إتحاف البررة بحكم صلاة الجنازة في المقبرة//للشيخ أبي بكر يوسف لعويسي حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
المقدمة:
جبل الله الخلق على حب الحياة وكراهية الممات، فإن كان ركونا إلى الدنيا... وحبا لها وإيثارا ، فله الويل الطويل من الغبن ، وإن كان خوفا من ذنوبه ورغبة في عمل صالح يستفيده فالبشرى له من المغفرة والنعيم ، وإن كان حياء من الله تعالى لما اقتحم من مجاهرته فالله تعالى أحق أن يستحيا منه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى : << إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه ، وإذا كره لقائي كرهت لقاءه>> وهذا الحديث ركبه على هذه الثلاثة أحوال ، فبحسب ذلك يكون التأويل ، وقد جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها زيادة حسنة في هذا الحديث ؛ قالت عائشة : قلت : يارسول الله ، كلنا نكره الموت . قال لها :<< ليس كذلك ، ولكن العبد إذا قبضت روحه على بشرى أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه ، وإذا قبضت على غضب كره لقاء الله فكره الله لقاءه >>. رواه مسلم [ح2684]والترمذي [ح1067] والنسائي [ح1837] وابن ماجة [4264].
حقيقة اعتقاديه:
قال ابن العربي المالكي : في كتابه القبس شرح موطأ مالك ابن انس المطبوع ضمن موسوعة شروح الموطأ [ج7/395].
اعلموا ، وفقكم الله ، أن الموت ليس بعدم محض ، ولا فناء صرف ، وإنما هو تبدل حال بحال ، وانتقال من دار إلى دار ، ومسير من غفلةٍ إلى ذكرٍ ، أو من حال نوم إلى حال يقظة . وهي المقصود الأول لذلك وجب الاستعداد له .
الاستعداد للموت:
وينبغي للإنسان أن يتذكر حاله ونهايته في هذه الدنيا ، وليست هذه النهاية نهاية ، بل وراءها غاية أعظم منها وهي الآخرة ، فينبغي للإنسان أن يتذكر دائما الموت لا على أساس الفراق للأحباب والمألوف ؛ لأن هذه نظرة قاصرة ، ولكن على أساس فراق العمل والحرث للآخرة ، فإنه إذا نظر هذه النظرة استعد وزاد في عمل الآخرة ، وإذا نظر النظرة الأولى حزن وساءه الأمر ، وصار على حد قول الشاعر :
لا طيب للعيش ما دامت مُنَغَصة لذاته بادِّ كار الموت والهرم .
فيكون ذكره على هذا الوجه لا يزداد به إلا تحسرا وندما ، أما إذا ذكره على الوجه الأول وهو أن يتذكر الموت ليستعد له ويعمل للآخرة ، فهذا لا يزيده حزنا ، وإنما يزيده إقبالا إلى الله عز وجل ، وإذا أقبل الإنسان على ربه فإنه يزداد صدره انشراحا ، وقلبه اطمئنانا .الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ محمد بن صالح العثيمين [ج2 / 463].
وليعلم أن الموت جسر بين حياتين ؛ حياة الدنيا الفانية ، وحياة الآخرة الخالدة ، والدنيا مزرعة للآخرة ، فمن عمل صالحا في دنياه ، نجا من سوء الحساب والعذاب في الآخرة ، وكان من الخالدين في جنان الله ، ومن عمل سوءا كان من المعذبين في نار جهنم إلا أن يعفو الله عنه .
ومن هنا كان مستحبا على كل مسلم ذكر الموت والاستعداد له لقوله صلى الله عليه وسلم :<< أكثروا من ذكر هادم اللذات>>رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأبو نعيم عن ابن عمر ، ورواه الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة ، ورواه آخرون عن أنس وهو صحيح .
وقوله هادم اللذات يعني الموت ، والهادم القاطع ، زاد البيهقي والنسائي :<< فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله ، ولا قليل إلا كثره >> أي كثير من الدنيا ، فيقلل طلبها ،وقليل من العمل ، فيكثر طلبه .
والاستعداد للموت يكون بالخروج من المظالم ، والتوبة من المعاصي ، والإقبال على الطاعات لقوله تعالى :{{ {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكهف }} ولما روى ابن ماجة بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر جماعة يحفرون قبرا فبكى حتى بل الثرى بدموعه ، وقال : << إخواني لمثل هذا فأعدوا >> أي تأهبوا واتخذوا له عدة ، وهي ما يعد للحوادث والسفر .
حسن ظن من حضرته الوفاة بربه :
وينبغي أن يكون المريض الذي حضرته الوفاة حسن الظن بالله تعالى ، لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:<< لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى >>رواه مسلم وأحمد ، أنظر صحيح الجامع [ح7669] ومعناه أن يظن أن الله تعالى يرحمه ويعفو عنه ، فيرجو ذلك كرما ورحمة ومسامحة ؛ لأنه سبحانه أكرم الأكرمين ، وعفو
يحب العفو ، يعفو عن السيئات ويقيل العثرات ،ويكون عند حسن ظن العبد به كما جاء في الحديث القدسي قال الله تعالى :<< أنا عند حسن ظن عبدي بي>>.
والحديث متفق عليه وفي رواية لأحمد :<< أنا عند ظن عبدي بي ، إن ظن خيرا فله ، وإن ظن شرا فله >>أنظر له صحيح الجامع [ح1663].لهذا ينبغي له أن يقدم الرجاء على الخوف وأن يحسن ظنه بربه سبحانه .
حقوق الميت على المسلمين : إن للميت المسلم حقوق ستة على غيره من المسلمين ، وهي حضوره ، وغسله ، وتكفينه ،وحمله ، والصلاة عليه ودفنه وزاد بعضهم : وتنفيذ وصيته قبل دفنه .،ويستحب الدعاء له بالثبات بعد الفراغ من دفنه ، والذي يعنينا من هذه الحقوق هو الصلاة عليه ، والذي يعنينا من الصلاة عليه أين يُصلى عليه ، في المصلى أو المسجد أو المقبرة ، أو على قبره ؟ وهذا ما سنعرفه؛ ولكن بعد أن نعرف حكم الصلاة عليه ، هل هي واجبة أم سنة ؟وقبل أن نعرف ذلك نعرج على تعريف الجنائز لغة وشرعا ،ثم أبين أين يصلى على الجنائز ، وهل السنة في ذلك أن تكون في المصلى أو في المسجد أو في كليهما ، وما حكم الصلاة عليها في المقبرة ،وهذه المسألة الأخيرة قد أطلت فيها النفس وبينت فيها الراجح لأنها هي بيت القصيد من بحثنا هذا، لأنه ظهر في هذه الآونة الأخيرة قِبَلنا شبابٌ ضاقت عليهم مسالك الخلاف ، ومسوغات الاجتهاد المتسعة التي يحتملها الدليل ، وذلك لضيق عطنهم ، فنطقوا بالجهل ، وأصبحوا ينكرون كل قول يخالف ما هم عليه حتى لو كان قولهم شاذا ؛ بل لم يكتفوا بذلك حتى رموا من خالفهم فيما اختلف فيه السلف الصالح بالبدعة والضلال وما علموا أن البدعة والضلال هي في التعصب ،واتباع الأهواء ،والتزمت للرأي ؛ولو كان مرجوحا أو باطلا ، ومن ذلك هذه المسألة التي نحن بصدد تحريرها ، فإنني رأيت كثيرا من شباب النهضة والصحوة –إن صح هذا التعبير- من يترك الصلاة على الجنازة في طرف المقبرة ،أو داخلها ويرمي من فعله بالبدعة ، وما علم أن فعله ذلك هو المجانب للصواب ، وأن سنة المصطفى واضحة في هذا الباب كما سأبينه – إن شاء الله .
