جاء في ذ ذلك فتاوى للعلماء قديماً وحديثاً :
فمن القديم ما ذكره ابن مفلح قال : قال مهنا : سألت أبا عبد الله عن الرجل يجلس إلى القوم ، فيدعو هذا ، ويدعو هذا ويقولون له : ادع أنت . فقال : لا أدري ما هذا ؟! أي : أنه استنكره .
وقال الفضل بن مهران : سألت يحيى بن معين وأحمد بن حنبل قلت : إن عندنا قوماً يجتمعون ، فيدعون ، ويقرأون القرآن ، ويذكرون الله تعالى ، فما ترى فيهم ؟
قال : فأما يحيى بن معين فقال : يقرأ في مصحف ، ويدعو بعد الصلاة ، ويذكر الله في نفسه ، قلت : فأخ لي يفعل ذلك . قال : أنهه ، قلت : لا يقبل ، قال : عظه . قلت : لا يقبل . أهجره ؟ قال : نعم . ثم أتيت أحمد فحكيت له نحو هذا الكلام فقال لي أحمد أيضاً : يقرأ في المصحف ويذكر الله في نفسه ويطلب حديث رسول الله . قلت : فأنهاه ؟ قال : نعم . قلت : فإن لم يقبل ؟ قال : بلى إن شاء الله ، فإن هذا محدث ، الاجتماع والذي تصف(101) .
وقال الإمام الشاطبي في بيان البدع الإضافية ما نصه : (( كالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان . فإن بينه وبين الذكر المشروع بوناً بعيداً إذ هما كالمتضادين عادة ))(102) .
وقال ابن الحاج : (( ينبغي أن ينهى الذاكرون جماعة في المسجد قبل الصلاة، أو بعدها، أو في غيرهما من الأوقات . لأنه مما يشوش بها ))(103) .
وقال الزركشي : (( السنة في سائر الأذكار الإسرار . إلا التلبية ))(104) .
جاء في ( الدرر السنية ) : (( فأما دعاء الإمام والمأمومين ، ورفع أيديهم جميعاً بعد الصلاة ، فلم نر للفقهاء فيه كلاماً موثوقاً به . قال الشيخ تقي الدين : ولم ينقل أنه r كان هو والمأمومون يدعون بعد السلام . بل يذكرون الله كما جاء في الأحاديث ))(105) .
وجاء في فتاوى الشيخ محمد رشيد رضا ما يلي : (( ختام الصلاة جهاراً في المساجد بالاجتماع ، ورفع الصوت ، من البدع التي أحدثها الناس ، فإذا التزموا فيها من الأذكار ما ورد في السنة ، كانت من البدع الإضافية ))(106) .
وقال في موضع آخر : (( إنه ليس من السنة أن يجلس الناس بعد الصلاة بقراءة شيء من الأذكار ، والأدعية المأثورة ، ولا غير المأثورة برفع الصوت وهيئة الاجتماع .. وأن الاجتماع في ذلك والاشتراك فيه ورفع الصوت بدعة ))(107) .
وجاء في الفتاوى الإسلامية للشيخ ابن عثيمين : (( الدعاء الجماعي بعد سلام الإمام بصوت واحد لا نعلم له أصلاً على مشروعيته ))(108) .
وقال الشيخ صالح الفوزان : (( البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة ، لأن الأصل في العبادات التوقيف ، فلا يشرع شيء منها إلا بدليل . وما لم يدل عليه دليل فهو بدعة ... ثم ذكر بعض البدع . وقال : ومنها الذكر الجماعي بعد الصلاة لأن المشروع أن كل شخص يقول الذكر الوارد منفرداً ))(109) .
فأصل الدعاء عقب الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة ، وإنما يباح منه ما كان لعارض ، قال الإمام الشــاطبي - رحمه الله - : (( لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات : للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزاً .. وإذا لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام ، ولا كونه سنة تقام في الجماعات ، ويعلن به في المساجد كما دعا رسول الله دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب ))(110) .
وإنما كان هذا الدعاء بعد الصلوات بهيئة الاجتماع بدعة ، مع ثبوت مشروعية الدعاء مطلقاً ، وورود بعض الأحاديث بمشروعية الدعاء بعد الصلوات خاصة ، وذلك لما قارنه من هذه الهيئة الجماعية ، ثم الالتزام بها في كل الصلوات حتى تصير شعيرة من شعائر الصلاة . فإن وقع أحياناً فيجوز إذا كان من غير تعمد مسبق، فقد روي عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه أجاز الدعاء للإخوان إذا اجتمعوا بدون تعمد مسبق ، وبدون الإكثار من ذلك حتى لا يصير عادة تتكرر(111) ، وقال شيخ الإسلام : (( الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة كالاجتماعات المشروعة ولا اقترن به بدعة منكرة ))(112)
وقال : (( أما إذا كان دائماً بعد كل صلاة فهو بدعة ، لأنه لم ينقل ذلك عن النبي r والصحابة والسلف الصالح )) ( 113 ) .
---------------------------------------------------------------------------------
101) الآداب الشرعية ( 2 / 75 )
(102) الاعتصام ( 4 / 318 ) .
(103) إصلاح المساجد للقاسمي ( ص 111 )
(104) إصلاح المساجد للقاسمي ( ص 111 )
(105) الدرر السنية ( 4 / 356
(106) ( 4 / 358
(107) ( 4 / 359 ) .
(108) ( 4 / 318 ) .
(109) الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد ( ص 389 ) .
(110) الاعتصام للشاطبي ( 2 / 23 )
(111) الاقتضاء ( 304 ) .
(112) الاقتضاء ( 304
(113) الفتاوى الكبرى المصرية ( 1 / 188 ) ، مجموع الفتاوى ( 22 / 492 ) ، اقتضاء الصراط المستقيم ( 203 )
وصلى الله على سيدنا محمد .