قال الأستاذ الدكتور محمد عمر بن سالم بازمول حفظه الله :

(( قولهم : ظاهري المذهب. فهذه دعوى كذلك، نطالب فيها بالدليل : { قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إن كُنتم صَادقين}.

و الواقع أن و صف أهل الحديث بأنهم من أهل الظاهر من الكلمات التي تسمع بين الفينة و الأخرى، و لذلك فإن وصف الألباني بها ليس بمستغرب، إذ هو من أهل الحديث ! و هذا الأمر ـ أعني : الفرق بين أهل الحديث و الظاهرية، في الأخذ بالظاهر من النصوص ـ يحتاج إلى تحرير لإزالة لبس قد يكون علق بأذهان بعض النَّاس، و تحرير ذلك من خلال التساؤلات الآتية :

هل صرَّح الشيخ في محل من كتبه إنه ظاهري المذهب؟
هل مجرد إحالة الشيخ إلى كتب ابن حزم تعني أنه ظاهري المذهب؟
هل مجرد وقوف الشيخ عند ظاهر النص يحشره في زمرة أهل الظاهر ؟

و قبل الإجابة على هذه الأسئلة، أقول:

اعلم أن الظاهرية مذهب فقهي عتيد، من المذاهب التي لها أتباع إلى عصرنا هذا ـ و إن كانوا قلَّة ـ و كتاب (( المحلى )) لأبي محمد علي بن حزم، يُعد من كتب الفقه التي تُغني عن غيرها، و لا يغني غيرها عنها، حتى قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام ـ و كان أحد المجتهدين ـ : (( ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل ((المحلى )) لابن حزم، و كتاب (( المغني )) للشيخ موفق الدين )).
قال الذهبي رحمه الله معقبا على هذه الكلمة : (( لقد صدق الشيخ عز الدين، و ثالثها : (( السنن الكبير )) للبيهقي، و رابعها : (( التمهيد لابن عبد البر )) فمن حصل هذه الدواوين، و كان من أذكياء المفتين، و أدمن المطالعة فيها فهو العالم حقا)) اهـ (حاشية سير أعلام النبلاء18/193)
و إمام هذا المذهب هو داود بن علي الظاهري (ت270هـ)، عاصر رحمه إسحاق بن راهويه (ت238هـ)، و أحمد بن حنبل (ت214هـ)، و غيرهما من الأئمة. و عدَّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فقهاء الحديث.
قال ابن تيمية رحمه الله : (( و الشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و محمد بن نصر المروزي و دادود بن علي، و نحو هؤلاء كلهم فقهاء الحديث رضي الله عنهم أجمعين))اهـ (حاشية حقيقة الصيام لابن تيمية ص37)

و أهم معالم هذا المذهب : الجمود على ظاهر لفظ النص دون مراعاة المعنى المقصود منه، و إبطال دليل القياس، و المبالغة في دليل الاستصحاب، و اعتقاد أن الأصل في عقود المسلمين البطلان، و بسبب هذه الأمور شُنع عليهم (حاشية انظر إعلام الموقعين 1/344).

و بعد هذا التعريف الموجز بـ(( الظاهرية ))، اعود إلى الإجابة عن تلك الأسئلة فأقول :