حكم صلاة الجِنازة :
وقبل أن نعرف حكم الصلاة على الجنازة، ينبغي أن نعرف معناها في اللغة والشرع حتى نفهم المقصد من الجنازة عند الإطلاق.
تعريف الجنائز:
الجَِنائز جمع جنازة، وهي بفتح الجيم وكسرها بمعنى واحد، وقيل:بالفتح اسم للميت وبالكسر اسم لما يحمل عليه الميت فإذا قيل: [جَنازة ] أي ميت ، وإذا قيل : [جِنازة ] أي نعش .
وهذا تفريق دقيق ؛ لأن الفتح يناسب الأعلى ، والميت فوق النعش ، والكسر يناسب الأسفل والنعش تحت الميت .
قال الحفظ ابن حجر رحمه الله: في كتابه الفذ فتح الباري الذي قيل فيه : لا هجرة بعد الفتح [ج3/131] :والجنائز بفتح الجيم لا غير جمع جَنازة بالفتح والكسر لغتان ، قال ابن قتيبة وجماعة : الكسر أفصح ، وقيل بالكسر للنعش وبالفتح للميت ، قالوا لا يقال لنعش إلا إذا كان عليه الميت .
وقال ابن العربي المالكي: [ في كتابه القبس شرح موطأ مالك ابن أنس : المطبوع ضمن موسوعة شروح الموطأ][ج7/395]قال علماؤنا رحمة الله عليهم : الجنازة لفظ ينطلق على الميت وينطلق على الأعواد التي يحمل فيها ، ويقال بفتح الجيم وكسرها . وسمعت عن ابن الأعرابي أنه قال: إذا فتحت فهو الميت ، وإذا كسرت فهي الأعواد .وإني أخاف أن يكون أخذ ذلك من هيئة الحال ، وليس ذلك كما زعم علماؤنا أنهما لغتان ، وإنما الجنازة الميت بنفسه ، فإن سميت به الأعواد فإن ذلك مجاز ،والدليل عليه الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: << إذا وضعت الجنازة على السرير ، واحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت : قدموني قدموني ، وإن كانت غير صالحة قالت : ياويلها ، إلى أين تذهبون بها >>.الحديث أخرجه البخاري [ح1316 ] من حديث أبي سعيد الخدري.
حكم صلاة الجَنازة:
والصلاة عليه فرض كفاية ؛ وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الأموات باستمرار، وكان يقول : <<صلوا على صاحبكم >>:متفق عليه البخاري [5056] مسلم [1619]. ، وأمر أن يُصلى على المرأة التي رجمت،وهذا فيه ترك الصلاة على بعض موتى المسلمين؛ ولو كانت فرضا عينيا لما ترك الصلاة عليهم ، وقال الله عز وجل : {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } (84) سورة التوبة }. فلما نهى عن الصلاة على المنافقين دل على أن الصلاة على المؤمنين شريعة قائمة وهو كذلك .الشرح الممتع [ج2/486].
قال ابن عبد البر حافظ المغرب والمشرق : في كتابه العظيم التمهيد المطبوع ضمن موسوعة شروح الموطأ [ج7/489]؛وفي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي وأمره أصحابه بالصلاة عليه وهو غائب ، أوضح الدلائل على تأكيد الصلاة على الجنائز ، وعلى أنه لا يجوز أن تترك جنازة مسلم دون الصلاة ، ولا يحل لمن حضره أن يدفنه دون أن يصلى عليه ، وعلى هذا جمهور علماء المسلمين من السلف والخلف ، إلا أنهم اختلفوا في تسمية وجوب ذلك ، فقال الأكثر : هي فرض على الكفاية .
وقال بعضهم: هي سنة واجبة على الكفاية، يسقط وجوبها بمن حضرها عمن لم يحضرها.وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين ، من أهل الكبائر ، أو صالحين ، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، واتفق الفقهاء على ذلك إلا في الشهداء وأهل البدع والبغاة فإنهم اختلفوا في الصلاة على هؤلاء. انتهى كلامه رحمه الله .
وقد بوب البخاري في صحيحه : باب سنة الصلاة على الجنائز ، قال ابن حجر رحمه الله : الفتح [ج3/227] : قال الزين بن المنير : المراد بالسنة ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، يعني فهو أعم من الواجب والمندوب ، ومراده بما ذكره هنا من الآثار والأحاديث أن لها حكم غيرها من الصلوات وما فيها من الشروط والأركان .وقد استدل البخاري على شرعية هذه الصلاة بآثار وأحاديث فقال : الفتح [ج3/226 ] : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : << من صلى على جنازة ..> > وقال :<< صلوا على صاحبكم >> وقال :<< صلوا على النجاشي >>.
وقال الإمام النووي رحمه الله: في كتابه شرح صحيح مسلم الذي يعتبر عمدة في شرحه:[ج7/21]وأجمعوا على أنها فرض كفاية.أي الصلاة على الجنازة .
أين يصلى على الجنازة ؟
وبعد أن مات الميت، وجهزناه يأتي السؤال أين يصلي عليه ؟ في المصلى ، أم في المسجد أم في المقبرة ؟وللجواب عليه يقال :هذا السؤال يتكون من ثلاث فقرات .
أ - حكم الصلاة عليه في المصلى ؟ ب – حكم الصلاة عليه في المسجد ؟
ج – حكم الصلاة عليه في المقبرة ؟
أ- حكم الصلاة على الجنازة في المصلى ؟
والسنة المشروعة في هذا والتي لا خلاف فيها بين أهل العلم أن يُصلى عليه في المصلى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما نُعي إليه النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بالصحابة إلى المصلى وصلى بهم هناك عليه صلاة الغائب .وهو حديث متفق عليه .
قال ابن عبد البر رحمه الله ؛وهو يشرح هذا الحديث عند الموطأ [موسوعة شروح الموطأ [ج7/ص486]: والسنة أن تخرج الجنازة إلى المصلى ليصلى عليها هناك ، وفي ذلك دليل على أن صلاته صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء في المسجد إباحة ليس بواجب، وسيأتي القول في ذلك – إن شاء الله- .
وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه : الفتح :[ج3/236 ]باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد .ثم ذكر حديث نعي النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي للصحابة، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم صف بهم بالمصلى فكبر عليه أربعا .
وذكر حديثا آخرا وهو أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة زنيا، فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد.
قال الحافظ ابن حجر: قد دل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها.وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية جهة المشرق.انتهى .
قلت : أي قريب من البقيع ،لأن جهة المشرق لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم هو بقيع الغرقد ، وفيه المقبرة التي كانوا يدفنون فيها موتاهم وهي معروفة إلى اليوم ، وفيها دفن أكثر الصحابة ، وقبورهم مسوية بالأرض على خلاف ما عليه جماهير المسلمين اليوم من رفعهم القبور عن الأرض وبنائها تشبها بغيرهم من أهل الكتابين .
