هذا تفصيل جميل وجدته للعلامة القرطبي-رحمه الله تعالى- من تفسيره لقوله تعالى { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ }
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : " إِلَيْهِ يَصْعَد الْكَلِم الطَّيِّب " وَتَمَّ الْكَلَام . ثُمَّ تَبْتَدِئ " وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ " عَلَى مَعْنَى : يَرْفَعهُ اللَّه , أَوْ يَرْفَع صَاحِبه . وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى : وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَع الْكَلِم الطَّيِّب ; فَيَكُون الْكَلَام مُتَّصِلًا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانه . وَالصُّعُود هُوَ الْحَرَكَة إِلَى فَوْق , وَهُوَ الْعُرُوج أَيْضًا . وَلَا يُتَصَوَّر ذَلِكَ فِي الْكَلَام لِأَنَّهُ عَرَض , لَكِنْ ضُرِبَ صُعُوده مَثَلًا لِقَبُولِهِ ; لِأَنَّ مَوْضِع الثَّوَاب فَوْق , وَمَوْضِع الْعَذَاب أَسْفَل . وَقَالَ الزَّجَّاج : يُقَال اِرْتَفَعَ الْأَمْر إِلَى الْقَاضِي أَيْ عَلِمَهُ ; فَهُوَ بِمَعْنَى الْعِلْم . وَخُصَّ الْكَلَام وَالطِّبّ بِالذِّكْرِ لِبَيَانِ الثَّوَاب عَلَيْهِ . وَقَوْله " إِلَيْهِ " أَيْ إِلَى اللَّه يَصْعَد . وَقِيلَ : يَصْعَد إِلَى سَمَائِهِ وَالْمَحَلّ الَّذِي لَا يَجْرِي فِيهِ لِأَحَدٍ غَيْره حُكْم . وَقِيلَ : أَيْ يُحْمَل الْكِتَاب الَّذِي كُتِبَ فِيهِ طَاعَات الْعَبْد إِلَى السَّمَاء . و " الْكَلِم الطَّيِّب " هُوَ التَّوْحِيد الصَّادِر عَنْ عَقِيدَة طَيِّبَة . وَقِيلَ : هُوَ التَّحْمِيد وَالتَّمْجِيد , وَذِكْر اللَّه وَنَحْوه . وَأَنْشَدُوا :

لَا تَرْضَ مِنْ رَجُل حَلَاوَةَ قَوْلِهِ
حَتَّى يُزَيِّنَ مَا يَقُولُ فَعَال

فَإِذَا وَزَنْت فَعَاله بِمَقَالِهِ
فَتَوَازَنَا فَإِخَاء ذَاكَ جَمَالُ وَقَالَ اِبْن الْمُقَفَّع : قَوْل بِلَا عَمَل , كَثَرِيدٍ بِلَا دَسَم , وَسَحَاب بِلَا مَطَر , وَقَوْس بِلَا وَتَر . وَفِيهِ قِيلَ :