لم أجد الشيح الألباني في كتاب من كتبه، قد صرَّح أنه ينتمي إلى مذهب الظاهرية، بل وجدت الشيخ ـ حفظه الله ـ يصرِّح في أكثر من موضع بمنهجه في الفقه، و أنه يعتمد في اتباع الأحاديث و الآثار، و لا يخرج عنها، مع احترام الأئمة جميعا و الاستفادة من فقههم (حاشية انظر مقدمة صفة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم كأنك تراها، ففيها الكثير من ملامح منهج الشيخ الألباني في التفقه). بل وجدت الألباني في مواضع يشنع على ابن حزم رحمه الله في جموده، فمرَّة قال في مسألة : (( خلافاً لما قعقع حوله ابن حزم )) (حاشية تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص160)، و مرة قال : (( و أغرب ابن حزم كعادته في التمسك بظاهريته)) (حاشية تمام المنة ص162).
و من مؤلفات الشيخ الألباني كتابه في الرَّد على ابن حزم في مسألة المعازف، و هذا الواقع يدفع بشدة أن ينسب الشيخ إلى المذهب الظاهري، نسبة مذهب، بله نسبة تقليد، و تعصب!
و بالنسبة للسؤال الثاني، فإني أقول : لا يحق لأحد أن ينسب أحداً إلى مذهب ما لمجرد أنه نقل عنه، أو أحال إليه، كيف يصح هذا ؟ و لِمَ لم يقولوا : الألباني حنفي ، أو مالكي، أو شافعي ، أو حنبلي، أو تيمي، أو جوزي ؟ مع العلم أن إحالاته إلى المذاهب الفقهية و أصحابها، و إلى ابن تيمية و ابن القيم أكثر من إحالاته إلى الظاهرية، أو إلى ابن حزم رحمه الله تعالى.
و بالنسبة للسؤال الثالث، أقول : و مجرد الوقوف عند ظاهر النص، لا يبرر حشر الشيخ الألباني في الظاهرية، و إلا لزم من قال بذلك أن يعد جمهور السَّلف و أئمة الدين ظاهرية، لأن هذا هو الأصل عندهم، و هي بدهية في الاستدلال لا أظنها تحفى على من يتأمل.
و ذلك لأن الأصل عند السلف : الوقوف على ظاهر النص، و ترك الخروج عنه إلا بدليل.
و المراد بالظاهر ما ترجح أنه المقصود من الكلام، أو لم يأت قصد يخالفه (حاشية إعلام الموقعين 3/108).
قال الإمام الشافعي رحمه الله، في كلام له : (( فلما احتمل المعنيين ـ يعني : الحديث ـ و جب على أهل العلم أن لا يحملوها على خاص دون عام إلا بدلالة من سنة رسول الله أو إجماع علماء المسلمين الذين لا يمكن أن يجمعوا على خلاف سنة له.
(قال الشافعي : ) و هكذا غير هذامن حديث رسول الله هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدلالة عنه كما وصفت، أو بإجماع المسلمين : أنه على باطن دون ظاهر، و خاص دون عام، فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة و يطيعونه في الأمرين جميعا ))اهـ (حاشية الرسالة ص322).
(وقال الشافعي : ) ((... فكل كلام كان عاماً ظاهراً في سنة رسول الله فهو على ظهوره و عمومه، حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ بأبي هو و أمي ـ يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض، كما وصفت من هذا، و ما كان في مثل معناه ))اهـ (حاشية الرسالة ص341).
و هذا هو ما جرى عليه أهل العلم؛ حتى إن أئمة الحنفية إذا خالف الصحابي ظاهر مرويه فالعبرة عندهم بظاهر المروي لا بخلاف راويه (حاشية أصول السرخسي 2/6-7 ، كشف الأسرار 2/79).
قال ابن القيم الجوزية رحمه الله : (( الواجب حمل كلام الله تعالى و رسوله، و حمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره، و هو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب، و لا يتم التفهيم و الفهم إلا بذلك، و مُدّعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان و التفهيم كاذب عليه))اهـ (حاشية إعلام الموقعين 3/108-109).
قال الشنقيطي رحمه الله : (( التحقيق الذي لا شك فيه، و هو الذي عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، و عامة المسلمين : أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم، في حال من الأحوال بوجه من الوجوه حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح))اهـ (حاشية أضواء البيان 7/438).
و قال أيضا رحمه الله : (( قد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، إلى المحتمل المرجوح، و على هذا كل من تكلم في الأصول))اهـ (حاشية أضواء البيان 7/443).

و بناء على هذا أقول : الأخذ بالظاهر ليس محلاً للخلاف بين الظاهرية و خصومهم، حتى ينسب أهل الحديث ـ و الألباني منهم ـ إلى الظاهرية، لمجرد الوقوف عند ظاهر النصوص.

و اعلم ـ بارك الله فيك ـ أن الظاهرية إنما ذموا لأمور أربعة ذكرها ابن قيم الجوزية، في قوله عن الظاهرية نفاة القياس : (( أخطأوا من أربعة وجوه :
أحدها : ردّ القياس الصحيح، و لا سيما المنصوص على علَّته التي يجري النَّص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ.
الثاني : تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دلَّ عليه النص و لم يفهموا دلالته عليه، و سبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة على مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه و تنبيهه و إشارته و عرفه عند المخاطبين.
الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، و جزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل، و ليس عدم العلم علماً بالعدم.
الرابع : اعتقادهم أن عقود المسلمين و شروطهم و معاملاتهم كلها على البطلان، حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بظلانه، فأفسدوا بذلك كثيراً من معاملات النَّاس، و عقودهم و شروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل ))اهـ (حاشية إعلام الموقعين 1/338-344) باختصار.