قال الشيخ العثيمين رحمه الله : والمصلى ؛ إما مصلى الجنائز ؛ لأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان للجنائز مصلى خاص . وإما مصلى العيد ، والحديث محتمل للقولين وبكل من القولين قال بعض العلماء .فمن قال:إن المراد مصلى العيد، قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك إظهارا لشرف هذا الرجل الصالح، وردا لجميله، لأنه آوى الصحابة الذين هاجروا إليه.وكونه يصلي عليه في مصلى العيد أظهر.
وقال بعض العلماء: المراد مصلى الجنائز، لأن أل للعهد، وهذه صلاة جنازة فتحمل على المعهود في صلاة الجنازة، وهو مصلى الجنائز.ورجح الشيخ هذا القول .الشرح الممتع على زاد المستقنع [ج2/ص456-457].

حكم الصلاة على الجنازة في المسجد ؟
وأما الصلاة على الجنازة في المسجد ففيها رأيان : الكراهة عند الحنفية والمالكية ، والجواز عند الشافعية والحنابلة .
وقد بوب الإمام مالك رحمه الله في الموطأ الذي يعد هو عمدة كتب الحديث والفقه:موسوعة شروح الموطأ [ج7/538] - الصلاة على الجنائز في المسجد - واستدل لذلك بحديث أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أمرت أن يمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعوَ له، فأنكر ذلك الناس عليها ، فقالت عائشة: ما أسرع الناسَ ! ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن بيضاء إلا في المسجد .
قال ابن عبد البر رحمه الله: موسوعة شروح الموطأ[ج7/540]قال أبو عمر- ويعني نفسه- أما قول عائشة في هذا الحديث : ما أسرع الناسَ ! ففيه عندهم قولان .
أحدهما: ما أسرع النسيان إلى الناس. والقول الآخر: ما أسرع الناس إلى إنكار ما لا يعرفون ! ثم احتجت عليهم بالحجة اللازمة لهم ، إذ أنكروا عليها أمرها بأن يمر بسعد عليها فيصلى عليه في المسجد ، وكان سعد قد مات في قصره بالعقيق .
قال ابن عبد البر : موسوعة شروح الموطأ [ج7/ 542] وأما اختلاف الفقهاء في الصلاة على الجنائز في المسجد فروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: لا يصلى على الجنائز في المسجد ، ولا يدخل بها المسجد .وهو قول أبي حنيفة ومحمد ابن الحسن ، وخالفهما أبو يوسف فقال بالجواز .
قلت : وقول مالك ذلك مخالف لما رواه هو من حديث عائشة وهو حجة عليه لأن الذي حفظ حجة على من لم يحفظ ، والمثبت مقدم على النافي، وعائشة حفظت ونسي القوم ، وهذا
كحديث عبد الرحمن بن عوف في الطاعون :قول النبي صلى الله عليه وسلم << إذا كان بأرض قوم وأنتم خارجها فلا تدخلوا عليهم ، وإن كنتم داخلها فلا تخرجوا منها >> فقد حفظ عبد الرحمن بن عوف هذا ونسيه القوم، وكان فيهم عمر وأبو عبيدة بن الجراح وكثير من كبار الصحابة ، وكراهة مالك للصلاة على الجنائز في المسجد مستدلا بأنه لم يكن من عمل أهل المدينة ، مع كونه روى الحديث في موطئه ،يعتبر مرجوحا لأنه يقال كيف يؤخذ بعمل قوم تجهل السنة بين أظهرهم ؟
وقد بوب البخاري في صحيحه :باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد .واستدل بحديث صلاة النبي على النجاشي في المصلى ، وحديث ابن عمر أن النبي رجما اليهوديين قريبا من موضع الجنائز ، واستدلال البخاري بهذا ليدل على أن مصلى العيد أو الجنائز يعطى حكم المسجد لأمره صلى الله عليه وسلم الحيض بالخروج إلى صلاة العيد وأن يعتزلن المصلى .
قال ابن حجر رحمه : الفتح [ج3/237]: واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في المسجد ، ويقويه حديث عائشة : <<ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء وأخيه إلا في المسجد>> أخرجه مسلم .وبه قال الجمهور .واستدلوا أيضا بما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه وغيره :<< أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر بن الخطاب في المسجد>> زاد في رواية << ووضعت الجنازة في المسجد تجاه القبر>> وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك .وقال مالك لا يعجبني ، وكرهه ابن أبي ذئب وأبو حنيفة .

الراجح:
والراجح في المسألة الجواز ، وهو مذهب الشافعي وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق وأبو ثور ، وداود ،وهو قول عامة أهل الحديث والقول به أقوى ، والأدلة تشهد له منها حديث عائشة أنها قالت منكرة على الصحابة لما استنكروا عليها : <<ما أسرع نسيانكم ، والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه >>.وفي رواية : <<والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن بيضاء إلا في المسجد >> اللفظ الأول رواه مسلم أنظر صحيح سنن أبي داود[ح 2731]، والثاني: رواه الجماعة إلا البخاري أنظر صحيح سنن أبي داود [ح2730]وصحيح سنن ابن ماجة [1518]ونيل الأوطار [ج4/ 68] ونصب الراية [ج2/276].
قلت : وهذا ما عليه الصحابة فإن أبا بكر رضي عنه صلى عليه عمر في المسجد ، وكذلك صلى صهيب على عمر رضي الله عنهما في المسجد ، ولو كان شيئا محظورا لأنكره الجمع من الصحابة الذين حضروا الصلاة على أبي بكر مع عمر، وكذلك الذين حضروا الصلاة على عمر مع صهيب ، وأما إنكار الناس على عائشة فلسرعة نسيانهم
قال ابن عبد البر: في كتابه الاستذكار ، المطبوع ضمن موسوعة شروح الموطأ [ج7/548] وقد صحح أحمد بن حنبل السنة في الصلاة على الجنائز في المسجد وقال بذلك . وهو قول الشافعي وجمهور أهل العلم ، وهي السنة المعمول بها في الخليفتين بعد رسول الله ، صلى عمر على أبي بكر في المسجد ، وصلى صهيب على عمر في المسجد بمحضر كبار الصحابة ، وصدر السلف من غير نكير ، وما أعلم من يكره ذلك إلا ابن أبي ذئب
ورويت كراهية ذلك عن ابن عباس من وجوه لا تصح ولا تثبت ، وبعض أصحاب مالك رواه عن مالك ، وقد روي عنه جواز ذلك من رواية أهل المدينة وغيرهم .
وقال الخطابي في معالم السنن [ج1/312]وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صُلي عليهما في المسجد ، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما ، وفي تركهم الإنكار الدليل على جوازه ، ويحتمل أن يكون معنى حديث أبي هريرة – إن ثبت – متأولا على نقصان الأجر ، وذلك أن من صلى عليها في المسجد ، فالغالب أنه ينصرف إلى أهله ، ولا يشهد دفنه ، وأن من سعى إلى الجنازة فصلى عليها بحضرة المقابر ، شهد دفنه ، وأحرز أجر القيراطين وقد يؤجر على كثرة خطاه ، وصار الذي يصلي عليه في المسجد منقوص الأجر بالإضافة إلى من يصلي عليه خارج المسجد .
