بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فهذا مقتطف لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله من شرح منظومة أصول الفقه :

شرح قوله: (ورب مفضول يكون أفضلا) :

هذه أيضاً من القواعد. (رب) تأتي للتقليل وللتكثير، وكونها للتقليل كثير، وهو المراد هنا؛ لأن الغالب أن الفاضل هو الأفضل، والعبادات لا شك أنها تتفاضل فجنس الفرض أفضل من جنس النفل، وجنس الصلاة أفضل من غيرها من العبادات لكن قد يكون المفضول أفضل من الفاضل لسبب يقتضي ذلك،

والأمثلة على هذا كثيرة:

ـ إيقاع الراتبة القبلية قبل الصلاة أفضل من إيقاعها بعد الصلاة، بل إنه إذا تعمد تأخيرها حتى صلى الفريضة، فإنها لا تقبل منه، لأنه أخرجها عن وقتها بلا عذر.
لكن إذا كان مشغولاً بعلم يلزم منه تأخير صلاة الراتبة إلى ما بعد الصلاة المكتوبة، فنقول: هنا المفضول صار أفضل؛ فالمفضول تأخير الراتبة إلى ما بعد الصلاة، والأفضل تقديمها قبل الصلاة، لكن نقول هنا: صار المفضول أفضل لوجود مصلحة.

ـ كذلك الإبراد في صلاة الظهر: فالأفضل في الصلاة تقديمها في أول الوقت، لكن إذا اشتد الحر فالأفضل الإبراد. فالمفضول هنا أفضل من الفاضل.


ـ وكذلك صلاة العشاء: الأفضل فيها التأخير، فإذا شق فالأفضل التقديم.


ـ لو أن إنساناً في مكة دار الأمر بين أن يطوف أو يصلّي، وهو من الآفاقيين، فالعلماء يقولون: اشتغال الآفاقي بالطواف أفضل من اشتغاله بالصلاة؛ حيث لا يتيسر له أن يطوف في غير بيت الله الحرام، وأما الصلاة فيمكن أن يصليها في بلده[(395)].

فإذا قدَّرنا أنه إذا طاف حصل زحام، فإننا نقول له: إذا كان هناك زحام فترك الطواف أفضل، لأجل مصلحة التخفيف على الطائفين.
ولهذا تجدون الرسول صلّى الله عليه وسلّم حين قدم مكة في حجة الوداع، لم يطف إلا ثلاثة أطوفة، وهي أطوفة النسك: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. مع أنه بقي في ظاهر مكة أربعة أيام قبل الذهاب إلى منى، ولو شاء لنزل وطاف، لكنه عليه الصلاة والسلام ترك ذلك ليتسع المطاف لمن لم يطف.

ـ ولو دعا شخص رجلاً إلى وليمة عرس والمدعو صائم وحضر، فهنا أمامه ثلاثة أشياء، إما أن يفطر ويأكل فيحصل به جبر قلب صاحبه، وإما أن يمتنع عن الأكل، فلا يكون صاحبه ممنوناً بذلك، وإما أن يمتنع عن إجابة الدعوة وهذا أشد، فهنا نقول: احضر وكُلْ، ولو بطل صيامك، فالفطر هنا أفضل مع أنه في الأصل مفضول.


ـ ومثل ذلك لو دار الأمر بين أن يصلّي الإنسان، وهو يدافع الأخبثين في أول الوقت أو يقضي حاجته ويصلّي في آخر الوقت، فهنا الصلاة في آخر الوقت أفضل من الصلاة في أول الوقت، مع أن الأصل أن الصلاة في أول الوقت أفضل.


ـ وربما نقول: إن مثل ذلك لو دخل المسجد رجلان، وليس في الصف إلا محل رجل واحد، فهل الأفضل أن يتقدم أحدهما لهذا المكان ويصلّي الآخر منفرداً خلف الصف مع اختلاف العلماء في صحة صلاته في هذه الحال، أو الأفضل أن يصلّي مع صاحبه؟ نقول: الأفضل أن يصلّي مع صاحبه، لئلا يوقع صاحبه في حرج، أو في فساد صلاته على القول المرجوح، وإنما قلنا «على القول المرجوح»، لأن القول الراجح أنه إذا لم يجد الإنسان مكاناً في الصف صلى خلف الصف وحده مع الإمام، ولا حرج عليه، ولا ينبغي أن يجذب شخصاً من الصف ليصلّي معه، بل لو قيل: لا يجوز لكان له وجه، ولا ينبغي أن يتقدم ويصلّي مع الإمام يعني: إلى جنب الإمام، بل قد نقول: إنه مكروه، لأنه يستلزم مخالفة السنة في انفراد الإمام بمكانه، وربما يحصل فيه أذية في تخطي الرقاب إلى أن يصل إلى الإمام، وحينئذٍ يصلّي وحده خلف الصف ولا حرج عليه.

وهذا لا شك أن له حظاً كبيراً من النظر، لأن هذا الرجل الذي وجد الصف تاماً تعذّر عليه القيام في الصف حساً، فيجوز له أن يصلّي وحده، كما يجوز للمرأة أن تصلّي وحدها خلف صف الرجال، لتعذر مقامها مع الرجال شرعاً.

ـ قراءة القرآن أفضل من الذكر عموماً، لكن إذا أَذَّنَ المؤذن فإجابته أفضل من قراءة القرآن، لأن الأذان له وقت خاص وضيق يذهب سببه، أما قراءة القرآن فوقتها موسع لا تفوت.


وبهذه القاعدة نعرف كيف نُوَجِّه أفعال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فمثلاً: يحث على اتباع الجنازة وتمر به الجنازة فلا يتبعها، وذلك لاشتغاله بما هو أفضل كتعليم الأمة وإرشادها.

كذلك نجد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يلتزم صيام الأيام البيض، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، لا يبالي أصامها في أول الشهر أو وسطه أو آخره[(396)]، وذلك لأنه قد يكون له أشياء تشغله عن صيام أيام البيض.
ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: (كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم)[(397)]، وكذلك في القيام؛ لأنه يفعل ما هو أنفع وأصلح، فيكون المفضول فاضلاً.