لَا يَكُون الْمَقَال إِلَّا بِفِعْلٍ
كُلّ قَوْل بِلَا فَعَال هَبَاءُ

إِنَّ قَوْلًا بِلَا فَعَالٍ جَمِيلٍ
وَنِكَاحًا بِلَا وَلِيّ سَوَاءُ وَقَرَأَ الضَّحَّاك " يُصْعِد " بِضَمِّ الْيَاء . وَقَرَأَ . جُمْهُور النَّاس " الْكَلِم " جَمْع كَلِمَة . وَقَرَأَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن " الْكَلَام " . قُلْت : فَالْكَلَام عَلَى هَذَا قَدْ يُطْلَق بِمَعْنَى الْكَلِم وَبِالْعَكْسِ ; وَعَلَيْهِ يُخَرَّج قَوْل أَبِي الْقَاسِم : أَقْسَام الْكَلَام ثَلَاثَة ; فَوَضَعَ الْكَلَام مَوْضِع الْكَلِم , وَاَللَّه أَعْلَمُ . " وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ " قَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا : الْمَعْنَى وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَع الْكَلِم الطَّيِّب . وَفِي الْحَدِيث ( لَا يَقْبَل اللَّه قَوْلًا إِلَّا بِعَمَلٍ , وَلَا يَقْبَل قَوْلًا وَعَمَلًا إِلَّا بِنِيَّةٍ , وَلَا يَقْبَل قَوْلًا وَعَمَلًا وَنِيَّة إِلَّا بِإِصَابَةِ السُّنَّة ) . قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْد اللَّه وَقَالَ كَلَامًا طَيِّبًا وَأَدَّى فَرَائِضه , اِرْتَفَعَ قَوْله مَعَ عَمَله وَإِذَا قَالَ وَلَمْ يُؤَدِّ فَرَائِضه رُدَّ قَوْله عَلَى عَمَله . قَالَ اِبْن عَطِيَّة : وَهَذَا قَوْل يَرُدّهُ مُعْتَقَد أَهْل السُّنَّة وَلَا يَصِحّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَالْحَقّ أَنَّ الْعَاصِيَ التَّارِك لِلْفَرَائِضِ إِذَا ذَكَرَ اللَّه وَقَالَ كَلَامًا طَيِّبًا فَإِنَّهُ مَكْتُوب لَهُ مُتَقَبَّل مِنْهُ , وَلَهُ حَسَنَاته وَعَلَيْهِ سَيِّئَاته , وَاَللَّه تَعَالَى يَتَقَبَّل مِنْ كُلّ مَنْ اِتَّقَى الشِّرْك . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَلَام الطَّيِّب عَمَل صَالِح , وَإِنَّمَا يَسْتَقِيم قَوْل مَنْ يَقُول : إِنَّ الْعَمَل هُوَ الرَّافِع لِلْكَلِمِ , بِأَنْ يُتَأَوَّل أَنَّهُ يَزِيدهُ فِي رَفْعه وَحُسْن مَوْقِعه إِذَا تَعَاضَدَ مَعَهُ . كَمَا أَنَّ صَاحِب الْأَعْمَال مِنْ صَلَاة وَصِيَام وَغَيْر ذَلِكَ , إِذَا تَخَلَّلَ أَعْمَاله كَلِم طَيِّب وَذِكْر اللَّه تَعَالَى كَانَتْ الْأَعْمَال أَشْرَفَ ; فَيَكُون قَوْل : " وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ " مَوْعِظَة وَتَذْكِرَة وَحَضًّا عَلَى الْأَعْمَال . وَأَمَّا الْأَقْوَال الَّتِي هِيَ أَعْمَال فِي نُفُوسهَا ; كَالتَّوْحِيدِ وَالتَّسْبِيح فَمَقْبُولَة . قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : " إِنَّ كَلَام الْمَرْء بِذِكْرِ اللَّه إِنْ لَمْ يَقْتَرِن بِهِ عَمَل صَالِح لَمْ يَنْفَع ; لِأَنَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ فَهُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِ . وَتَحْقِيق هَذَا : أَنَّ الْعَمَل إِذَا وَقَعَ شَرْطًا فِي قَبُول الْقَوْل أَوْ مُرْتَبِطًا , فَإِنَّهُ لَا قَبُول لَهُ إِلَّا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهِ فَإِنَّ كَلِمه الطَّيِّب يُكْتَب لَهُ , وَعَمَله السَّيِّئ يُكْتَب عَلَيْهِ , وَتَقَع الْمُوَازَنَة بَيْنهمَا , ثُمَّ يَحْكُم اللَّه بِالْفَوْزِ وَالرِّبْح وَالْخُسْرَان " . قُلْت : مَا قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ تَحْقِيق . وَالظَّاهِر أَنَّ الْعَمَل الصَّالِح شَرْط فِي قَبُول الْقَوْل الطَّيِّب . وَقَدْ جَاءَ فِي الْآثَار ( أَنَّ الْعَبْد إِذَا قَالَ : لَا إِلَه إِلَّا اللَّه بِنِيَّةٍ صَادِقَة نَظَرَتْ الْمَلَائِكَة إِلَى عَمَله , فَإِنْ كَانَ الْعَمَل مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ صَعِدَا جَمِيعًا , وَإِنْ كَانَ عَمَله مُخَالِفًا وُقِفَ قَوْله حَتَّى يَتُوب مِنْ عَمَله ) . فَعَلَى هَذَا الْعَمَل الصَّالِح يَرْفَع الْكَلِم الطَّيِّب إِلَى اللَّه . وَالْكِنَايَة فِي " يَرْفَعهُ " تَرْجِع إِلَى الْكَلِم الطَّيِّب . وَهَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس وَشَهْر بْن حَوْشَب وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَمُجَاهِد وَقَتَادَة وَأَبِي الْعَالِيَة وَالضَّحَّاك . وَعَلَى أَنَّ " الْكَلِم الطَّيِّب " هُوَ التَّوْحِيد , فَهُوَ الرَّافِع لِلْعَمَلِ الصَّالِح ; لِأَنَّهُ لَا يُقْبَل الْعَمَل الصَّالِح إِلَّا مَعَ الْإِيمَان وَالتَّوْحِيد . أَيْ وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ الْكَلِم الطَّيِّب ; فَالْكِنَايَة تَعُود عَلَى الْعَمَل الصَّالِح . وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب قَالَ : " الْكَلِم الطَّيِّب " الْقُرْآن " وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ " الْقُرْآن . وَقِيلَ : تَعُود عَلَى اللَّه جَلَّ وَعَزَّ ; أَيْ أَنَّ الْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ اللَّه عَلَى الْكَلِم الطَّيِّب ; لِأَنَّ الْعَمَل تَحْقِيق الْكَلِم , وَالْعَامِل أَكْثَرُ تَعَبًا مِنْ الْقَائِل , وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة الْكَلَام ; لِأَنَّ اللَّه هُوَ الرَّافِع الْخَافِض . وَالثَّانِي وَالْأَوَّل مَجَاز , وَلَكِنَّهُ سَائِغ جَائِز . قَالَ النَّحَّاس : الْقَوْل الْأَوَّل أَوْلَاهَا وَأَصَحُّهَا لِعُلُوِّ مَنْ قَالَ بِهِ , وَأَنَّهُ فِي الْعَرَبِيَّة أَوْلَى ; لِأَنَّ الْقُرَّاء عَلَى رَفْع الْعَمَل . وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى : وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ اللَّه , أَوْ الْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ الْكَلِم الطَّيِّب , لَكَانَ الِاخْتِيَار نِصْف الْعَمَل . وَلَا نَعْلَم أَحَدًا قَرَأَهُ مَنْصُوبًا إِلَّا شَيْئًا رُوِيَ عَنْ عِيسَى بْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ : قَرَأَهُ أُنَاس " وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ يَرْفَعهُ اللَّه " . وَقِيلَ : وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَع صَاحِبه , وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْعِزَّة وَعَلِمَ أَنَّهَا تُطْلَب مِنْ اللَّه تَعَالَى ; ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ .


و قال بن كثير-رحمه الله تعال-

وَقَوْله تَعَالَى : " وَالْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ " قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا الْكَلِم الطَّيِّب ذِكْر اللَّه تَعَالَى يُصْعَد بِهِ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَالْعَمَل الصَّالِح أَدَاء الْفَرِيضَة فَمَنْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِي أَدَاء فَرَائِضه حَمَلَ عَمَله ذِكْر اللَّه تَعَالَى يَصْعَد بِهِ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى وَلَمْ يُؤَدِّ فَرَائِضه رُدَّ كَلَامه عَلَى عَمَله فَكَانَ أَوْلَى بِهِ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد الْعَمَل الصَّالِح يَرْفَعهُ الْكَلَام الطَّيِّب وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَعِكْرِمَة وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَالضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَشَهْر بْن حَوْشَب وَغَيْر وَاحِد وَقَالَ إِيَاس بْن مُعَاوِيَة الْقَاضِي لَوْلَا الْعَمَل الصَّالِح لَمْ يُرْفَع الْكَلَام وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة لَا يُقْبَل قَوْل إِلَّا بِعَمَلٍ .




و الله تعالى أعلم .