قلت : وهذا التأويل واقع ومشاهد ، فالكثير الكثير ممن يفرط في اتباع الجنازة إلى القبر والبقاء حتى يُدفن ، وكأن الحديث فيه حث على الصلاة على الجنازة خارج المسجد حتى يحضرها من يصلي عليها ولا ينتقص من أجره شيء .
أما حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: << من صلى على ميت في المسجد فلا شيء له >> فهو حديث غير ثابت ، وهو مضطرب ، وقد ورد بألفاظ وقال الإمام النووي :إنه ضعيف لا يصح الاحتجاج به ، وقال أحمد بن حنبل حديث ضعيف تفرد به صالح مولى التوأمة ، وهو ضعيف .والحديث رواه أبو داود وابن ماجة وابن عدي وابن أبي شيبة ولفظه عنده : << فلا صلاة له >> أنظر نصب الراية [ج2/ 275]ونيل الأوطار [ج4/68]وما بعدها .
قال ابن عبد البر موسوعة شروح الموطأ :[ج7/545] واحتج من ذهب مذهب مالك بحديث صالح مولى التوأمة هذا مع ما ذكرنا من إنكار من أنكر على عائشة .
وقال آخرون : أما رواية أبي حذيفة عن الثوري لهذا الحديث ، وقوله فيه << فليس له أجر >> فخطأ لا إشكال فيه ، ولم يقل أحد في هذا الحديث ما قاله أبو حذيفة .قالوا: والصحيح في هذا الحديث ما قاله يحي القطان ، وسائر رواة هذا الحديث عن ابن أبي ذئب بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك قوله : << من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له >> وهذا هو الصحيح في هذا الحديث .
قالوا : ومعنى قوله :<< لا شيء له >> يريد لا شيء عليه ، قالوا : وهذا فصيح معروف في لسان العرب ، قال الله عز وجل :{{ {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} (7) سورة الإسراء } بمعنى : فعليها ، ومثله كثير .قالوا وصالح مولى التوأمة من أهل العلم بالحديث من لا يقبل شيئا من حديثه لضعفه ، ومنهم من يقبل من حديثه ما رواه ابن أبي ذئب عنه خاصة ؛ لأنه سمع منه قبل الاختلاط ، ولا خلاف أنه اختلط فكان لا يضبط ولا يعرف ما يأتي به ومثل هذا ليس بحجة فيما انفرد به ، وليس يعرف هذا الحديث من غير روايته البتة ، فإن صح فمعناه ما ذكرنا . وبالله توفيقنا .
قلت : والحديث :قال عنه الشيخ الألباني : حسن ولكن بلفظ : <<من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له >>.أنظر صحيح سنن أبي داود [ح2732 ]والسلسلة الصحيحة [ح2351].وعليه يتعين تأويله بالمعنى الذي ذكره ابن عبد البر << فلا شيء عليه >>
أو بالتأويل الذي ذكره الخطابي. وقد أقر ابن القيم رحمه كلام ابن عبد البر ، ونصره ، أنظر تهذيب السنن [ج1/325،326]وقد أشار إلى تأويل الإمام الخطابي الذي ذكرناه عنه ، وخلص إلى الصواب من ذلك بقوله : والصواب ما ذكرناه أولا ، وأن سنته وهديه الصلاة على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر ، وكلا الأمرين جائز ، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد والله أعلم . زاد المعاد في خير هدي العباد [1/500-502].
قال الشيخ العثمين : بعد ذكر حديث عائشة في الصلاة الجنازة في المسجد: فإن قال قائل : على القول بالكراهة فأين يصلى على الجنائز ؟
والجواب: يعد مصلى خاص بالجنائز، كما هو متبع في كثير من البلاد الإسلامية، وينبغي أن يكون قريبا من المقبرة، لأنه أسهل على المشيعين.الشرح الممتع لزاد المستقنع [ج2/549].
يتبع إن شاء الله ...

الجزء الثاني
حكم صلاة الجنازة في المقبرة ؟
أما الصلاة على الجنازة في المقبرة فهو بيت القصيد من مبحثنا هذا، وهي كباق المسائل التي اختلف فيها أهل العلم قديما وحديثا ،وأنا أريد أن أحرر المسألة ،وأذكر الراجح فيها بالأدلة لأنه كما قلت في المقدمة ظهر في هذه الآونة الأخيرة شباب ضاقت عليهم مسوغات الخلاف المتسعة وذلك لضيق عطنهم ، فأصبحوا ينكرون كل قول يخالف ما هم عليه حتى لو كان قولهم شاذا بل لم يكتفوا بذلك حتى رموا من خالفهم فيما اختلف فيه السلف بالبدعة والضلال ، وما علموا أن البدعة والضلال هي في التعصب وإتباع الأهواء ،والتزمت للرأي ولو كان مرجوحا أو باطلا ،ومن ذلك هذه المسألة التي أنا بصدد تحريرها، فإني رأيت كثيرا من شباب الصحوة–أن صح التعبير - من يترك الصلاة على الجنازة في المقبرة ، ويرمي من فعله بالبدعة ، وما علم أن فعله هو المُجانب
للصواب ، وأن سنة المصطفى واضحة في هذا الباب كما سأبينه إن شاء الله ..وقد حان وقت بيانها لأولي الألباب ، فإليكها محررة الجواب ،بأدلة من السنة والكتاب ..
والصلاة على الجنازة في المقبرة مكروهة عند الحنفية ، والشافعية ، للنهي الوارد في الصلاة فيها وهو : <<نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبعة مواطن ، في المزبلة ،والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق ، وفي الحمام ، وفي معاطن الإبل ، وفوق بيت الله عز وجل >> ولقوله النبي صلى الله عليه وسلم :<<.. وجعلت لي الأرض كلها مسجدا إلا المقبرة والحمام >> الحديث الأول رواه الترمذي وقال : إسناده ليس بالقوي ، والحديث الثاني رواه أحمد وابن حبان والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن أبي سعيد رصي الله عنه ، وهو في صحيح الجامع [2764] بلفظ :<< الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام >>.
قلت : وقوله : إلا المقبرة والحمام لايصلح للآستدلال به على منع الصلاة الجنازة وإنما يتوجه النهي به عن الصلاة المعهودة ، يبينه هذا أن المساجد لم توضع للصلاة على الجنازة ، فإن الجنازة لها مصلى خاص بها ، وأجازها من أجازها استثناء وإباحة وضرورة وليس أصلا .
وأما حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :<< لا يصلى في سبع مواطن..>> قال ابن عبد البر : وهذا حديث انفرد به زيد بن جبيرة ، وأنكروه عليه ، ولا يعرف هذا الحديث مسندا إلا من رواية يحيي بن أيوب عن زيد بن جبيرة ، وقد كتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث ، فكتب إليه عبد الله بن نافع : لا أعلم من حدث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل .فصح بهذا وشبهه أن الحديث منكر لا
يجوز أن يحتج عند أهل العلم بمثله وانظر ما قاله ابن عبد البر حول هذا الحديث .موسوعة شروح الموطأ [ ج2 / 280].