و أهل الحديث ـ و الألباني منهم ـمن أبعد الناس عن هذه الأخطاء التي سجلها العلماء على الظاهرية.
و المقصود هنا : أن الأخذ بالظاهر ليس محلاً للخلاف بين الظاهرية و غيرهم، إذ الجميع يأخذ بظاهر النصوص، و لا يتركه ما لم تأتِ قرينة صارفة، و إنما محل الخلاف بين الظاهرية و غيرهم، هو : هل الاعتبار بظواهر الألفاظ و العقود، و إن ظهرت المقاصد و النيات بخلافها، أم للقصود و النيات تأثير يوجب الالتفات إليها و مراعاة جانبها ؟ (حاشية انظر إعلام الموقعين 3/98-123 ، و خصوصا من ص109،111) .
و بعبارة أخرى : هل الأخذ بالظاهر يحتم الاكتفاء به أم لا ؟ (حاشية ابن حزم خلال ألف عام، السفر الرابع ص74).
و قد تظاهرت أدلة الشرع و قواعده، على : أن القصود معتبرة في العقود، و الأفعال،و الألفاظ و العبادات.
و الألباني مع أهل الحديث يأخذ بالقياس، و يتفهم مقاصد الشرع، و ينظر في كل ما له تأثير على ظاهر اللفظ، و يراعيه في فقهه و نظره ـ و لا أزكي على الله أحداً ـ فإن ظهر له، و إلا وقف عند ظاهر اللفظ، و على هذا النهج كان الصحابة و التابعون، بل هذا الأمر و مراعاته من الأمور التي ينبغي للمفتي مراعاتها.
قال ابن القيم رحمه الله : (( ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه؛ فإنه يتضمن الحكم و الدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، و قول الفقيه المعين ليس كذلك.
و قد كان الصحابة و التابعون و الأئمة الذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري، حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص، و اشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص.
و معلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي النصوص من الحكم، و الدليل و حسن البيان، فتولد من هجران ألفاظ النصوص و الإقبال على الألفاظ الحادثة و تعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، فألفاظ النصوص عصمة و حجة، بريئة من الخطأ و التناقض، و التعقيد و الضطراب، و لما كانت هي عصمة عهد الصحابة، و أصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم، و خطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك، هلم جرا.
و لما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء و البدع، كانت علومهم في مسائلهم و أدلتهم في غاية الفساد و الاضطراب و التناقض.
و قد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سئلوا عن مسألة يقولون : قال الله كذا، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا ، أو فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا، و لا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلا قط، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور، فلما طال العهد و بعد الناس من نور النبوة صار هذا عيباً عند المتأخرين؛ أن يذكروا في أصول دينهم و فروعه : قال الله، و قال رسول الله )).. إلخ كلامه رحمه الله (حاشية إعلام الموقعين 4/170).
قلت : و لذا تجد كتابا كـ (( المواقف )) للإيجي لا آية و لا حديث فيه من اوله إلى آخره إلا بما لا يتجاوز عدد أصابع اليد، و كذا غالب المتون الفقهية، و لابن خلدون كلام في مقدمته (حاشية مقدمة ابن خلدون [ الدار التونسة1984م] 2/694-695، و انظر ما كتبه صاحب الفكر السامي حول المضوع نفسه 4/398-404) حول أثر هذه المختصرات الفقهية (المتون ) على طلبة العلم الشرعي.
و المقصود بيان أن جريان أهل الحديث ـ و الألباني منهم ـ في مصنفاتهم و فتاواهم على النص، و التزام ظاهره، ما لم يأت صارف صحيح معتبر، لا يحشرهم في المذهب الظاهري، بل الواقع أن هذا هو منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة و التابعين لهم بإحسان.[[ الانتصار لأهل الحديث (دار الهجرة ، الطبعة الأولى 1418هـ) ص 191-199 للأستاذ الدكتور محمد عمر بن سالم بازمول]]منقول من سحاب السلفية