ما تكَلَّمْتُ بكَلِمةٍ منذُ أسلَمْتُ إلَّا وأنا أخطِمُها وأزُمُّها غيرَ كَلِمتي هذه؛ فلا تحفظوها عَلَيَّ) .أخرجه من طرقٍ: أحمد (17114) واللفظ له، وابن حبان (935)، والحاكم (1872).
هكذا يكون الصمت أفضل وأحكم وأسلم حين يعلم العبد قيمة احتساب الصمت ويعلم يقينا أن الكلام شر وضر ، وأن عاقبته جهنم ...
وأما متى يكون الكلام أفضل وأحكم وأسلم من الصمت فذلك إذا كان الصمت من ورائه الضر والشر من كتمان الحق والسكوت عن باطل وترك واجب أو تعطيل حق أو مصلحة ..
لقوله صلى الله عليه وسلم :" - مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ ....)) البخاري ( 6018) ومسلم ( 47).
فالعبد مأمور في الشرع بقول الخير دوما، فما خلق الله له ذلك اللسان إلا لذلك ، فإنّ المرء إذا أراد أن يتكلم، فليتفكر قبل كلامه؛ فإن علم أنه لا يترتب عليه مفسدة ولا مضرة ولا يجر إلى محرم ولا مكروه، فليتكلم فذلك خير وأفضل وأحكم وأسلم ما دام لم يخرج عن المأذون فيه في حدود الله .
وقول بعض السلف :
الساكت عن الحق شيطان أخرس ، والناطق بالباطل شيطان ناطق .
قال الشيخ ابن باز - رحمه الله - عن هذا الأثر كما في موقعه : نعم، هذا قاله بعض السلف، ليس حديثًا عن النبي ﷺ، إنما قاله بعض العلماء، قالوا: "الساكت عن الحق شيطان أخرس، والناطق بالباطل شيطان ناطق"، فالذي يقول الباطل، ويدعو إلى الباطل؛ هذا من الشياطين الناطقين.
والذي يسكت عن الحق مع القدرة، ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يغير ما يجب تغييره ويسكت وهو يستطيع أن يتكلم؛ هذا يقال له: شيطان أخرس، من شياطين الإنس يعني؛ لأن الواجب على المؤمن إنكار الباطل والدعوة إلى المعروف، وإذا استطاع هذا وجب عليه، كما قال الله -جل وعلا-: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104] وقال سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71].
وقال النبي ﷺ: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه؛ أوشك أن يعمهم الله بعقابه ، وقال -عليه الصلاة والسلام-: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان خرجه الإمام مسلم.
فالذي يسكت عن إنكار المنكر، وهو قادر ليس له مانع؛ هذا هو الشيطان الأخرس، نعم. انتهى كلامه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى قال الله تعالى :(( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا)) . ولوى لسانه: أخبر بالكذب، وأعرض: سكت وكتم الحق، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
ويقول ابن القيم رحمه الله: وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك! وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها! وهو بارد القلب ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن من تكلم بالباطل شيطان ناطق.
فحين يسكت أهل الحق عن الباطل وأهل الأهواء يظن أهل الباطل أنهم على الحق وأن باطلهم هو الحق الذي ما بعده إلا الباطل .
وبهذا يتبين قيمة الكلام الحق وقيمة الكلام الصدق وقيمة الكلام الواجب والمأذون فيه في حينه فإنه أفضل وأعظم وأحكم وأسلم من الصمت . وإن كان الكلام مباحا فالسلامة في السّكوت؛ لئلا يجر المباح إلى محرّم أو مكروه.
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه وأن يرزقنا العدل والانصاف في القول والفعل وأن يجنبا القول الباطل وفعل الزلل .
آمين .