قلت: والحديث أخرجه ابن عدي في الكامل [ج4/154]وقال غير محفوظ محمد وابن عبد الهادي في تنقيح تحقيق التعليق [ج 1/ 300] وقال فيه زيد بن جبيرة اتفقوا على ضعفه وقال الذهبي في تنقيح التحقيق [ج 1/ 124] واه جدا .
وقال الحفظ ابن حجر في تهذيب التهذيب [ج3/ 346] في زيد بن جبيرة ، قال لبن معين : لاشيء ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وقال في موضع آخر متروك الحديث ، وقال النسائي : ليس بثقة ،وقال أبو حاتم ضعيف الحديث ، منكر الحديث جدا ، متروك الحديث ..
وقال ابن حجر قلت : قال الساجي حدث عن داود بن الحصين بحديث منكر جدا يعني حديث النهي عن الصلاة في سبعة مواطن .. وبعد ان أرود كلام العلماء فيه قال : قال ابن عبد البر اجمعوا على ضعفه .
قلت :وعلى فرض القول به فإنه يوجه إلى الصلاة المعهودة ، ذات الركوع والسجود ..
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ابن عبد البر فيه : هذا حديث رواه ابن عيينة عن عمرو بن يحي عن أبيه مرسلا .فسقط الاحتجاج به عند من لا يرى المرسل حجة .ولو ثبت كان الوجه فيه ما ذكرنا .يعني أنه منسوخ .نفس المصدر السابق .
قلت: أو يحمل على الصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود التي خالفت صلاة الجنازة في صور كثيرة ،وسيأتي بيانها ومزيد بيان لهذه الأحاديث الناهية عن الصلاة مطلقا في المقبرة في آخر البحث وأقوال العلماء في ذلك.
وقد أجاز جمهور الشافعية والحنابلة الصلاة على الجنازة في المقبرة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم :<< وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا >> وهو في الصحيحين .
قلت :وهو رواية عن المالكية ذكرها ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وابن عبد البر في التمهيد، وأما جمهورهم فلا يرى جواز الصلاة على القبر إلا إذا دفن ولم يصلى عليه وينسب ذلك إلى مالك . قال ابن العربي في القبس [موسوعة شروح الموطأ ج7/ص482]وأما الصلاة على القبر فليست بمشروعة عند مالك، وهو الصحيح من قول سائر العلماء ، وصلاة النبي على القبر إنما كانت لأنه دفن بغير صلاة إذ قال لهم :<< آذنوني >> فلم يفعلوا ، فوقعت الصلاة غير مجزئة فوجب إعادة الصلاة ، ولكن قال مالك إنما يصلى على القبر إذا كان حديثا ، والصحيح أنه إذا دفن بغير صلاة صلي عليه أبدا .
قلت : وقول ابن العربي : وهو الصحيح من قول سائر العلماء ، غير صحيح ، بل خلافه هو الصحيح كما سأبينه- إن شاء الله -
وقوله أيضا:وصلاة النبي على القبر إنما كانت لأنه دفن بغير صلاة [أي منه ] إذ قال لهم :<<آذنوني >> فلم يفعلوا ،فوقعت الصلاة ،[أي منهم ]غير مجزئة فوجب إعادة الصلاة .
هذا تعليل عاطل ورأي باطل ، ولم يقل أحد من العلماء أن صلاة الصحابة على الجنائز مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم غير مجزئة ، فلقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مأموما في الفريضة خلف بعض الصحابة فكيف يقال أن صلاة الجنازة وهي فرض كفائي غير مجزئة من الصحابة ، وهو الذي قال لهم في غير ما حديث << صلوا على صاحبكم ، فلو كانت غير>>.
مجزئة لما قال لهم ذلك ، وإنما يقال : إن صلاته على من صُلي عليهم زيادة نور ورحمة لهم ..وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه .
قال ابن عبد البر رحمه الله في كتابه التمهيد [موسوعة شروح الموطأ ج7/ص506 وما بعدها ]وهو يشرح حديث الذي كانت تقم المسجد وماتت ،ودفنت ولم يأذن الصحابة النبي بها فخرج إلى المقبرة ودُل على قبرها وصف الصحابة وراءه فصلى عليها على قبرها ..
قال : وفيه الصلاة على القبر لمن لم يصل على الجنازة ، وهذا عند كل من أجازه ورآه إنما بحدثان [يعني قريب عهد بدفنه ] على ما جاءت به الآثار المسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة أيضا رحمهم الله مثل ذلك ,وفيه الصف على الجنازة ، وفيه أن سنة الصلاة على القبر كسنة الصلاة على الجنازة سواء في الصف عليها والدعاء والتكبير . انتهى كلامه وهو يدل على دقة فقهه .
قلت: وقول ابن عبد البر :وفيه أن الصلاة على القبر هي كسنة الصلاة على الجنازة ، ولا فرق بين وجوده فوق الأرض أمامهم في المقبرة وبين تحت الأرض .كما قال ابن القيم وسيأتي إن شاء الله كلامه .ولا فرق بين أن يُصف النبي صلى الله عليه وسلم بهم في المقبرة ، وبين أن يصف بهم في المصلى ، ومن كان عنده دليل على الفرق فليأتي به .
إذ وجود الميت ، أو الجنازة أو النعش قريب من قبره ، ثَمّ حيث يصلى عليه ،فهذا له حكم المجاورة، والمصاحبة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : << لقنوا موتاكم لاإله إلى الله >> صحيح الجامع [5024] فهو لم يمت بعد وغنما في حكم الميت فكذلك الميت فوق النعش هو لم يدفن بعد وإنما هو في حكم المفنون فوجوده قريبا من القبر يعطى حكم المدفون
وقد صلى رسول الله على الميت وهو مدفون ، وهذا في حكم المدفون .
ثانيا: ما وجه التفريق بين أن يصلي على الميت وهو تحت التراب ، وبين أن يصلى عليه وهو قريب من قبره ؟ ولا يتصور أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الجنازة في مكان فيُخص النهي بباطن الأرض دون ظاهرها ..
هذا بعيد مع أنه صلى على ظهرها ، فيناسب الظاهر ولا يناسب الباطن ، والنبي لا يأتي شيئا نهى عنه إلا ليصرف النهي من الحرمة للجواز ، أو تخصيص بعض أفراد العام الذي نهى عنه ،في جميع المكان الذي قام بالفعل فيه .
ثم يتوارد سؤال آخر لمن يمنعون صلاة الجنازة ، ما الفرق أن نضع الميت في قبره مستقبلا القبلة وقبل أن نرد عليه التراب ثم نصلي عليه ، أو نتركه فوق القبر عند قبره ونصلي عليه ، فإذا قلتم فيه فرق ، يقال لكم اثبتوه ، وإن قلتم لا فرق ، قيل لكم ما كان داخل المقبرة بعيد عن القبور فمن باب أولى .
وليعلم أنه تكرر فعل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سبع مرات ،وليس كما يقوله البعض أنه صلى الله عليه وسلم فعلها مرة واحدة ، وهذه عبادة ،وتعتبر تشريعا ، فقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد موسوعة شروح الموطأ [ج7506-520] ، وابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد[ج1/ص252]وابن القيم في زاد المعاد [ج1/512] عن الإمام أحمد أنه قال : لقد ثبتت صلاة الجنازة على القبر من ستة وجوه حسان .وأنظر أيضا تهذيب السنن لابن القيم [ج4/331-332].
