أبو بكر يوسف لعويسي
خطر الخوض مع الخائضين المبطلين . بالعامية ( كثرة التلاخط )

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه وسلم .

وبعد :

فإن أكثر ما يكسب المرء يوم القيامة كثرة الخوض في الباطل ، في الأعراض ، والأموال ، والدين ...
قال صلى الله عليه وسلم : أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضا في الباطل . أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت وآداب اللسان (74- 674) من حديث قتادة مرسلا ورجاله ثقات، ورواه الطبراني ( 8547) موقوفا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - بسند صحيح . قاله العراقي في المغني من حمل الأسفار ... وضعف المرسل الألباني في الضعيفة ( 7064).
ولكن يعضده ويقويه قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه : ((... ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِعلَى وجوهِهِم، أوعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم)) الترمذي وابن ماجة والنسائي في الكبرى وأحمد . صحيح الترمذي (2616).
ويؤكد خطر ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :(( ... وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة )). أخرجه ابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح .
بل جاء ما يبين أن ما تكلم به هو مجرد كلمة طائشة لا خير فيها ؛ بل فيها هلاكه ودخوله النار السنين الطويلة ففي البخاري ( 6478) :(( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ))
وجاء عند أبي داود (4902) ( .. يهوي بها في النار سبعين سنة )) ورواة مسلم ( 2988) .
وقد ورد عن السلف أنهم كانوا يقولون : من أكثر من شيء عرف به ، ومن كثر كلامه كثر خطأه .. وفي رواية من كثر لغطه كثر سقطه .. وهم العد الناس من النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة كما جاء في حديث الثرثارين ...
كلمة بعد كلمة بعد كلمة وهو غافل لا يحاسب ولا يراقب نفسه حتى اجتمعت عليه ونكتت نقاط سوداء في قلبه حتى يطبع على قلبه بالران ويقسو قلبه كالحجارة أو أشد ، ثم لا يجد له واعظا من نفسه ، ولا ينفعه تذكير أو ترهيب فلينزلق في أودية الباطل ويرتع في كل منحدر خطير فيكون هلاكه ..
وقد نهى الله عباده المؤمنين أن يقعدوا مع من يخوض في الباطل وفيما لا يعنيهم فقال : (( ...فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىظ° يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ غڑ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ غ— إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)).
وهذا السبب " الخوض في الباطل" من أعظم أسباب دخول النار لمن يمتهنه ويحرص عليه ويطلبه ويوم القيامة لا تنفعه شفاعة الشافعين ، لذلك لما يدخلون النار ويكونون حطبا لها يسألهم المؤمنون من أصحاب اليمين ما سلككم في سقر ؟؟ فأجابوا قائلين :
( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) ).
قال ابن جرير في تفسيرها يقول: وكنا نخوض في الباطل وفيما يكرهه الله مع من يخوض فيه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ) قال: كلما غوى غاوٍ نغوى معه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: ( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ) قال: يقولون: كلما غوى غاو غوينا معه .
قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (10/ 437): في الآية أن المجرمين الذين دخلوا النار أخبروا عن أنفسهم بالعلل التي من أجلها سلكوا في سقر ، ثم أخبر تعالى أن هؤلاء لا تنفعهم شفاعة الشافعين يوم الدين .. أي الأصناف الأربعة .
وقال بعض المفسرين قوله تعالى مخبرا عن قولهم : (( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ )) وكنا - أيضا - فى الدنيا نخوض فى الأقوال السيئة وفى الأفعال الباطلة مع الخائضين فيها ، دون أن نتورع عن اجتناب شئ منها بل نتفكه ببعضها ..
وقال ابن كثير : أي نتكلم فيما لا نعلم ( ولا يعنينا ) .
وقال القرطبي : ((وكنا نخوض مع الخائضين )) أي كنا نخالط أهل الباطل في باطلهم ..
قال الغزالي في الإحياء ( 3 / 116): وحقيقة الخوض في الباطل الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء ( وأخبارهم ) ومجالس الخمر ، ومقامات الفساق ، وتنعم الأغنياء ، وجبروت الملوك وطغيانهم ومواسمهم المذمومة ، وأحوالهم الكريمة والمكروهة ، وسياستهم ، وما يتحدث الناس فيه من الوقائع والحوادث المشتملة على ذكر مسلم بسوء في عرض أو دين أو مال ، ولو كان فيه، والتفكه بذلك .. انتهى بتصرف يسير.
كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : علامة إعراض الله عن عبده اشتغاله بما لا يعنيه . ذكره ابن عبد البر في التمهيد (6 /328)عن الحسن البصري ولا يصح رفعه .
وهذا حال الكثير اليوم من أهل الأهواء والبدع والجهال والضلال والفسق ممن لم يردعهم رادع ولم تنفعهم موعظة ، ولم يتذكروا بخوف المقام بين يدي الجبار ولا اتعظوا بموت ولا قبر ، ولا ترغيب ولا ترهيب فتراهم ينعقون خلف كل ناعق ويجالسون أهل الباطل يميتون الوقت - زعموا - ويقحمون أنوفهم في كل حادث وحديث دون مبالاة ولا نظر في العواقب .
فترى الكثير اليوم ممن قل علمهم أو كاد وضعف إيمانهم وما زاد مع كل ساخر يسخرون أو مغتاب يغتابون أو نمام يسمعون وينشرون ، أو مبتدع زائغ غال في الفساد والإفساد يدافعون وينصرون ، دون مبالاة ودون نكير ولا اعتراض ؛ بل بعضهم بصدر رحب وقلب منشرح هروبا من ظلمة الفراغ وخوفا من العزلة والشقاء .. والبعض يظن أن في ذلك نشوة ولذة ومتعة وسعادة ولم يدري المسكين أن في ذلك هلاكه ..
وكأنه ما مر عليه ولا سمع بأذنيه يوما : (( ...ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم )).
وقال بعض التائبين الناصحين :
وكُنا كلما غَوى غاوٍ غوَينا معه رسمًا بالقلم للأراجيف والفواحش، وبثًّا باللسان للفضائح والشوائع القبائح هربًا من الخمول والأفول إلى الشهرة ، وحُبًّا في مجاراة أهل الباطل واكتساب ثنائهم .
وكُنَّا نَخوض في دين الله بغير علم، ونتقول على الله الأقاويل؛ استكبارًا عن طلب الحق وسؤال أهله، وغرورًا بما لدينا من فتات علم مخلوط بظلمة البدع والشبهات، لو علمنا حقا لنفعنا ولألجَمَ ألسنتَنا، ثم
وقفنا عند قول النبي الحق : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا وليصمت ..
وحذرنا من السم الزعاف الذي نحصده بألسنتنا . وتذكرنا قول الحق سبحانه وتعالى: ï´؟ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ï´¾ [ق: 18].
لقد كثر الخوض في الباطل وفي الحق بالباطل ، والرأي العاطل ، وظهر الفساد في البر والبحر ، فتن كقطع الليل المظلم ، وبدع وضلالات
قبيحة من يقع فيها المسلم .
والعاقل من ترك الخوض في الباطل قبل أن يثقل ميزانه ، ولجم لسانه قبل يحصد له من السيئات ما يكون فيه هلاكه ، وأعد الجواب للسؤال قبل أن يسكن قبره فروضة الجنان أو حفرة من النيران .
فلا ينبغي للمرء الخوض فيما لا يعنيه من أمور دينه ، أو دنياه؛ فيبعده من ربه، لقوله صلى الله عليه وسلم: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. رواه الترمذي، وغيره وصححه الشيخ الألباني.
اللهم تب علينا واغفر لنا ذنوبنا وتجاوز عن تقصيرنا ووفقنا للوقوف عن حدود الحق وارزقنا اجتناب الخوض في الباطل وفيما لا يعنينا .