قال ابن عبد البر :وقال أحمد بن حنبل : رويت الصلاة على القبر عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه حسان كلها،ثم سردها بأسانيدها ثم قال: بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تسعة وجوه كلها حسان فزاد ثلاثة وجوه على ما ذكره الإمام أحمد ..[ج7/ص507 موسوعة شروح الموطأ ].
وفي الصفحة [509] من نفس الجزء قال: وأما الستة وجوه التي ذكر أحمد بن حنبل أنه روي منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر ؛ فهي والله أعلم ؛ حديث سهل بن حنيف ، وحديث سعد بن عبادة ، وحديث أبي هريرة ، روى من طرق ، وحديث عامر بين ربيعة ، وحديث أنس ، وحديث ابن عباس .ثم سردها بأسانيدها إليهم ونحن نذكرها مختصرة الأسانيد .
عن أبي أمامة سهل بن حنيف عن أبيه قال : كان رسول الله يعود فقراء أهل المدينة ، ويشهد جنائزهم إذا ماتوا .قال : فتوفيت امرأة من أهل العوالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :<< إذا قضت فآذنوني >> .قال : فأتوه ليؤذنوه فوجدوه نائما وقد ذهب الليل ، فكرهوا أن يوقظوه ، وتخوفوا عليه ظلمة الليل وهوّام الأرض .قال : فدفنّاها ، فلما أصبح سأل عنها ، فقالوا : يارسول الله أتيناك لنؤذنك بها فوجدناك نائما ، فكرهنا أن نوقظك ، وتخوفنا عليك ظلمة الليل وهوام الأرض. قال : فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبرها فصلى عليها وكبر أربعا .
وأما حديث سعد بن عبادة أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكان غائبا فقال : إن أم سعد توفيت فصلّ عليها يارسول الله . فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليها ، وقد دفنت قبل ذلك بشهر .
وأما حديث أبي هريرة فهو: أن امرأة ، وفي رواية : أن رجلا أسود ,كان أو كانت تقم المسجد فماتت فدفنت ليلا ، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :<< فهلا أعلمتموني ؟>> فقالوا : ماتت ليلا . فقام رسول الله حتى أتى المقبرة ، فصلى على قبرها.
وأما حديث عامر بن ربيعة عن أبيه قال : مر رسول الله بقبر حديث ، فقال : << ما هذا القبر ؟>> قالوا : قبر فلانة .قال:<< فهلا آذنتموني ؟ >>.. وفيه فصف وصف الناس خلفه وصلى عليها .
أما حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر على قبر منبوذ فكبر عليه. وفي رواية أنه مر على قبر حديث عهد بدفن،فسأل عنه ، فقالوا : مات ليلا ، فكرهنا أن نوقظك فنشق عليك .فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفنا خلفه فصلينا عليه.
أما حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن.
وهذه الأحاديث كلها إما صحيحة خرجها صاحبا الصحيحين ، وإما أحدهما ، وأما حسنة كما قال أحمد بن حنبل، وقد زاد عليها ابن عبد البر ثلاثة من وجوه حسان كما قال : وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر من ثلاثة أوجه سوى هذه الستة المذكورة . وكلها حسان ؛ منها حديث لزيد ابن ثابت الأنصاري ، والحصين بن وحوح ، وأبي أمامة بن ثعلبة الأنصاري .ثم ساقها بأسانيده .وها نحن نذكرها مجردة الأسانيد.
قال رحمه تعالى : أما حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر جديد ، فسأل عنه ، فقيل : فلانة ، فعرفها
فقال :<< أفلا آذنتموني ؟>>.قالوا : يارسول الله ، كنت قائلا نائما فكرهنا أن نؤذيك .فقال :<< لا تفعلوا لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلاّ آذنتموني به ؛ فإن صلاتي عليه له رحمة >> .قال: ثم أتى القبر فصفنّا خلفه فكبر أربعا.أخرجه أحمد [ح19452]وابن ماجه [1528].
وأما حديث الحصين بن وحوح فقال : أن طلحة بن البراء مرض ،فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده في الشتاء في برد وغيم ، فلما انصرف قال لأهله :<< إني ما أرى طلحة إلا وقد حدث به الموت ، فآذنوني به حتى أشهده وأصلي عليه .وعجلوا به ؛فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله >>.
فلم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بني سالم حتى توفي ، وجن عليه الليل فكان مما قال طلحة :ادفنوني وألحقوني بربي ، ولا تدعوا رسول الله فأني أخاف عليه اليهود أن يصاب بشيء .فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبح ، فجاء حتى وقف على قبره في قِطارةٍ بالعُصبة فصف وصف الناس معه ، ثم رفع يديه وقال :<< اللهم ألق طلحة تضحك إليه ويضحك إليك >> أخرجه أبو داود [ح3159] وأبن أبي عاصم في السنة [ح558] والطبراني [3554]. وقوله : قِطارة :من تقاطر القوم جاءوا أرسالاً . وقوله :بالعُصبة : أي موضع بالمدينة عند قباء . وقله ذلك مما يفيد أنهم صلوا عليه صلاة الجنازة جماعة فوق القبر .
وأما حديث أبي أمامة بن ثعلبة الحارثي فقال: رجع النبي صلى الله عليه وسلم من بدر ، وقد توفيت – يعني أم أبي أمامة – فصلى عليها .أخرجه ابن أبي عاصم [ح2001]والطبراني [792]وابن الأثير في أسد الغابة [ج617] أنظر موسوعة شروح الموطأ [ج 7 /516- 518].
وبعدها ذكر- رحمه الله- فعل الصحابة في ذلك وأن عملهم على ذلك ، فذكر فعل عائشة أنها أتت المقبرة فصلت على قبر أخيها ، وكذلك فعل ابن عمر مع أخيه عاصم لما توفي ولم يحضره وعلي ابن أبي طالب، وعبد الله ابن مسعود ،وقرظة بن كعب ،وأبي موسى الأشعري، وأنس بن مالك ،وسلمان بن ربيعة ،وهشام بن عروة، وغيرهم من التابعين ..ومن أراد أن يطلع عليها جميعها فعليه بكتاب التمهيد ضمن موسوعة شروح الموطأ [ج7/ص509-إلى 529].
والآثار عن الصحابة في ذلك كثيرة واكتفي بما أخرجه عبد الرزاق عن بن جريج قال: قلت: لنافع أكان ابن عمر يكره أن يصلي وسط القبور؟ قال: "لقد صلينا على عائشة وأم سلمة وسط البقيع، قال: والإمام يوم صلينا على عائشة رضي الله عنها؛ أبو هريرة وحضر ذلك عبد الله بن عمر. المصنف لعبد الرزاق (1/407/1593)، (3/525/6570) وقال ابن جريج هنا: < أخبرني نافع قال صلينا ..>. وسنده صحيح.وأخرجه الطبراني في الكبير (23/29/72)، والبيهقي في الكبرى (2/435) أيضاً.
قال الشيخ الألباني رحمه الله : "هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1/407/1594) بسند صحيح عن نافع". انتهى من كتابه تحذير الساجد من اتخاذ القبور مسجد (ص 188 ) .
وأيصا ما علقه البخاري رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :<< ورأى عمر أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند قبر ، فقال : القبر القبر ،ولم يامره بالإعادة >>.
قال الشنقيطي في الأضواء [ج3/ 174-175] قال الحافظ ابن في الفتح : أورد أثر عمر الدال على أن النهي في ذلك لا يقتضي فساد الصلاة والأثر المدكور عن عمر رويناه موصولا في كتاب الصلاة لأبي نعيم شيخ البخاري . [ولفظه ...] ثم ذكره ،وله طرق أخرى بينتها في تغليق التعليق .. وقوله : ولم يامره بالإعادة استنبطه من تمادي انس على الصلاة ، ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستانف أ. هـ منه باختصار يسير .وذكرت أثر انس هنا مع ان حقه في الصلاة عامة ، لنه إذا لم يءمره بإعادة تلك الصلاة فمن باب أولى صلاة الجنازة لأنه لاركوع فيها ولاسجود ، وموضعها ليس محل مسجد للسجود .
وقد نقل الشيخ الألباني في إرواء الغليل [ج3/173]قول الإمام أحمد :ومن يشك في الصلاة على القبر ؟[يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه حسان]ثم قال عقبه: صحيح متواتر. ورد من حديث ابن عباس، وأبي هريرة، وأنس ابن مالك، ويزيد بن ثابت أخي زيد بن ثابت، وعامر بن ربيعة، وجابر ابن عبدالله، وبريدة بن حصيب، وأبي سعيد الخدري، وأبي أمامة بن سهل .
يتبع إن شاء الله ...

الجزء الثالث.
خلاصة البحث في المسألة
وبعد أن ذكر ابن عبد البر تلك الأحاديث عن النبي ضلى الله عليه وسلم والآثار عن الصحابة ، والتابعين ذكر خلاصة البحث ، فقال :قال أبو عمر : من صلى على قبر ، أو على جنازة قد صلي عليها ، فمباح له لك ، لأنه فعل خيرا لم يحظره الله ولا رسوله ، ولا اتفق الجميع على المنع منه ، وقد قال الله تعالى :{{ وافعلوا الخير }}[الحج :77] وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر ، ولم يأت عنه نسخه فمن فعل فغير حرج ولا معنف عليه ، بل هو في حلٍ وسعةٍ وأجرٍ جزيل إن شاء الله . ونقله عن الشيخ العلامة الألباني رحمه الله في " سلسلة الأحاديث الصحيحة "[ 7/ الأول/ 68 ـ 69 ].
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين [ج2/386-388]: يرد على من أنكر سنة الصلاة على القبر ، قال : رد السنة الصحيحة الصريحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على القبر كما في الصحيحين من حديث ابن عباس : أن النبي صلى على قبر منبوذ فصفهم وتقدم فكبر عليه أربعا .وفيهما من حديث أبي هريرة : أنه صلى على قبر امرأة سوداء كانت تقم المسجد ، وفي صحيح مسلم من حديث أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأة بعدما دفنت وفي سنن البيهقي والدارقطني عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد شهر ، وفيهما عنه : أن النبي صلى على ميت بعد ثلاث ، وفي جامع الترمذي : أن النبي صلى على أم سعد بعد شهر .
فردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله صلى الله عليه وسلم: << لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها >> وهذا حديث صحيح .
والذي قاله هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي صلى على القبر مرارا ، وتكرارا ، فهذا قوله وهذا فعله ، ولا يناقض أحدهما الآخر ، فإن الصلاة المنهي عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر ، فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختص بمكان ، بل فعلها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه ، فالصلاة عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه ، فإنه المقصود بالصلاة في الموضعين ، ولا فرق بين كونه على النعش وعلى الأرض أمام المصلين ، وبين كونه في بطنها وهم وقوف يصلون عليه ، بخلاف سائر الصلوات من المكتوبات وغيرها ؛ فإنها لم تشرع في القبور ولا إليها ؛ لأنها ذريعة إلى اتخاذها مساجد ، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك ، فأين من لعن فاعله وحذر منه ، وأخبر أن أهله شرار الخلق ، كما قال : إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد إلى ما فعله مرارا متكررا وبالله التوفيق .
وحتى لا تتضارب الأدلة ننزل كل مجموعة من الأحاديث منزلتها اللائق به ، فأحاديث الصلاة على القبر تدل على جواز صلاة الجنازة داخل المقبرة، وأحاديث النهي عن الصلاة في المقبرة تدل على منع صلاة معينة ، وهي كل صلاة غير صلاة الجنازة جمعا بين الأدلة .
كما قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" (3/175 -176):
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ: هذه الأدلة يظهر للناظر أنها متعارضة، ومعلوم أن الجمع واجب إذا أمكن وإن لم يمكن وجب الترجيح وفي هذه المسألة يجب الجمع والترجيح معاً.
أما وجه الجمع فإن جميع الأدلة المذكورة في الصلاة إلى القبور كلها في الصلاة على الميت، وليس فيها ركوع ولا سجود وإنما هي دعاء للميت فهي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور
ولا يفيد شيء من تلك الأدلة جواز صلاة الفريضة أو الناقلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود ويؤيده ما ذكره البخاري تعليقاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلفظ ( ورأى عمر أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند قبر فقال القبر القبر ولم يأمره بالإعادة ) اهـ. وقال ابن حجر في "الفتح" ـ (1/524ـ525) ـ: "أورد أثر عمر الدال على أن النهي في ذلك لا يقتضي فساد الصلاة والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولاً في كتاب الصلاة لأبي نعيم شيخ البخاري ولفظه ( بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر القبر القبرا فظن أنه يعني القمر فلما رأى أنه يعني القبر جاوز القبر وصلى )، وله طرق أخرى بينتها في تعليق التعليق منها من طريق حميد عن أنس نحوه زاد فيه فقال بعض من يليني إنما يعني القبر فتنحيت عنه وقوله القبر القبر بالنصب فيهما على التحذير وقوله ولم يأمره بالإعادة استنبطه من تمادى أنس على الصلاة ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف" اهـ منه بلفظه.
نعم تتعارض تلك الأدلة مع ظاهر عموم ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ) فإنه يعم كل ما يصدق عليه اسم الصلاة فيشمل الصلاة على الميت فيتحصل أن الصلاة ذات الركوع والسجود لم يرد شيء يدل على جوازها إلى القبر أو عنده بل العكس أما الصلاة على الميت فهي التي تعارضت فيها الأدلة والمقرر في الأصول أن الدليل الدال على النهي مقدم على الدليل على الجواز وللمخالف أن يقول لا يتعارض عام وخاص فحديث ( لا تصلوا إلى القبور ) عام في ذات الركوع والسجود والصلاة على الميت والأحاديث الثابتة في الصلاة على قبر الميت خاصة والخاص يقضى به على العام.
فأظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية منع الصلاة ذات لمتخذي القبور مساجد، وغير ذلك من لركوع والسجود عند القبر وإليه مطلقاً للعنه صلى الله عليه وسلم لمتخذي القبور مساجدوغير ذلك من الأدلة ،وأن الصلاة على قبر الميت التي هي للدعاء له الخالية من الركوع والسجود تصح لفعله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح من حديث أبي هريرة وابن عباس وأنس.
ويومئ لهذا الجمع حديث لعن متخذي القبور مساجد، لأنها أماكن السجود وصلاة الجنازة لا سجود فيها فموضعها ليس بمسجد لغة، لأنه ليس موضع سجود". انتهى.
قلت : وقد قال بعضهم أن صلاته على القبر مرارا خاصة به لقوله صلى الله عليه وسلم :<< إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن صلاتي عليها نور >> رواه البخاري [ح458-460-1337]ومسلم [ح956] من حديث أبي هريرة ، وهذا غير صحيح لأنه لو كانت خاصة به لما أذن للصحابة أن يصفوا وراءه كما في حديث ربيعة ابن أبي عامر عن أبيه عند أحمد [ح15673]وابن ماجة 1529]وابن أبي شيبة [ج3/361-362]وكما في حديث الحصين بن وحوح عند أبي داود : وفيه : << فصف وصف الناس معه >>وكما في حديث ابن عباس عند البخاري [ح1247-1321]ومسلم [954] وأحمد[1962]وغيرهم وفيه :<< وصفّنا خلفه ، فصلى بنا >> وهذا فيه زيادة توضيح أنه هو الذي صفهم خلفه ثم صلى بهم ،حتى لا يقال ربما صفوا خلفه دون علمه بعدما كبر، ولو كان كذلك كما يقولون لبين لهم بعد انصرافه من الصلاة ،ولكن لم يكن شيء من ذلك لأنه هو الذي صفهم .وقد أطل دعوى الخصوصية أبو محمد ابن حزم في المحلى [ج5/208].
ويؤكد جواز صلاة الجنازة في المقابر عمل الصحابة ؛ وأن العلة التي من أجلها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة أو إلى القبر منتفية في صلاة الجنازة ، لأن هذه الصلاة فارقت الصلاة المعهودة في الركوع والسجود والتسبيح والتحميد والتعظيم والجلوس والتشهد فلا تقاس عليها حتى يتوهم أنها صلاة لصاحب القبر ، وأنها ذريعة إلى الشرك أو اتخاذها مساجد وإذا كانت العلة منتفية فالحكم بالمنع وعدم الجواز ينتفي .
أما من منع الصلاة على الجنازة في المقبرة وفرّق بينها وبين الصلاة على القبر فإنما منعها بالأحاديث التي فيها النهي العام، وقد عرفت أنها محمولة على الصلاة المعهودة التي نتفق معهم في تحريحمها داخل المقبرة ،ولم يأتي حديث ثابت صحيح في النهي فيه لفظ الجنازة في المقبرة إلا حديث أنس :أن النبي صلى الله عليه وسلم :<< نهى عن الصلاة بين القبور >> .
قال الشيخ الألباني رحمه الله في أحكام الجنائز [ص111- 112] ، قال في المجمع [2/27] رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.قال معقبا عليه: ورواه ابن الأعرابي في معجمه [235/1]والطبراني في الأوسط [1/ 260] والضياء المقدسي في الحاديث المختارة . [2/ 79]وزادوا :<< على الجنائز >>.
قلت : أخرجه الطبراني في "الأوسط" (6/6/5631)حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال نا حسين بن يزيد الطحان قال نا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم <<نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور >>لم يرو هذا الحديث عن عاصم الأحول إلا حفص تفرد به حسين بن يزيد .

والجواب على هذا من عدة وجوه :
الأول : أن هذه الزيادة لا تصح ، لتفرد حسين بن يزيد بها ، فإن مخرج الحديث واحد ففي مجمع الزوائد للهيثمي جاء بلفظ << نهى عن الصلاة بين القبور >> وقال : رجاله رجال الصحيح ، وليس فيه هذه الزيادة، وهذا حق فهو لايخالف أحاديث النهي عن الصلاة في المقابر واتخاذها مساجد كما لم يروي أحد من أصحاب دواوين السنة المعروفة والمشهورة ،هذه الزيادة.
ثانيا : هذه الزيادة جاءت عند ابن الأعرابي في معجمه [235/1]والطبراني في الأوسط [1/ 260] والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة ، بنفس السند ،وفيه حسين بن يزيد الطحان وهو لين الحديث كما قال ابو حاتم فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في التهذيب [3/324]، وكذلك حفص بن غياث وغن كان وثقه جمع منهم ، فقد ساء حفظه ، وكان بآخره دخله نسيان ،فأصبح كثير الغلط ، فإن روى عنه من كتبه فصحيح ، وأما من حفظه فقد عرفت ما قيل فيه راجع التهذيب لابن حجر [ج2/358] ولعل هذا من أغلاطه ..
ثالثا : هذا الحديث فيه اضطراب فمرة يرويه بزيادة ، وأخرى بدون زيادة ،والمخرج واحد، وهي من رواية حسين بن يزيد الطحان عن حفص بن غياث .
رابعا: ما ذكره الشيخ الألباني عن أنس << كان يكره أن يبني مسجد بين القبور >> أنها طريق يتقوى بها الحديث المذكور ، هذا لايصلح أن يكون شاهدا للنهي عن صلاة الجنازة بين القبور ، وإنما يصلح أن يكون شاهدا للنهي عن الصلاة بين القبور ، لأن صلاة الجنازة عند القبر فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورواها أنس عنه وحديثه في صحيح مسلم

ونقلها الشيخ الألباني عنه في إرواء الغليل ، وذكر تواتر المسألة ، وقد سبق ذلك، وأيضا ما ثبت عنه رضي الله عنه مما علقه البخاري ، وقد أشرت إليه سابقا ، فهذا مما يضعف هذه الزيادة .والله أعلم .
خامسا : ويقال أيضا إذا ثبت عن صحابي نقل لفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفعل هو ما يوافق ما تواتر عنه صلى آله عليه وسلم ، وعن أصحابه ، ثم جاء عنه نهي عن ذلك الفعل من طريق كهذه وفيها الاضطراب فلا شك في تقديم الفعل على النهي وإسقاط هذه الرواية التي لاتبلغ إلى درجة ذلك الفعل المتواتر .
الخلاصة:
والخلاصة أنه لا فرق بين الصلاة على الجنازة في المصلى أو في المسجد أو في المقبرة على القبر أو خارجه ،وكل ذلك جائز ولا حرج على فاعله، وهذا هو الذي علية الأدلة من السنة وعمل الصحابة والتابعين ، ولكن فعلها في المصلى القريب من المقبرة هو السنة؛ وهو الأفضل؛ وخاصة إذا كان المصلى بجنب المقبرة أو بداخلها مكانا معدا للصلاة على الجنائز فذلك هو الأيسر والأقرب إلى الصواب .فإن لم يتيسر ففي المسجد ، فإن تعذر ففي المقبرة .أما من دفن ولم يصل عليه فهذا لا أعلم فيه خلافا في جواز الصلاة عليه على قبره ، والخلاف فيمن صلي عليه ؛ ولم يدرك الصلاة عليه ولي الأمر؛ أو بعض أقاربه؛ أو أصدقائه فهل لهم أن يصلوا عليه أم لا ؟ والصحيح جواز ذلك . والله أعلم .
وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

المصدر

http://www.sahab.net/forums/showthread.php?t=376956